من ذاكرة “صفحات سورية”: عن لا مدينية الثورة السورية/ عمر قدور
بعد سنة من اندلاع الثورة السورية بقيت الفكرة السائدة إعلامياً أن مدينتي دمشق وحلب لم تشاركا بقوة فيها، وانبنى الكثير من التحليلات على أن الطبقة الاقتصادية في المدينتين اللتين تشكلان عصب الاقتصاد السوري لن تفكّ تحالفها الراسخ مع النظام ما لم تتأذَّ مصالحها بشدة، أو تتيقن من أن النظام بات في الطور الأخير للسقوط.
لقد كان لتأخر مشاركة حلب وللمشاركة «الخجولة» لبعض الأحياء الدمشقية أن أعطى حجة حتى لأبواق النظام مفادها أن عدم مشاركة هاتين المدينتين الكبيرتين يعني اقتصار الثورة على بؤر صغيرة وهامشية، مع ما يضمره هذا الاستنتاج من تفاضل قيمي بينهما وبين باقي البلد، وبحيث تبدو الثورة منقوصة جداً بغيابهما، أو تدل على احتجاجات من الدرجة الثانية؛ ثورة غوغاء ورعاع لا أكثر!
في الواقع لا تقتصر الفكرة السابقة على الإعلام، إذ لطالما حاول ناشطون سوريون استنهاض حمية أهالي المدينتين، واستثارة نخوتهم بعبارات عاطفية أو حتى الغمز من قناتهم، فكان من الهتافات المبكرة التي رددتها تظاهرات مدينتي درعا وحمص «يا أهالي الشام عنا (عندنا) سقط النظام»، أما مدينة حلب فنالت حجماً كبيراً من السخرية والعنف اللفظي، ولم يخلُ الأمر من عنف مادي طفيف تعرض له أبناؤها المسافرون أو العابرون مناطق ثائرة بسبب ما عُدّ اصطفافاً مع النظام. أي أن الفكرة التي كانت سائدة عند الثوار أيضاً هي إعراض المدينتين عنهم، مع الإقرار الضمني بعدم إمكانية إسقاط النظام من دون مشاركتهما.
في الإطار نفسه تأتي لوائح العقوبات الاقتصادية الدولية التي بدأت تضم أسماء اقتصاديين من المدينتين، ممن يعتبرون داعمين للسلطة، بغية فك الارتباط بينهم وبين السلطة وبالتالي التشجيع على الانخراط في الثورة.
التحليل السابق، على وجاهته، يغفل الكثير من خصوصيات الأداء الأمني للنظام السوري، ويغفل أيضاً خصوصية النسيج الاجتماعي السوري ومدى «مرونته» إزاء الممارسات القمعية التي طالته منذ بدء الثورة، خاصة أن الأداء الأمني الحالي ليس وليد الراهن بل هو بنية عملت على الضد من البنية المجتمعية طوال عقود. فالمدينية المزعومة لدمشق وحلب تبدو ظاهراً وكأنها تشير إلى برجوازية تقليدية متحالفة مع السلطة، بينما يدلل الواقع على أن حكم البعث من بدايته عمل على تحطيم البرجوازية التقليدية، وظلت أطروحاته النظرية إلى وقت قريب تركز على انتصار ثورته على الإقطاع والبرجوازية. هذا السياق البعثي لا ينفي وجود بقايا برجوازية تقليدية استسلمت للنظام وعقدت تحالفاً فاسداً معه، على أن تؤخذ هذه الحالات بفرديتها لأنها لم تؤلف سياقاً ممنهجاً، ولم تعنِ أبداً أن البرجوازية التقليدية ككتلة تحالفت مع النظام بقدر ما أن فساد النظام قد طال جزءاً منها فاندمج في آليات النظام متخلياً عن سياقه الاقتصادي والاجتماعي السابق.
لم يتح لفلول البرجوازية التقليدية التحالفُ مع النظام إلا وفق آليات القسر والإكراه، ولم يكن لهذه الفلول يوماً اليد الطولى في التوجهات أو القرارات الاقتصادية الكبرى التي فُصّلت دائماً على مقاس أثرياء النظام الجدد ومحسوبياته، ولم يُترك سوى الفتات لشركائه الآخرين، باستثناء أولئك الذين دخلوا في شراكة مباشرة مع رجالات كبار من النظام أو رضوا بأن يكونوا مجرد واجهات لهم، أي شركاء ضعافاً من الدرجة الثانية.
من المفارقة أن يركز إعلام النظام خلال سنة من الثورة على تحالفه مع الطبقة التي قدّم نفسه سابقاً على الضد منها، إلا أن الأمر يصبح مفهوماً عندما نعلم أن الطبقة المزعومة هي طبقة بديلة من صنعه نفسه؛ هي طبقة أثرياء الفساد الذين تزول أسباب ثرائهم بزوال النظام بسبب اعتمادهم على احتكار القرار الاقتصادي واحتكار القطاعات ذات المردود الوفير والسريع. وهي طبقة لامدينية، بمعنى الانتماء المباشر لنسبة كبيرة من أفرادها، وأيضاً بمعنى أنها لم تتأسس على السيرورة الطبيعية للاقتصاد المديني. هي طبقة تشكلت من فوق، ولهذا أيضاً لا تملك من الحيثية الاجتماعية سوى تحكمها بسبل العيش؛ أي أن سلطتها الاجتماعية، كما النظام ككل، قائمة على القسر والإكراه لا على
التفاعل والتشارك.
على ذلك يمكن فهم الاندفاع الشديد لأثرياء النظام إلى دعمه بكل الوسائل، وأبرزها تمويل ميليشيات الشبيحة والاستمرار بذلك رغم تبعاته المالية والمعنوية، فسقوط النظام سيجفف الموارد الاقتصادية لهم، وسيكشف بالوثائق عن
حجم فسادهم.
إن فهم «تردد» المدينتين الرئيسيتين إزاء الثورة يقتضي الإحاطة بأسلوب القمع الأمني المعتمد وفعاليته حتى الآن، بالإضافة إلى آثاره المباشرة وغير المباشرة على الثورة نفسها، إذ دون التطرق إلى هذه الخصوصية تبقى التحليلات الكلاسيكية بمفردها قاصرة عن فهم آليات تأثير النظام على سير الثورة أو دفعها عنوة إلى مواقع يرتاح إليها ويستثمر فيها إعلامياً ودولياً.
طرد الثورة من الساحات إلى الأزقة والزواريب
منذ بدء الثورة كرست الأجهزة الأمنية جزءاً كبيراً من طاقتها لإحكام الطوق على مدينتي دمشق وحلب، وخاصة على الساحات الرئيسية ومركز مدينة دمشق، ومن المعلوم أن التظاهرة التي أعطت إشارة البدء هي تلك التي انطلقت من قلب دمشق من أمام الجامع الأموي برمزيته التاريخية، وشارك فيها شباب وشابات ينتمون إلى الطيف العلماني بغالبيتهم. إثر ذلك أطبقت الأجهزة الأمنية على مركز المدينة، ولم تنفع محاولات الناشطين في الوصول إلى الساحات الكبرى فيها، وتمت إعاقة وصولهم بالعنف المفرط وبالقتل أيضاً. تعلّم النظام من تجربة ساحة التحرير في مصر وأثرها المعنوي الكبير فقرر عدم السماح بتكرار الأمر في سوريا مهما كلف الثمن.
النتيجة المباشرة لإحكام النظام قبضته على وسط المدينة وساحاتها أن اضطر الناشطون إلى الانكفاء إلى الأحياء التي لا تشهد قبضة أمنية شديدة، وليس سراً أن بعض هذه الأحياء لم يكن مهيأً للثورة فكان النشطاء يأتون من مناطق أخرى للتظاهر السريع (أو ما يسمى محلياً بالمظاهرات الطيّارة) وطمعاً في تحفيز قاطني الحي المقصود على المشاركة. لقد أفلحت القوة الأمنية المفرطة في بعثرة جهود الناشطين على حوارٍ وأحياء بعضها لم يكن ناضجاً لتقبل فكرة الثورة بعد، وقد راهن العقل الأمني ولا زال على تشتيت جهود النشطاء، ومن ثم القضاء نهائياً على حركة التظاهر بسبب سهولة محاصرة كل حي على حدة، وعلى الأخص القدرة على القيام بعمليات تنكيل واعتقال واسعة ضمن الحي المستهدف بعيداً عن التغطية الإعلامية الواسعة التي يمكن توفرها للساحات الواسعة المفتوحة.
من ناحية أخرى، رمزية ومباشرة، حافظ النظام على احتكاره للفضاء العمومي عبر سيطرته على الساحات الرئيسية. فالساحات موضوع التجاذب لا توفر غطاء آمناً للمتظاهرين بقدر ما تجعلهم مكشوفين بالمعنى المباشر أمام آلة القتل، وربما لا يقع في حيز المصادفة فقط أن الساحة الرئيسية الأشهر في دمشق، ساحة الأمويين، محاطة بالكامل بمبان رسمية أغلبها عسكري وأمني. أمام أجهزة الأمن والشبيحة التي لم تتورع لحظة عن إطلاق النار احتاج النشطاء إلى أزقة توفر لهم هروباً مضموناً نسبياً، وهذا ما لا يتوفر إلا في الأحياء والأزقة الأقرب إلى النسيج العمراني التقليدي، أو في تلك الأحياء ذات النسيج العمراني العشوائي (تُعرف محلياً باسم «العشوائيات»)، وقد استطاع النشطاء استثارة أبناء تلك الأحياء فشهدت الثورة انتشاراً أفقياً، وإن بقيت مقطعة الأوصال.
ولعل الملمح الأهم في ثورة الأحياء والأزقة هو تكامل الحماية العمرانية مع الحماية الاجتماعية. فبخلاف الأحياء الحديثة الأكثر ثراء ما زالت الأحياء التقليدية، وكذلك «العشوائيات» المحدثة، تحافظ على نسيج اجتماعي متجانس يصعّب قدرة الأجهزة الأمنية على اختراقه.
وحيث لا وجود لفضاء عام يحمي حق المتظاهرين كانت البنى الاجتماعية التقليدية هي الملاذ الذي راهنوا عليه، فلم تخذلهم هذه البنى وإن اضطر بعضهم إلى مراعاة الحساسيات التقليدية المحافظة لها. في المقابل تخلى بعض هذه الأحياء عن جزء من حساسياته الاجتماعية، فلم يعد نادراً أن تفتح النساء المحجبات أبواب البيوت أمام متظاهرين غرباء هاربين من ملاحقة الأمن والشبيحة، تلك النساء اللواتي تربين على عدم جواز فتح الباب لأي طارق غريب.
قد يصلح حي الميدان في دمشق كنموذج لما سبق، فهذا الحي الذي لا يبعد كثيراً عن مركز العاصمة تقطنه شريحة تنتمي بغالبيتها إلى الطبقة المتوسطة، مع ميل إلى المحافظة والتدين الشعبي خاصة في الحواري والأزقة الداخلية والجانبية.
أول المظاهرات التي شهدها الحي انطلقت عقب صلاة الجمعة من جامع الحسن الذي يقع على أوتوستراد ضمن المنطقة، وقد ظل الجامع لمدة مقصداً للمتظاهرين الذين يأتون من أحياء مختلفة من دمشق وريفها. أول قتيل استهدفه رصاص الأمن لم يكن من أبناء الحي، بل كان شاباً آتياً برفقة والده للصلاة والتظاهر من بلدة داريا في ريف دمشق، ومن المعلوم أن داريا كانت ولا زالت معقلاً للثورة ضد النظام.
بعد المظاهرات الأولى التي اقتصرت على أيام الجمع أحكمت الأجهزة الأمنية قبضتها على محيط جامع الحسن، ولا يخلو من دلالة أن الضحية الأولى، ابن داريا، لم تؤثر في استنفار غضب أهل الحي على غرار ما حدث في أماكن أخرى، لأن الضحية غريبة عن النسيج الاجتماعي ولا تجمعها بأهله رابطة الدم بالمعنى المباشر. ولكي لا يبدو ذلك مقتصراً على أهالي حي الميدان. نشير إلى أن انطلاقة المظاهرات في مدينة حماة كانت من منطقة الحاضر (يقسم نهر العاصي حماة إلى منطقتين رئيسيتين الأولى تسمى الحاضر والثانية تدعى السوق)، وقد بقيت المظاهرات محصورة في منطقة الحاضر التي يقصدها بعض أبناء السوق للتظاهر فيها إلى أن قُتل أحدهم في الحاضر، فخرج في مظاهرة تشييعه من جامع السرجاوي الشهير في السوق نحو ألفي متظاهر، وتحول الجامع المذكور إلى مركز انطلاق للمظاهرات ولم تهدأ المنطقة بعدها.
بالعودة إلى حي الميدان؛ كانت المظاهرات الأولى بمثابة المهماز، وبينما استطاعت القوى الأمنية السيطرة على الأوتوستراد الرئيسي في المنطقة راحت المظاهرات تنطلق في الحواري الداخلية حيث البنية المعمارية أشد تراصاً والبنية الاجتماعية أكثر انسجاماً وتماسكاً، وبالطبع هذه المرة مع مشاركة بارزة لأبناء الحي. أصبح الحي قبلة لناشطين من أحياء أخرى لا تشهد تظاهرات، وبحضور دائم لناشطين وناشطات من الطيف العلماني، وفي مفارقة تعكس واقع الحال قد نجد متظاهرة تلبس فيزوناً وتضع حجاباً على وجهها، ما دفع إحدى الناشطات إلى المطالبة على صفحتها في الفيس بوك بأن تسفر الناشطات عن وجوههن ليبرزن حقيقة انتمائهن، لكن مطالبتها لم تجد صدى فتغلبت دواعي محاباة الحي المستضيف متلاقية مع الدوافع الأمنية وحتى الاجتماعية العامة؛ إذ من الأفضل للناشطات ألا تكون وجوههن مكشوفة لرجال الأمن، وفي حالات أخرى يفضلن ألا يكون تظاهرهن مكشوفاً حتى لأهاليهن. لقد قدّم الحي الحماية المطلوبة لا لناشطي الحي وحسب وإنما لآخرين يفتقدون الحماية الاجتماعية في أماكن سكناهم، فكانت أبواب البيوت تُفتح أمام الهاربين من قبل الرجال والنساء على حد سواء. يل إن بعض أصحاب المطاعم (وهذا الحي معروف بمطاعمه التي يرتادها الزبائن من أنحاء مختلفة) التقطوا الإشارة وباتوا يقدمون الطعام مسرعين لأولئك الهاربين من ملاحقة رجال الأمن. وزيادة في التواطؤ راح البعض منهم يضع جزءاً من وجبة ليوهم رجال الأمن بأن الهارب جالس يأكل منذ وقت وليس له علاقة بما يحدث خارجاً.
من هذا المنظور تتقاطع الأحياء التقليدية أو شبه التقليدية مع المدن الصغيرة والبلدات، فالنسيج الاجتماعي المتجانس أو المتقارب ومتانة الأواصر الاجتماعية للمكان هما ما يجعله أكثر حصانة أمام تغلغل السلطة ما لم تستخدم القوة المفرطة. بالضبط إن السمة غير المدينية هي التي توفر حاضناً اجتماعياً أقوى، وبينما تنطلق شعارات الثورة إلى الفضاء الوطني العام، وهي شعارات تنتمي بالضرورة إلى المفاهيم المدينية المعاصرة، فإنها تبقى مكرهة أسيرة بؤر لا تقع في صلب الانفتاح المديني.
إن مدينية دمشق وحلب عامل غير مساعد في ظل الظروف الأمنية التي يفرضها النظام، أما الأحياء المرشحة فيهما للبقاء بعيداً عن الثورة فهي ليست كذلك بفعل التمايز الاقتصادي والطبقي فحسب، بل لأن النسيج العمراني والسكاني، النسيج الأكثر مدينية، لا يؤمن حماية كافية لها.
ترييف الثورة!
لطالما اتُّهم نظام البعث بأنه عمل على ترييف المدينة السورية، يتوافق ذلك مع ما نسبته «ثورة» البعث لنفسها من أنها ثورة العمال والفلاحين في بلد ذي مستوى متواضع جداً من التصنيع ونسبة قليلة من العمال!. أما أعضاء حزب البعث نفسه فكانوا بغالبيتهم الساحقة ينحدرون من أصول فلاحية، وقد ظلت علاقة البعث فاترة بأهل المدن طوال مدة حكمه مع إعراض واضح منهم عن المشاركة في فتات السلطة السياسية.
لقد طرح انقلاب البعث نفسه بوصفه انقلاباً على البنى المجتمعية التقليدية، وهذا ما أثار ريبة أهل المدن لأنه عنى تحديداً خلخلة البنية السكانية للمدينة وإغراقها بفائض بشري تعجز عن استيعابه. وكالمعتاد لم تكن شعارات البعث إلا غطاء مخاتلاً لممارسات مغايرة، فتحت الادعاء بتثوير البنى التقليدية تم الإجهاز على البنية المدينية بوصفها الموطن الطبيعي للديمقراطية الناشئة آنذاك، وبدلاً من أن تؤدي هجرة أبناء الريف إلى تمديُنهم فقد ساعدت سلطة البعث على ارتحالهم بالمعنى المكاني فقط، وأقاموا في المدن بكل حمولاتهم الاجتماعية السابقة، ما يدفع إلى اليقين بأن البنية المدينية هي المستهدفة حصراً من قبل السلطة الجديدة التي أبقت وشجعت على الروابط التقليدية الأخرى كالروابط العائلية الواسعة والعشائرية وأخيراً الطائفية.
لم يعبّر استهداف المدينة على هذا النحو عن نزوع ريفي انتقامي، كما يحلو للبعض تأويله، فالأرجح أن سلطة البعث أرادت إقصاء المجتمع كلياً عن السياسة، ومن خلال ممارستها للفاشية السياسية كان من الضروري منع إعادة انتظام المجتمع ضمن فضاء مديني حداثي. وبهذا المعنى، فالمدينة هي الفضاء الذي يتيح التفكك التدريجي الطبيعي للبنى التقليدية وإنتاج بنى سياسية حديثة مثل الأحزاب والنقابات وغيرها، والمدينية هي شروع في السياسة حيث تتناسب الديمقراطية طرداً مع مستوى التمدين. ولأن سلطة البعث عملت على احتكار السياسة فقد واظبت على القضاء على ما هو مديني في المدن، وعلى إنعاش الأواصر التقليدية التي أجادت التعاطي معها ورشوتها كلما لزم الأمر. وإذا أخذنا أربعين عاماً ونيفاً من حكم الأسرة الحالية نلحظ تخلي السلطة فعلياً عن غطائها الأيديولوجي لصالح إقامة تحالفات تنتمي إلى ما قبل الدولة، وإيهام الأطراف الأخرى بالمشاركة في كعكة السلطة عبر تركيبة وضع أسسها الرئيس الأب بحيث تراعي سطحياً التوزع المناطقي والعشائري والطائفي، من دون أن تحظى الشريحة المدينية بحصة مناسبة، ومن دون أن يمس ذلك باحتكار السلطة المطرد عبر الأجهزة الأمنية والجيش.
على الضد من شعاراتها القومية، التي تستدعي أولاً اندماجاً وانفتاحاً وطنيين، قامت السلطة بترييف المجتمع السوري ككل، بمعنى إعادته إلى عصبياتٍ قبل مدينية، ولولا السيرورة الطبيعية للزمن المعاصر التي اقتضت ارتحالات وتشابكات بين مكونات المجتمع لنجحت السلطة تماماً في محو المسألة الوطنية. لقد تجلى ذلك واضحاً مع مستهل الثورة، إذ حاولت السلطة بدايةً التعاطي مع السوريين بالمفرّق، وتظاهر الحكم بالاستماع إلى وفود استُدعيت للحوار من بعض المناطق الثائرة، فيما كان إعلامه يروّج للانتفاضة على أنها محض احتجاجات محلية ذات مطالب إدارية بسيطة. وفق ذلك سيبدو أهالي درعا كوحدة اجتماعية مستقلة عن الفضاء الوطني العام، وكذلك أهالي حمص الذين تم في البداية تصوير مشاركتهم في الثورة على أنها احتجاجات تطالب بإقالة المحافظ. بهذا المعنى حاول النظام ترييف الثورة عبر تجريدها أولاً من أحقيتها بالمطالب الوطنية، ومن ثم التركيز على النأي المفترض عن الثورة للشريحة المدينية في دمشق وحلب، ولم تقصّر آلته القمعية في الاستفراد بكل منطقة على حدة بحيث تبدو المنطقة المنكوبة مجردة من الحماية الوطنية العامة بالمعنى المباشر للكلمة. لقد وجد الادعاء بمدينية مزعومة للنظام وحلفائه صدى لدى الذين لا يعرفون آليات النظام، ويرون النتيجة بمعزل عن مقدماتها، وتم تصوير الثورة أحياناً على أنها ثورة محرومين أو مهمشين على حساب وطنية الثورة ومحاولاتها الحثيثة لاسترداد الفضاء الوطني من هيمنة الاستبداد.
لكننا نجانب الصواب أيضاً إن توقفنا فقط عند نبل وصدق الشعارات الوطنية للثورة، ولم ننتبه إلى أثر النظام عليها، أكان ذلك عبر ممارساته طوال عقود من الحكم أو عبر سنة من مواجهته للثورة. فالمسألة لا تنحصر بالأثر المباشر للسلوك القمعي الأمني، وطرد الثورة من الساحات إلى الزواريب والأزقة ليس أمراً تقنياً بحتاً، أو على الأقل ليست تداعياته محض شكلية أو إجرائية.
ولعل مجريات الثورة في حمص تقدّم لنا مثلاً صارخاً على التداعيات السلبية لسلوك النظام. فمن المعلوم أن الناشطين تمكنوا في البداية من الوصول إلى ساحة الساعة الرئيسية، وتعرضوا فوراً إلى إطلاق مباشر من رصاص الأمن، ما أدى إلى انكفاء كل منهم إلى حيه. كانت التظاهرة المتجهة إلى الساحة شاملة، لا بسبب توزع أفرادها على عدة أحياء وحسب وإنما بسبب اختلاف منابتهم الدينية والطائفية أيضاً، وكانت ستوفر مناخاً ملائماً لأولئك الشباب الذين يشكلون أقلية ثائرة أو منبوذة في أحيائهم، ولربما شجعت أقرانهم فيما بعد على الانخراط في الثورة. مع إجبار الثورة على الاعتصام بأحياء محددة اتخذت لوناً واحداً، فالأحياء الثائرة باتت ذات لون طائفي واحد، وأدت دواعي الحماية الذاتية من بطش الأمن والشبيحة إلى إغلاق هذه الأحياء فعلياً أمام «الغرباء». بصريح العبارة؛ تحولت ثورة الأحياء المتمردة في حمص إلى ثورة سنية بحكم الأمر الواقع، بخلاف التظاهرة الكبرى الأولى التي احتوت على شبان مسيحيين وعلويين، أي أنها جمعت أطياف المدينة وإن بنسب متفاوتة.
لا يمكن القول إلا أن النظام أفلح في جرّ الثورة واقعياً إلى عتبة أدنى بكثير من مطالبها الوطنية، واستطاع تقسيم حمص إلى أحياء موالية وأخرى ثائرة، ودفع الجهتين إلى التقاتل في ما بينهما. من جهة الأحياء الموالية «العلوية» تم نبذ الشباب الثائر والتضييق عليه ومنعه من المشاركة في الثورة، لحساب احتضان شبيحة النظام من أبناء الطائفة. وكما هو الحال بالنسبة إلى الحماية الاجتماعية للثورة فإن الحماية الاجتماعية للشبيحة، والتي استندت على العصب الطائفي، هي التي مكّنت النظام من وضع تلويحه بالحرب الطائفية قيد التهديد المباشر. لقد كان شبيحة النظام يأتون عبر أحياء مثل الزهراء والنزهة، ويعيثون خراباً وتنكيلاً بالبيوت والمحلات التجارية لأحياء كالخالدية والبياضة، قبل أن يتطور الأمر إلى اختطاف الرهائن والاختطاف المقابل. إن منطق الحماية الذاتية الذي دُفعت إليه الأحياء الثائرة يعبّر عن نجاح النظام، فهذه المرة لم تكن الحماية فقط من آلة قمعه وإنما أيضاً من الأحياء المغايرة طائفياً وسياسياً. ومن الملاحظ أن مسيحيي المدينة انكفأوا على أنفسهم، بعد المشاركة الخجولة في بداية الثورة، بمنطق أن الحرب الدائرة في جوارهم لا ناقة لهم فيها ولا جمل.
وعلى العموم كشفت تجربة الثورة في حمص عن هشاشة الفضاء المديني، حيث التجأ كلٌّ من مكونات المدينة إلى الأحياء التي كانت مقسمة أصلاً وفق روابط ما قبل مدينية، وكان لعجز الثورة عن السيطرة على ساحة الساعة الرئيسية مفاعيل عميقة لا يخفف من وطأتها التمسكُ برمزية الساحة، وصنعُ مجسم على شاكلة الساعة الأصلية ووضعه في ساحة صغيرة لأحد الأحياء.
في حادثة وقعت مؤخراً، وقد تؤيد ما نحن بصدده، اختطف الجيش الحر في دوما، التابعة لريف دمشق، عميداً في جيش النظام، وطالب الخاطفون بإطلاق سراح معتقلي دوما لدى أحد الفروع الأمنية مقابل الإفراج عنه. هذه الظاهرة، وإن كانت مبررة واقعياً، تدلّ على انكفاء طالما أراده النظام، إذ كان أولى بالخاطفين أن يقدّموا لائحة بأسماء معتقلين ينتمون إلى مناطق مختلفة، وألا يتعاطوا مع النظام بأسلوب المفرّق الذي يستثمر فيه. لكن الأهم من ذلك الآثار البعيدة المدى التي قد تتعرض لها الثورة بفعل تقطيع أوصالها، خاصة أن سقوط النظام استغرق وقد يستغرق وقتاً أطول من المأمول. فإذا كانت الثورة ما تزال موحدة حول شعارات وطنية عامة إلا أن العصبيات دون الوطنية قد أخذت تنخر فيها في غياب واضح لبراكسيس ثوري جماعي: من جهة هناك تسلل الإسلام السياسي إلى بعض المناطق الثائرة، مع ما يعنيه ذلك في الوضع الحالي من سهولة الوقوع في الفخ الطائفي للسلطة، ومن تخوفات تطال المستقبل وتبعات ذلك على تماسك الثورة نفسها. ومن جهة ثانية تتربص المسألة الكردية، حيث يعمل بعض التنظيمات على فصلها عن المسألة السورية عموماً، ويجد ذرائعه المشروعة ربما في عدم إيلاء الوضع الكردي اهتماماً لائقاً من قبل الشق العربي للمعارضة.
إن التمايزات السابقة، وغيرها من التمايزات المناطقية حتى، كانت لتدلل على صراع مشروع على المستقبل لو أن إسقاط النظام بات في المتناول حقاً، ولو أن هذه التمايزات أتت في بيئة سياسية ناضجة، إلا أنها تأتي فيما قبل السياسة، وفي سياق ثورة يُفترض بها أن تعيد السياسة إلى مجتمع حُرم منها طويلاً.
بالتأكيد ليس منتَظراً من الثورة السورية أن تعكس نقاء غير موجود في الواقع، ولا أن تتوحد بشكل أيديولوجي وتنظيمي صارم، لكن تهافت التمثيل النظري والسياسي للثورة طوال سنة أفسح المجال للنظام كي يعمق الفجوة بين شعاراتها وواقعها. على نحو ما اضطرت لأن تكون ثورة «بالمفرّق»، ومنعت بالقوة المفرطة من التحرك والتفاعل في الفضاء المكاني والرمزي للمدن، وبينما لم تتوقف عن الانتشار أفقياً باتت نقطة الالتقاء الجوهرية بين مكوناتها هي النقمة العارمة على أعمال القتل والإبادة التي يقوم بها النظام، وبات التخلص من الأخير مشروعاً بأي ثمن، المهم أن يتم ذلك بأقصى سرعة، لأن كل وقت إضافي قد يعني استنزافاً جديداً للمشروع السياسي «الغض» للثورة.
لقد استطاع النظام احتكار حاضر سوريا لأكثر من أربعة عقود خلت، وسيكون مؤسفاً جداً أن يشارك في صياغة مستقبلها عبر تأثيره السلبي في الثورة التي قامت أصلاً على الضد من بنيته.