التقارب/ إعادة الارتباط التركي السوري: الدوافع والقيود وتداعيات السياسة الأميركية/ تشارلز ليستر
قسم الترجمة
المحتوى
مقدمة
الخلفية
مصدر القلق
وجهة نظر
الآفاق
التداعيات السياسية
مقدمة
قبل أكثر من أسبوعين بقليل، التقى وزيرا الدفاع ورؤساء المخابرات في تركيا وسورية، وجهًا لوجه، في موسكو، العاصمة الروسية، وهو الاجتماع الأول من نوعه منذ أكثر من عقد. في أعقاب القمة التي رعتها روسيا، ووصَفها المشاركون بـ “البناءة”، أجرى الرئيس التركي رجب طيب أردوغان اتصالًا مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، وزار عبد الله بن زايد، وزير خارجية الإمارات العربية المتحدة، بشار الأسد في دمشق. مع تصاعد اهتمام وسائل الإعلام العالمية، بما وُصف بـ “علامة واضحة على التطبيع”، ظهرت تكهنات تزعم أن هناك خططًا جارية لوزراء خارجية سورية وتركيا للاجتماع، في منتصف كانون الثاني/ يناير، لتمهيد الطريق لعقد اجتماع بين الرئيسين أردوغان والأسد، إمّا في روسيا وإما في الإمارات.
ظاهريًا، تُعدّ موجة التواصل الأخيرة هذه مع نظام الأسد تطورًا رئيسًا، في الأزمة السورية المستمرة منذ ما يقرب من 12 عامًا. وباعتبار تركيا الداعم والضامن الوحيد المتبقي للمعارضة المدنيّة والسياسية والمسلحة السورية، فإن إعادة ارتباطها الشامل مع دمشق ستُغيّر قواعد اللعبة. في الأعوام الأخيرة، لم يكن للحكومات التي عاودت التعامل بشكل حاسم مع النظام -الإمارات والبحرين والأردن- أيّ تأثير ملموس على الديناميكيات داخل البلاد. ولم تكن تحولاتهم السياسية سوى مجرد تحولات رمزية.
وعلى النقيض من ذلك، لدى تركيا آلاف القوات المنتشرة في عشرات القواعد والمواقع على الخطوط الأمامية في شمال سورية. القوات المسلحة التركية وجهاز المخابرات الوطني (MIT) هم الداعمون الوحيدون للجيش الوطني السوري وعشرات الآلاف من مقاتليه في شمال حلب، والضامنون الوحيدون لحكم هيئة تحرير الشام في إدلب. وبشكل عام، فإن هذا يعادل السيطرة الفعلية والاحتلال غير المباشر لأكثر من نصف حدود سورية مع تركيا التي يبلغ طولها 900 كيلومتر، ويبلغ عدد سكانها داخل البلاد قرابة 5 ملايين شخص. وإضافة إلى ذلك، لا تزال تركيا تستضيف ما لا يقل عن (3,5) مليون لاجئ سوري، وهم أكثر من نصف جميع اللاجئين السوريين في جميع أنحاء العالم. وإذا غيّرت تركيا سياستها تجاه سورية بشكل حاسم، فستكون التأثيرات مأساوية.
متظاهرون يرفعون أعلام المعارضة السورية ولافتات، في إطار احتشادهم ضد تقارب محتمَل بين أنقرة والنظام السوري في مدينة إعزاز التي تسيطر عليها المعارضة، على الحدود مع تركيا في محافظة حلب شمال سورية، في 30 كانون الأول/ ديسمبر 2022. تصوير رامي السيد / صور جيتي.
الخلفية
بعيدًا عن الضجيج والتكهنات المحيطة بالتطورات الأخيرة، فإن قرار تركيا المشاركة في اجتماعات موسكو في 28 كانون الأول/ ديسمبر ليس مفاجئًا تمامًا، ولا يعدّ انقلابًا للسياسة العامة أيضًا. تغيرت سياسة تركيا تجاه سورية بشكل قاطع في منتصف عام 2016، عندما تخلّت عن هدف إطاحة نظام الأسد لصالح أولويات الأمن القومي الأساسية والفورية: مكافحة الإرهاب وأمن الحدود. منذ إطلاق عملية درع الفرات، في آب/ أغسطس 2016، وفشلها في منع سقوط حلب في كانون الأول/ ديسمبر 2016، لم تُخفِ تركيا أجندتها الجديدة ذات المصلحة الخاصة. وتكيفت المعارضة السورية مع ذلك أيضًا، حيث استثمرت قدرًا كبيرًا من الموارد على الأرض في مواجهة حزب العمال الكردستاني (PKK) أكثر من استثمارها في تحدي النظام السوري.
ما تغيّر في الآونة الأخيرة هو الانتخابات الوشيكة في تركيا، المقرّر إجراؤها في أيار/ مايو أو حزيران/ يونيو من هذا العام. حيث ظهرت قضايا قليلة، من المحتمل أن يكون لها تأثير في نتيجة الانتخابات أكبر من الضغوط المتصورة المفروضة على الشعب التركي والاقتصاد من قبل اللاجئين السوريين. بعد أن عانى الأتراك من آثار معدل تضخّم يصل إلى (90) % تقريبًا، حوّلوا اللاجئين إلى كبش فداء. على مدى أعوام، سعى الرئيس أردوغان إلى بناء “منطقة آمنة” في شمال سورية، بحيث يعود إليها اللاجئون، وتتهم جماعات حقوق الإنسان تركيا بالفعل بترحيل البعض وإعادتهم قسرًا بأعداد أقلّ. لكن في البيئة السياسية الحالية، لا يبدو أن هذا كافٍ. المنافسون الأساسيون لأردوغان في الحملة الانتخابية، حزب الشعب الجمهوري (CHP)، يدعون بالفعل علانية إلى تطبيع العلاقات مع نظام الأسد، من أجل تسهيل العودة الجماعية للاجئين. وقد أظهر استطلاع للرأي أجرِي في كانون الأول/ ديسمبر 2022 في جميع أنحاء تركيا أنّ (59) في المئة من الأتراك يؤيدون هذا الموقف.
وبالتالي، فإن حقيقة أن أردوغان يمثل مثل هذه المشاعر اليوم ليست أمرًا مفاجئًا، كما أنها ليست وسيلته الأساسية للقيام بمواجهة حزب العمال الكردستاني. منذ عملية درع الفرات، (آب/ أغسطس 2016)، وعملية غصن الزيتون (كانون الثاني/ يناير 2018) وعملية نبع السلام (تشرين الأول/ أكتوبر 2019)، وضع أردوغان باستمرار محاربة حزب العمال الكردستاني -المتمثل بصيغة قوات سوريا الديمقراطية، حليف الولايات المتحدة في محاربة داعش- على رأس أولويات سياسة تركيا في سورية. ومنذ حزيران/ يونيو 2022، يسعى أردوغان إلى شنّ عملية جديدة في شمال شرق سورية ضد قوات سوريا الديمقراطية، مع التركيز على بلدات عين العرب/ كوباني ومنبج وتل رفعت. حتى الآن، يبدو أن رفض روسيا إعطاء الضوء الأخضر لمثل هذه العملية قد أوقف خطط أردوغان، ولكن في الاجتماع في موسكو، كان هذا هو الموضوع الذي ركز عليه خلوصي أكار، وزير الدفاع التركي، بكلّ حرص.
وكذلك، فإن دور روسيا كميّسر أو منسّق يمكن التنبؤ به، نظرًا للعلاقة المترابطة الفريدة -والمعقدة- بين موسكو وأنقرة، حول سورية وغيرها من القضايا. مع استمرار كارثة الحرب الروسية في أوكرانيا، بفضل المساعدة المكثفة التي قدمتها الولايات المتحدة وحلفاؤها إلى كييف، يهدف بوتين إلى دق إسفين بين تركيا والغرب، وتوجيه ضربة استراتيجية لحلف شمال الأطلسي، وهو ما قد يُجبر الجيش الأميركي على الانسحاب من سورية. لذلك يبدو أن روسيا تلوح بشكل من الجزرة، بمناهضة قوات سوريا الديمقراطية أمام أردوغان، كشرط لتطبيع العلاقات مع الأسد. إذا قُدِّر لروسيا النجاح في قلب سياسة تركيا في سورية، فقد تؤدي التأثيرات غير المباشرة أيضًا إلى تعقيد الدور المفيد في الغالب الذي لعبته تركيا في أوكرانيا، ويزيد من تحدي المقاييس الجيوسياسية في الوقت الحالي لصالح الولايات المتحدة وحلف شمال الأطلسي.
مصدر القلق
مما لا يثير الدهشة، أن تحركات تركيا الأخيرة بخصوص سورية أثارت قلقًا كبيرًا. كان هذا أكثر حدة في مناطق المعارضة في سورية، حيث يقيم ما لا يقل عن (5) ملايين مدني، معظمهم فرّوا من هجمات النظام لأكثر من مرة، على مر الأعوام السابقة. تكررت احتجاجات كبيرة في عشرات المناطق المحلية منذ أواخر كانون الأول/ ديسمبر، لأن احتمال انحياز تركيا إلى نظام الأسد قد يرقى إلى كارثة لا يمكن تصورها.
أصدرت جماعات المعارضة المسلحة السورية وقادتها بيانات توحي بالقلق من ذلك وبمعارضته، حيث وصف أبو محمد الجولاني، زعيم هيئة تحرير الشام، سياسة تركيا بأنها “انحراف خطير”، وصرّح بالقول: “إننا لن نصالح أبدًا”. وذهب المجلس الإسلامي السوري الذي يتخذ من تركيا مقرًا له، ويمارس نفوذًا إرشاديًا كبيرًا على المعارضة، إلى أبعد من ذلك، إذ قال: إن “الموت بالسمّ أسهل ألف مرة من المصالحة مع العصابة الإجرامية التي دمّرت سورية وأبادت شعبها”. عندما بدا أن رئيس الحكومة السورية المؤقتة، عبد الرحمن مصطفى، يوفر غطاءً جزئيًا لموقف تركيا المتغير تجاه دمشق، تبع ذلك ضجة واضطر إلى تصحيح ما قاله علنًا. وعلى الرغم من عدم دعمه للتطبيع، تعرض رئيس الائتلاف السوري المعارض، سالم المسلط، لهجوم عنيف من متظاهرين في بلدة إعزاز الشمالية، في 13 كانون الثاني/ يناير، واتهموه بأنه “خائن”.
وأبعد من ذلك، كان الرد الدبلوماسي صامتًا، باستثناء التعليقات التي أدلى بها المتحدث باسم وزارة الخارجية الأميركية، نيد برايس، في 3 كانون الثاني/ يناير، وكرر فيها معارضة واشنطن القديمة لـ “قيام الدول بتحسين علاقاتها أو الإعراب عن دعمها لإعادة تأهيل” نظام الأسد. لكن وراء الكواليس، تصاعد القلق بخصوص تصرفات تركيا. قام كبار المسؤولين الأميركيين بزيارة واحدة على الأقل غير معلنة لأنقرة في الأسبوع الماضي، للتشاور بتكتم حول أهداف تركيا في التعامل مع دمشق ومواصلة المحادثات حول انتشار قوات سوريا الديمقراطية، على طول المناطق الحدودية شمال شرق سورية. عقد السفراء الذين يركزون على سورية، من جميع الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي البالغ عددها 27، اجتماعًا نادرًا في بروكسل في 17 كانون الثاني/ يناير، إلى جانب الأمم المتحدة مع مولود جاويش أوغلو، وزير الخارجية التركي، حيث من المقرر أيضًا أن يزور واشنطن العاصمة في 18 كانون الثاني/ يناير، للاجتماع مع أنطوني بلينكن، وزير الخارجية وآخرون يعملون في نطاق سياسة الولايات المتحدة تجاه سورية. وإضافة إلى ذلك، تحاول الولايات المتحدة وفرنسا والمملكة المتحدة بسرعة عقد اجتماع في اللحظة الأخيرة لما يُسمى “مجموعة الاتصال الدولية” (التي تضم جامعة الدول العربية ومصر والاتحاد الأوروبي وفرنسا وألمانيا والعراق، والأردن والنرويج وقطر والمملكة العربية السعودية وتركيا والمملكة المتحدة والولايات المتحدة) للتشاور والتداول مع تركيا حول الخطوات السياسية المقبلة.
الوضع في الشرق الأوسط معقّد. فبينما كثفت الإمارات العربية أنشطتها التطبيعية -زيارة الأسد في دمشق، والتحالف مع روسيا، والدفع لاستضافة قمم رفيعة المستوى تهدف إلى إعادة العلاقات- ما تزال المملكة العربية السعودية ملتزمةً بمعارضة إعادة المشاركة، في ظلّ غياب تقدّم جاد لا رجعة فيه في العملية السياسية والتسوية. بعد ثلاثة أيام من اجتماع موسكو، نشر رئيس تحرير الصحيفة السعودية الرائدة، الشرق الأوسط، افتتاحية أكّد فيها أن “إسقاط” نظام الأسد هو السبيل الوحيد نحو الاستقرار في سورية. توقيت هذا المقال لم يكن من قبيل الصدفة، وكذلك الترحيب السريع من جانب الرياض بالمبعوثة الفرنسية الخاصة لسورية، بريجيت كورمي، التي لا تزال حكومتها هي المفتاح للحفاظ على موقف الاتحاد الأوروبي ضدّ الأسد. بدأ الأردن إعادة ارتباطه الكامل مع نظام الأسد في أواخر عام 2021، ولكن عمّان منذ ذلك الحين غيّرت مسارها بعد سيل من الآثار السلبية، وعادت الآن إلى الضغط من أجل عملية “خطوة بخطوة” مشروطة بشكل صارم، حيث يجب على النظام أن يحسّن سلوكه بشكل واضح، مقابل خطوات بناء الثقة المتتابعة من المجتمع الدولي.
وجهة نظر
في حين أنّ اجتماع قادة الدفاع والاستخبارات التركية والسورية في موسكو كان تطورًا مهمًا بلا شك، فمن المهم أيضًا أن نأخذ نفسًا عميقًا ونفكر في الأمور بشكل كلي. بادئ ذي بدء، لم تُشر قمة موسكو إلى تحول شامل في السياسة التركية، بل إلى مجرد زيادة لمستوى سابق، بدأه التنسيق الاستخباراتي التركي-السوري رفيع المستوى منذ عدة أعوام، واستمر بشكل متقطع منذ ذلك الحين، بينما لم يكن الاتصال العسكري جديدًا تمامًا، على الرغم من أنه كان يحدث بشكل غير مباشر، عبر روسيا.
يضاف إلى ذلك أن سياسة تركيا تجاه سورية بدأت في التحول في منتصف عام 2016، أي أن الطريق لما يجري اليوم قد سبق تمهيده. توقيت التطورات الأخيرة له علاقة بالسياسة الداخلية التركية، وليس بسورية في حد ذاتها. في حين أنه من الطبيعي أن يسعد بوتين والأسد، فإن الانتخابات التركية الوشيكة والمنافسة الشديدة بين حزب العدالة والتنمية بزعامة أردوغان، وكتلة المعارضة التي يقودها حزب الشعب الجمهوري، تعني أن الأطراف الثلاثة قد تشترك الآن في مصلحة مؤقتة في تغيير نغمة المحادثة العامة.
ولكن إذا تم الكشف عن انفتاح نحو تقارب تركي كامل مع دمشق، فسوف يستغرق الأمر أكثر من بضعة أشهر قبل أن نراه يتحقق. إنّ العقبات التي تعترض صفقة شاملة مرهقة للغاية. في جميع الاحتمالات، فإن أردوغان يدرك جيدًا هذا، وهو راضٍ تمامًا عن مسايرة الأمور. مجرد الإشارة إلى سياسة متغيرة قد يكون كافيًا للتغلب على منافسيه المعارضين. إذا كان أردوغان غير مدرك لذلك، أو مصممًا على تجاهل التعقيدات الكبيرة والاندفاع نحو التطبيع الشامل، فإنه يمهّد طريقًا ملتهبًا للغاية ومليئًا بالمخاطر، ويشمل ذلك وضعَه في أنقرة.
من حيث المعوقات، فإن قضية اللاجئين هي الأكثر أهمية. إذا افترضنا أن الدافع الأساسي لأردوغان هو إعادة التواصل مع نظام الأسد، بسبب الحاجة المتصورة لتحقيق عودة واسعة النطاق للاجئين السوريين إلى سورية، فإن المرء يواجه حقيقة لا مفرّ منها، وهي أن (3,5) مليون سوري في تركيا فرّوا من سورية خوفًا من النظام. إن الفكرة القائلة بأن المصالحة التركية السورية ستخلق الظروف التي سيعود فيها السوريون إلى سورية، مع بقاء نظام الأسد المعاد تمكينه بالكامل، هي فكرة خيالية.
وثمة أكثر من ذلك: في أعقاب قمة موسكو، زعمت مصادر مطلعة أن أحد العروض (أو ربما بشكل أكثر واقعية، أحد شروط النظام) الذي كان مطروحًا على الطاولة هو انسحاب عسكري تركي كامل من الأراضي السورية، وإعادة تأكيد السيادة السورية. بكلمات أخرى: خروج القوات التركية، وبذلك تزيل الغطاء الوحيد الذي تمتلكه جماعات المعارضة (الجيش الوطني السوري بشكل أساسي وهيئة تحرير الشام) حاليًا، والنتيجة إمّا إجبارها على التنازل عن شكل من أشكال “المصالحة”، أو مواجهة أعمال عدائية واسعة النطاق. كرر الأسد بنفسه هذه النقطة في 12 كانون الثاني/ يناير، بعد لقاء مع المبعوث الروسي الخاص إلى سورية، ألكسندر لافرنتييف، مؤكدًا أن المحادثات مع تركيا لا يمكن أن تتقدم من دون إنهاء “احتلالها” ودعم “الإرهاب” (المعارضة).
في أعقاب اجتماع موسكو، أفادت الأنباء أن المسؤولين الأتراك انزعجوا من مزاعم مسربة تشير إلى استعدادهم المحتمل لسحب القوات من شمال سورية. وإنّ حدوث مثل هذا السيناريو سيؤدي إلى ترسيخ رفض اللاجئين السوريين للعودة، وسيؤدي أيضًا إلى زعزعة استقرار كارثية في شمال غرب سورية، وإلى هروب جماعي نحو الحدود التركية لمئات الآلاف من النازحين السوريين داخليًا. وقد يمثل ذلك أزمة أمن قومي محلية ذات أهمية وجودية لأي زعيم، قبل الانتخابات أو بعدها، وسيثير حفيظة حلفاء أردوغان القوميين.
وإنّ احتمالية التوصّل إلى صفقة ذات مغزى تُغيّر قواعد اللعبة، بين تركيا ونظام الأسد، ستبدأ في الانهيار عندما ينظر المرء إلى الأولوية الأخرى لدى أنقرة: مواجهة حزب العمال الكردستاني، وهي أمرٌ يرتبط الآن ارتباطًا جوهريًا بأجندة مناهضة اللاجئين أكثر من أي وقت مضى. منذ أشهر، كانت تركيا تهدد بشن توغل عسكري جديد في شمال سورية، لكن روسيا منعته فعليًا. قد تكون الضربات الجوية التركية والعمليات السرية وسائلَ فعالة للضغط على قوات سوريا الديمقراطية، لكنها لا تخلق “مناطق آمنة” خالية من سيطرة قوات سوريا الديمقراطية. إن تركيز تركيا في موسكو على مكافحة الإرهاب، وكذلك مكالمات المتابعة والتعليقات العامة، يشير بوضوح إلى أن أنقرة تستكشف طرقًا بديلة لتحقيق ذلك الهدف: طرد قوات سوريا الديمقراطية من تل رفعت وعين العرب/ كوباني ومنبج.
تكمن المشكلة هنا في أنّ الشرط الأساسي لنظام الأسد للارتباط مع تركيا كان منذ فترة طويلة ولا يزال هو فكّ الارتباط العسكري التركي عن سورية. بافتراض أن مبدأ السيادة سيبقى -ولا يوجد سبب لافتراض أنه سيختفي- فإن الضوء الأخضر للتوغل التركي هو أمرٌ بعيد المنال. إن إعطاء روسيا الضوء الأخضر وسط هذه الديناميكية المكثفة لإعادة الارتباط سيقوّض بشكل أساسي عميلها في دمشق. وإضافة إلى ذلك، فإن تركيز تركيا الشبيه بأشعة الليزر على جعل دمشق تنقلب بقوة ضد قوات سوريا الديمقراطية، من خلال منظور “مكافحة الإرهاب”، يقوضه طلب الأسد المضاد: أن تصنف تركيا جميع الجماعات المسلحة في شمال غرب سورية على أنها منظمات إرهابية، وأن تعامل المنطقة الشمالية الغربية على أنها “منطقة الإرهاب”. وهذا ما قوبل برفض شديد من أنقرة، لأسباب بديهية.
لهذه الأسباب، فإنّ السؤال الأول في تركيا هنا -عن توغل تركي أو حملة قمع النظام برعاية روسية ضد قوات سوريا الديمقراطية- لا يبدو واقعيًا. إذا كانت أنقرة مستعدة لقبول هذه الحقيقة القاسية، فإن التدخل الأحادي، حول أي من عين العرب/ كوباني وتل رفعت ومنبج أو كلّها معًا، سيقضي على الفور تقريبًا على مسار إعادة الارتباط مع دمشق، وبالتالي إضعاف موقف أردوغان الانتخابي في الداخل. إذا كانت أنقرة ستتبنى مقاربة أكثر صبرًا وتفكرًا، على سبيل المثال، في عرض محتمل من دمشق لاحتواء قوات سوريا الديمقراطية، وربما تبادل المعلومات الاستخبارية عن الضربات الموجهة ضد كوادر حزب العمال الكردستاني، فهل سيكون ذلك كافيًا لتهدئة الضغوط المحلية في الداخل لتتصرف تركيا بشكل حاسم؟ من غير المرجح. بالكاد يبرز النظام السوري بكونه الفاعل العسكري والاستخباراتي المحترف الذي يتمتع بموارد جيدة تتطلبها مثل هذه الصفقة.
الآفاق
في النهاية، يمثل الارتفاع الأخير في تواتر الاتصالات بين تركيا ونظام الأسد المرحلة الأخيرة من عملية طويلة بدأت في منتصف عام 2016. لم يكن الدافع وراء الزيادة اللاحقة في التكهنات، حول إطار الصفقة الكبرى واحتمالات حدوث تحول شامل في موقف تركيا تجاه سورية، ينبع من الحقائق أو المنطق، ولكن من خلال الاهتمام المحتمل على المدى القريب لجميع الجهات الفاعلة المعنية بتقديم سردية عن تغيير كبير. يتصرف أردوغان من أجل مصلحته الشخصية؛ وروسيا دائمًا انتهازية؛ وسيستمر الأسد في المراوغة لتحقيق مصالحه، وهو يعلم أن رحيله لم يعد واردًا. في نهاية المطاف، فإن العوائق التي تحول دون صفقة لتغيير قواعد اللعبة هائلة، ولا يمكن التغلب عليها في غضون بضعة أشهر، وإنْ قُدِّمت إلى أواخر نيسان/ أبريل أو أيار/ مايو، كما اقترِح أخيرًا.
من الواضح أن أردوغان، لأسباب داخلية، يحتاج إلى إظهار علامات واضحة على تغيير السياسة تجاه سورية. لقد شكلت الاجتماعات رفيعة المستوى مع النظام سردية التغيير، وجذبت انتباه وسائل الإعلام، وأثارت تكهنات مفيدة. في الأسابيع والأشهر المقبلة، ستقود روسيا مسارًا دبلوماسيًا مغلقًا، يهدف إلى تحسين المبادئ والشروط والخطوط الحمراء من خلال سلسلة من “لجان المتابعة”.
على الرغم من التوقعات الانفعالية/ الهستيرية إلى حد ما، باجتماع وشيك لوزراء خارجية تركيا وسورية، يبدو أن أي اجتماع من هذا القبيل لا يزال على بعد أسابيع، إن لم يكن أشهر. لا يقتصر الأمر على وجود عقبات كبيرة لإبطاء أو منع المصالحة الجوهرية، ولكن العملية التي وصلنا من خلالها إلى الأحداث الأخيرة -ولا سيما دور الإمارات العربية المتحدة وإقصاء إيران- قد تقضي عليها أيضًا.
في نهاية المطاف، قد تثبت المصلحة الذاتية -حتى لو كانت مدفوعة بأهداف غير منطقية- أنها أفضل تفسير لتصميم الإمارات على التطبيع مع نظام الأسد، ورغبتها الواضحة في لعب دور قيادي في القيام بذلك. كما اتضح، فإن هذا السعي الأعمى للمصلحة الذاتية قد يكون في الواقع مدمّرًا. كان من المتوقع أن يكون الدور القيادي لروسيا في تسهيل الارتقاء الأولي للتواصل بين تركيا وسورية، لكن محاولة الإمارات العربية المتحدة اللاحقة للعمل جنبًا إلى جنب مع موسكو -لتحلّ محل صيغة آستانة- قد أغضبت إيران، بحسب ما ورد.
على الرغم من تعبير وزير الخارجية الإيراني حسين أمير عبد اللهيان علنًا عن “السعادة” للحوار التركي السوري، فقد يكون في الواقع يخفي إحساسًا عميقًا بالغضب في طهران. ظهرت أولى علامات هذا الشعور من خلال التسريبات التي أعقبت زيارة نائب وزير الخارجية السوري، أيمن سوسان، إلى إيران في 10 كانون الثاني/ يناير. حيث يُزعم خلال ذلك الاجتماع أن أمير عبد اللهيان أعرب عن استياء إيران من استبعادها من التطورات الأخيرة، في حين أوضح سوسان أن اجتماع قادة الدفاع والمخابرات جاء بسبب ضغط روسي على دمشق للقيام بذلك.
تمامًا بعد ذلك الاجتماع بين سوسان وأمير عبد اللهيان -والاتصال بين أمير عبد اللهيان وفيصل المقداد، ووزير الخارجية السوري- بدأت دمشق تتحدث علنًا عن المصالحة مع تركيا، ولم تكن اللهجة “بناءة”. في 13 كانون الثاني/ يناير، تحدث الأسد نفسه علنًا عن هذه القضية، وأصرَّ على أن أي محادثات مع تركيا يجب أن تكون “منسّقة مسبقًا بين سورية وروسيا”، وأنه لن تكون هناك أية “نتائج” ممكنة، من دون أن “تنهي” تركيا احتلالها وكل الدعم للمعارضة. وفي اليوم التالي، كرر المقداد، وزير الخارجية، هذا الموقف المتشدد أثناء وقوفه إلى جانب وزير الخارجية الإيراني، مؤكدًا أنه “لا يمكننا الحديث عن استئناف العلاقات الطبيعية مع تركيا، من دون التخلص من الاحتلال”.
كجزء من جولة دبلوماسية سريعة، كان من المقرّر أن يزور أمير عبد اللهيان موسكو في 17 كانون الثاني/ يناير، ولكن ألغِي هذا الجزء من الرحلة فجأة، نتيجة “الخلاف” الناتج عن “الدور الرئيس” لدولة الإمارات العربية المتحدة في محاولات تطبيع الأسد وإقصاء إيران من تلك الجهود. وبدلًا من ذلك، زار أنقرة. في مؤتمر صحفي، كرر بيانه العلني “الترحيب” بالاتصالات التركية السورية الأخيرة، لكنه تبعها بشيء يكشف أكثر عن آرائه، مدعيًا أن التطور جاء نتيجة “الجهود التي بدأتها الجمهورية الإسلامية منذ أعوام”. مثل هذا التنافس الجيوسياسي الناشئ، وقدرة إيران الواضحة على ممارسة نفوذها على عملية صنع القرار في دمشق، يمكن أن يفسد بسهولة الطبيعة “البناءة” للمحادثات.
بعد كل شيء، سورية على وشك الانهيار الاقتصادي الكارثي الذي حدد مساره بشكل أساسي قرارُ إيران الأخير بزيادة سعر إمدادات الوقود لنظام الأسد، وإصرارها غير المسبوق على أن تدفع دمشق مبالغ نقدية مقابل ذلك، وليس وفق الائتمان. أدى هذا التحول في السياسة وحده إلى انهيار الليرة السورية في أواخر عام 2022، مع تأثيرات مدمرة على تكلفة المعيشة للسوريين العاديين. ومن قبيل الصدفة، يُعزى موقف إيران المتشدد في مثل هذه القضايا إلى إحباطها من علاقات دمشق المتنامية مع الإمارات ومحاولاتها تعزيز التقارب مع تركيا.
لذلك، في الوقت الحالي، يبدو الأسد معارضًا تمامًا لعقد قمة لوزراء الخارجية، من دون تغييرات شاملة في السياسة التركية، من ضمن ذلك الانسحاب العسكري والوقف الكامل لدعم المعارضة السورية. إذا تمكنت موسكو من إيجاد بعض المساحة للتسوية بين البلدين، وأقنعت إيران بالمشاركة، فقد يمكن لهذه الارتباطات بعد ذلك أن تمثل امتدادًا دبلوماسيًا لعملية آستانة، مع احتمال إدخال إيران في المداولات. إن إدراج نظام الأسد في صيغة آستانة، من منظور إيراني، سيوفر للجميع فرص المشاركة إلى حد ما. مثل الأسد، أظهرت إيران استعدادًا أكبر للعب دور المفسد في الدبلوماسية السورية على مرّ الأعوام، وإدراج دمشق في الرباعية سيعطيها دورًا أكبر لتلعبه عندما يتعلق الأمر بحسابات طويلة الأجل.
وبشكل فوري، من المرجح أن يظل جوهر المحادثات التي تيّسرها روسيا بين سورية وتركيا ضعيفًا. على الرغم من تعقيدها الشديد وكونها محفوفة بالمخاطر، فمن الممكن تصور إحراز تقدم في فتح الوصول إلى الطريق السريع (M4) بين حلب واللاذقية. ويمكن إضافة الجيش السوري، كعنصر ثالث في الدوريات الروسية التركية التي تعمل حاليًا في أجزاء من المنطقة الحدودية شمال سورية. من المحتمل أيضًا أن تتشكل مجموعات العمل وغرف التنسيق العسكري والآليات المماثلة مع مرور الوقت. قد يتم فتح طرق التجارة التي تربط مناطق النظام بتركيا على طول الطرق الرئيسة، في مناطق الجيش الوطني السوري وهيئة تحرير الشام. من المحتمل أيضًا أن تكون الاتفاقات حول المبادئ المشتركة التي تشمل قضايا عدة، مثل الإرهاب والسيادة وعودة اللاجئين والعلاقات الاقتصادية.
لكن عندما يتعلق الأمر بأي اعتبار لقلبٍ شامل للسياسة التركية، فإن الواقع سوف يفعل فعله حتمًا. ستحدد قضية اللاجئين ما هو واقعي، وما هو غير واقعي. كما أوضح أكار، وزير الدفاع التركي، في الأول من كانون الثاني/ يناير، إذ قال: “نستضيف نحو أربعة ملايين من الإخوة والأخوات السوريين. إن موجة جديدة من اللاجئين أمر غير مقبول. لا يمكننا استقبال مزيد من اللاجئين”. إذا كانت عودة اللاجئين السوريين إلى سورية أولوية، فإن منع اللاجئين الجدد من العبور إلى تركيا هو أمر في غاية الأهمية. لذلك لن تتخذ تركيا أي خطوة قد تؤدي إلى زعزعة الاستقرار في شمال غرب سورية، وهي حقيقة أكدها بوضوح كبير مستشاري أردوغان والمتحدث باسمه، إبراهيم كالن، في 6 كانون الثاني/ يناير، إذ قال: “اليوم، هناك أكثر من ثلاثة ملايين شخص عالقين في إدلب. … إذا تصرّف هؤلاء الأشخاص نتيجة الضغط، الضغط من هجوم النظام … ستكون تركيا هي المكان الوحيد الذي يمكنهم الذهاب إليه. لكن قدرة تركيا على استقبال مزيد من اللاجئين لم تعد موضع اختبار”.
مع تصاعد المضاعفات وكشف نظام الأسد لعناده مرة أخرى، من المرجح أن يتشدد موقف تركيا على طول حدودها الجنوبية. في 13 كانون الثاني/ يناير، اندلعت اشتباكات بين القوات التركية والسورية، حول مدينة الباب شمال حلب، أسفرت عن مقتل جندي تركي. في اليوم التالي، أعاد كالن، المسؤول التركي الكبير، تأكيد نيّة حكومته شنّ توغل عسكري جديد “في أي وقت”، في شمال سورية. وصرّح قائد قوات سوريا الديمقراطية، مظلوم عبدي، بأن مصادرهم الاستخباراتية أشارت إلى أنه من دون إحراز تقدم ملحوظ في المحادثات التركية السورية، فمن المرجح أن يبدأ توغل عسكري تركي في شباط/ فبراير. تصاعدت التوترات في أماكن أخرى أيضًا. في غضون ذلك، صعدت هيئة تحرير الشام بشكل ملحوظ هجماتها العسكرية على مواقع النظام في إدلب وشمال شرق اللاذقية، وشنت ما لا يقل عن أربع غارات خلف خطوط العدو في الأسبوع الماضي. حتى أحرار الشام، التي تسيطر تركيا بشدة على أنشطتها، شنت غارة مميتة من جانبها.
بالتدقيق في ما هو أبعد من هذه الديناميكية التركية -السورية، على المرء أن يسأل عما يمكن أن تكتسبه أي حكومة تعيد الانخراط الجاد في علاقاتها مع نظام الأسد وتطبيعها. يشهد الاقتصاد السوري حالة سقوط حر، مع تصاعد التضخم ونقص الكهرباء، حيث يعيش أكثر من (90) في المئة من السوريين تحت خط الفقر، وارتفعت تكاليف الغذاء بنسبة (30) في المئة، كما ارتفعت أسعار الوقود بنسبة (44) في المئة على الأقل في الأشهر الثلاثة الماضية وحدَها. في المناطق التي يسيطر عليها النظام في سورية، أصبحت الظروف المعيشية الآن أسوأ مما كانت عليه في ذروة الأعمال القتالية المسلحة في عام 2015. خلال يوم جيد في دمشق، تأتي الكهرباء ساعتين أو ثلاث ساعات. وما يكسبه موظف الخدمة المدنية العادي في المدينة في الشهر الآن يكفي لشراء 20 لترًا من البنزين، ولا شيء آخر. قلِّص أسبوع العمل إلى أربعة أيام وحظِر العمل الإضافي. ومع ذلك، وسط هذا الانهيار الاقتصادي، تمكّن نظام الأسد من إدارة تجارة مخدرات دولية غير مشروعة تزيد قيمتها عن 50 مليار دولار سنويًا، منذ عام 2021. ولم يخصص أيًّا من هذه العائدات لمساعدة السوريين المحتاجين.
حتى لو وضع المجتمع الدولي جانبًا أخلاقياته بالكامل، وعاد إلى التعامل مع نظام الأسد غدًا، فلن ترى أي حكومة أو مستثمر بكامل قواه العقلية سورية سوقًا موثوقًا للاستثمار. إن احتمالية إعادة الإعمار المجدية في سورية تديرها نخبة فاسدة مركزية غير موجودة. إنها دولة منبوذة دوليًا ودولة مخدرات ذات أهمية عالمية. وهذا ما يجعل المشاركة المركزية المتزايدة للإمارات في جهود روسيا لإخراج الأسد من النبذ مقلقة للغاية.
قبل وقت قصير من قيام وزير الخارجية الإماراتي، عبد الله بن زايد، بزيارته الأولى للأسد في دمشق في تشرين الثاني/ نوفمبر 2021، أرسلت أبو ظبي تحذيرًا مسبقًا إلى وزارة الخارجية الأميركية، على سبيل المجاملة. وتلا ذلك سلسلة من المكالمات الهاتفية المنسقة من واشنطن، من ضمن ذلك مكالمة من أنطوني بلينكن، وزير الخارجية، تحثّ الإماراتيين على إلغاء الزيارة. وفقًا لمصدر مطلع، تم تسخير اثنين على الأقل من كبار المسؤولين السابقين في إدارة ترامب، لتقديم مناشداتهم الخاصة إلى الإمارات العربية المتحدة. لكن من دون جدوى، تمت الزيارة.
بعد أربعة أشهر، بسطت الإمارات السجادة الحمراء لزيارة الدولة التي قام بها الأسد نفسه. هذه المرة، لم تُعط الولايات المتحدة أي تحذير مسبق، وعرف كبار المسؤولين، من الأخبار على وسائل التواصل الاجتماعي. كانت وزارة الخارجية غاضبة، حيث قال المتحدث باسمها نيد برايس إنه “يشعر بخيبة أمل وانزعاج عميقين”، من محاولة الإمارات “إضفاء الشرعية على بشار الأسد، الذي يظل مسؤولًا عن مقتل ومعاناة عدد لا يحصى من السوريين وعرضة للمساءلة عنهم، وتشريد أكثر من نصف السكان السوريين قبل الحرب، والاعتقال التعسفي والاختفاء لأكثر من 150 ألف رجل وامرأة وطفل سوري”. بعد فترة وجيزة، شطِبت دولة الإمارات العربية المتحدة من مجموعة الاتصال الدولية، ومنذ ذلك الحين، عاقبت وزارة الخزانة الأميركية كثيرًا من الكيانات التي تتخذ من الإمارات العربية المتحدة مقرًا لها، لتورطها ماليًا مع النظام.
ما لم يكن الهدف هو إنقاذ الأسد ونظامه من الانهيار الاقتصادي الكامل والانهيار الداخلي المحتمل، فلا توجد مكاسب حقيقية يمكن تحقيقها. أن يقوم حليف بنشاط علانية بتقديم العطاءات الجيوسياسية لبوتين، فضلًا عن الأسد (الذي يمتلك العالم ضده أدلة على جرائم حرب أكثر مما كان متوفرًا ضد هتلر والنازيين في نورمبرغ) يجب أن يثير بعض المخاوف الجادة في أعلى مستويات الحكومة الأميركية. سواء كانت مدفوعة بانتهازية اقتصادية في غير محلها، أو تصور للقيم المشتركة (معارضة عميقة للإسلام السياسي أو اعتراض على نفوذ تركيا وقطر)، فإن تعاطف الإمارات العربية المتحدة مع نظام الأسد، والرغبة الصريحة في الوقوف إلى جانب روسيا بوتين، يجب أن يقدّم تحديًا قويًا لعلاقة دامت عقودًا مع الولايات المتحدة.
التداعيات السياسية
على الرغم من أن التطبيع التركي الشامل مع نظام الأسد لا يزال غير مرجح على المدى القريب، فإن الارتباطات الأخيرة هي نتيجة أخرى لقرار الولايات المتحدة وحلفائها ذوي التفكير المتشابه في عدم إعطاء الأولوية للسياسة السورية وعدّها فكرة لاحقة افتراضية. في حين يولى بعض الاهتمام للحاجة إلى وصول المساعدات عبر الحدود كل بضعة أشهر، عندما يتم التصويت على التفويض في الأمم المتحدة، يبدو أن الحملة ضد (داعش) هي الوحيدة التي تتلقى استثمارات سياسية حقيقية وذات مغزى، حيث يأتي كثير من الدعم من وزارة الدفاع، التي ليس لها دور في تشكيل سياسة أوسع تجاه سورية.
أدى الفراغ الناتج إلى القضاء على ما كان بالأساس عملية سياسية ضعيفة. من دون جهد دولي هادف وحازم وموحد لمتابعة أيّ شكل من أشكال التغيير والعدالة في سورية، ليس لدى النظام وحلفائه أي سبب على الإطلاق للانخراط بجدية. لا عجب في أن بعض الدول الإقليمية سئمت الركود في سورية. سواء كانت مدفوعة بالقيم الأيديولوجية المشتركة، أو الانتهازية الجيوسياسية، أو الرغبة في نسيان الربيع العربي ورميه، فلا يمكن إنكار أن البعض قد عاد إلى دمشق، وعاد إلى الانخراط في الأعوام الأخيرة. حتى الآن، لم تكن عملية إعادة الارتباط، أيًا كان شكلها، أكثر من مجرد ارتباط رمزي.
ومع ذلك، فإن هذا الاتجاه المتمثل في إعادة الارتباط غير المشروط مع نظام الأسد لا يمثل سوى تحديات وتهديدات محتملة لمصالح الولايات المتحدة. منذ ما يقرب من 12 عامًا، أظهرت الأزمة السورية باستمرار قدرة قوية على التأثير سلبًا في استقرار جيرانها المباشرين، وعلى الشرق الأوسط عمومًا، والعالم. ما يحدث في سورية لن يبقى أبدًا في سورية. يعرف صانعو السياسات هذا جيدًا، لكن “الإرهاق” والشعور باليأس قد سيطر، كما أن قرار معالجة أعراض الأزمة (مثل داعش) واحتواء آثارها (مثل اللاجئين) كان يُنظر إليه في كثير من الأحيان على أنه الخيار الأسهل.
بالنظر إلى المستقبل، وقبل معالجة ما يجب تغييره، يجب على الولايات المتحدة أولًا الحفاظ على عدة خطوط سياسية. لا يزال تنظيم (داعش) يُمثل تهديدًا مستمرًا وربما متجددًا في سورية، وإن نشر 900 جندي أميركي في شمال شرق وشرق سورية يؤدي دورًا حيويًا في الحفاظ على حملة مؤثرة لاحتواء الجماعة الإرهابية. في عام 2022 وحده، قُتل وأسر أكثر من 780 من مقاتلي (داعش) على أيدي القوات الأميركية وشركائها من قوات سوريا الديمقراطية، من ضمنهم زعيم (داعش)، أبو إبراهيم الهاشمي القريشي. وهناك حاجة إلى المزيد في هذا الصدد، على الرغم من أن استكمال الاستثمار الأميركي يجب أن يكون مسؤولية الحلفاء المتشابهين في التفكير، خاصةً البعض في أوروبا. يجب على الولايات المتحدة أيضًا أن تحافظ، جنبًا إلى جنب مع المملكة المتحدة والاتحاد الأوروبي، على مجموعة عقوباتها ضد نظام الأسد، مع الحفاظ في الوقت نفسه على التركيز المستمر على الحاجة إلى التزام دولي لمعالجة الأزمة الإنسانية المتنامية في سورية.
عندما يتعلق الأمر بمجالات التغيير، فإن الحاجة ماسّة. في البداية، يجب على الولايات المتحدة أن تشير بوضوح، لحلفائها ومنافسيها وخصومها، إلى أن السياسة السورية أصبحت أولوية أكبر. يجب أن يبدأ هذا بتعيين الرئيس جو بايدن دبلوماسيًا رفيع المستوى مبعوثًا للحكومة الأميركية لسورية، شخصية قادرة على حشد وتوحيد تحالف الدول الملتزمة لرؤية تسوية تفاوضية لسورية تتحقق أخيرًا.
مثل هذه القيادة مطلوبة، لإعادة تنشيط السياسة السورية وإعادة تركيزها في شيء مؤثر حقًا، ولوضع تلك السياسة الرفيعة في سورية ضمن تكيف جيوستراتيجي أوسع، بالنسبة إلى النظام العالمي المتطور اليوم. مع تحول الديناميكيات في الشرق الأوسط والحرب في أوكرانيا التي تعيد صياغة التحالفات والمنافسات التي ستحدد الشؤون الدولية في العقود الأخيرة، تجد سورية نفسها في قلب التغيرات البنائية. سواء مع اتفاق نووي جديد أو من دونه، يبدو أن الدور الإيراني المتزايد في الديناميات الأمنية التي تمتد إلى ما وراء الشرق الأوسط سيصبح تحدّيًا جيوسياسيًا محددًا في الأعوام المقبلة. سورية هي جوهرة التاج، بالنسبة إلى طموحات إيران الإقليمية، وفيها أيضًا تكمن أكبر نقاط ضعفها المحتملة.
في حين أن الأعمال العدائية الرئيسة في سورية لم تحدث منذ عدة أعوام، هناك دائمًا احتمال لاستئناف الصراع المستمر. بالتعاون مع الشركاء والحلفاء، يجب على الولايات المتحدة الشروع في دفع دبلوماسي منسق من خلال الأمم المتحدة، لإضفاء الطابع الرسمي على التجميد الفعلي لمختلف الخطوط الأمامية في سورية. ويجب أن يكون من مصلحة الجميع في سورية تحقيق هذا الهدف، لكن لم يبذَل أي جهد لتحقيقه.
بالتوازي مع تجميد خطوط المواجهة في الصراع، يجب على الولايات المتحدة أيضًا إعادة توجيه استجابة المجتمع الدولي للمساعدات الإنسانية، من استجابة تهدف إلى تقديم مساعدة تكتيكية في حالات الطوارئ، إلى جهد يحدده هدف أكثر استراتيجية: تحقيق الاستقرار. لن يتطلب هذا أي تغيير ملموس في التزام المانحين، ولكنه سيوجه الأموال نحو أنشطة الاستقرار، وبناء قدرات المجتمعات المحلية في جميع أنحاء شمال سورية، للحفاظ على أنفسهم، ولتصبح مناطقهم مناطق استقرار حقيقي. مع مرور الوقت، ستبدأ هذه المناطق المستقرة حتمًا في تشكيل طرق للتواصل، وستضعف مصادر التوتر والعداء التي تحددها حاليًا. اليوم، أصبحت الظروف المعيشية في المناطق التي يسيطر عليها النظام أسوأ من أي مكان آخر في سورية، لكن هذه المقاربة الأكثر استراتيجية لسياسة المساعدة ستُوسع هذه الفجوة أكثر، وتزيد الضغط على النظام للتعامل بشكل بناء مع الدبلوماسية.
وفي ما يتعلق بمسألة الدبلوماسية، يجب على الولايات المتحدة أن تحوّل هدفها الأساسي في السياسة السورية، من هدف الاحتواء (معالجة أعراض منتقاة من الأزمة)، إلى هدف موجّه نحو تسوية الأزمة بشكل شامل، من خلال حلّ أسبابها الجذرية. بعد عدة أعوام، يجب أن يكون واضحًا الآن أن سياسة الاحتواء غير كافية، وأنها خلقت فراغًا تدخلت فيه الجهات الخبيثة، سعيًا فقط إلى تطبيع السبب الرئيس للأزمة والمحرك الرئيسي لاستمرار عدم الاستقرار، في سورية وخارجها. بالتأكيد، لا يمكن أن يكون من مصلحة الولايات المتحدة أن ترى دولة فاشلة ومنبوذة عالميًا، دولة تشبه خليطًا من بعض أسوأ ملامح الصومال وكوريا الشمالية، تستمر وتتوطد في قلب الشرق الأوسط.
طوال أعوام عدة، احتدم الجدل حول امتلاك الولايات المتحدة وحلفائها “نفوذًا” كافيًا للتأثير في الأزمة في سورية، وحول استعداد النظام للتفاوض. منذ عام 2011، نادرًا ما “رفّ جفن” النظام في وجه الضغوط، وفي المرات القليلة التي حدث فيها، كان ردًا على التهديدات العسكرية الحاسمة، في الأيام التي سبقت الضربات العسكرية الأميركية المتوقعة في آب/ أغسطس 2013، وبعد تدخل الجيش التركي غير المسبوق في إدلب في شباط/ فبراير 2019.
إن احتمالية التحدي العسكري الأميركي للأسد ولّت منذ فترة طويلة، ولكن يمكن القول إنّ أخطر نقاط ضعف النظام اليوم تكمن في تجارته للمخدرات غير المشروعة، الكبتاغون. في عامَي 2021 و2022، يُعتقد أن هذا “الكارتل” الذي يرعاه النظام ويحميه قد صدَّر ما لا تقلّ قيمته عن 50 مليار دولار من الكبتاغون، وهو مبلغ يقارب 10 أضعاف الميزانية السورية في تلك الأعوام. أصبحت المخدرات الآن هي الملاط الذي يربط نظام الأسد ببعضه، ومن دونها، من شبه المؤكد أنّ مملكته ستنهار على وجه السرعة. ولاهتمام الكونغرس بهذه القضية، يجب على إدارة بايدن تطوير إستراتيجية وتقديمها لمواجهة دولة المخدرات الأسدية، في غضون الأشهر القادمة.
على عكس المطلب السابق الذي أصدره الكونغرس لتقييم ثروة عائلة الأسد، وقد كان ضعيفًا ومحرجًا في التفاصيل، ومفتوحًا جدًا في استنتاجاته، يجب ألا يُسمح للإدارة بمعالجة قضية الكبتاغون على أنها مصدر إزعاج. قد تُثبت معالجة المشكلة صراحة أنها المفتاح المفقود منذ زمن طويل، لتحقيق تغيير حقيقي في سورية.
*- الآراء الواردة في هذه الدراسة لا تعبّر بالضرورة عن رأي المركز
اسم الدراسة الأصلي Turkish-Syrian Re-engagement: Drivers, Limitations, and US Policy Implications
الكاتب* تشارلز ليستر، Charles Lister
مكان النشر وتاريخه معهد الشرق الأوسط، MEI، 18 كانون الثاني/ يناير 2023
الرابط http://bit.ly/3HFfpAD
عدد الكلمات 5650
ترجمة وحدة الترجمة/ أحمد عيشة
*- زميل أول ومدير برامج سورية ومكافحة الإرهاب والتطرّف في معهد الشرق الأوسط.
مركز حرمون