مِهَن الشارع السوري الجديدة… بيع كلى وبنزين وسرقة مقابل سندويشة/ ورد بيك
دفع الانهيار الاقتصادي في سوريا كثيرين نحو مهن لم تكن مألوفة سابقاً، رجل يبيع الحطب بالقطعة، وأمرأة تبيع البنزين في الشارع بقنينة بلاستيكيّة، وأطفال يمتهنون السرقة مقابل سندويشة.
يُلاحظ من يمشي أو يقود سيارته، قبل ساحة باب توما في دمشق، سيدة مُسنةً ذات مِعطفٍ سميك، تقف في البرد أمام بسطة بنزين صغيرة تبيع منها للسيارات. أشار إلى هذا المشهد سائق السرفيس الذي كنتُ فيه، وقال بصوت عالٍ: “يالله، صار النسوان يبيعونا بنزين… لوين وصلت البلد؟”، فيما تنظر وجوه الركاب نحوها وهي تفرغ قنينة بنزين بلاستيكية في إحدى السيارات.
لم نعتقد أن الأمور يمكن أن تسوء أكثر، لكن هذه المدينة تفاجئنا، يمرُّ السوريون بأسوأ مجاعة منذ بداية الحرب، ويمكن سماع أصوات بطون السوريين الفارغة إن أنصت الواحد جيداً. ومع تدنّي فرص الحياة والمعيشة في الداخل السوري، ظهرت مهنٌ جديدة لم تكن مألوفة سابقاً، وبدأت بالانتشار تدريجياً كأسلوب للنجاة.
أمهات سوريات برائحة البنزين
انتشرت أخبار كثيرة عن ممارسة النساء أعمالاً لم تكن مباحة لهن، كالمشاركة في ورشات البناء والتنظيف وقيادة سيارات التاكسي، رأى البعض في الأمر انتصاراً جندرياً، في حين انتشر شعور بالعار لدى البعض الآخر، فبعض المهن ليست وسيلة لتأمين لقمة العيش في بلد ينهار، يحلم شبانه بالرحيل في كل لحظة.
أبرز مظاهر الانهيار الاقتصاديّ تتجلّى في أزمة الديزل، الذي يشكل عائقاً في وجه السوريين بكامل مشتقاته، سواء كنا نتحدث عن البنزين (للسيارات والمولدات الكهربائيّة) أو المازوت (للتدفئة)، إذ لم تعد الحصص الشهرية التي توزع على أصحاب الآليات كافية، لا يمكن استهلاكها أو تخزينها على المدى القريب، لذا يقوم السائقون، في غالبيتهم، ببيع حصصهم من هذه السوائل في السوق السوداء بأسعار خيالية تصل إلى ستة أضعاف.
كانت عبارة السوق السوداء مجازاً يدل على تجارة غير قانونية تحدثُ بطرق مخفية، تطوّر المفهوم اليوم، وأصبح للسوق السوداء “مكان” واضح غير خفي عن الناس وقوات الأمن المتخصصة بمكافحة هذا الشكل من التعاملات التجاريّة.
تنتشر بسطات بيع البنزين على معظم أوتوسترادات وشوارع دمشق وغيرها من المحافظات. يجلس الباعة على الرصيف ويضعون أمامهم علباً بلاستيكية شفافة تحتوي على البنزين، هذه الحصص غالباً ما يأخذها من هم بحاجة إليها أو من هم في وضع مادي جيد، وقد يشتريها أصحاب سيارات الأجرة، ما يمكّنهم من رفع أسعارهم أيضاً بما يناسب مزاجهم، تستمر هذه الأرقام بالارتفاع بينما يبقى الشارع السوري مهدداً بالشلل في أي وقت.
بسطات لبيع الحطب
يقف العم أبو فراس عند بسطة في رأس أحد شوارع جرمانا، يُخرج من جيبه قطعة نقود بقيمة 5000 ليرة سورية ويقول للبائع: “شو بطلعلنا بدالها!”، يزن صاحب البسطة قطعة خشب متوسطة الحجم ويضعها في كيس كي لا تبتلّ من المطر، فيطلب منه العم قبل إحكام إغلاق الكيس: “ممكن تقطعها قطع صغيرة مشان نحرقها على دفعات؟!”.
تنتشر في أحياء دمشق اليوم، وفي معظم مناطقها الريفية، بسطات تبيع قطع الحطب بشكل مفرد، أي حطبة أو اثنين لكل مشتر. كان الحطب سابقاً يُباع بكميات كبيرة (بالأطنان)، ليقي الناس برد الشتاء، أما اليوم فيُباع بالقطعة، تكاد لا تكفي الواحدة منها لساعة اشتعال واحدة. و يقدر سعر الكيلو الواحد من الخشب بـ 1000 ليرة سورية وأكثر، ويزداد السعر حسب نوع الخشب وجودته وإن كان رطباً أم جافاً.
أعرف العم أبو فراس جيداً، يعيش بالأجرة بعد أن هُجِّرَ من إحدى مدن الشمال خلال الحرب، وفقد جميع أملاكه، منزله وبساتينه وسيارته السوزوكي. يمشي اليوم في شوارع دمشق، يجمع قطعاً بلاستيكية ويشتري بثمنها قطعة حطب واحدة، ويقول مازحاً: “انشالله ما تكون من شجر البساتين الي اخدوهن مني…”.
يعتقد البعض أن هذا المشهد استثناء، ولا يمكن اختصار الواقع به، لكن يكفي المشي في شوارع دمشق لرصد هذه المهنة الموسميّة الجديدة، التي تنشط حالياً إلى حين مجيء الصيف، حينها لا نعلم ما المهنة التي سيبدأها أبو فراس.
العيش بكلية واحدة
ارتفعت نسب بيع الكلى في مستشفيات سوريا مؤخراً، تنتشر هذه الظاهرة في العاصمة دمشق خصوصاً، بسبب تردّي أوضاع البلاد، وازدادت حصيلة هذه النشاطات بين السوريين تحت مسمى “التبرع”، الغطاء المستعار للالتفاف والتحايل على التشريع القانوني الذي يمنع الإتجار بالأعضاء. لا يقتصر الأمر على بيع الكلية، فكل ما يمكن الاستغناء عنه في الجسد، يمكن أن يُباع مقابل بدل مادي، كقرنية العين والكبد.
يصل سعر الكلية الواحدة إلى ما يقارب الـ 9000 دولار، حسب صحة الجسد وعمر المتبرع وخلوّه من الأمراض، ووفق المدعي العام أحمد السيد، هناك أكثر من 20,000 حالة بيع أعضاء بشرية غير قانونية مؤخراً في البلاد. صرح أيضاً مدير عام هيئة الطب الشرعي في سوريا، حسين نوفل، لوكالة “سبوتنيك” الروسية عام 2016، ما مفاده أن السوق السوداء لبيع أعضاء السوريين عبر العالم طاولت 15 ألف سوري خلال السنوات الست الأخيرة.
حاويات القمامة منازل صغيرة
أبرز مظاهر الفقر في سوريا التي انتشرت خلال الحرب، تنبيش حاويات القمامة، وأخذ ما يمكن منها سواء كان طعاماً أو شيئاً آخر. مارس كثيرون هذه الأعمال منذ بداية الحرب، تطور الأمر اليوم إلى أن أصبحت هناك عائلات كاملة تسكن بجانب حاويات النفايات، رجال ونساء وأطفال، أمهات يرضعن صغارهن بصدر نصف مغطى، وينبشن أكياس قمامة بحثاً عمّا يسدّ الرمق.
يؤلمني هذا المشهد، فالقمامة مصدر عيش الآن، والمرعب هو اعتياد الشارع السوري رؤية هذه الأمور وكأنها أمر روتيني، فمن يكترث لطفل يرضع من صدر مكشوف بجانب القمامة؟!، ومن يهتم لطفلين بعمر السادسة ينامون أسفل كيس أعلاف مربوط بين سلتين من النفايات؟!. كيف نصف عجوزاً يفتح قمامتك فور تخلّصك منها ويأكل ما يجده بنهم ومن دون تردد؟!.
عصابات من الأطفال
استيقظ وسيم (اسم مستعار)، صاحب إحدى ورش النجارة في دمشق، على صوت عامله وهو يصرخ: “مسكت الحرامي الي سرقنا من يومين…” .
ما حدث أن أربعة أطفال قصّر تتراوح أعمارهم ما بين الـ6 والـ17 عاماً، استطاعوا خلع باب الورشة وسرقة ما يمكن أخذه من المكان، جرة الغاز، أدوات عمل، ألياف من النحاس وأشياء أُخرى.
أفصح الطفل صاحب الـ 7 أعوام فوراً عن أسماء شركائه الذين قاموا بهذا الفعل، وبعد تحقيق في الأمر استطاعوا الوصول الى أحد رجال المنطقة، الذي أخذ الأغراض من الأطفال. لم تكن هذه المرة الأولى التي تحدث فيها سرقات في المكان وبالطريقة نفسها. يقول الطفل إنهم يفعلون هذا مقابل أجر بسيط يمكّنهم من شراء شاورما ولعب البلايستيشن.
يروي وسيم هذه الحادثة وهو يضحك، لم يُقدّم أي بلاغ للشرطة، واعتمد على نفسه لاكتشاف ما حدث، يقول: “الرجل الذي يدفع للأطفال هو السارق الحقيقي، وهو من يوجّه الأطفال الى هذه الأفعال والأماكن، خصوصاً بعد محاولاته تبرير فعلته وإخلاء الأطفال من المسؤولية، كونهم لم يبلغوا سن الرشد”.
استطاع وسيم التحايل بحجة أنه اشترى هذه الأغراض من أحد الباعة في السوق السوداء، ولم يعلم أنها مسروقة، ولعدم وجود دلائل كافية وسط فوضى البلد، تمت استعادة الأغراض والتكتم على الموضوع، يقول وسيم ساخراً: “يا حرام الولد الصغير، فضح كل شي أول ما مسكناه من الخوف، شو بدي عاقبو إلو واترك الحرامي الحقيقي!، تركتن يروحوا”.
ما سبق عيّنة مما يحصل في الشارع السوري اليوم، آلاف العائلات والأشخاص الذين كانوا ينتمون الى الطبقات المتوسطة اجتماعياً، تشردوا في الشوارع، يتقاسمون الخوف والجوع والعوز أمام بلد مشلول، وفي هذه الحالة ينطبق المعنى اللغويّ لكلمة مهنة، المشتقّة من المهانة، أي ذُلّ النفس في سبيل لقمة العيش.
درج