قصائد وشذرات من كتاب “ماهِيَّةٌ ثوريَّة”/ فكتور رودريغيس نُوْنْيِس
اختيار وترجمة: تحسين الخطيب
حاولتُ، في صناعة هذه الترجمة، أن أحذو حَذْوَ الشاعر في الابتعاد التَّامِّ عن استخدام علامات الترقيم؛ فهذه الاستراتيجية تسمح للقارئ/ كلِّ قارئ أن يُكوِّن قراءته الخاصَّة، بضمِّ مقاطع القصيدة بعضِها إلى بعض، بالطريقة التي يراها تناسب طرائقَه في القراءة الشعرية، وتتماشى أيضًا مع غايته في تحقيق “جلاءٍ” مَا للصورة الشعرية التي يرسمها في خياله جرَّاء هذه القراءة. وهذه الصنعة، التي أقدِّمها، هُنَا، هي طريقتي الخاصة في قراءة المقاطع، وضمِّ بعضها إلى بعض، معتمدًا على “بندول إيقاعِ” الأنفاس في لحظة القراءة. وقد آثرتُ أن تكون “شذريَّةً” في بعضها، وكاملةً في بعضها الآخر، ولكنْ في صياغة متدفِّقة بلا فواصل البتَّة (باستثناء قصائد الهايكو)، كي أُحقِّق قراءاتي الخاصَّة، بالطبع، وفقَ بنيتها السيَّالة، لتعذُّر إدراج المساحات البيضاء بين العبارات والمقاطع في القصيدة الواحدة، في ترجمة تُنشَر في صحيفة يوميَّة، على الشاكلة التي أوردها الشاعر في الأصل، سامحًا في الوقت ذاته، للقارئ الكريم أن يقرأ “صنعتي”، هذه، بالطريقة التي يستطيع من خلالها أن يكوِّن قراءته الخاصَّة كذلك.
سوفُ أخرجُ منكِ حادًّا مثلَ خنجر
■
نجمةٌ مُثخَنةُ الجراحِ مِن نظرةٍ واحدةٍ فحسبُ
■
أعصابُ البيتِ الكبيرِ عاريةٌ وقد مَرَّ عليها اللَّيلُ
■
أمامَكِ الظلُّ الذي أطاحَ بهِ الخواءُ وهذا العدمُ يحترقُ مثلَ عرَقٍ ضَوئيٍّ في عيونٍ مَمْحُوَّةٍ ذرَّةُ الملحِ التي هِيَ أنا تهتزُّ حُرَّةً مِن أجلكِ والشَّمعةُ التي أشعلتُها كي أُضِيءَ الأرواحَ تموتُ
■
عُريي الأخرقُ يكسُوكِ عائدةً إلى النُّجومِ واللَّيلُ غيرُ مَدموغٍ يَطفحُ بالقَرنفُلاتِ الغامضاتِ اللَّواتي مَا زِلْنَ يتضوَّعُ مِنهنَّ الضَّوءُ
■
ضَلَّتْ فنونُ الشِّعرِ طريقَها بالأحجارِ ولا شيءَ سوى الأحجارِ أُنخِّلُ عبرَ الأمواجِ في الوميضِ الرَّاكدِ
■
اللَّيلُ إشراقٌ أرحمُ بِسَاعدَيْنِ مضمومَيْنِ عُقدةَ بحَّارٍ شُدَّتْ بِحُزْمَاتِ بُرُوقِ صواعقَ مَعميَّةٍ ظلٌّ محسوبٌ يُجعِّدُ الورقةَ ولا مزيدَ ذرَّةٍ منكِ يُلمِحُ إليكِ وحنينُ الثَّلجِ المكبوتُ يكبحُ الأنفاسَ
■
ليلُ ما بَعْدَ الحداثةِ بأحشاءَ صفيحٍ جَلَبَةُ أسلاكٍ شائكةٍ أراها عبرَ جراحي تنغلقُ وتنفتحُ كأصفارٍ والنَّجمةُ كلُّها تُرى كيفَ أنظرُ إليكِ وظلٌّ وحيدٌ يأتي كي يرشفَ بِلَّورها الذي صنعتُهُ مِن أجودِ أعنابكِ وَمِزاجي الذي كانَ قَدْ أينعَ قَدْ خُمِّرَ مِن عطَشٍ أُسقيهِ في قدَحِ الكلامِ
