فيلمان يفيضان بالمشاعر ينالان الإعجاب في مهرجان برلين/ هوفيك حبشيان
تجربة المراهقة بعين مخرجة إيرانية والحب المزدوج ترويه كورية
لا تتردد المخرجة الفرنكو إيرانية إيميلي آتف ولا تراوغ. لا تخشى من ان تدوس على حقل ألغام في زمن يحاكم كل شيء أخلاقياً. عقلها صادم وحقيقي. مع جديدها “يوماً ما سنقول كلّ شيء بعضنا لبعض” المعروض داخل المسابقة الرسمية للدورة الثالثة والسبعين لمهرجان برلين السينمائي (16 – 26 فبراير – شباط)، تقدّم واحدة من أجمل المقاربات لموضوع المراهقة وبلوغ سن الرشد واختبار تجربة عاطفية ستظل ماثلة في وجدان الإنسان لآخر حياته. هذا كله بالتزامن مع فقدان البراءة واكتشاف الحياة مبكراً. الكثير من أفلام المراهقين متكرر أو مبتذل. آتف غير مهتمة باقتراح شيء مبتذل وهي تقف على مشارف الخمسين من عمرها وفي سجلها بضعة أفلام جيدة.
فيلمها المقتبس من رواية لدانييلا كرين بعنوان الفيلم، يوثق بلغة سينمائية مشبعة بالحسيّة الوعي على المشاعر والجنس في آخر سنوات المراهقة، ويتعقب موضوعه بحذافيره من البداية إلى النهاية، من دون أن يلتهي بأشياء جانبية. ماريا (مارلين بورو) إبنة التاسعة عشرة هي البطلة. تقع الأحداث في صيف حار، بعد فترة قصيرة من انهيار جدار برلين وإعادة توحيد ألمانيا، ضمن أجواء الريف الألماني، حيث مجموعة ناس يعرف بعضهم بعضاً ويعيشون على مسافات متقاربة من القرية نفسها. يبدأ الفيلم مع ماريا وهي مستلقية على الفراش، وينتهي بها وهي تتسلل إلى جانب أمها في الفراش أيضاً. بين المشهد الأول والأخير، هناك 140 دقيقة تعبر بنا إلى علاقة حميمة وعاصفة وشغوفة بينها وبين رجل “ذكوري” في الأربعين من عمره. هذه العلاقة ستجعلها تعيش شيئاً مختلفاً عن الرومانس الممل الذي يربطها بصاحبها اللطيف.
هناك جو خاص في الفيلم بسبب اللحظة التاريخية التي يحدث فيها: توحيد ألمانيا ودخولها حقبة جديدة من تاريخها. انها نهاية التقلبات وبداية الاستقرار الذي ستتولد منه بلاد جديدة. إلا أن الشخصيات لا تعرف ذلك بعد، تعيش التخبط من دون أن تعلم ما ستؤول إليه الأيام القادمة. في هذا المناخ الضبابي والميلانكولي بعض الشيء، تضع آتف كاميراها لتلتقط المشاعر والشغف وكل تفاصيلها التي تبلغ ذروتها بأسلوب سينمائي ناضج. مارلين بورو (23 عاماً) ساحرة في دور فتاة لا تحتاج إلى أكثر من لمسة لتقع في شباك هذا الرجل، الذي هو بدوره وقع في شباك الحياة، ويملك سراً لن يكشفه الفيلم البتة. هذه العلاقة ستغير ماريا إلى الأبد، فهي ستكتشف أحاسيس ما كانت تظنها موجودة. وهذا كله سيجعلها تنمو وتكبر سنوات في غضون أيام قليلة. ستفقد براءتها بلا شك، لكن في المقابل سيشتد عودها، الأمر الذي سيحصنها أمام تحديات الحياة القادمة. هذا الشغف المتصاعد بكل تفاصيله الجميلة والمدمّرة والذي سيجرف كلّ شيء يصادف طريقه، تصوره آتف من زاوية غير مستهلكة واضعة فيها كثيراً من تعاطفها مع المرأة ورغبتها في تمكينها.
في “حيوات ماضية” (المعروض ضمن المسابقة الرسمية) الذي حصل على أعلى تقييم في مجلة “سكرين”، تصوّر المخرجة الكورية الكندية سيلين سونغ، قصة من وحي تجربتها الشخصية. يفتتح الفيلم بمشهد لثلاثة أشخاص يجلسون إلى كونتوار إحدى الحانات. المرأة ذات الملامح الآسيوية تتوسط رجلين، أحدهما آسيوي مثلها والثاني أبيض البشرة. الصوت الذي يعلق على المشهد يحاول معرفة مَن هؤلاء وما العلاقة التي تربطهم بعضهم ببعض. في الملف الصحافي تشرح المخرجة أن هذا المشهد حدث فعلاً، ومنه استوحت الفيلم. تروي: “كنت أجلس بين هذين الرجلين. كل واحد منهما كان يحبّني بطريقة مختلفة. حبّان بلغتين مختلفتين وثقافتين مختلفتين. وكنت أنا السبب الوحيد وراء اللقاء الذي حدث بينهما. هناك شيء من الخيال العلمي تقريباً. تشعر وكأنك شخص يستطيع تجاوز الثقافة والزمان والمكان واللغة”.
الحب المزدوج
يروي الفيلم قصة فتاة كورية (غريتا لي) تجد نفسها في كندا بعدأن تقرر عائلتها مغادرة الوطن. ومن هناك تنتقل إلى نيويورك وتتزوج رجلاً أميركياً وتعيش معه حياة مستقرة بعيداً من أحلام طفولتها. فهي كانت تطمح أن تصبح كاتبة كبيرة وتنال جائزة نوبل، لكن الأيام قررت عكس ذلك، أقله إلى الآن، فهي باتت في منتصف الثلاثينات من عمرها. فجأةً، من حيث لا تتوقع، تخضع حياتها كلها للمساءلة، مع الظهور المفاجئ للشاب الكوري الذي كان صديق طفولتها، لكن الهجرة بعّدت أحدهما عن الآخر. دخول هذا الشاب في حياتها يشهر الكثير من الأسئلة حول الخيارات التي قامت بها في الحياة، والأحلام التي تخلت عنها، طمعاً بالإستقرار وخوفاً من المستقبل. الفتاة التي سمّت نفسها نورا في موطنها الجديد، تعتبر حياتها في كوريا وهي طفلة، حياة ماضية أو سابقة، وهي حياة لا تعيشها بل “تزورها” بين حين وآخر، كما يزور أي منا أماكن، له فيها ذكريات. لكن هذه الحياة الماضية أو السابقة تتعقب المرء أينما حلّ ولا فرار منها، مهما كان المكان الذي هاجر اليه بعيداً.
اللقاء المتجدد بين نورا ورفيقها يتيح أيضاً تورط الزوج فيه، وهذا أجمل ما في نص سيلين سونغ. وهنا نعود إلى الصورة في بداية الفيلم. للزوج أيضاً مخاوف وهواجس، ولكن يحب زوجته ويخشى الخسارة. قلقه شبه صامت، يعبّر عما في داخله بامكاناته الخاصة، ولكن من دون انفعال. هو يعرف أن العلاقة التي تربط زوجته برفيقها لا تصنَّف، لا هو حب ولا هو صداقة، بل نوع ثالث يفلت من أي تصنيف.
العلاقة بين شكل الفيلم ومضمونه متجانسة جداً، أي أن الشخصيات تشبه الأجواء التي تتطور فيها. رقيق وناعم هذا العمل الذي يذكّرنا أحياناً بوودي آلن وأحياناً بإريك رومير. لا عنف، لا ضغائن، لا قسوة… كل شيء يسير كمياه النهر الذي يبحث عن مصب لها في بقعة أوسع. الشخصيات المكتوبة باحساس عال بالمكان، لا تولد صراعاتها أي مواقف مبتذلة. حتى الضحك لا يحمل لؤماً، بل مزيداً من الفهم للمواقف التي حشرت فيها، إما بدافع الظروف أو الخيارات. سيلين سونغ تحاول أن تفهم لا أن تدين، وهذا ما يميز سينماها التي ترتقي بالشخصيات التي تصورها مثلما ترتقي بالمُشاهد.