منوعات

أنا بعين من أحبّ…أن تعشق ذاتك حد الغرق بمائك/ عمّار المأمون

حب الذات ولذتها مساحة غامضة في التاريخ الثقافي، الوله بالأنا وكيفية استفزازها حُباً ولذةً، مساحة حوربت على مر التاريخ، خصوصاً أن صورة الحبيب في هذه الحالة غامضة، قد يكون شخصاً أو يداً أو جهازاً أو مجموعة صور تقبع وراء العين.

يُقال إن الحُب قطيعة مع الحاضر، لكن الكارثة التي شهدتها المنطقة وكم المآسي منعانا من إدراك ما يحصل، فالحاضر ليس متماسكاً، والماضي مهدد بالتلاشي، الأرض تميل من تحتنا، حتى إن يوم 14 شباط/ فبراير (عيد الحب) مرّ هكذا من دون أثر، فمن “يُحب” بينما الأرض تتشقّق؟

نكتب عن الحبّ لأن لا ملكية عليه سوى صاحبه، لا بنك، ولا حزب، ولا ميليشيا ولا كارثة قادرة على أن تصادره، ولا حتى الوباء منع القبل، ولا هجرة تمنع شبق الحبيب على الشاشة، أو في المخيلة.

لا نمتلك لحظة تاريخية محددة عن أول رجل أو امرأة وقعـ/ت في حُب ذاتهـ/ا، لكن نعلم أن شكل العلاقات التقليديّة المقننة عبر التاريخ، يحوي “أنا” أحبّت “آخر”، وهذا الحب محكوم بالنقصان دوماً، من دون الخوض في الأسباب. هذا النقصان سببه أن “أنا” والآخر، لا يتطابقان، هناك دوماً سوء فهم، أو عجز يتضح بشدّة لحظة اللذة ذاتها، تلك التي تنفصل عن “الحبّ” لثوان، وتفيض الأنا عن حدودها ماء أو “ماءين” أو أمواه، إذ هناك حيرة في جمع وتثنية الماء، خصوصاً إن تعددت منابعه.

تقدم بعض الفرضيات الدينية والأساطير حكايات عن منشأ حُب الذات، ذاك الذي يرى فيه المُحب ذاته في عين ذاته نفسها، يقول البعض إن الخالق على تعدد أسمائه، فاض عن نفسه ماء، وكأنه وقع في غرام ذاته، ففاضت لذةً وبشراً ووحشاً وأرضاً وسماء. أسطورة نرسيس ذاتها تقدم مُتخيلاً مشابهاً، عن ذاك الذي حملق في انعكاسه على سطح البحيرة فوقع في غرام ما رآه حد انقطاع نفسه تأملاً بوجهه.

يتكرر الماء في حكايات حبّ الذات، سواء كان فائضاً عن الأنا (مني، مذي…الخ)، أو مساحة للصورة المتخيلة (سطح البحيرة، المرآة، الشاشة..)، فالماء كما نُظَر فيه (غاستون باشلار، دانيال بيناك) مساحة الأحلام، تلك التي يمكن فيها للأنا أن تقع في حب صورتها المتخيلة، وتتأقلم ذاتياً حد الإنزال والغرق. أي يفيض ماء الحبّ كُرمة لصورة تقبع في حجرة العين المُظلمة، في أقصى الرأس من الداخل، تلك التي أودت بحياة المُستمني أونان، وحركت المؤسسة الطبية مطلع القرن الثامن عشر، لمحاربة ذاك الذي “يُحب” ذاته، الذي يجلد عُميرة، وينكح يده، وتلك التي تضرب السبعة، وتستفز لؤلؤها، وتتلمس قمة جبل فينوس. هذه الألفاظ كلها محط عداوة لسبب واحد. لا نعلم ما يثير المُستمني بدقة، ذاك الذي يجد موضوع شبقه في أقصى مخيلته، الصورة التي “يُحب” ويبحث عنها ولهاناً، موجودةُ وراء عينيه، وهي شأن سريّ، يمكن إدراك السياق حولها لا الصورة نفسها، أو مجموعة الصور التي نقرأ في رواية ألبيرتوا مانغويل “عاشق مولع بالتفاصيل”.

المُستمني إذاً مُحب، لا تعيقه حربُ، ولا حصار، ولا وباء، ولا مدينة تنهار، هو موضوع ذاته، يستفز شبقه لذاته، غرض حبه مُتخيل، أو بصورة أدق، غير مرئي، لا يراه إلا هو. وهنا تظهر المعضلة التاريخيّة، إن كان خطاب الحب شذرات (رولان بارت) أو معجماً (بسام حجار) أو ترجماناً (ابن عربي)، فالمستلذ بذاته لا يترك أثراً، كونه ممنوعاً ومقصيّاً، هو مُحب بعين نفسه فقط.

سلسلة الصور التي يستعيدها المستمني عصية على الالتقاط، أشبه بشريط من اللقطات التي تمرّ بسرعة لا يمكن ضبطها، ترتيبها عبثي نوعاً ما، ترسم متخيلاً للمُشتهى، الذي قد لا يكون جسداً بشريّاً، فتدفقها ذاته هو ما يشعل الرغبة، لا التحديق بها فرادى، وهنا محاولات لرصد هذه الصور من عصور مختلفة.

سمعان العمودي: لا يد لتحبّ

تتعدد الحكايات عن الراهب سمعان العمودي (390-354 م)، يُقال إنه اخترع أسلوب التنسّك على قمة عمود في قرية “تلعادة” في إدلب – سوريا. وقف هناك بعيداً من كل غوايات الأرض، واتبع تلاميذه بعده الأسلوب ذاته. ابتعدوا من الأدنى، والأسفل، والأحط، للتعبّد والتقرب من الأعلى في قمة العمود.

يُقال أيضاً إن سمعان لم ينزل من قمة العمود حتى مماته (بعمر 64 سنة تقريباً)، كان الطعام يصل إليه عبر حبل ومفرزات جسده يلقيها للصحراء من حوله. كان مثالاً على “الأنا” التي تعالت ونفت أرضيتها في حب الخالق. ويمكن القول، تعالت لخلاصها الشخصي. حرّك العمودي مخيلة كثيرين، أنجز السوريالي لويس بونيل فيلماً بعنوان “سمعان في الصحراء” عام 1965، نشاهد فيه بعض الغوايات التي تعرّض لها راهب العمود.

تقول بعض الحكايات إن سمعان يخشى غواية نفسه ومخيلته التي أحبّ، فهي سلواه ومنقذه، ونفيها سبيل خلاصه، لكن المصلين وطالبي القرب من الله يمرون تحته، يتجاهلهم من دون أن يطل عليهم، لكن غواية الأنا لا تعلوها غواية. وهنا المفارقة، وصل خبر إلى الحجاج والمقرّبين من سمعان، بأنه عض أصابع يديه العشر حتى قطّعها، ورماها بصقاً من أعلى العمود لتلتهمها وحوش الصحراء، إذ خاف أن يراود نفسه عن نفسه، فلا شيء أعلى العمود وسط الصحراء سوى غواية “مخيّلته”.

تعددت الروايات التي تحاول أن تعرف ما الذي تخيّله العامودي ودفعه إلى قطع أصابعه منعاً لاستمناءة ما، نعلم أنه تعلق بالمسيحية بعد قراءة التطويبات التي لا تحوي ما يحرك الرغبة،  لكن مراجعة كتب المؤرخين التي تعود إلى تلك الفترة، خصوصاً كتاب “تاريخ المسيحيّة في القرون الأولى” لماركوس الميلطي (445-501 م)، يشير إلى أن منخفضاً جوياً عصف في المنطقة حيث كان سمعان، وهطلت أمطار هددت المحاصيل والأكواخ والمنازل، وانتشرت حينها حكّة في أجساد الناس، إثر هربت حشرات الأرض من مكامنها، هنا نستطرد، ونتخيل أن سمعان حينها، مُبتلاً على العامود، مصاباً بالحكة، راودته يده عن ذكره، والتمعت برأسه سلسلة صور حركها البلل والاحتكاك، فاشتد لحمه على مس لحمه، ولثوان كاد يقع في الغواية، فلا سلوى لمُحب ذاته سوى متعتها، لكنه اشتدّ وتيقّن، ومن أعلى العمود، عض أصابعه نافياً لذته على حساب حبّه لذاته.

سلسلة الصور التي يستعيدها المستمني عصية على الالتقاط، أشبه بشريط من اللقطات التي تمرّ بسرعة لا يمكن ضبطها، ترتيبها عبثي نوعاً ما.

أنطوني فان ليفينهوك: أن تحدّق رعباً بعلامات الشهوة

لم يعلم أنطوني (1632-1723م) الدور الذي سيلعبه في التاريخ، فالكاهن وموظف المستودع، لم يكن مهتماً بالبضائع التي تصله، صناديق، أكياس من الحبوب، ألواح خشبية وغيرها، بل كان مهتماً بكل ما وراء بصره. كان يقف متأملاً السفن التي تحط في ميناء أمستردام، سائلاً، ماذا في داخلها؟ كيف يتحرك من هم في الداخل؟ كيف ينام البحارة ليلاً؟

ولع أنطوني بالتأمل قاده نحو الميكروسكوب، للتحديق بكل ما لا يراه بعينه، إذ تأمل تحت عدسة المجهر القماش الذي يتاجر به، قطرات الماء، حبات الطحين، متيقناً دوماً من أن هناك ما هو “أصغر” وما يعجز عن رؤيته.

لم يُشف فضول أنطوني، فجمع المال واشترى عدسات متنوعة لم يعلم شيئاً عنها، وبدأ يحاول أن يرى أصغر ما تمكن رؤيته، خصوصاً أن العلم في تلك الفترة، كمؤسسة وأيديولوجيا، كان بدأ بتكميم العالم والبحث عن جواهر الأشياء، وأصغر مكوناتها، ما حرك حماسة أنطوني الذي وجد في نفسه عالماً، يُثبت ما يُرى، لا ما يظن، فازداد غرور أنطوني وولعه بالعدسات المكبرة.

الليالي الطويلة التي أمضاها أنطوني وحيداً أبعدته من زوجته وأطفاله، كان ممتلئاً بغروره الذاتي، واقعاً بغرام ممارساته، وكأن الميكروسكوب صادره عن أسرته ووقع في غرامه بوصفه عتبة نحو صورة مجهولة، فأصبح أنطوني فيتيشي من نوع ما. وهنا تظهر الحادثة المتخيلة، أثناء محاولته ضبط العدسات، جرحت يده، فسقطت بعض قطرات من الدم على لوحة الزجاج الخاصة بالتلسكوب، لم يلتفت إليها أنطوني، وعاد إلى عدساته يحاول أن يصل إلى أعلى درجة تكبير.

جلس بعدها متأملاً، تتالت أمامه صور المرفأ، بائعات الهوى في الطريق من مختبره إلى المنزل، حكاية صديق له يخاف من التقاط مرض جنسي، ملّ من مخيلته، فاتجه نحو فتحة الميكروسكوب ليقيس درجة التكبير، هناك، لحظ بعض الحركة في قطرة الدم التي نسيها، هناك كريات حمر وبيض تتحرك، فاشتعل فضوله وتوهج جسده.  أمن المعقول أن الدماء تتحرك؟! بينما كان يتأمل غير مصدق فرحاً بما رآه، انتصب، واشتد انتصابه، وكلما تحركت كريات الدماء، امتلأ رأسه وقضيبه دماً، تذكر المرة الأولى التي شاهد فيها زوجته، وقبلها بائعة الهوى التي أخذت عذريته، تتالت مجموعة الصور وراء عينيه، وكأنها أمامه في العدسة.

قذف من دون أن يشعر، وغرقت يده بمائه، حاول تعديل العدسة، فكانت المفاجأة، منيه يتحرك، كائنات ذات أذيال تسبح أمام عينيه، كان الشخص الأول في العالم الذي يرى النطاف تتحرك، وأول من راقب بعينه وجود كائنات مجهرية ذات وظيفة حين تخرج من الجسد.

وقع أنطوني في غرام الميكروسكوب، كل يوم، يستمني، ويضع سائلاً أو مادة قرب السائل الأبيض، يحاول أن يجذب النطاف إليه أو يبعدها منه، ما له ذيل يسبح، هذه فرضية أنطوني. وهذا ما لم يره في أي سائل آخر بعدما حدّق في بوله، ودمعه، ومخاطه، ودمه. لكن ما فعله أنه رسم ما رآه، وأرسله إلى الجمعية الملكيّة البريطانيّة، التي انتخبته عضواً فيها عام 1680.

ريتشارد سان جيرمان: خيميائي، خالد وكذّاب

أثار الفرنسي ريتشارد سان جيرمان ضجة حين ظهر على شاشة التلفزيون الفرنسي عام 1972، إذ ادّعى أن عمره 17 ألف عام، هو خالد لا يموت، لا يذكر بدقة متى ولد، لكنه عمل طوال عمره المديد في الخيمياء، وحوّل أمام عدسة الكاميرا الحديد إلى ذهب.

اتهم البعض ريتشارد بأنه كذّاب محترف، مع ذلك، نراه يشرح عن تقنيته التي تتيح له عبور الوقت من دون أن يشيخ، يقول أيضاً إنه واحد من 12 مثله، وإنه يرى ما لا نراه، إذ يخبر محدثه بأن هناك “أربعة” أشخاص آخرين يحدثهم فيما يجري المقابلة، أي ببساطة، يرى ريتشارد ما لا نراه.

يتقن كونت سان جيرمان 17 لغة، وقابل فولتير الذي نعته بالرجل الذي لا يموت أبداً. ناهيك بأنه يوظف قوة حجر الفلاسفة كي يحافظ على شبابه الأبدي، عمره وقت المقابلة كان 30 سنة، وقبل ألف عام، كان أيضاً 30 عاماً.

عُرف خلال حياته في القرن العشرين، بأنه صادق المغنية الشهيرة داليدا، التي ربما لم يتمكن من مساعدتها أثناء اكتئابها، ويقال إن أغنية “الموت على الخشبة” التي قدمتها، تخاطب سان جيرمان نفسه، كونه كان طيفاً يراودها، ويهدد مخيلتها.

اللافت في سيرة ريتشارد هو عمره الطويل، ونرجسيته المفرطة، واعتداده بذاته، وغرامه بكلماته وأسلوبه الذاتي، وهذا ما دفع البعض إلى السؤال حول عادته السريّة. فنظرياً، لحظة الاستمناء لديه قد تطول ساعات، فأن يستعيد صور لذّة من 17 ألف عام، يعني أنه بحاجة إلى دهر كي يُمتّع نفسه، مهما تسارعت الصور، أمام عينيه، فلن يمضي الوقت ذاته في حبّ ذاته وما أحبت من صور ومشاهد كما الإنسان العادي.

عثر على ريتشارد لاحقاً مخنوقاً وعشيقته في سيارته عام 1983 في سانت تروبيه، حضرت تشريح جثته داليدا، لكن أثار الأطباء إشكاليّة، مفادها أن ريتشارد كان شديد الانتصاب حين موته، وافترضوا، أن عمره المديد كان عائقاً أمام استمنائه واستعادته سلسة الصور التي تثيره، واستخدم هنا الاختناق كمحرّض على تسريع العملية، فكما يقال، حين نقارب الموت، يمر شريط حياتنا بأكمله أمامنا، وربما هذا ما أغوى كونت سان جيرمان، ليختزل حياته التي أحبّ إلى لحظات شهوة ذاتيّة أودت إلى نهايته، وكأن حجر الفلاسفة يعجز أمام إمتاع الذات.

درج

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى