كيف بدأت “بعثنة” سوريا والعراق/ سامي مبيض
في الثامن من مارس/آذار قبل ستين عاما، وصل حزب “البعث” إلى السلطة في سوريا عبر انقلاب عسكري أطاح الرئيس ناظم القدسي ورئيس وزرائه خالد العظم. وقتذاك، لم يكن أحد يشير إلى ما جرى صبيحة الثامن من مارس باعتباره ثورة، بل مجرد انقلاب آخر، لا يختلف عن أي من الانقلابات الستة الناجحة التي هزت الجمهورية الفتية منذ عام 1949. ولم يشِعْ استخدام مصطلح “ثورة” حتى منتصف أبريل/نيسان في وسائل الإعلام الحكومية. جاء الانقلاب بعد شهر واحد فقط من استيلاء الضباط البعثيين على السلطة في العراق المجاور في انقلاب أدى إلى إطاحة عبد الكريم قاسم وقتله، مما أثار أزمة حول شرعية “البعث” بين البلدين استمرت حتى سقوط صدام حسين في 2003.
رتّب للانقلاب السوري عام 1963 ونفّذه ضابط ناصري يدعى زياد الحريري، عيّن نفسه لاحقا رئيسا لأركان الجيش السوري. وكان هدفه المعلن إسقاط “نظام الانفصال” الذي أطاح الوحدة السورية المصرية في سبتمبر/أيلول 1961. كان البعثيون من المؤيدين للرئيس المصري جمال عبد الناصر وكانوا يرون في أنفسهم الأبطال الحقيقيين للوحدة العربية. لذلك سرعان ما دخلوا، في أعقاب الانقلاب، في محادثات مع عبد الناصر لاحياء جمهورية الوحدة – وهذا ما لم يتحقّق البتة – وإنشاء مجلس قيادة الثورة المستوحى من النموذج المصري الذي أنشئ بعد خلع الملك فاروق في 1952، وهو المجلس الذي مُنح صلاحيات تشريعية واسعة بعد تعليق الدستور، فحلّ بذلك محل البرلمان السوري.
تلت ذلك سلسلة من الإجراءات المثيرة للجدال، مثل تجريد مئات السياسيين ووجهاء المال التقليديين من حقوقهم المدنية، واتُّهامهم جميعا بدعم “جريمة” الانفصال. وشُطبت الأسماء الكبيرة بشكل جماعي بجرّة قلم، مثل الرئيس ناظم القدسي الذي سُجن خمس سنوات، وخالد العظم، رئيس الوزراء، الذي لجأ إلى السفارة التركية في دمشق قبل اختياره النفي الى لبنان، حيث توفي بعد سنتين عام 1965، بعدما صودرت ممتلكاته. وأصدر مجلس قيادة الثورة قرارات متتالية بحظر جميع الأحزاب السياسية، باستثناء حزب “البعث”، وإلغاء ترخيص سبع وأربعين مطبوعة، من مجلات القضايا العامة إلى الجرائد السياسية.
وغدت سوريا دولة الحزب الواحد بصحيفتين فقط، هما “البعث” الناطقة بلسان الحزب الحاكم وصحيفة يومية حكومية تأسست في 1 يوليو/تمّوز 1963 سُمِّيت جريدة “الثورة”. وحُذِف من المجتمع السوري ومن كتب التاريخ كل حدث وكلّ شخص ينتمي إلى حقبة ما قبل 1963، بعد نعتهم بصفات مثل “رأسمالي” و”مؤيد للغرب”.
المؤسّسان
حدثت الولادة الرسمية للحزب في مؤتمر عُقد في دمشق في 7 أبريل/نيسان 1947 على الرغم من أن تاريخه الأيديولوجي سبق هذا المؤتمر بنحو سبع سنوات. مؤسّساه هما معلّما مدرسة من حي الميدان المحافظ بدمشق: ميشال عفلق (1910 – 1989)، وهو مسيحي من الروم الأرثوذكس، وصلاح البيطار (1912 – 1980) وهو مسلم سني. وكلاهما درس في جامعة السوربون المرموقة بباريس، حيث تأثّرا بأفكار الحزب الشيوعي الفرنسي، وعادا للتدريس في مدرسة التجهيز للبنين في دمشق عام 1934.
كان عفلق مدرّسا للتاريخ، بينما درّس البيطار الرياضيات والفيزياء. وتأثّر الرجلان أيضا بشخص سبقهما إلى الدراسة في السوربون هو زكي الأرسوزي (1899 – 1968)، الذي كان قد أسس قبل فترة وجيزة حركة فكرية تسمى “البعث”، تقوم أهدافها على طرد الفرنسيين وإقامة وحدة عربية تكون سوريا جزءا منها. لم تتحول أفكار الأرسوزي قط إلى حزب سياسي، وظلت متداولة فقط ضمن تجمع سياسي للمثقفين المتشابهي التفكير من الطبقة الوسطى السورية. وسرعان ما ظهر تنافس دائم بين الأرسوزي وعفلق، حول من “يملك” عقيدة “البعث”. وكان الأرسوزي يسخر من عفلق، الذي كان يرتدي طربوشا تركيا، فيتساءل: “كيف يمكن لأحد أن يأمل في قيادة ثورة وهو يعتمر طربوشا؟”.
وعلى غرار الأرسوزي، كان عفلق والبيطار يعقدان تجمعات أسبوعية للشباب من محيطهما الاجتماعي، إما في “مقهى الرشيد” أو في “مقهى هافانا”، اللذين كانا نقطتي جذب للمثقفين السوريين. هناك كانوا يناقشون الوضع المتدهور للعالم العربي، زاعمين أن واجبهم كمثقفين هو إيقاظ العرب من عقود من النوم، وهو أمر لن يتحقق إلا من خلال تحرير العرب من الاحتلال الأوروبي وإنشاء مجتمع لا طبقي تكون السلطة فيه في أيدي الطبقة العاملة. واتخذوا إسما لتجمّعهم هو “حركة الإحياء العربي”، التي سرعان ما تغيرت إلى حزب “البعث”، ما أثار استياء زكي الأرسوزي. وفي يوليو/ تمّوز 1945، تقدّم عفلق والبيطار بطلب للحصول على رخصة حزبية، لكن السلطات الفرنسية رفضت. وكان عليهما الانتظار مدة عامين آخرين حتى يغادر الفرنسيون سوريا في 17 أبريل/نيسان 1946، قبل أن يعلنا تأسيس حزبهما رسميا.
عُقد المؤتمر التأسيسي في “مقهى الرشيد” في دمشق (تحوّل مكانه الآن إلى مقرٍّ للمركز الثقافي الروسي) في أبريل/نيسان 1947. وتألفت لجنة تنفيذية من أربعة رجال مع عفلق عميدا للحزب، والبيطار أميناً عاماً، إلى عضوين آخرين هما جلال السيد من دير الزور ووهيب الغانم، الطبيب العلوي، الذي سرعان ما أنشأ فرعا في عيادته في اللاذقية، مستقطبا عددا من تلامذة المدارس، من بينهم شاب اسمه حافظ الأسد. لكن زكي الأرسوزي لم يُمنح أي منصب في الحزب الجديد، بل لم يُدْعَ إلى حضور المؤتمر التأسيسي للحزب أساسا.
سنوات النشاط 1948 – 1958
ظلّ “البعث”، خلال مراحله الأولى، حزبا مدينيا في الغالب من الطبقة الوسطى، مع تأثير محدود للغاية في الريف السوري. في عام 1948، تطوع عفلق للقتال في حرب فلسطين، وألقى باللوم في هزيمة سوريا على الرئيس آنذاك شكري القوتلي. في مارس/ آذار 1949، دعم عفلق الانقلاب الذي أسقط الرئيس القوتلي على يد قائد الجيش حسني الزعيم، دون أن يُمنح عفلق أي منصب في النظام الجديد، وعندما اشتد انتقاده للزعيم، أُلقِي القبض عليه وعًذِّب في سجن المزة مما أجبره على توقيع رسالة أنكر فيها أفكاره البعثية. وحظُر حزب “البعث” أيضا في عهد الزعيم. وعندما أطيح به في أغسطس/آب 1949، شكّل الرئيس هاشم الأتاسي حكومة وحدة وطنية، شغل فيها عفلق، للمرة الأولى والأخيرة في حياته المهنية، منصب وزير التربية والتعليم حتى كانون الأول/ديسمبر 1949.
بعد ذلك، دعم الحزب طموحات الضابط الحموي الشجاع العقيد أديب الشيشكلي، الذي قام بانقلابين، الأول في ديسمبر/كانون الأول 1949 والثاني في نوفمبر/تشرين الثاني 1951. عرف عفلق الشيشكلي منذ أيامهما المشتركة في حرب فلسطين ورأى فيه مشروعا واعدا لقومي عربي حقيقي. وكان يأمل في أن يتّخذه الشيشكلي، عندما يصل إلى السلطة، مرشدا أيديولوجيا، وهذا ما لم يحدث، إذ لم يكد الشيشكلي يكمل استيلاءه على السلطة حتى قمع “البعث” وأجبره على حلّ نفسه. ونُفي عفلق والبيطار إلى لبنان مع النائب السابق عن حماة أكرم الحوراني الذي حارب هو أيضا في فلسطين وكان مؤسّسا لحزب آخر هو الحزب العربي الاشتراكي. اتخذ الرجال الثلاثة في المنفى القرار التاريخي بدمج حزبيهما في كيان واحد، وهو ما بات يُعرف باسم “حزب البعث العربي الاشتراكي”. وقدّر للحوراني أن يعطي “البعث” شكله وبنيته الحالية.
دور أكرم الحوراني
كان الحوراني أكثر جاذبية من عفلق والبيطار، وأكثر ارتباطا بالسوريين العاديين، لكنه كان أيضا أشدّ طموحا وأقلّ تسامحا. كان قد جاء من عائلة من ملّاك الأراضي فقدت كل ممتلكاتها، ما خلق عنده ردّ فعل جعله ينظر باحتقار إلى أي شخص من النخبة الثرية في سوريا. تأسس حزبه الاشتراكي العربي على أيديولوجيا ماركسية وتمحور حول شخصيته الكاريزمية. هاجم نخبة ملاّك الأراضي واتهمهم بتكديس ثروة البلاد واستعباد الفلاحين الذين يحرثون الأرض في القرى، مذكّرا الفلاحين بأنهم يعيشون بلا ماء نظيف للشرب ولا كهرباء ولا عيادات ولا مدارس. لذلك، يجب عليهم أن يثوروا على الظلم.
ولم يتوانَ الحوراني عن زيارتهم في منازلهم وتذكيرهم بضرورة تشبّثهم بالأرض، قائلا لهم: “إن عملتم معي ستكون هذه الأرض لكم!”. لقد نصّب نفسه مخلّصا أرسله الله الى الفلاحين في سوريا، الذين كانوا يشكّلون مليوني نسمة من سكان سوريا البالغ عددهم ثلاثة ملايين ونصف المليون.
وفي رأي رئيس الوزراء خالد العظم أن الحوراني وعد “بملء بطون المزارعين الفارغة” بوعود بملكية الأراضي. وعصفت حملته “الأرض لمن يعمل بها” بالبلاد عصفا، وردّ الآلاف على صرخاته الحاشدة هاتفين: “أحضروا السلة والمجارف لدفن الآغا والبيك”. واستطاع الحوراني أن يحوّل الغضب إلى عنف وشجع أنصاره على حرق المحاصيل ومهاجمة أصحاب الأراضي وجعل القرى مكانا شديد الخطورة على أصحابها إذا دخلوها. وكتبت صحيفة “الفيحاء” الدمشقية اليومية متوجهة الى الحوراني: “كنتَ منذ نعومة أظفارك،تتغذى على الحقد والشرّ وبث الخلاف. تحب اللعب بالنار، حتى ولو حرقت نفسك وشعبك وبلدك”.
مع سقوط نظام الشيشكلي في فبراير/شباط 1954، عاد البعثيون الثلاثة عفلق والبيطار والحوراني إلى ديارهم لخوض أول انتخابات برلمانية بعد الشيشكلي. وأصاب حزب “البعث” نجاحا كبيرا بفضل أكرم الحوراني، فحصد سبعة عشر مقعدا من أصل 142 في مجلس النواب. للمقارنة، كانت حصتهم في برلمان عام 1949 مقعدا واحدا فقط. وانتخب الحوراني رئيسا للبرلمان عام 1957، وعُيِّن البيطار وزيرا للخارجية، بينما أصبح بعثي آخر هو خليل الكلاس وزيرا للاقتصاد.
الوحدة السورية المصرية (1958 – 1961)
دعم عفلق والبيطار والحوراني بكل إخلاص الوحدة بين سوريا ومصر في فبراير/شباط 1958، وكُلف البيطار التفاوض على شروط الوحدة مع الرئيس عبد الناصر. وعندما سأل الزعيم المصري عن شروط سوريا للوحدة، أجاب صلاح البيطار: “ليس لدينا شروط يا سيادة الرئيس”. وكانت هذه الإجابة الأقل حصافة التي يمكن لأي مسؤول أن يجيب بها. بهذه العبارة المنفردة، أعطى البيطار عبد الناصر القدرة الكاملة على ابتلاع سوريا سياسيا واقتصاديا وعسكريا. على عكس البيطار، كان لدى الزعيم المصري الكثير من الشروط ليمليها على السوريين، فقد أراد التخلّص من الأحزاب السياسية وفرض رقابة صارمة على الصحافة، وطالب بعزل الضباط المسيسين من الجيش السوري وتعليق العمل بالدستور السوري وحل مجلس النواب. كما أراد أن يجري توقيع ميثاق الاتحاد في مصر، بعد أن ينتقل البرلمان السوري بأكمله إلى القاهرة لكي يحصل على شرعية إضافية. وأخيرا، أراد أن تكون العاصمة القاهرة بدلا من دمشق. وعندما قامت الوحدة أخيرا بين البلدين، عُيّن البيطار وزيرا للثقافة بينما صار الحوراني نائبا لرئيس الجمهورية العربية المتحدة.
وسرعان ما اختلف الرجلان مع عبد الناصر واستقالا من منصبيهما، وكانا من بين أول من دعم انقلاب الانفصال في 28 سبتمبر/أيلول 1961 (وهو عمل سيعربان عن ندمهما عليه لاحقا). في عهد الوحدة، شكّلت مجموعة من الضباط البعثيين المتمركزين في القاهرة لجنة عسكرية للدفاع عن الدولة الفتية من أعدائها الكثيرين، ضمت حافظ الأسد وصلاح جديد من بين آخرين، وقد اعتقلهم عبد الناصر لكونهم سوريين بعد ساعات من انقلاب 28 سبتمبر/أيلول 1961، لكن جرى تسريحهم من الجيش السوري بتهمة تأييدهم لعبد الناصر، بعد إطلاق سراحهم وعودتهم إلى دمشق.
8 مارس/آذار 1963
ثأر أعضاء اللجنة العسكرية في 8 مارس/آذار 1963، لأنفسهم، حين شاركوا في الانقلاب الذي أطاح حكومة الانفصال. وصار حافظ الأسد، وهو في الثالثة والثلاثين، قائدا للقوات الجوية السورية بينما تولى صلاح جديد رئاسة الأركان في يوليو/تمّوز.
أما أكرم الحوراني فكانت علاقاته قد توتّرت مع ضباط المجلس العسكري، فطُرد من الحزب ونُفي، ولم يعد إلى الوطن مطلقا. فمات في المنفى عام 1996. وعُيَّن صلاح البيطار رئيسا للوزراء بينما ظل عفلق في منصبه كسكرتير عام للحزب، وقد أشيد به باعتباره “المرشد الروحي” لدولة “البعث” أو “عرابها”. وأطلق ضباط المجلس العسكري مع البيطار ثورة اجتماعية سياسية في سوريا، قاطعين مع الماضي بكل الطرق الممكنة.
وشهد عهدهم، في يناير/كانون الثاني 1965، إغلاق الصحف المستقلة وإنهاء جميع الأحزاب السياسية ومصادرة الممتلكات وإعادة توزيع الثروة وتأميم المصارف والمدارس الخاصة وأكثر من 220 مصنعا. واختير ضابط ناصري يبلغ من العمر 37 عاما هو الفريق لؤي الأتاسي لرئاسة مجلس قيادة الثورة، لكنه لم يبق طويلا، فاستقال في يوليو/تمّوز، بعد طرد الضباط الناصريين من الجيش لمحاولتهم القيام بانقلاب ضد البعثيين.
وأنشئ بعدها مجلس رئاسي من أربعة رجال، برئاسة الفريق أمين الحافظ. كان الحافظ أحد مريدي عفلق، وبقي في منصبه حتى إطاحته، هذه المرة على يد صلاح جديد، في 23 فبراير/شباط 1966. ونُفي عفلق والبيطار، بينما أُرسل أمين الحافظ إلى السجن، حيث بقي حتى عام 1967. ثم نُفي إلى العراق فمنحه صدام حسين حق اللجوء. وكان صدام يقود الجناح العراقي من حزب “البعث” المنافس للبعث السوري، منذ 1968، في البداية بصفته نائب الرئيس في عهد أحمد حسن البكر ثم رئيسا اعتبارا من يوليو/تموز 1979.
صدّام والبعثيون السوريون
تأسس الفرع العراقي للحزب في وقت مبكر من عام 1951. وكما هي الحال في سوريا، جذب الحزب أعضاء من الطبقة الوسطى والجنود والضباط المتحمسين في الجيش العراقي. وفي فبراير/شباط 1963، شارك “البعث” العراقي في انقلاب أطاح عبد الكريم قاسم وقتله، ونصّب عبد السلام عارف رئيسا للبلاد.
وبينما لم يكن عارف نفسه بعثيا، كان رئيس وزرائه احمد حسن البكر عضوا في “البعث” العربي. وفي عام 1968، أصبح البكر رئيسا للعراق، وبقي في منصبه حتى أطاحه صدام حسين، الذي حكم حتى عام 2003. خلال تلك السنوات، كان صدام حريصا كلّ الحرص على الترحيب بالبعثيين السوريين الذين اختلفوا مع رفاقهم في دمشق. وكان من أبرز الأسماء في القائمة أمين الحافظ، الذي ظل في بغداد حتى عام 2003، وميشال عفلق، الذي استقرّ في البداية في بيروت، قبل أن ينتقل إلى العراق حيث استقبل على البساط الأحمر، وجرى الترحيب به باعتباره مؤسس الحزب الحاكم. وتزامن تكريمه في بغداد مع شطب رفاقه في سوريا اسمه من كل أدبيات “البعث”، فكأن الحزب لم يعرف رجلا اسمه ميشال عفلق. وحُكم عليه وعلى البيطار بالإعدام غيابيا بتهمة التآمر ضد الحزب الذي أسساه. أما البيطار فاختار باريس منفى دائما له، حيث قاد مجموعة من البعثيين المنفيين حتى اغتيل بالرصاص في عام 1980، بينما عاش عفلق بعده تسع سنوات أخرى.
كان صلاح جديد وطبقة الضباط مستائين من عفلق والبيطار. يصف الصحافي البريطاني باتريك سيل، في كتابه المؤثر “الأسد: الصراع على الشرق الأوسط” العلاقة بين الجانبين قائلا:
“لقد أدان (رجال الجيش) عفلق لكونه مستبدا متعاليا، ولأنه تخلى عن الحزب، وبسبب آرائه “اليمينية”، والحقيقة أن هوة عمرية وتعليمية واختلافا في نمط الحياة كانت تفصل بينهم. لقد كان عفلق والبيطار المولودان في المدينة والمترعان بمجد الشام وشكلياتها في الخمسينات من العمر، بينما كان الضباط أصغر منهما بنحو عقدين من الزمان، وكانوا من أبناء الريف، لا يزال تراب الأرض يعشعش تحت أظفارهم. وبينما كان الرجلان الأكبر سنا قد درسا في جامعة السوربون حيث قرآ الأدب والفلسفة الأوروبية، وتعلما التعامل مع الأفكار المجردة واستيعابها، كان العسكريون نادرا ما درسوا مواد ومقرّرات أبعد من التعليم الأساسي الثانوي في مناطق نائية إضافة الى التدريب العسكري. هنالك إذا فرق كبير بين الرجال الذين لم يستطيعوا أن يحترم بعضهم بعضا”.
في سبتمبر/أيلول 1970، اختلف عفلق مع مضيفيه العراقيين لتقصيرهم في مساعدة الفلسطينيين في حربهم مع الملك حسين عاهل الأردن. وضغط عفلق لصالح منظمة التحرير الفلسطينية، وحث الرئيس أحمد حسن البكر على التدخل العراقي المسلح لإنقاذ الفدائيين الفلسطينيين في عمّان. لكن البكر رفض إشراك قواته في المعركة، وفي حالة من الاشمئزاز، عاد عفلق إلى منفاه الاختياري في لبنان. وعندما اندلعت الحرب الأهلية اللبنانية في بيروت عام 1975، اضطر للعودة إلى بغداد وعقد سلاما مع صدام، وغالبا ما كان يُرى جالسا إلى يمينه في مناسبات الدولة، ويُعامل دائما باحترام شديد. خلال الحرب العراقية الإيرانية (1980 – 1988)، استخدم الإيرانيون وجود عفلق في بغداد لتشويه صورة صدام، زاعمين أنه وقع تحت تأثير “كافر مسيحي”، ما دفع صدام إلى الادعاء، بعد وفاة عفلق في 24 يونيو/حزيران 1989 بأن مؤسّس “البعث” قد اعتنق الإسلام.
وعندما أطيح نظام صدام في مارس/آذار 2003 ، تعرّض منزل عفلق في بغداد للهجوم والتدمير، وأُحرقت كتبه الثمينة التي تلخص عقيدة حزب “البعث”. ثم هدم قبر ميشال عفلق ولف تمثال له في بغداد بالعلم الأميركي قبل أن يسقطه الغوغاء.
المجلة