■
وحتَّى مِنَ الأغصانِ الوطيئةِ ترذُّ السَّماءُ ثُمالةَ صورةٍ تَصَّعَّدُ سأمًا جُلِيَ للتوِّ بِثُمالةِ برقٍ يُغيِّمُ كي يسكبَ حزنكِ في عضلاتي وصَدعكِ في روحي
■
كلُّ شيءٍ تفوحُ منهُ رائحةُ الخزامى يَسقطُ في كلِّ عُقدةٍ شعورًا مباغتًا ولكنَّ الريحَ تُشعِّثُ إذَّاكَ كلَّ ما أخفاهُ الضَّوءُ حتَّى إنَّ أكثرَ الأحجارِ شهوانيَّةً هِيَ مخازنُ صَحْوٍ والظلالُ العاريةُ تضيءُ
■
خريفٌ رمتهُ الرِّيحُ في وجوهِنا والإيقاعُ المتقطِّعُ يستردُّ إيقاعَهُ أخيرًا خلفَ ظهري لقد سرقتُ مقاطعكِ اللَّفظيةَ المحسوبةَ سوفَ نمضي جميعًا بطيئينَ مثلَ حُمُرِ الوحشِ في طريقنا إلى مغارةِ الميلادِ غيرِ المُدنَّسةِ واللَّيلُ السقيمُ الذي لا يبرأُ تُكدِّرُ صَفْوَهُ على حينِ غِرَّةٍ الأرقامُ
■■■
قصائد هايكو
أحدبُ
لَنْ أعيشَ إلَّا
حينَ أموتُ
■
أنتِ السَّديمُ
وأنا الجنديُّ الضَّائعُ السَّائرُ
صوبَ السَّديمِ
■
تُدَوِّي عاليًا
كالوَحْيِ
الرِّيحُ التي تطيرُ
■
يتدلَّى مِن سقفِ الكهفِ
حجرٌ أَنجبَهُ الماءُ
بِعَمَاهُ
■
أعطِ موتي
إلى حبَّةِ مانجا ناضجةٍ
مثلِ فمكِ
■
هل تشرقُ
الحياةُ مِن جسدٍ آخَر
ينكسفُ
■
لا أعرفُ اسمكِ
ولا أكادُ أشمَّكِ
يا خلاصةَ العطرِ الفوَّاحِ
■
لا شيءَ
أُقدِّمهُ إلى القمرِ
سوى موتي
■
أجلخُ لساني
بِبُرادةِ التَّاريخِ
لا لعناتٍ
■
ليسَ كلامًا مُجرَّدًا
إنَّهُ مِلحي يروي
ظمأَهُ الأسودَ
■
في الغابةِ
بارودتي القديمةُ
أبجديَّةٌ أُخرى
■
رِعشةٌ
بومةٌ في الشَّمسِ
في شجرةِ القابوق
■
عندَ مفترقِ الطَّريقِ
مَلاكٌ يَعْدُو
في صمتهِ
■
أيُّها الطَّائرُ المُحاكِي
سأظلُّ أُحاكيكَ
تحتَ شمسٍ أُخرى
■
أيَّتها الورقةُ السَّوداءُ
لَوْ كنتُ القمرَ
لَمَحَوْتُ نَفْسِي
■
الصَّلصالُ النَّقيُّ
جميلٌ لأنَّهُ يريدُ
أنْ يكونَ شكلًا آخَر
■
أيَّتها الصَّفحةُ الفارغةُ
لا أجدَ نَفْسِي إلَّا
حيثُ لا أكونُ
■
ليلةَ الأمسِ
حينَ انبلجَ الفجرُ لمعَ
العشبُ بلا دموعٍ
■
لستُ نَفْسِي
هذهِ الصُّدفةُ
تمنحُنِي مَوتِي
■
هايكو حواريَّةٌ
المطرُ يسفعُ الجِلدَ
نارًا أُخرى
■
كالصَّمتِ
لا تهدأُ النَّارُ
ولا تكذبُ أبدًا
■
في طرفةِ عينٍ
الموتُ في الخندقِ
بَرَّكَ عليّ.
■
تحتَ الياسمينِ
شهيدُ قريةِ كاياما
واضحٌ للعَيانِ في غيابهِ
■■■
مَحاضِرُ منتصفِ اللَّيلِ/ السَّابع
“اللَّيلُ في نافذتي يصنعُ
ليلًا آخَر”.
