نقد ومقالات

من أين جاء بيكاسو بالتفاصيل غير المتوقعة في “غرنيكا”؟/ إبراهيم العريس

أبعد من المجزرة وأكبر من إدانة الحرب وجرائم الإنسان في حق أخيه الإنسان

اعتاد المهتمون بل حتى الجمهور العريض أن يجيب بشكل تلقائي على السؤال المتعلق بالمصادر التي استقى منها الفنان الإسباني #بابلو_بيكاسو ليس موضوع، وإنما التفاصيل التشكيلية التي عرف على أي حال كيف يحولها إلى موضوع، والمتعلقة بلوحته “#غرنيكا” التي باتت منذ عام 1937 تعتبر من أشهر لوحاته على الإطلاق وربما أقوى لوحة رُسمت عن حرب من الحروب.

فالجواب التلقائي والبديهي كان ويبقى: هل أتى الفنان بذلك كله من الواقع الحقيقي الذي أدمت أحداثه بلدة إسبانية صغيرة قصفت بأعتى أنواع الطائرات الحربية ليس من طريق الطيران الحربي المحلي الذي كان يريد “تأديبها” فإذا به يمحوها من الوجود غير تارك من يمكن تأديبه من سكانها المدنيين. فالفاشي فرانشيسكو فرانكو حليف أدولف هتلر وبينيتو موسوليني، لم يجرؤ على قصف مواطنيه وإن كانوا أشرس أعداء له في الحرب الأهلية التي كان الجمهوريون والديمقراطيون واليساريون يجابهونه فيها، فاستدعى حلفاءه ليقوموا بالمهمة القذرة مكانه. وهم قاموا بها على أشرس ما يكون بقصف إبادة لم يكن في وسع فنان حساس وملتزم كبيكاسو إلا أن ينفعل متأثراً بها. وهكذا ولدت لوحة “غرنيكا” ولادة “عفوية” حتى وإن كان التاريخ يقول لنا إن المسألة لم تكن عفوية إلى ذلك الحد.

الفن والمأساة

فالذي حدث حينها هو أن الحكومة الشرعية الجمهورية الإسبانية، التي كان فرانكو وفاشيوه قد انتفضا عليها، قد دعت في يناير (كانون الثاني) من عام 1937، وإبان احتدام الحرب الأهلية في إسبانيا، بابلو بيكاسو لكي يسهم في تحقيق لوحة ضخمة تستخدم لاحقاً في تزيين الجناح الإسباني في المعرض الدولي في باريس، وهو معرض كان سيقام خلال صيف ذلك العام بالذات، في ذلك الحين كان بيكاسو وصل إلى ذروة مجده، وبات الظل المهيمن على معظم الحركة التشكيلية في العالم، كما كانت مواقفه التقدمية تعتبر قدوة للفنانين الآخرين، خصوصاً أنه، على رغم صعوبة قراءة لوحاته، كان ينظر إليه على أنه “الفنان الشيوعي المميز الذي عرف كيف يربط الفني الجمالي بما هو اجتماعي”. وفي إسبانيا كان بيكاسو آلَ على نفسه أن يحقق، على رغم ما يحدث، لوحة ضخمة تكون بعيدة كل البعد عن السياسة، فهو بعد كل شيء أراد أن يأخذ حريته التعبيرية، مقابل قبوله بأن يحقق عملاً أوصى عليه آخرون، وهو ما كان يرفضه دائماً، لمجرد أنه مناصر للجمهوريين الإسبان.

وهكذا كان المشروع الذي أعده يتمثل في لوحة، حققها لاحقاً على أي حال، عن موضوع الفنان في محترفه. ولكن فجأة، وهو في خضم تحقيقه لمشروعه، كان هناك قصف الطائرات الألمانية، المؤيدة لفرانكو، لبلدة “غرنيكا” الإسبانية الصغيرة، ما أوقع أعداداً كبيرة من القتلى والجرحى، ودمر المدينة في شكل اعتبر لاحقاً رمزاً لدمار البراءة على أيدي القوى الهمجية، وكذلك للدمار الذي تحدثه الحروب في شكل عام.

ثم عادت إلى الوطن

وإزاء هذا الواقع الجديد، الذي عايشه بيكاسو معايشة مباشرة، لم يعد في إمكان الفنان أن يرسم محترف الرسام، ولا أن يرسم المطر والشجر والوجوه الحسنة، فيما البراءة تدمر على ذلك النحو. ومن هنا، بدل بيكاسو من مساره بسرعة شديدة، وأعطى نفسه أسبوعين أو ثلاثة، ليطلع من ذلك كله بتلك اللوحة الضخمة التي تحمل، في كل بساطة، عنوان “غرنيكا” ولا يقل عرضها عن 7.7 متر وارتفاعها عن ثلاثة أمتار ونصف المتر. منذ أنجزت هذه اللوحة وعرضت، ثم بعد نقلها إلى نيويورك حيث بقيت هناك أكثر من 40 عاماً، لتعود بعد ذلك إلى إسبانيا وتعلق الى الأبد فيها في متحف “برادو” في مدريد، صارت هذه اللوحة، أشهر الأعمال الفنية في القرن العشرين، وواحدة من أروع الأعمال في تاريخ الفن قاطبة.

