صفحات الثقافة

من عبيد جيفرسون إلى قصاص ترامب: أسفار أمريكا المحافظة/ صبحي حديدي

يزعم أقطاب التيارات المحافظة، في السياسة والاقتصاد كما في الاجتماع والثقافة، أن «مؤتمر العمل السياسي للمحافظين» أو الـ CPAC في مختصراته الإنكليزية، هو ذروة ملتقيات المحافظين على نطاق العالم، ليس لأنه يُعقد في الولايات المتحدة، إحدى أعرق قلاع الفكر المحافظ، وعمره تجاوز الخمسين سنة، فحسب؛ بل كذلك، أو أساساً، لأنه المحفل الذي يخرّج رؤساء الولايات المتحدة الأشدّ تمسكاً بمبادئ الفلسفة المحافظة والأحرص على تحويلها إلى عقائد، على طراز ما خلّف توماس جيفرسون ورونالد ريغان ودونالد ترامب. وعلى امتداد الشطر المحافظ من التاريخ الأمريكي، توفّر رجل مثل جيفرسون ترأس في الفترة بين 1801 إلى 1809، وكان أحد ملاّك العبيد ومبرّري الاستعباد؛ وأمّا أشهرهم، أبرهام لنكولن (لنكن) فهو محرّر العبيد الذي كان، مع ذلك، صاحب التصريح الشهير العاصف: «إذا كنتُ لا أريد لامرأة سوداء أن تكون عبدة، فهل هذا يعني أنني أريدها زوجة».

ورغم أنّ المؤتمر الأخير للـ CPAC، الذي عُقد قبل أيام في إحدى ضواحي العاصمة الأمريكية واشنطن لم يسجّل إقبالاً ملحوظاً بالمقارنة مع دورات سابقة، فإنّ ظلّ الرئيس الأمريكي السابق ترامب كان هو الأطول، تماماً كما كان لسانه خلال خطبة حفلت بالهجاء على اليسار والوسط واليمين؛ وبالتالي لم يخرج المؤتمر عن سنن سابقة ترسخت في أوساط المحافظين منذ صعود نجم ترامب قبل ثماني سنوات، داخل صفوف الحزب الجمهوري خصوصاً وجماعات المحافظين عموماً. وخلال التصويت المعتاد على مرشح المحافظين الأفضل لرئاسة الولايات المتحدة، وهو إجراء طقسي لكنه لا يخلو من دلالات بعيدة الأثر، حلّ ترامب في المرتبة الأولى بمعدّل 62٪، بينما جاء حاكم فلوريدا رون ديسانتيس (منافس ترامب المرجح) في المرتبة الثانية بنسبة 20٪ رغم غيابه عن المؤتمر؛ أسوة بشخصيات كبرى في الحزب الجمهوري أمثال نائب الرئيس السابق مايك بنس، وزعيم الأقلية الجمهورية في المجلس ميتش ماكونيل، ورئيس لجنة الحزب الجمهوري الوطنية رونان ماكدانيل.

فإذا تمسك محافظو العالم بما اعتادوا عليه من فخار بمؤتمرهم هذا، فلعلّ من حسن السلوك أن يراجعوا خطبة ترامب خلال دورة واشنطن الأخيرة؛ خاصة شتائمه ضدّ حزبه، الحزب الجمهوري ذاته، هذا الذي «يديره وحوش ومحافظون جدد ومدافعون عن العولمة وأنصار متعصبون إلى حدود مفتوحة وأغبياء». وعليهم، كذلك، أن يتنبهوا إلى ما قالته نيكي هيلي، مندوبة واشنطن الدائمة في مجلس الأمن الدولي خلال رئاسة ترامب والمرأة المخلصة المقرّبة منه؛ من أنّ «قضيتنا على حقّ ولكننا فشلنا في كسب ثقة غالبية الأمريكيين» وغمزها من قناة رئيسها السابق نفسه بالقول: «إذا تعبتم من الخسران، ضعوا ثقتكم في جيل جديد». ومن مصلحة المتفاخرين أنفسهم أن يصغوا إلى خطبة مايك بومبيو، وزير الخارجية السابق في إدارة ترامب وظلّ سيّده التابع، حين يغمز بدوره هكذا: «لا يمكن أن نتبع الزعماء المشاهير بما يشيعونه من سياسات هوية، وما يحملون من أنا ذاتية هشّة ترفض الإقرار بالواقع الفعلي».

إحدى الخلاصات الضمنية في خُطَب ترامب وهيلي وبومبيو، وغالبية الخطباء في مؤتمر واشنطن، يمكن بالفعل أن تقود المرء إلى ترجيح الأفول المضطرّد لذلك التيار الذي حمل اسم «المحافظين الجدد» في الولايات المتحدة خلال عهد جورج بوش الابن؛ والذي بنى، أصلاً، على أصحاب «مشروع قرن أمريكي جديد» من أمثال بول ولفوفيتز وريشارد بيرل خصوصاً. والتيارات المحافظة الراهنة في الولايات المتحدة هي، استطراداً، أشبه بأنفار نافخة لأبواق تفخيم ترامب إلى درجة عبادة الفرد أحياناً، وإلى رفع الشعار الأخرق حول جعل أمريكا عظيمة مجدداً، وكأنها كانت كذلك في أيّ يوم من تاريخها غير المديد في كلّ حال. ذاك، في المقابل، مسار لا يطمس حقيقة تيارات أخرى محافظة، أو «جديدة» هنا وهناك في أوروبا؛ على شاكلة رهط «الفلاسفة الجدد» ألان فنكلكراوت وأندريه غلوكسمان وبرنار ـ هنري ليفي في فرنسا.

والحال أنّ هبوط أسهم «المحافظين الجدد» الذين باتوا قدماء متقادمين في الواقع؛ يتوازى مع علوّ مكانة المحافظين نافخي الأبواق من خلف ترامب، في جلسات الـ CPAC خصوصاً؛ والوقوف على أسباب كلا الظاهرتين ليس بالأمر العجيب، مثله مثل صعود نظريات التفوّق الأبيض والعقائد المسيحية الأصولية. جملة من الأسئلة تظلّ، مع ذلك، ملحّة وجديرة بالنقاش: كيف يمكن لهذه الأمّة الأمريكية، أو لغالبية غير ضئيلة فيها، أن تكون قوّة كونية عظمى أولى، ديمقراطية دستورية وعصرية مصنّعة ومتقدّمة، وفي الآن ذاته محافظة قَدَرية سلفية متديّنة؟ واستطراداً، أهو تراث جيفرسون وترامب وريغان الذي يسود اليوم، ويوحي بالسيادة في المستقبل أيضاً؛ بما ينطوي عليه، أيضاً، من صياغات لنكولن التي تريد تحرير امرأة سوداء وتأبى عليها أن تكون زوجة لرجل أبيض؟

وهذه السطور خفّفت، في كثير أو قليل، من الاعتماد على علوم النفس أو الاجتماع أو السياسة والاقتصاد والتاريخ بحثاً عن مسوّغات هذا الانشطار بين أقصيَي الحداثة والسلفية في الذهنية المحافظة الأمريكية، على وجه الخصوص. ولعلّ بعض أفضل البدائل، في ناظر هذه السطور دائماً، هو اللجوء إلى أنثروبولوجي أمريكي بارز وبارع وغير تقليدي، هو فنسنت كرابانزانو؛ وتحديداً إلى كتابه الممتاز «خدمة الكلمة: النزعة الحرفية في أمريكا، من منبر الوعظ إلى منصّة القضاء». ومقام كرابانزانو الرفيع في ميدان الدراسات الأنثروبولوجية يجعل المرء يقرأ، بثقة راسخة، خلاصاته عن طرائق ومؤسسات وعواقب التأويل الديني لموادّ الدستور الأمريكي. هذا رجل سبق له أن أثار ضجّة في صفّ الأنثروبولوجيا البنيوية حين أصدر «الحمادشة: دراسة في طبّ النفس الإثني في المغرب» 1973. وضجّة أخري في مناهج التحليل الأنثروبولوجي لنظام الفصل العنصري، الأبارتيد، في كتابه «انتظار: البيض في جنوب أفريقيا» 1985. وضجّة ثالثة في صفّ الأنثروبولوجيا الثقافية، من خلال كتابه الاختراقي «معضلة هرميس ورغبة هاملت: حول إبستمولوجيا التأويل» 1993.

المقولة الأساسية في «خدمة الكلمة» تسير هكذا: هذه الأمّة تحمل التوراة بيد والدستور بيد أخرى، وحين تطبّق حرفياً موادّ القانون الذي وضعه البشر (الدستور) فإنها إنما تفعل ذلك ضمن حال من الخضوع المذهل للنصّ الذي وضعه الربّ (التوراة) من جهة أولى، وللتأويل الميتافيزيقي لمعظم الظواهر الدنيوية، من جهة ثانية. وهكذا فإنّ منبر الوعظ يمكن أن يغادر الكنيسة كي يستقرّ على منصّة القاضي في المحكمة، وليس غريباً أن يقول أحد قضاة المحكمة العليا (أي تلك التي لا يعلو على رأيها رأي قانوني أو تشريعي) إنّ موادّ الدستور الأمريكي هي «إلهام من الربّ». لكنّ الأنثروبولوجيا الميدانية ليست وحدها محطّ اهتمام كرابانزانو في تنقيبه عن الجذور الدينية الأصولية لظواهر ومظاهر نزعة التأويل الحرفي، لأنه أيضاً يلجأ إلى التحليل اللغوي والنصّي الثاقب لعدد من الأعمال التي تفسّر الدنيا بالدين، وتحيل موادّ الدستور الأمريكي إلى إصحاحات وأعداد خارجة مباشرة من أسفار الكتاب المقدّس. وحين نتذكّر الأولويات الكبرى عند أنصار ترامب، فإن هتك كرابانزانو لأستار تلك الميول الكامنة يتجاوز النشاط الأنثربولوجي أو العلمي المحض، ليصبح استكشافات ثقافية وأخلاقية وسياسية بالغة الحساسية.

ولم يكن عجيباً أن تطغى النبرة التبشيرية والوعظية على هذه الجملة من خطاب ترامب أمام مؤتمر الـ CPAC: «في 2016 قلت: أنا صوتكم، واليوم أضيف أنا محاربكم. أنا عدلكم. وللذين تعرضوا للظلم والخيانة: أنا قصاصكم».

كاتب وباحث سوري يقيم في باريس

القدس العربي

Show More

Related Articles

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Back to top button