موفق عصّاصة وقصة الضباط الشوام/ حسام جزماتي
تفصل ستون عاماً بين صورة العميد الطيار المفعم بالحيوية، أحد حكّام سوريا في وقته، وبين العجوز النحيل الذي دُفن في مقابر المسلمين بلوس أنجلوس الأسبوع الماضي. غير أن وفاة الضابط المنفي طوعياً كانت مناسبة للمقارنة بين جيشين يتنازعان الذهنية السورية؛ أحدهما ما علمه الناس وذاقوه خلال العقد الأخير من قصف وتعفيش، وثانيهما جيش تتراءى ملامحه الخاطفة بشكل متقطع خلف الصورة الأولى، يمتاز بالحِرفية والاحترام والتفرغ لحراسة الحدود وعدم التدخل في الحياة السياسية والمحافظة على معاييرها الديمقراطية. ونتيجة تعطش كثير من السوريين إلى نماذج من النمط الثاني وجد بعضهم ضالته في «موفق بك»، أحد أبرز قادة كتلة «الضباط الشوام» التي قامت بانقلاب الانفصال عن مصر.
والجدير بالتذكير أن الجيش السوري، قبل أن يدخل عهد السرّانية والتحنيط في ظل حافظ الأسد والشوط الإضافي الذي يقوده ولده؛ عرف أجنحة حزبية عديدة، وأحياناً تكتلات مناطقية من أبرزها مجموعة الدمشقيين التي ربما يصحّ القول إنها عبّرت عن نفسها، سياسياً وجماعياً في مناسبتين كبيرتين؛ أولاهما معركة ميسلون ضد القوات الفرنسية الغازية في 1920، والتي أسفرت عن مقتل وزير الحربية يوسف العظمة وانكسار القوات المدافعة عن دمشق، كما هو معروف. وباستعراض أسماء المشاركين في معركة الكرامة الانتحارية هذه، من ضباط الجيش الفيصلي، يُلاحظ ورود عدد من العائلات الدمشقية المعروفة. ولعل هذا أحد أسباب التثبت الانفعالي والتاريخي والسياسي، لدى كتّاب دمشق ومحاضريها ونواديها الثقافية، على هذه المعركة التي يجري إحياء ذكراها وإعادة توثيقها عاماً بعد عام، من دون كلل أو ملل.
المناسبة الثانية التي تحركت فيها كتلة شامية من الضباط للتعبير عن موقف سياسي هي حركة الانفصال التي حصل نقاش طفيف حولها بمناسبة وفاة العميد عصّاصة مؤخراً. ففي 28 أيلول 1961 تحركت هذه المجموعة من الضباط لمطالبة قيادة دولة الوحدة بإصلاحات جذرية لأوضاع الإقليم الشمالي المدنية والعسكرية. ونتيجة الشعبية العارمة لجمال عبد الناصر وللوحدة المصرية السورية القائمة، حتى في نفوس الضباط المحتجين، لم يفكر أكثر هؤلاء أنهم «انفصاليون» إلا عندما سارت الأحداث في هذا الاتجاه وعادت الدولتان إلى الوجود ككيانين سياسيين مستقلين.
ومن الطريف أن عهد الانفصال، الذي لم يدم أكثر من سنة ونصف السنة، حظي بعدد لافت من كتب المذكرات والشهادات، ربما بسبب تعدد الفاعلين فيه عبر خمس حكومات متتالية. ومن المؤسف أن صورته لا تسرّ كثيراً، فقد شهد تفكك كتلة الضباط وتناحرها، وهيمنتها على الحياة السياسية وتدخلها في الانتخابات النيابية وفي اختيار رؤساء الجمهورية والحكومة والبرلمان. وإن اتسمت طبيعة هذه المرحلة بجرعة أعلى من الديمقراطية مما كان قد مرّ أيام أديب الشيشكلي، ومما سيأتي في عهد حزب البعث الذي انقلب على الانفصاليين في 8 آذار 1963 وزجهم في سجن المزة، الأسوأ حينئذٍ، وقدّمهم لمحاكمات عسكرية مسيّسة.
من المألوف أن يشير المؤرخون إلى هذا التاريخ بوصفه المفصل الذي قررت فيه المدينة السنّية السورية، ممثلة بدمشق بشكل جليّ، الاستنكاف عن المشاركة في الحياة العسكرية للبلاد، تاركة إياها للأقليات الطائفية التي أخذت تتصارع في الستينات، ولأبناء الأرياف العرب السنّة بدرجة أقل. ومن المعروف أن هذا العقد شهد أطول قوائم تسريح للضباط وأعلى درجة تعويض وملء للفراغات الناشئة عبر الترفيعات الاستثنائية والتطويع في دورات عسكرية مختصرة.
ورغم أن هذه الفكرة صحيحة في المجمل فإن بعض المسارات التي كانت تجري على هامشها جديرة بالانتباه كذلك، إذ لم يخلُ الجيش من ضباط اتسموا بالخبرة والقدرة على تسيير بعض الإدارات والهيئات التابعة لهيئة الأركان. وفي كثير من الأحيان كان هؤلاء من المدينيين السنّة الذين التزموا الحياد السياسي في أثناء الصراعات أو الولاء لحافظ الأسد حين استقر له الحكم، وعندما أطلق عملية إعادة بناء الجيش منذ عام 1971 وفق خطط طموحة تتطلب مهندسين باختصاصات متنوعة وفيزيائيين وكيميائيين وأطباء وصيادلة وحقوقيين وماليين وإداريين. وبسبب انتشار التعليم الجامعي بين أبناء المدن أكثر من سواهم كانوا المرشحين الأوفر حظاً للتطوع كضباط مجازين أو كموفدين داخلياً في أثناء دراستهم الجامعية أو خارجياً لمتابعة الدراسات العليا.
وإذا كان أبناء المدن الكبرى قد تركوا طريق الكلية الحربية فإن بعضهم وجد في الفرص التي أمّنها الجيش وسيلة سريعة للحصول على راتب جيد، وقتئذ، ومستقبل مهني مضمون ولائق، عبر التحول إلى طبيب عسكري أو مهندس ضابط ونحو ذلك. وقد حاز هؤلاء تسهيلات متعددة، فبالإضافة إلى التساهل النسبي في العلامات المطلوبة لدخول الكلية، كان الاختصاص يتم في إحدى الدول الغربية، ومن كان يحصل على الدكتوراة في الهندسة أو العلوم التطبيقية أو البحتة يستطيع العمل محاضرا في الجامعة فضلاً عن عمله الأصلي. كما استفادوا من مشاريع السكن العسكري التي لم تبدأ في الضواحي البائسة ذات النمط الاشتراكي بل في أحياء مدينية معتبرة، بالإضافة إلى استثناء لاستيراد سيارة معفاة من الجمارك.
وإذا كانت هذه الروافد الفنية والإدارية والاختصاصية مدخل مدن سوريا إلى البنية التحتية للجيش فقد حصّلت دمشق منها نصيباً وافراً. فمن جهة كانت الأكثر تعليماً والأكثر قرباً من مراكز القرار، ومن جهة أخرى لم يكن الضباط البعثيون، المسؤولون عن العقود، يحملون تجاهها ذاكرة تنافس حادة كما هو حال الضباط الحلبيين الذي اشتهروا بتمردات ناصرية متعددة، والحمويين الذين صنعوا سلسلة انقلابات بتحفيز من أكرم الحوراني، والحمصيين الذين انطلقت كثير من التغييرات من قيادة المنطقة الوسطى أو من الكلية الحربية في حياضهم. وذلك قبل أن يشمل الغضب الساطع حلب وحماة، وإلى درجة أقل حمص، بعد الصدام مع الإسلاميين فيهما في الثمانينات.
وعلى كل حال فإن موقع الضباط المدينيين السنّة في الجيش أخذ يتراجع رغم الظروف السابقة. فمع السنوات دخلت الأرياف السنّية والطائفية على خط المنافسة على الإيفادات والإدارات، وما كانت السلطة تضطر إلى المحافظة عليه بعيداً عن الفوضى والترهل والفساد المنفلت، للمحافظة على حد أدنى من انتظام سير العمل، بات مساحة تقل بالتدريج وتتعرض لغزوات احتلال دائمة. ومن هنا يمكن فهم الأصوات التي تترحّم على العقود الأولى لمؤسسة الإسكان العسكرية، ومشفى تشرين، ومركز البحوث العلمية.. على سبيل المثال.
وأخيراً فإن من أولويات أي سلطة تشعر، بدرجة أو بأخرى، بأنها قوة احتلال، أن تجنّد بعض السكان المحليين للقيام بوظائف ترجمة المفاهيم ورسم الخرائط المتعددة. ومن هنا حرصت أجهزة الأمن على التقاط دمشقيين والحفاظ عليهم حتى رتب عالية، ومن جهتهم أبدى هؤلاء ما يكفي من الولاء ومن فهم وظيفتهم في المجتمع الأهلي. ربما لا يلحظ المرء وجودهم لأنهم أشخاص مفردون بلا كتل، لكن من اللافت أن نذكر هنا أربعة من كبار ضباط المخابرات خلال الثورة؛ هم اللواء هشام اختيار، القادم إلى إدارة المخابرات العامة من رئاسة فرع المنطقة (227) في شعبة المخابرات العسكرية، وقُتل في تفجير خلية الأزمة عام 2012 وهو رئيسٌ لمكتب الأمن القومي. وقد ورث دمشقي آخر، هو اللواء علي مملوك، هذا المنصب بعد تسميته مكتب الأمن الوطني، وما زال في موقعه التنفيذي الكبير. كما يشغل العميد حسام سكر منصب رئيس فرع المعلومات (294) في شعبة المخابرات العسكرية، وكان من أبرز من اعتمد عليهم الأسد لعلاج الاحتجاجات في دمشق وريفها. وأخيراً يُعِدّ العميد أحمد قصيباتي معاملة تقاعده من فرع التحقيق (248) في شعبة المخابرات العسكرية، فخوراً بحذره لأن القوائم السوداء لم تذكره.
تلفزيون سوريا