عناصر التشكيل الأساسية

في هذه اللوحة العرضية، التي لم يستخدم فيها بيكاسو سوى الأسود والأبيض والرمادي، مع بعض اللمحات الصفراء، لم يشأ بيكاسو، كما سوف يقول بنفسه لاحقاً، أن يصور الحرب “ذلك أنني لست من ذلك النمط من الفنانين الذين يهرعون، مثل أي مصور فوتوغرافي، بحثاً عن موضوع يصورونه. ومع هذا، ليس ثمة أدنى شك في أن الحرب حاضرة في هذه اللوحة، كما في كثير من اللوحات الأخرى التي صورتها في ذلك الحين. ومن المؤكد أنه سوف يأتي يوم يبرهن فيه مؤرخ ما على أن أسلوبي الفني كله قد تغير على ضوء أحداث ذلك الزمن”.

خلال الأسابيع الثلاثة التي انكب فيها بيكاسو على تصوير هذه اللوحة، حقق كثيراً من الرسوم والسكتشات التحضيرية، وكان همه أن يطلع من ذلك كله بمجموعة من الرموز التي يمكن للوحة أن تضمها حيث لا تكون اللوحة مجرد حديث عن حادث معين حدث في لحظة معينة، بل تتجاوز هذا لتشمل جزءاً من تاريخ إسبانيا كله.

ومن هنا نلاحظ في “غرنيكا” الوجود الملموس للثور والحصان، للنار وللموت، للضوء، للعبة النور والظل، للصفحات المكتوبة، أي لكل تلك العناصر التي مزجها بيكاسو في بعضها البعض لتشكل في نهاية الأمر هذا الموزاييك الهائل من الأشخاص والكائنات الأخرى التي تكشف المعاناة القاتلة الناتجة عن انتصار الثور “كرمز للقوى الغاشمة العنيفة”، وتكشف في المقابل عن معاناة الحصان مع اشرئباب إلى الأعلى (كرمز على المقاومة وعلى رغبة الشعب في تخطي ما حدث له”، أن العتمة مخيمة على اللوحة، ولكن النور لا يزال هناك لم ينطفئ، والألم والموت مخيمان على شخصيات اللوحة، ولكن من كل جثة وموت تنهض حياة.

موقف من صحافة ذلك الزمن

وفي المحصلة النهائية، من الواضح أن بيكاسو إنما شاء أن يترجم على هذا المسطح، ما كان صاغه، لغة، قبل ذلك بأيام حين نشر نصاً عنوانه “حلم فرانكو وأكاذيبه”، وفيه يقول “صراخ أطفال، صراخ نساء، صراخ طيور، صراخ زهور، صراخ قطع خشب، صراخ حجارة قرميد، صراخ الأثاث والأسرة والمقاعد والستائر والأوعية والقطط والأوراق، صراخ الروائح الصاخبة والدخان اللاذع في العنق، صراخ يطبخ في المدفأة، وصراخ مطر العصافير التي تملأ البحر”. ومن الواضح هنا أن لوحة “غرنيكا” إنما أتت لتصور هذا كله، ما جعلها، على رغم بعدها الذاتي المرتبط بأساليب بيكاسو وفنه ككل، تنتمي إلى ذلك النمط من “الأعمال الفنية التي كان ذلك الزمن لا يزال قادراً على السماح بها” كما يقول الباحث الألماني أنغوف والتر، في دراسة كتبها عن بيكاسو، وركز فيها في شكل خاص على العلاقة التي قامت دائماً، بين بيكاسو والسياسة. ومهما يكن هنا، فإن ما هو على المحك و”الجديد” إنما هو التحليل الذي جاء به قبل نحو 50 عاماً الباحث الفرنسي في الفنون التشكيلية جان- لوي فورنييه في كتاب أصدره عام 1978 حيث يورد من المعلومات حول لوحة “غرنيكا” ما يعطيها خصوصيات عدة من أهمها تلك العلاقة النقدية تحديداً، التي عبر عنها بيكاسو بين الفن التشكيلي والصحافة، وتحديداً هنا الصحافة الفاشية، صحيفة “هذا المساء” المؤيدة لفرانكو، المستعملة عبر “كولاج” لافت كجزء من العناصر التشكيلية للوحة، لا سيما باستخدامه ما يبدو أنه خطوط تعبر عن سطور الصحيفة ولكن في بعد انتقادي يكاد يكون تصويراً لموقف نقدي من تعامل الصحافة مع الحدث تعاملاً “استعراضياً” و”خاوياً من أي معنى لتعاطف إنساني”!

“لست ما تعتقدون”

غير أن الفنان الذي لم يحتج إلى أكثر من ثلاثة أسابيع لينجز رسم أكثر من 25 متراً مربعاً تستلهم المشهد المريع، بل لينجز كذلك عشرات الرسوم التمهيدية، التي مهدت للتعبير التشكيلي ليس فقط عن المشهد الواقعي، بل عن مخزون ذاكرة بيكاسو، في ما يخص استلهام هذا الفن لكوارث التاريخ كما عبر عنها رسامون من الماضي استخدموا في لوحات لهم مجموعة من العناصر التشكيلية كالأحصنة المنفلتة والتعبير عن المجازر والغضب والوحشية وما إلى ذلك (من لوحات لجيرودو وبرودون، إلى مشاهد واقعية عن محاولات الإنسان– إيكاروس- التحليق في الفضاء والكوارث التي نتجت عن ذلك، مروراً بمنحوتة بارتولدي القائمة عند المدخل البحري لنيويورك، وحريق بورغو لرافائيل، ومذبحة الأبرياء لغويدو ريني)، وكأن الفنان قدم هنا نوعاً من أنطولوجيا للكوارث التي تسبب بها الإنسان.

وبهذا لا شك أن مؤلف هذا الكتاب إنما يجعل منه دعوة للنظر إلى “غرنيكا” نظرة جديدة تقول بلسان اللوحة: لكنني لست فقط ما تعتقدون!

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى