أوليغارشيو شمال سوريا برعاية الجولاني… هل يمهّد “الاحتكار” لثورة مضادة؟/ أيهم الأحمد
بات مفهوم “النخبة أو الصفوة”، الأكثر جدلاً في شمال سوريا، إلى درجة أن السكان لم يعودوا يميزون من هو الحاكم على هذه الأرض. وعلى الرغم من تعدد التعريفات، إلا أنه يمكن القول إن هذه الطبقة هي القلة التي لديها إمكانات كثيرة، وتمتلك الثروة والقوة والسيطرة، وهو ما لخصّه عالم الاجتماع “أفلاطون” حين وصفهم بـ”الأوليغارشية”، وعدّهم الشكل والمثال السيئين للحكم.
ويمكن استخدام المصطلح كذلك للدلالة على الفئات المميزة المتنوعة في المجتمع، كما فسّرهم “أرسطو” الذي رأى أنه “دائماً هناك أقلية تحتكر الثروة والسلطة ومصادر القوة، وتحاول منع الآخرين من الترقي والدخول في طبقة الصفوة، وهذا يؤدي إلى الطغيان والفساد الذي يعجّل بالانهيار”.
والمقصود بالأوليغارشية، في ما هو متعارف اليوم، طبقة رجال الأعمال والسياسيين الأغنياء المقرّبين من السلطة الذين لهم استثمارات تُقدّر قيمتها بعشرات المليارات من الدولارات.
عندما نحاول إسقاط ما ذكرناه على الواقع المعيش في شمال سوريا، وتحديداً في مناطق إدلب وحلب الخارجة عن سيطرة النظام السوري، نجد أنها منتشرة بشكل كبير.
أوليغارشيو إدلب
عام 2015، سيطر جيش الفتح، وهو تحالف من فصائل إسلامية عدة، على محافظة إدلب واستمرت إدارة المدينة كشراكة بين تلك الفصائل حتى عام 2017، حين بدأ الاقتتال بين أحرار الشام وهيئة تحرير الشام (جبهة النصرة سابقاً)، وانتهت بسيطرة الأخيرة على كامل المنطقة، وتالياً باتت “هيئة تحرير الشام” هي السلطة الحاكمة في منطقة إدلب، والتي بدورها أصبحت آخر ما تبقّى من معاقل مهمّة تسيطر عليها المعارضة في شمال غرب سوريا.
بعد نجاح سيطرتها وتمكينها، شكلت الهيئة ذراعاً مدنيةً تحت اسم حكومة الإنقاذ، التي سرعان ما بسطت سلطتها على الحياة في إدلب، مستقويةً بما للهيئة من نفوذ وقوة عسكرية، وتالياً باتت تتحكم في مفاصل المنطقة إدارياً واقتصادياً وخدمياً، بما يخدم مصالح الهيئة، إذ يبلغ عدد سكان إدلب نحو ثلاثة ملايين نسمة نصفهم من النازحين داخلياً.
كل فئات المجتمع تستحق الحياة، هكذا ببساطة. شاركونا ما يدور في رؤوسكم حالياً. غيّروا، ولا تتأقلموا!
ادعمونا
ومنذ بدء تمكّنها في المنطقة، لعبت “تحرير الشام” على مسار إنعاش المنطقة اقتصادياً، لعكس صورة إيجابية عن سيطرتها وأن المنطقة بدأت تتعافى منذ إحكامها السيطرة على السلطة فيها.
وضمنياً، وافق السكان بمعظمهم على هذا التغيير الذي وضعته هيئة تحرير الشام وقوبِل بالإيجاب، وقد مهّد ذلك الطريق أمام أصحاب رؤوس الأموال المقربين من تحرير الشام، لاستثمار أموالهم وفتح مشاريع إنتاجية ضخمة.
يقول مصدر من داخل “هيئة تحرير الشام”، لرصيف22: “الشخصيات والشركات المتحكمة بالمفاصل الاقتصادية في مناطق نفوذ الهيئة وحكومة الإنقاذ التابعة لها عديدة، وجميعها تعود إلى رأس واحد، هو مصطفى قديد، الملقّب بـ”أبو عبد الرحمن زربة”، وهو الرجل الاقتصادي الأول لأبي محمد الجولاني في شمال سوريا”.
ويضيف المصدر الذي رفض ذكر اسمه لحساسية المعلومات التي يصرّح بها: “المعابر واستيراد المواد الغذائية والمحروقات والسيارات، وقطاع العقارات واللحوم والدواجن تسيّرها هيئات وشركات عدّة تحت أسماء مختلفة تابعة لتحرير الشام، والمسؤول المباشر عنها “الزربة”، وهو من مدينة دركوش في ريف إدلب الغربي (شمال سوريا)، ويراقب عملها شخص آخر يُطلق عليه اسم المغيرة بنش”.
شركة “زاجل”
يروي المصدر أن هنالك في مدينة إدلب شركةً يُطلق عليها اسم “زاجل”، وهي تسيطر على شركات النقل الداخلي، كما أنها المسؤولة الأولى عن إدخال المواد الغذائية ودخول وترخيص السيارات الأوروبية أيضاً إلى إدلب.
اقتصر عمل الشركة منذ تأسيسها على مجال النقل والمواصلات داخل منطقة إدلب، قبل أن تتوسّع وتمارس وظيفة التخليص الجمركي للسيارات المستعملة، وذلك بعد سماح تركيا بدخول السيارات نحو إدلب وتزايد أعداد المكاتب والتجار العاملين في هذا المجال.
وارتفع عدد معارض السيارات المستعملة (الأوروبية)، إلى أكثر من 200 مكتب في المدن والبلدات الحدودية في ريف إدلب الشمالي كـ”سرمدا، الدانا، معرة مصرين، وحزانو”، وغيرها.
وفي مطلع عام 2022، شهدت منطقة إدلب أزمةً على مادة السكّر، وبدأت “زاجل” وقتها بدخول السوق من الناحية الغذائية، واستطاعت تأمين مادة السكّر وتوريدها إلى الأسواق من خلال دخولها على خط الاستيراد من تركيا مقابل تعرفة جمركية كبيرة، ما خلق فارقاً سعرياً بين مبيع المادة قبل انقطاعها وفي أعقابه، إذ وصل سعر كيلو السكّر في انفراجته الأولى إلى 42 ليرةً تركيةً، بينما كان سعره قبل الأزمة 14.5 ليرات تركية فقط.
السطوة في كل المجالات
يقول المصدر الذي فضّل عدم ذكر اسمه لأسباب أمنية، إن الشركة المسيطرة على قطاع الدواجن تُدعى “شركة اليمامة”، ويديرها رئيس مجلس مدينة إدلب، خير الدين السيد عيسى، وظهرت مؤخراً شركات أخرى ادّعت أنها منافسة، إلا أنها تتبع لجهة واحدة.
وفي ما يتعلق بقطاع المحروقات، يوضح المصدر أن “الشركات التي رُخّصت مؤخراً تشرف عليها وتموّلها شركة واحدة، هي ‘نماء’، المختصّة بتشغيل الأموال للمواطنين”، مبيّناً أن “الشركة تبيع أسهماً للأهالي بسعر 100 دولار أمريكي للسهم الواحد، ومن عائدات المحروقات ومحطات الوقود، توزع الأرباح على أصحاب الأسهم بما يعادل 2 أو 3 في المئة شهرياً، وكل ذلك تحت إشراف أبي عبد الرحمن الزربة”.
وبالنسبة إلى قطاع العقارات والمقاولات والإنشاءات التابعة لـ”مؤسسة النقد” في حكومة الإنقاذ، فيقدّر المصدر ميزانيتها بـ”أكثر من 15 مليون دولار أمريكي”، وذلك عبر شركاتٍ تابعة للمؤسسة مثل “الراقي للمقاولات والتعهدات”، التي تُعدّ أكبر شركة مساهمة في إدلب، ويديرها القيادي “أبو إبراهيم سلامة”، الذي يُعدّ الرجل الثاني في دائرة الجولاني الاقتصادية الضيقة، والذي ينحدر من مدينة عندان شمال حلب، والذي كان قيادياً سابقاً في تنظيم “جبهة النصرة”.