أكتاڤيو باث
ما زالَ الظلُّ في الدَّاخلِ رابضًا فيكِ الثَّلجُ الغزيرُ لن يكفَّ عنِ الهطولِ والماضي يهدأُ تحتَ ذلكَ الملحِ الذي يزدادُ فاقدَ الحسِّ على شفيرِ القفزِ فوقَ الضَّوءِ المنطقُ يَمحُونِي ولا شيءَ إلَّا الجِلدَ يشتعلُ برمادكِ الأخَّاذِ فأحملُ الظلَّ أبعدَ مِن كلِّ نارٍ وحينَ استيقظنَا أيَّتها الذَّاكرةُ أيُّها اللَّيلُ لَمْ يكُن ثمَّةَ شيءٌ فيكَ فلقد كنتُ أُشيِّدُ الشِّعرَ خلايا كعُشِّ دبُّورٍ أحجارٌ وإحباطاتٌ ومساميرُ وسهادٌ تدورُ لكلِّ شيءٍ غايةٌ عثرتُ أخيرًا على البُنيانِ السيَّالِ المنيعِ كسربٍ عثرتُ على المَاهِيَّةِ التي أستطيعُ أن أُسمِّيها الأنا في الحينِ الذي مِلتُ فيهِ إلى الخلفِ بينَ ذراعَيْكِ ذاتَ مرَّةٍ بلا خجلٍ كثيرٍ ليسَ إلَّا بنصفِ حياةٍ مُسمَّرةٍ بنهديكِ مثلما هِيَ الحالُ في هذي اللَّحظةِ حتَّى إنَّ النَّومَ لا يجرؤُ أن يقتربَ ولكنَّني ما زلتُ أشعرُ كَمْ تغبطُ حلمتاكِ المضطَّرمتانِ قشَّ قلبي فأتركُ نَفْسي تسقطُ مثلَ ضَوءٍ رصاصيٍّ فوقَ ساعاتكِ إنَّني مملوءٌ بكِ غصبًا عنِّيْ حتَّى وإن كنتِ فارغةً دائمًا مِثليْ إنَّني مغمورٌ بغيابكِ وَبِأنْ يستعصي عليَّ أن أتذكَّرَ في تلكَ اللَّيالي السَّرمديَّةِ فيضَ وجهيْ ثمَّةَ شيءٌ فِيَّ هُوَ لكِ ولكنَّني لا أستطيعُ العثورَ عليهِ فأنتِ لم تُنكِري مَن تكونينَ البتَّةَ وكلُّ شيءٍ يعطسُ النجومَ يتوجَّعُ فالظلُّ شيءٌ أكثرُ مِن مجرَّد روحكِ العاريةِ فوقيْ إنَّهُ غايةُ الرَّغبةِ الأنقى وتشوُّفاتي التي لم تتشكَّل بَعْدُ فِي ألَّا أكونَ مَهْمَا أكونُ فأغمركَ بالعطشِ ذاتهِ الذي يقاسيهِ الماءُ ظلُّ العناقِ يتجاوزُ الموتَ مُبتغَى الرَّغبةِ الحرونَ بِالوَخْزِ اللَّاعجِ في كَشْحِيْ أَصفُرُ هذا النَّشازَ إنَّهُ سبيلي الوحيدُ كي أُزيلَ الألمَ الذي يندملُ في حينهِ الوخزُ ليسَ واثقًا مِن نَفْسهِ كاللَّيلةِ نَفْسِها على طرَفها الدَّفيءِ المُتعالِي في نَفْسهِ جُفُولُ طيورٍ لا أسماءَ لها في لسانٍ قُذِفَ في النَّارِ بتنهيدةِ تفريجٍ عنِ النَّفْسِ المقاطعُ اللَّفظيَّةُ تُومِضُ في غمرةِ أنفاسكِ المتجمِّدةِ وَحْدَهُ العَدَمُ منطقيٌّ لِأنَّهُ يأخذُ البُروجَ في يديهِ نحلةٌ ترشفُ ملحَها فوقَ السبُّورةِ ضوءٌ يتخثَّرُ في العُروقِ سوفَ يفتحُ مدارَهُ لَوْ حتَّى مِن أجلِ حنينكِ على الأقلِّ أستحضرُ ظلِّيَ الذي لا رُوحَ لَهُ وحيدًا ذاكَ أنَّهُ قَد يستطيعُ إنقاذَكِ أبحثُ عنِّي في مرآةِ اللَّيلِ حيثُ لا وجهَ لِي ولا رغباتٍ أُخفيها ثمَّةَ سُدُمٌ كثيرةٌ في القمرِ الحمَّامِ ولا شيءَ واحدًا يقولُ الحقيقةَ الزُّجاجُ والزِّئبقُ صافيانِ كأيِّ جوهرٍ آخرَ في الظلِّ الذي لا ينامُ فَأينَ إذنْ أنظرُ لَوْ تصدَّعَ العالَمُ ووسَّختهُ النَّظراتُ؟ ربَّما يُقاسي اللَّيلُ أيضًا نباحَ الكلابِ ذلكَ الكلامَ الكبيرَ في طرفِ البحيرةِ القصيِّ بَيْدَ أنَّهُ على هذا الشَّاطئِ المبلولِ بالصَّمتِ حتَّى الرَّغبةُ في الضَّوءِ ليستْ تفريجًا عن النَّفْسِ ثمَّةَ ظلٌّ أحمرُ يتبعُكِ حيثما ذهبتِ ولا شيءَ يُوجِعُ أكثرَ مِنَ اليقينِ بينَكِ والسَّطْرِ إنَّهُ ينبلجُ مُوقَّعًا مِن حينٍ لآخرَ أُجرِّبهُ مبهورًا في هذي السَّاعةِ دُونَ غيرها التي بِلا ساعةٍ لطخاتُكِ تغويني العِصيانُ على الصخورِ وفي مَفارقِ الطُّرُقِ الظِّلُّ المُخمَّرُ يبتعدُ واللَّيلُ يجلبُ معادلتَهُ المُشعَّةَ فَيُشوِّهُ يديَّ السَّبعةُ حمراءُ حارَّةٌ في تشوُّهاتها المصلوبةِ والرَّقمُ أحدَ عشرَ متروكٌ في الخلفِ على الدَّربِ المُفضِي إلى الرَّمادِ والرَّقمُ أربعة عشَر بِثنائيَّاتهِ وألسنةِ لهيبهِ متورِّمةِ العينَيْنِ تلكَ الإشراقاتُ المُجرَّدةُ التي لا أحدَ غيرُكِ يستطيعُ أن يُطلِقَها لقد جرحتني تلكَ الحلمةُ وهَا إنَّي أنزفُ حليبًا كلُّ شيءٍ غيرُ ضروريٍّ قبلَ احتراقكِ الزَّائفِ إنَّهُ يُخفِي مَعالِمَ العَدَمِ لقد وصلنا إلى الحياةِ-الموتِ ولأنَّ اللَّيلَ ظلُّ ضِلعكِ الأيسرِ فقد صارَ نهرًا عاريًا في تيَّارهِ حيثُ تتعكَّرُ الحياةُ بالثَّلجِ الذَّائبِ تيَّارَ علاماتٍ كثيفًا مِن مياهٍ سوداء لا تنضبُ أبدًا ولكي أكونَ ما أنا عليهِ اغتسلتُ مرَّتَيْنِ في ذلكَ النَّهرِ ذاتهِ أشعرُ كأنَّني أتعلَّمُ شيئًا مَا والطبشورةُ تتركُ العتمةَ طليقةً أنا هذا المنطقُ الواضحُ الذي لا تَفهمينهِ واللَّيلُ العصيُّ على التَّفسيرِ الذي يُفسِّرُنِي في جميعِ أخطائهِ المطبعيَّةِ هذا الإشراقُ يتفصَّدُ عرَقًا مِنَ السبُّورةِ حتَّى الإهابِ والكُلُّ الذي بلا قافيةٍ يتعرَّى فجأةً تناقضُهُ اللَّيليُّ المنطقيُّ غائمٌ مِن نبعٍ آخَر فَيُداعِبُ بأصابعي التي لَمْ تَعُد قادرةً على إشباعِ رغباتِ الكينونةِ المُلحَّةِ فلا يبقى في النِّهايةِ سوى رعشةٍ بلا حولٍ ولا قوَّةٍ لَنْ يكونَ الغدُ ليلًا جديدًا الفوضى المنطقيَّة تحتَ شعاعِ نجمةٍ تدورُ مهجورةً غرقتُ اليومَ في الضَّوْءِ المُتعكِّرِ بالثَّلجِ فتسألينَ الثَّلجَ ألَّا يهطلَ على هذهِ الحياةِ ثانيةً فكلُّ مَا يبهرُ البصرَ يؤكِّدُ الدَّاخلَ خارجًا والسَّرابيلُ تتوسَّلُ أن تُعلَّقَ خارجًا في شمسِ كلِّ منتصفِ ليلةٍ فلا مكانَ ولا زمنَ لظلٍّ آخَر فالمنطقُ يَطْمُو ويفيضُ شفاءً وجُرحًا مفتوحًا لا يندملُ.
* قصائد وشذرات من كتاب “مَاهِيَّةٌ ثوريَّة” لڤكتور رودريغيس نُوْنْيِس، اختيار وترجمة: تحسين الخطيب
العربي الجديد