هل تنقذ المبادرات الفردية أرشيف الثقافة السورية؟/ علي سفر
منذ العام 2011 يكتشف السوريون أنهم بلا ذاكرة مؤرشفة، قابلة للتداول في شبكة الإنترنت! وسيكون ملفتاً بعد التدقيق في مساهماتهم، شعباً وحكومة، في زيادة المحتوى العربي رقمياً، أنهم يقفون في الصفوف الخلفية، للفاعلين العرب في هذا المجال!
كان السؤال وما زال، في ما يخص قدرة شعب ثري ثقافياً، على وضع نتاجه أمام الآخرين، يتعلق بقدرة أفراده، وحريتهم، وتوافر الإمكانات الوطنية، لنشر المفردات. وفي هذا، لن يكون صعباً تحري أسباب ضعف مساهمة السوريين. فالسيطرة المحلية المُحكمة على الشبكة، وقبل ذلك تقييد الحريات، مروراً بعدم تطوير أدوات النشر، حيث يغلب ضعف سرعة النت، بالإضافة إلى ارتفاع الكلفة قياساً بمستوى الدخل، وغياب الحوافز التي يمكن أن تنشط عمل الأفراد، وربما تنقلب إلى اتهام من يفعل بجرائم تتعلق بالأمن، في حال لم يرُق لأحد ما فعله.
كل ذلك أدى إلى أن يكون مشهد الإرث الثقافي بائساً أمام من يرغب في الحصول على معلومة ما، أو مشاهدة عمل سينمائي أو مسرحي، وحتى درامي، عبر النت. غير أن تفلّت جزء كبير من السوريين، من السيطرة، بعد توزعهم بسبب ما يجري في بلدهم في أماكن شتى حول العالم، سيوفر لشرائح كبيرة منهم، إمكانية العمل على نشر ما يتوافر بين أيديهم، في مواقع عديدة.
لكن هذا لم يلغ السؤال عن ضرورة وجود فعاليات في الشبكة، جرى إنتاجها ضمن الحواضن الرسمية. وهنا سيسأل البعض عن سبب اهتمام الكثيرين بالمنتجات الثقافية الرسمية تحديداً، وربما سيُصدمون، حين يعرفون بأن البلد المحكومة بقوانين صارمة، كانت مؤسساتها الرسمية، وما زالت، تسيطر على مجمل الفعاليات الثقافية عبر أدواتها، التي توزعت كل الأنواع الفنية من سينما ومسرح ورقص، بالإضافة إلى السيطرة السابقة على الفضاء الصحافي والإعلامي. وبالتالي فإن كل ما يريده الباحث والقارئ، سيكون متوافراً في هذه المؤسسات، وليس في غيرها، إلا في ما ندر، وسيواجه المهتمون مشكلة إضافية تتعلّق بعدم اهتمام القائمين عليها بأرشيفها، إذ يغلب على نمط الإدارة التي تأتي عبر الترشيحات الحزبية والاختيارات الأمنية، نمط سلوكي يقوم على إبادة إنجازات السلف، لصالح ترقية أفعال الخلف! ولهذا لن يكون من الممكن أن يبادر أحد ما من هذه المؤسسات، وبشكل ذاتي، لخطوة في هذا الاتجاه. بل كان المتوقع أن يبادر إلى العكس تماماً، وهذا ما فعله علي سبيل المثال وزير الثقافة الراحل، رياض عصمت، فألغى قرار سلفه الوزير رياض نعسان آغا، بنشر الكتب التي تصدرها وزارة الثقافة إلكترونياً، وبشكل يومي، في موقع الهيئة العامة السورية للكتاب، وستمضي سنوات عديدة، توالى خلالها الوزراء، قبل أن تعود الهيئة لنشر الكتب بشكل شبه منتظم إلى حدٍّ ما.
وينطبق الأمر ذاته على الدوريات والمجلات، إذ سينطلق الأمر من مبادرة شخصية قام بها فريق عمل جريدة “شرفات الشام” المحتجبة في العام 2009، لتوزيع كافة الأعداد التي صدرت منها على القراء عبر قرص مدمج، في ذكرى صدورها الثالث، وسينتبه القائمون على مجلة “المعرفة” إلى إمكانية أن يفعلوا المثل فقاموا بوضع الأعداد السابقة من بداية ستينيات القرن الماضي وحتى 2005 على قرص أيضاً، ووزعوه مع أحد أعداد العام 2010، لكن المجلة لم تنشر هذا المحتوى في الإنترنت، بل تكفل بذلك موقع أرشيف المجلات “الشارخ”، الذي يقدم هذه الخدمة المجانية للقراء، حيث يمكن مطالعة هذه المجلة وغيرها في موقعه، مع الانتباه إلى أن المحتوى السوري فيه ما زال حتى الآن ضعيفاً بالمقارنة مع مساهمات الدول العربية الأخرى.
خلال السنوات الماضية، سيبادر فريق النشر في المؤسسة العامة للسينما، إلى نشر أرشيف مجلة “الحياة” السينمائية عبر قرص مدمج أيضاً، لكنه سيبدأ بنشر الأعداد المئة الأولى إلكترونياً عبر موقع “آفاق سينمائية” التابع للمؤسسة، وفي صفحته في فايسبوك، في خطوة مهمة لم تُستكمل بنشر الأعداد التي صدرت بعد المئة.
أما مديرية الفنون الجميلة، التي دأبت على إصدار مجلة “الحياة التشكيلية”، التي نجد جزءاً من أعدادها في موقع “الشارخ”، فقد ظلت حتى الآن خارج الركب لجهة نشر أرشيفها، أو النشر المرئي لنتاج الفنانين التشكيليين السوريين، بينما بادرت مؤسسة خاصة هي “غاليري أتاسي”، لتقوم بذلك، ضمن القدرات المتاحة لأصحابها، مع التركيز على ما تملكه من منتجات تحوز حقوقها.
وبينما ستظهر مجلات جديدة منذ ما قبل انطلاق الثورة السورية، مثل مجلة “جسور”، و”الخيال العلمي”، و”المخطوط العربي”، و”التراث الشعبي” التي تتبع مديرية التراث اللامادي، وستتوافر نسبياً عبر الهيئة العامة السورية للكتاب، ستبقى مديرية المسارح والموسيقى، متأخرة عما يجري. فهي تصدر مجلة “الحياة الموسيقية” التي تتوفر أعدادها نسبياً، في الشبكة بمبادرة من فريق عملها ربما، بينما ستبقى مجلة “الحياة المسرحية” حبيسة قرص مدمج احتوى على أعدادها المئة الأولى من دون نشرها في الشبكة، رغم نشر الأعداد اللاحقة في موقع المديرية، كما أن عروضها المسرحية ما زالت خارج الأرشفة المنظمة، وبما يجعلها متاحة في “يوتيوب” أو غيره من المواقع المتخصصة.
خريجون من المعهد العالي للفنون المسرحية، يقيمون خارج البلاد، سينتبهون إلى هذه الثغرة الكبيرة في تأسيس تاريخهم الشخصي المرتبط بالتاريخ العام للبلاد، وسيعملون بمبادرة شخصية مع آخرين على خلق أرشيف منظم للمسرح السوري، يقوم على التفاعل بينهم وبين المسرحيين أنفسهم.
وهذا ما يفعله الناقد والكاتب المسرحي ياسر أبو شقرا في موقع الخشبة الذي أُعلن عنه قبيل نهاية العام الماضي بالتعاون مع مؤسسة دوزان ثقافة وفن، حيث يقوم بالتواصل مع الآخرين لبناء الداتا الأولى، مع انتباه الفاعلين في المشروع، إلى أنهم وبجهود شخصية يحملون على أكتافهم عبئاً، تتحمله مؤسسات كبيرة عادة.
آخر ما حررته الجهود الشخصية بالتعاون مع مؤسسات راعية، كان الإعلان عن انطلاق موقع هيدا أرشيف المتخصص في تراث وتاريخ المعهد العالي للفنون المسرحية بدمشق، وذلك بدعم من مؤسسة اتجاهات-ثقافة مستقلة، حيث قامت الباحثة ميادة درويش برفقة المخرج المسرحي عمر أبو سعدة، بنشر نتائج العمل على المرحلة الأولى من المشروع، التي تقوم بتغطية للسنوات الممتدّة بين تأسيس المعهد 1977 – 1992، تحت رخصة المشاع الإبداعي، وفق رؤية وأهداف حدداها بجمع “كل الوثائق المتوافرة عن المعهد، وإعادة تنظيمها وتحويلها إلى صيغة رقمية، تحميها من التلف، وتتيح عرضها بشكل مفتوح، عبر موقعنا الإلكتروني، وتوفير مادة للفنانين والباحثين والطلاب والممارسين الثقافيين، يمكن تناولها على مستويات ثقافية اجتماعية وسياسية، وإحياء الوثائق، وتحويلها إلى مساحة تشاركية، مفتوحة للجمهور”.
الزائر للموقع سيرى فعلياً مادة لم يرها في مكان آخر، لا سيما شهادات المؤسسين والتعريف بهم، وتوضيح للأدوار الرئيسة في إنشاء الصرح العلمي، لا سيما منها الدور الذي لعبته الوزيرة السابقة نجاح العطار. وللمرة الأولى، سيرى المهتمون، على سبيل المثال، البروفسور السوري غسان المالح، متحدّثاً عما مضى من عمر المعهد، الذي كان الكاتب أديب اللجمي عميده الأول، وكذلك سيجد المهتمون عدداً لا بأس به من أطروحات التخرج، لطلاب قسم الدراسات، وعدداً من إصدارات المعهد.
قد تبدو هذه المحاولة مختلفة عما يجري عموماً، في سياق الحدث الثقافي السوري في الداخل، ولعلها تأخذ أهميتها من كونها عملاً تشاركياً، يقوم على مبادرات شخصية، ومحاولتهم دفع الشركاء، أفراداً ومؤسسات، بما فيها تلك الرسمية، نحو عتبة مختلفة، بعيدة من الطريقة المُتحفية السائدة، في عرض الإرث الثقافي السوري عموماً.
المدن