ويُعدّ محمود خليفة، الذي يصفه المصدر بـ”الأخطبوط”، المسؤول الأول عن كل عمليات استيراد المحروقات من مناطق سيطرة الأكراد في شمال شرق سوريا، وله نفوذ واسع الآن في ريف حلب الشمالي ومناطق إدلب، وهو يقيم حالياً في قرية النيارة شرق حلب، مشيراً إلى أنه يتنقل باستمرار بين المناطق المحررة ومناطق قوات “قسد”، وله علاقات مع مخابرات نظام بشار الأسد، كما أنه يتنقل باستمرار بين الأراضي التركية ومناطق سيطرة النظام، من دون رقيب.
يتجوّل أوليغارشيو شمال سوريا، بسيارات فخمة، ومرافقة مبالغ فيها، وأبرزهم أبو عبد الرحمن زربة، إذ تُقدّر مرافقته بثلاث سيارات مصفّحة و10 عناصر مسلحين ملثّمين، بالإضافة إلى منزله المشيّد على هضبة في محيط “دركوش” غرب إدلب، في وقتٍ تُميّز جميع الحواجز من جرابلس إلى إدلب سيارة محمود خليفة، من نوع “ليكزس” ذات اللون الأبيض والمصفّحة.
كما أن عامل الولائم الجماعية المشترك بين هؤلاء يلعب دوراً أساسياً في تسيير أعمالهم، والتي تجمع في معظمها شيوخ عوائل، وشخصيات من أصحاب رؤوس الأموال، دورياً.
أبرز الاستثمارات
منذ قرابة العامين، بدأت ملامح التطور العمراني والتجاري والصناعي تظهر بشكل واضح في المدن الكبرى في إدلب وأبرزها سرمدا، والدانا الحدوديتان مع تركيا، وبات ينشط فيهما بناء المجمّعات التجارية والسكنية، والمولات والمشاريع الخاصة، إذ تعود معظم تلك الاستثمارات إلى “الأوليغارشيين” التابعين لـ”تحرير الشام”، فعلى سبيل المثال، أبرز شركتين للمحروقات هما طيبة، ووتد، وتُعدّان من أبرز المستوردين للمحروقات من تركيا والموردين لها إلى بقية الشركات الأخرى في المدن والبلدات في إدلب وريف حلب.
كذلك، قام أحد رجال الدائرة الاقتصادية الضيقة للجولاني، والمدعو “أبو حفص بنش”، مطلع عام 2022، بافتتاح فرعين لمشروع تجاري كبير في إدلب، يتمثّل في “سيتي مول” برأسمال قدّرته مصادر لرصيف22، بأكثر من مليون دولار أمريكي، بالإضافة إلى المول التجاري الشهير “رويال” الذي يتميز بمساحة 850 متراً مربعاً، ووفقاً للمهندس المدني الذي شارك في بنائه ورفض الإفصاح عن اسمه، فإن تكلفة المشروع بلغت قرابة 6 ملايين دولار أمريكي، وهو يحوي على أكثر من 50 محلاً تجارياً.
وتم بناء هذا “المول” وفق أفضل المعايير والمقاييس من حيث جودة الرخام والسيراميك والديكورات، بحسب أحمد خالد، وهو أحد العاملين في البناء.
إلى جانبه، أنشئ مطلع عام 2022، أكبر سوق للتجارة بالألبسة الجاهزة (الجملة)، في مدينة الدانا شمال إدلب، وضم نحو 150 محلاً، وتبلغ مساحة كل محل 80 متراً مربعاً تقريباً، وتعود ملكيتها إلى شخصيات تعود بشكل مباشر لهؤلاء “الأوليغارشيين”، ويستفيد منها بشكل كبير المدعو “أبو إبراهيم سلامة”.
الواقع الاقتصادي
منذ مطلع عام 2021، شهدت منطقة إدلب متغيرات عديدةً في البيئة الاقتصادية، جعلتها تستحوذ على إمكانيات مهمة، بالإضافة إلى عوامل ساهمت في البدء بمرحلة التعافي الاقتصادي في قطاعات عدة، منها الصناعية، وبدأت مرحلة التعافي من خلال إعادة تأهيل مرافق الخدمات المرتبطة بالقطاع الصناعي، فضلاً عن توجه العديد من رؤوس أموال الصناعة إلى تنشيط العديد من المصانع والمنشآت والورش الصغيرة، ما أدى إلى ظهور صناعات متنوعة بدأت الحاجة المحلية تزداد إليها، وقد رافق ذلك تشجيع من الحكومة الجارة (تركيا) خاصةً في مناطق إدارتها الفعلية في مناطق الحكومة المؤقتة، أكثر من محافظة إدلب.
يقول الخبير الاقتصادي مؤيد عبيد، المطّلع على الحركة الاقتصادية في الشمال السوري، لرصيف22، إن “مساعي هيئة تحرير الشام في السيطرة على المجال الاقتصادي واحتكار أبرز القطاعات الاقتصادية، تعود إلى غياب التمويل عنها”، مشيراً إلى أن “البداية كانت عبر سوق المحروقات وسوق الاستيراد، ومؤخراً شملت أنشطتها سوق المواد الغذائية، وكل ذلك بغية الحصول على مصدر تمويل ذاتي”.
ويضيف: “نجد اليوم أن حكومة الإنقاذ كبقية قوى الأمر الواقع في سوريا، تعمل على احتكار القطاعات ذات الأرباح الآنية بدلاً من التدخل في القطاعات التي تمثّل صلب العمل الحكومي، مثل التعليم المنهار حالياً نتيجة غياب الدعم، والقطاع الصناعي والتنمية الزراعية، واقتصار عملها على تنظيم سوق المحروقات وسوق التجارة الداخلية”.
ويتابع: “لو افترضنا أن تحرير الشام تحقّق الفائدة الآنية المرجوة من هذه السياسات، إلا أنها ستخسر على المديين المتوسط والبعيد، فقد أثبتت التجارب السابقة، ومنها تجارب حكومة نظام الأسد، بأن التدخل في الشؤون الاقتصادية واتّباع سياسة الاحتكار الحكومي يؤديان إلى انهيارٍ اقتصادي وفوضى تنعكس بشكل مباشر على معيشة المدنيين جراء الفساد الذي يصيب هذه المؤسسات”.
احتقان الشارع
يقول أحد أصحاب المحال التجارية في مدينة الدانا شمال إدلب، أيهم عكو (اسم مستعار): “لا أنكر أن حكومة الإنقاذ تقوم بتأمين كل متطلبات السوق، لكنها تسبّبت في كثير من الأزمات الاقتصادية والمعيشية نتيجة اعتمادها إلى حدٍّ كبير على مجموعة من الأشخاص الذين يحتكرون كل شيء ولا يفسحون المجال للمنافسة الحقيقية بين السكان، وهذا يشبه إلى حد كبير سياسة نظام الأسد، كرامي مخلوف وأمثاله”.
وبرأيه، فإن “هذه السياسية لن تدوم طويلاً نتيجة الغلاء الكبير في الأسعار وعدم الالتفاف إلى واقع الناس المعيشي”.
وارتفعت نسبة البطالة بشكل غير مسبوق هذا العام، وفقاً لما أكّدته منظمة “منسقو استجابة سوريا” (وهي منظمة غير ربحية ويتركز عملها شمال سوريا)، والتي أكّدت على أن نسبة البطالة في الشمال السوري وصلت إلى 85 في المئة بين السكان المدنيين هذا العام، وهي نسبة غير مسبوقة في المنطقة، عادّةً أن أهم أسباب البطالة، هي غياب فرص العمل، وعدم وجود الخبرة الكافية وضعف التدريب والكفاءات الوطنية وعدم توافر الخبرات العملية لمعظم الخريجين، ونقص المتابعة والدعم من أماكن تخرّجهم.
وانعكس هذا الواقع على المجتمع في إدلب، وبدأت تثار العديد من الأسئلة التي أهمها: لماذا هناك من لديهم سلطة ويصدرون الأوامر، فيما هناك آخرون عليهم إطاعتها؟ ولماذا هناك من يحتكر مصادر القوة فيما آخرون محرومون منها؟
رصيف 22