نقد ومقالات

مملكة ادم واكتشاف أمجد ناصر/ بولين دونيزو

ترجمة وتقديم: عبد المنعم الشنتوف

تتقدم هذه القراءة النقدية التي نقترح ترجمتها العربية باعتبارها اقترابا من الكون الشعري للشاعر الأردني الراحل أمجد ناصر، الذي رأى النور في المفرق في الأردن عام 1955 وتوفي فيها عام 2019 بعد صراع بطولي مع الداء العضال. وتسعى الأكاديمية الفرنسية بولين دونيزو، التي تعمل أستاذة للمسرح وفنون العرض في جامعة ليون لوميير الثانية إلى القبض على السمات المميزة لتجربة الشاعرالأردني الراحل، في ارتباط بسيرورتها الزمنية. وقد سبق للكاتبة أن كتبت أطروحة متميزة عن «المشهد المصري والثورة: 2007 – 2018: المسرح والفرجة والسياسة. وتأتي هذه القراءة النقدية احتفاء بالأنطولوجيا التي أشرف عليها ونقلها إلى لغةٍ موليير الناقد والمترجم اللبناني أنطوان جوكي وصدرت عام 2021 عن دار أكت سود الباريسية ضمن سلسلة سندباد.

النص:

أمجد ناصر هو الاسم المستعار ليحيى عوض النعيمي الذي رأى النور في الأردن عام 1955. نشر أولى نصوصه عام 1976 في المجلات الأردنية قبل أن يصدر ديوانه الأول «مديح لمقهى آخر» عام 1979 في بيروت التي بدأ العمل في صحافتها المحلية. كان قد غادر العاصمة الأردنية عمان لأسباب سياسية ذات ارتباط بالتزامه بالنضال من أجل القضية الفلسطينية. انتقل بعدها إلى عدن ثم قبرص هربا من الحصار الإسرائيلي لبيروت. استقر بعدها بشكل نهائي في بداية عقد الثمانينيات في العاصمة البريطانية لندن. استمر في كتابة الشعر والتعامل مع وسائل الإعلام المكتوبة الموجودة في المملكة المتحدة. كان الالتزام السياسي مصاحبا لحياة أمجد ناصر، وإن ظل حضوره باهتا في شعره بحيث نعثر عليه بالكاد في قصائد متفرقة. يلتقي ويتقاطع الذاتي الحميمي والجمعي في المجاميع الشعرية الأولى. ونلمس في سياقها نفسا ملحميا وسردا للهجرات وأثرا لبادية الأردن التي تنحدر منها أسرة الشاعر:

أيّتها الهوادج أيّتها الهوادج أيّتها الهوادج يا أجراس الصحراء

من هنا مرّ الأردنيون حفاةَ السيوف والأقدام.

يعبر تاريخ العرب متخيل هذه المجاميع الشعرية الاْولى، ويمكن أن نعثر عليه في صلب ديوان «مرتقى الأنفاس» الصادر عام 1997 الذي خصصه لآخر أمراء غرناطة أبو عبدالله الصغير. يثير هذا الديوان الذي لم يحظ في سياق هذه الأنطولوجيا إلا بمقاطع قليلة الانفعالات، يختلط فيه الحسي بالتخييلي ويغوص في حميمية مرحلة تاريخية رئيسية، من خلال صوت آخر حاكم مسلم للأندلس:

على درج السهاد سمعت خطو العذارى يتصادى في صالة العرش، ورأيت الندى يتبلر على الترايب. الأنفاس التي تقود أكبر الفاتحين إلى مرابعي الآن أهرقت من قبل عبيرها السام على بدني وأدخلتني مضائقها.

بيد أن قصيدة أمجد ناصر لا ترتبط فقط بالتاريخ الكبير وإنما تركز اهتمامها على التفاصيل. يتعلق الأمر بوفرة من مشاهد الحياة تشتمل عليها هذه الأنطولوجيا في سياق قصيدة نثر تميل إلى السرد. ونمثل لذلك بنصوص «مسرح» «مساء في مقهى» و»سمكة باكونين» التي يشتمل عليها ديوان «رعاة العزلة» 1996. وتتسم هذه القصيدة أيضا باحتفائها بالأمكنة التي تكتب فيها من قبيل المقاهي وصالونات الثقافة في منطقة الشرق الأوسط. يستعيد ديوان «سر من رآك» الصادر عام 1994 بشعر الغزل الذي يكتسب هنا طابعا إيروتيكيا يحتفي بجسد المرأة المعشوقة بكل تفاصيله. الرائحة تذكر بإعطيات لم يعطها أحد. بأسرة في غرف الضحى. الألوان: الكاحل الذي يلمع في ليل عيني أبيض، أو أعضاء الجسد مثل قصيدة مديح السرة. يبدو الجسد في هذه الأبيات الشعرية التي تمجده هنا مجردا وشهويا، أو في قصائد أخرى من الأنطولوجيا، حيث تتركنا نظرة الشاعر إلى الجسد أكثر حذرا ونمثل لذلك بقصيدة قربان التي يشتمل عليها ديوان كلما رأى علامة. إذا كانت هذه الأنطولوجيا تتيح الاقتراب من الكون الشعري لأمجد ناصر في شموليته وبطريقة تتيح تتبع سيرورته الزمنية، فإن ديوان «مملكة آدم» يمثل قلبها النابض دون شك. ويشكل هذا الديوان الذي يعتبر الأخير في منجز الشاعر الذي صدر عام 2019 رجع صدى لديوان «حياة كسرد متقطع» الصادر عام 2004. وتشكل القصائد المستقاة من هذين الديوانين تقريبا نصف هذه الأنطولوجيا.

مملكة آدم أو الجحيم الأرضي

ننوه في هذا المعرض بالقصيدة المثيرة «البيت من بعدها» التي يعبر في سياقها برقة وحزن شفيف عن حزنه لفراق الأم وأحد أصدقائه في ديوان «حياة كسرد متقطع». ثمة أيضا تجربته الشخصية التي تتشكل في سياق هذا الكتاب الشعري الذي ألفه في غمرة صراعه مع المرض الخبيث، وجسده الآخذ في التداعي: تعب. جسدي متهالك. خاو على عرشه الخاوي. واعتبارا لذلك تشعرك قراءة قصيدة «حديث عادي عن السرطان» بالدوار، التي يقول في سياقها الشاعر بعد أن أتى على ذكر رحيل أمه بهذا المرض: المشكلة أنني قرأت لا أدري أين، أن الإنسان يموت كما مات أهله. وأنا أتوقع في هذه القصيدة التي أكتبها الآن أن أموت في لندن في يوم ماطر. يتقدم النصر في ديوان «حياة كسرد متقطع» الذي اشتغل عليه الشاعر بقوة في مجاميعه الشعرية السابقة، الذي شكل عصب أصالة تجربته الشعرية ليس بوصفه مجرد شكل أو تجريب أو خطة شعرية، وإنما باعتباره كشفا عن كل زخمه وعنفوانه ورجع صدى لواقع حتمي. ويفصح العالم والمجتمع بوصفهما مكانين حسيين عن حضورهما في هذا الديوان، كما في الأعمال السابقة.

اختارت قصيدتان لندن فضاء في ما جرى إهداء قصيدة أخرى إلى نيويورك، التي كانت تعاني الأمرين من تفجيرات 11 سبتمبر/أيلول، فيما آثرت قصيدة أخرى وصف مشهد من الحياة اليومية «في مقهى كوستا» وتحفر القصيدة الأخيرة في لعبة المرايا التي تراوح بين الواقعي المدرك والتخييل الشعري. يختفي متخيل الشعوب العربية كي يفسح المجال للأزمنة والأمكنة الراهنة، والـ»هنا» والآن اللذين تقبض عليهما القصيدة. يختفي متخيل الشرق ليفسح المجال لمرجعيات مستقاة من الموروث الأدبي الأوروبي. ونمثل لذلك بقصيدة «استعادة فاوست» أو «السفينة المخمورة» التي تحيل بشكل مباشر إلى القصيدة الشهيرة للشاعر الفرنسي آرثر رامبو.

نعثر بشكلٍ ضمني وعلى امتداد نصوص ديوان «مملكة آدم» على علامة فارقة للأدب الغربي وهو دانتي وجحيمه، الذي يتقاطع مع الشاعر أبو العلاء المعري، الذي أبدع في نهاية القرن العاشر وبداية القرن الحادي عشر الميلادي قصيدة غنائية مدموغة بالتشاؤم والسوداوية والشجن الوجودي، وفي هذا الديوان العظيم والمعتم التي تتيح لنا هذه الأنطولوجيا الإحاطة بسماته المميزة في ديوان أمجد ناصر يلوح وجه الشاعر وهو ينتظر في صف طويل إلى جوار سجل الموتى ذوي المقام الرفيع قبل أن يدخل على سبيل الخطأ إلى الجحيم: لا أعرف كيف ومتى وصلت إلى حيث لا يصل الأنصار والشهود، ذلك لأن الأمر لا يتعلق بأن تتمثل نفسك في الموت المقبل، وإنما أن تزور ظلمات الجحيم وأنت على قيد الحياة شأن صنيع إيني التي نزلت إلى مملكة هاديس في الأغنية السادسة لملحمة إينييد لفرجيل. ويتحول الشاعر من ثم إلى شاهد وناطق باسم المخلوقات التي تغص بها مملكة آدم الأرضية: لستُ رسولاً إلهياً، فلا أقوى على ذلك، لكنْ، بما أنني وصلتُ إلى هنا، ولم يفعلْ ذلك حَيٌّ قبلي، ربَّما شاعران، أحدهما يُسمّى المعرِّيُّ، والثاني يُدعى دانتي، فأنا رسولُ الذين ظلّوا في بلاد البراميلِ والسارينَ في مملكةِ آدم.

ليس لهذه المملكة الأرضية أن تحسد الجحيم. وياتي الشاعر اليها كي يقدم شهادة ويبحث عن أجوبة. وهو يتساءل أيضا عن عجز الشعراء. وكان قد عمد في ديوانه السابق «مرتقى الأنفاس» إلى ان يعبر شعريا وبرقة وحنو عن «صداقة الشعراء»: يتمددانِ الآنَ جنبا إلي جنب في تربةِ الصداقةِ الخضراءِ ويقرآن لبعضهما بعضا قصائدَ لا تقبلُ بأقلَّ من تغيير العالم. يملأ الشعراء من جهة أخرى الأعماق السفلى للجحيم في ديوان «مملكة آدم» ويتعرضون لأقسى أشكال العقاب بسبب نذالتهم وعجزهم ويعترفون بما ارتكبوه من أخطاء. كان أحدهما كسولا وأنانيا يعيش من الكلمات التي يتعب الآخرون في كتابتها في ما يفضل اللياذ بالنوم.

يعتبر ديوان «مملكة آدم» أكثر من قصيدة شهادة ونبوءة استيهامية بموت شخصي يمكن أن نسنده بسهولة إلى أمجد ناصر الذي كان يخوض في لحظة الكتابة صراعا ضد مرض عضال. ويمكن عده بالأحرى إبداعا لعالم آخر مدوخ وقاتم. وهو مثير الى درجة تغريك بقراءة العمل في شموليته.

تقدم هذه الأنطولوجيا شهادة عن قصيدة انتقائية وتشكل مدخلا جيدا لأعمال أمجد ناصر. وينبغي التنويه في هذا الخصوص بهذه الترجمةً التي أتاحت لنا اكتشاف شعرونثر أمجد ناصر وفق تحقيب كرونولوجي استثنائي يبدأ بالابيات الشعرية القاتمة للديوان الأخير.

القدس العربي

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى