شعر

أضحت تشيلي كلّها زهوراً الآن/ راؤول زوريتا

ترجمة: أنس طريف

الوجهُ وجهٌ في صحراء في زَهرْ. أسمعُ زهورَ

حقلٍ عريضة، سمعتُ صحارَى بأكملها تغطّي

نفسَها بالزّهور. الزهرةُ وجهٌ في

عزلة الصحراءِ والوجهُ زهرةٌ في

عزلة الأشياء. الوجه يَسمع سنواتٍ، فصولاً،

حيواتٍ لا تنتهي وتنتهي. زهرةٌ لبضعة أيام فقط،

لبضعة مساءات، لبضع ليالٍ لا تنتهي.

الوجهُ زهرةٌ أُخرى تنتهي. سمعتُ

صحاريَ أبديّة أزهرَت

فدُمِّرَت. اسمي زوريتا، وأنا أخبركم بهذه

الأمور كما كنت لأخبركم بأمور أُخرى. ربما كانت

الزّهور المخبولة تحبّ بعضها بعضاً.

الصحراء التشيليّة. هناك سفينة في وسط

الصحراء وامرأةٌ تضعُ زهوراً

بالقرب منها. تصيح الصخور. لا تصيحُ

إلّا الصخور بهذه الطريقة. الزّهور أيضاً

تصيحُ، ولكنْ فقط عندما تُميلها الرياح.

سمعتُ حقولاً كلها زهور تميل

مع الرياح.

قد فقأت أعيُنها، هل كنتَ تعلم ذلك؟

قد قلَعت أعيُنها من المحاجر. لهذا السبب

لا يمكن لأحد في هذه القصائد أن يرى، بل أن يسمع فحسب.

الزّهور تسمعُ وأحياناً تصيح عندما

تميل مع الرياح. الأوجهُ لا ترى.

الصخور غاضبة وتكتفي بالصياح.

لا أحد يرى. ربما كانت الزّهور الملويّة تحبّ بعضها

بعضاً.

سمعتُ آفاق الشرق العريضة وهي

تُخلى، سمعتُ الأنديز يختفي. سمعتُ

مغنوليّاتٍ بيضاء تأخذ مكان

الجبال. كانت جبالاً، والآن صارت

زهوراً. مغنوليّاتٌ بيضاء هائلة حلّت

محلّ سلسلةِ الأنديز الآن. الأفقُ أزهارٌ،

وسلسلةُ الأنديز الآن مغنوليّات

بيضاء هائلة تَئنّ. أُحبّكِ، تَئِنّ.

وللمرّة الأولى، منذ بداية

العالم، أخبرتنا الزّهور الآن ما لم

تخبرنا به السلسلة قطّ. الزّهورُ التي

حلّت محلّ الأنديز قالت لنا إنها تُحبّنا.

اختفى الهادي ونبتَت محلّه

زهورٌ. غَطّت أرطاسيا زرقاءُ أبديةَ

الاتساع الذي كان البحر ذات يوم فيه. تشخرُ

زهورٌ أبديّةٌ تهزّها الرياح. البحرُ

مقبرة، تشخرُ الزّهور بينما

تنمو سماءٌ أُخرى فوقها.

مغنوليّات الشرق حيث كانت السلسلة

وأرطاسيا الغرب حيث كان البحر

تُحاورُ بعضها وتُحاورنا. ومن أشواك تشيلي

تحكي لنا عن شغفٍ لم تُخبرنا السلسلة

كما لم يخبرنا البحر من قبل به. الأرطاسيا الزرقاء

تغطّي أقاليم الهادي الشاسعة الآن.

سمعتُ الآفاق في الشرق والغرب تتحوّل

إلى زهور: سمعتُ الأنهار الجليدية اللامتناهية، والمحيطات

العمياء، والجبال الجليدية القادمة من عوالم أُخرى تطفو

بين زهور الهادي. سمعتُ

أكاليلَ شوكٍ تُزهر وتقول لك

كُلّ أرطاسيا الشرق ومغنوليّات الغرب هي جسدُك في الزهر.

ومن مقلتَيك الفارغتَين يصعد

إكليلُ شوكِ تشيلي إلى الأعلى وتبدو السماء الصاعدة

من محجرَي عينيك المخرومَين 

وكأنها حقلُ ليلَك. ثم سمعتُ آفاقاً

خارقة، وقمماً مجبولة من زهر، وبحاراً من

ثلجٍ تصعد وتُزهر. من

أكاليلِ شوكِ عينَيك. هل أفرغَت

محجرَيك؟ هل فقأت عينَيك؟ كأنما

يمكنك أن ترى، من جديد، الزهرَ يصعد من

محجرَيك الفارغَين أشجارَ زهرٍ مشدوهة ورائحةً

للبحر.

كانت زهور الأنديز وزهور

الهادي تقول إنها تحبّنا. هذا ما كانت

تقوله لنا: إنها تحبنا. والأكاسيا

البديعة بزهورها الصفراء التي تخرج من

كل دماءِ الحقول، الأكاسيا التي تنمو

الآن حيث كانت السهول الضيّقة، تقولُها. وهي

تقولها لكم، يا مجرمين، يا مَن دمّرتم

الكائنات البشرية، هيَ الأكاسيا البديعة في

الحقول والمغنوليّات النامية حيث

كانت السلسلة والأرطاسيا الضاربة إلى الزُرقة

التي تنمو حيث كان الهادي ذات مرة تقولُها.

اسمعيني يا حمامة، كُلُّ زهورِ صحاري

وشطآنِ وجبالِ تشيلي تحبّنا.

قد مِتُّ وهي تحبّني. أنتَ مِتَّ وهي

تحبّك. نعم، عبّاد شمسِ السهول يقولُ

فيداليتاي** يا حمامتي الصغيرة، الزّهورُ التي

تقع حيث كان المحيط، والسلسلة والوديان تقول

لنا إنها تحبّنا.

ثم هناك قبورُ تشيلي:

خُبّيزات، وحقولُ عبّاد شمسٍ للنجوم،

مغنوليّاتٌ تستعرُ مكانَ الأنديز،

وشرائطُ صحاري ضيقة وشطآنٌ

ستصبح أشجار زهور تطفو في البحار. هيَ

مقابر الزّهور، وأفقُ

السلسلة الصاعدة من محجرَيك الفارغَينْ،

لأن الجبال المَعميّة والثلوج

العمياء وقمم تشيلي هي الزّهور

التي تغطّي الحُفر الميّتة لعينيك. وعندما

سيتلقّفُ الشفقُ القطبيّ البعيدُ والفجرُ

الأرجلَ المقطوعة التي سقطَت، والجذوعَ،

والظُهور التي سقطَت، سيصعدُ فيكون

محجرَاك الفارغَان وقد مُلِئا خُبّيزاتٍ

مثل السماء بأكملها وقد ولِدتْ، نعم، يا حمامةً صغيرة،

مقابرُ خُبّيزات هي عيناك وحقولُ نجومٍ

هي عبّادُ الشمس في الزهر.

المقابر هي سماءُ زهور تشيلي

والقبور الفارغة في عينيك هي الأماكن

الجوفاء التي صار فيها الهادي زهوراً الآن.

والقبور العمياء التي سمعتْ عينَيك وهما تُقلَعان

صارت سماءً كلّها زهورٌ تخبرنا عن

حُبٍّ على قيد الحياة. أقحواناتُ ذلك الحُبّ الحيّ

في السماءِ وكلّ الجبالِ والنجومِ التي تشبه

أقماراً من الخُبّيز ونجومَ

صباحٍ هائلةَ الحجم تتدحرج مثل كرات لهب في

الفجر الزهريّ كانت زهوراً أيضاً. ثم سمعتُ حُبَّك

وحُبّي المهدودَ يصعدان

ويطفوان فوق الأنهار الجليدية وأحبَبتُ حُبَّك

على الحقول الثلجية الطويلة الملآى بالزّهور البيضاء.

هل أنت هناك؟ هل هذا أنت؟ ومقلتاك تصعدان من

الصخر في زهرٍ وتُغطّيان الأفق

بزهورٍ بيضاءَ، وتُغطّيان الأنهار الجليدية بزهورٍ بيضاء،

وتُغطّيان النجومَ الراجفة بزهورٍ بيضاء. هل عيناك

على قيد الحياة؟ عيناك المفقوءتان؟ طوال الفجر

والزّهور البيضاء هي التي تُجيبنا عندما تسقط

السماء علينا وعندما نصيح.

ثم اختفَت السلسلة، واختفى الهادي

وأضحت تشيلي كلّها زهوراً الآن. مغنوليّات

بيضاء سرمدية هي الأنديز الآن، أرطاسيا سرمدية

هي المحيط، وزهورٌ لانهائية هي شريطُ السهول

الضيّق الآن. نعم، بلسمٌ أصفر، ونرجسٌ في

أفواه البراكين وزهورٌ في ضفاف الأنهار الطويلة،

والزّهورُ تُخبرنا بما لم تخبرنا به السماء

ولا البحار ولا الأرض قطّ، وكانت حقولُ

أشجار الزهر النابتة من أعيننا الميتة مثل

شطآنٍ تصعدُ إلى الأعلى في الهواء. عندما

اختفى الهادي ونبَتت الأرطاسيا الضاربة إلى الزُرقة،

عندما غرقت السلسلة وطلعت الزّهور

البيضاء فوقها، انمحَتِ

السماءُ، وفَتحت السماءُ المغطّاة بالزّهور

المقابرَ التي كانت أوجهنا، مدفونة،

فارغة، مُعلّقة فوق تشيلي مثل الخُبّيزات.

ثم حدّثنا عبّاد شمسِ النجوم، وأرطاسيا المحيط،

ومغنوليّات الأنديز، لأنّ ما لم تخبرنا به

الجبال ولا المحيط ولا النجوم قط

صارت تُخبرنا به هي الآن، ولكنْ تخيّلي، يا حمامةً صغيرة،

زهورَكِ.

وهي تُحِبّنا، وهي تخبرنا بأنها تحبّنا.

الزّهورُ التي تحرّكها الرياح، يا حمامة صغيرة،

فيدالا، تُخبرنا بأنها تحبّنا. ومقابرُ

تشيلي تخبرنا بأنها تحبّنا والزّهورُ تقول

قد نُثر حُبُّك الأعمى الصاعد مع حُبي

الأعمى فوق حقولِ الأنهار الجليدية البيضاء.

عندما فقأوا أعيننا بمقالع

وأخذت الزّهور بالنموّ من المقالع

العمياء. عندما كوّمونا فوق بعضنا البعض

ورمونا في الهادي المَعميّ، داخلَ

البراكين المَعميّة، على طول البلاد

الطويلة المَعميّة، وكانت السماء الحمراء زهوراً

سمعناها تنبتُ ونحن نرقد محتضرين. نعم، الوجهُ وجهٌ

في الصحاري في زهورْ، والمحيطاتُ الجديدة،

والقممُ الجديدة والصحارى التي صاحت مع صياح

الصخور مَحبّةً لكلّ الزّهور التي تُحبّنا

كانت السماء فوق أوجهنا. وهي تُحبّنا،

وقد قالت لنا، فيداليتاي، إنها تحبّنا

لأن الصحراءَ صحراءٌ ووجهٌ دخلَ

زهرةً، وبالسماءِ التصقَت أوجهنا،

وأزهرت على طول الصحراء مثل مقبرة

كُل تشيلي بزهورٍ هي أنت

بزهورٍ تموت بسببك بزهورٍ

هي الصباح.

الوجهُ وجهٌ في صحراء في زَهرْ.

الزّهورُ المقطوعة تُحبّ بعضها البعض. الوجهُ المحبوب

زهرة في الصحراء والصحراءُ هي

ليلٌ للزهور. قد فقأوا أعينهم،

هل كنت تعرف ذلك؟ قد بتروا

أعينهم. تشخرُ الزّهور المقطوعة وتُزهر

أوجهنا الميتة في الصحراء، فالوجهُ

وجهٌ في موجز الأشياء والزّهورُ

صحراءٌ في اقتضاب المساء. عندما

تكون الزّهورُ هي المساء والمساءُ الحُبَّ

المعميّ الذي يحبّنا.

عندئذٍ تكون الصحراءُ صحراءً ـ حُلماً

أزهَر، ويصعد وجهك المَعميّ والميت

فتغطيه أشجار الزّهور، فالزّهور تحبّنا

والزّهور هي مساءُ حُبّنا الأعمى

الصاعد فوق السماوات المبتورة.

والزّهور تُحبّنا، نعم يا زوريتا، هي تحبّنا،

وهي التي تنمو مبتورةً من عينيك المَعميّتَين

لكي تُخبرنا بما لم يخبرنا به حُبُّ بلادنا قطّ،

عندما تنبتُ السماء في مسائك المُفرغ

وتكون كل السماء وجهك المليء بالزّهور

صاعداً إلى أعلى.

لأن الزّهور تُحبّنا. لأن الزّهور

المبتورة تُحبُّنا. لأن الزّهور الميّتة، يا زوريتا،

تحبُّنا.

أيْ نعم.

أيْ نعم، قالَ الأفقُ بأكمله لنا، الزّهورُ

الحَيّة تُحبُّنا.

* ترجمة: أنس طريف، والعنوان الأصلي للقصيدة “زهور” وهي مقطع طويل من كتاب شعري.

** “فيداليتاي” أو “فيدالا”: نوع من الأغاني الشعبية الخاصّة بسكّان الأنديز الأصليين، تُغنَّى في الأرجنتين والأوروغواي وتشيلي.

العربي الجديد

Show More

Related Articles

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Back to top button