عيد نيروز دام في شمال سوريا – مقالات مختارة-
كي لا يكون دمٌ كرديٌ بدمٍ عربيٍ/ عمر قدور
صار معروفاً على نطاق واسع أن عناصر من فصيل المعارضة “أحرار الشرقية” ارتكبوا جريمة بشعة عشية عيد النوروز، عندما قتلوا أربعة من عائلة واحدة في جنديرس لأنهم كانوا يشعلون النار التي تعدّ ركناً أساسياً من طقوس ليلة العيد. بعد يومين فقط، استهدفت قوات الأسايش الكردية مراهقاً عربياً يقود دراجة نارية في مدينة “الطبقة”، مخالفاً بذلك تعليمات تمنع مرور الدراجات النارية في الشارع الذي يتمركزون فيه.
القتلى الأكراد الأربعة من عائلة عثمان “المعروفة أيضاً بلقب بشمرك” قضوا برصاص عناصر الشرقية، والمراهق محمد ماجد الصالح تلقّى ثلاث رصاصات في ظهره. قد يُقال أن الحادثة الأولى سياسية بامتياز، لأن الدافع فيها منْع احتفال رمزي قومي، بينما الحادثة الثانية “فردية”، فيها في أقصى الأحوال تعسّف في تنفيذ قرار “إداري-عسكري”، والمراهق الضحية لم يُقتل لأسباب عرقية. لكن حتى إذا كان هذا المنطق يحتمل الصواب فهو غير كافٍ لأنه لا يواجه حساسية مقتل أكراد بأيد عربية، ومقتل عربي بأيد كردية، وآثار الحادثتين على الجانبين.
كي لا يكون هناك اختباء وراء الشكليات؛ يوحّد بين الحادثتين استسهال القتل، وفيهما تمّ استخدام الرصاص بقصد القتل لا بقصد التخويف مثلاً. بالطبع، قتلُ أربعة أفراد من عائلة واحدة فيه ما لا يحتاج إلى شرح لجهة القتل المتعمد، وفي حالة ذلك المراهق لا يمكن أن يُصاب بثلاث طلقات في الظهر لو لم تكن النية قتله؛ كان يمكن لو توفرت نية أقلّ أذى أن تُستهدف ساقاه، وإذا كان لا بد أصلاً من استهدافه لا يصعب التصويب على دولابي الدراجة النارية وإيقاعه مع ترك احتمال لنجاته. نذكّر بأن جهات حفظ الأمن في العالم غير مخوّلة بإطلاق النار بقصد القتل، إلا عندما تتعرض لهجوم من الطبيعة ذاتها، وعندما يعمد المهاجم المسلّح إلى استخدام سلاحه ضدها أو ضد الذين تتوجّب حمايتهم.
مثالُ المراهق القتيل ليس الأول من ضمن الانتهاكات المنسوبة إلى المنظومة الأمنية-العسكرية للإدارة الذاتية في حق السكان العرب، يُضاف إليها العديد من انتهاكات حرية الرأي أو غيرها راح ضحيتها أكراد وبقي الفاعل مجهولاً، أو معلوماً وبلا حساب. الحال أسوأ بكثير في مناطق سيطرة الفصائل المعارضة، وعفرين “التي تتبع لها جنديرس” لاقى سكانها الأكراد أكبر نصيب من الأهوال منذ احتلتها تركيا قبل خمس سنوات. لكن استباحة السكان الأكراد على هذا النحو ينبغي ألا تغطي على سلوك الفصائل الذي لا يستثني العرب من الانتهاكات، في أرواحهم أو أرزاقهم، ولا يستثني الطبيعة التي تعرّضت لتدمير واسع خاصةً بغرض تحطيب الأشجار وجني أرباح ضخمة من بيع الخشب للتدفئة.
أثارت حادثة جنديرس استنكاراً واضحاً بين معارضين عرب على وسائل التواصل، حتى إذا بقي دون الانتشار المأمول، بينما لم يلقَ المراهق القتيل في “الطبقة” تعاطفاً كردياً، ولو ضمن الحد الأدنى، باستثناء أصوات مبعثرة قد لا تتجاوز أصابع اليد. لا نريد بهذه المقارنة إعطاء أفضلية للمعارضين العرب، فما صدر عنهم من إدانات هي خطوة في الاتجاه الصحيح ليس إلا، أما تقصير نظرائهم الأكراد تجاه انتهاكات الإدارة الذاتية فهو استنكاف عن أقل ما يمكن فعله.
في حادثة قتل المراهق مثلاً، يتدنى رد الفعل المأمول من قبل ناشطين أكراد إلى حد الاعتراف بالحادثة وعدم تجاهلها، والمطالبة بالتحقيق فيها. هذا حدٌّ دون السياسة واصطفافاتها، وفيه رفض لمبدأ الانتهاكات نفسه كي لا تحدث في حق الأكراد الخاضعين للإدارة الذاتية. أيضاً، ردّ الفعل هذا مطلوب لأن الذي يتجاهل حادثة القتل كمن يطلق النار على قدميه أو رأسه، فهو يبرر لأولئك العرب الصامتين على جريمة جنديرس، وهو ضمناً كمن يضع جريمة مقابل أخرى، ودماً بدم، ليكون القتلة متساويين على الجانبين.
حتى إذا لم يحدث هذا علناً، لا يُستبعد النظر إلى مقتل المراهق كعمل ثأري، ومبررٍ بناء على ذلك، ثم يُبنى على التبرير تبرير آخر لعدم محاكمة القتلة في جنديرس. وهكذا تؤسس الجريمة الحالية لثأر لاحق، ويبرر القتلة من كل طرف أفعال القتلة من الطرف الآخر، بينما ينشغل الضحايا في جدال مَن منهم كان الضحية الأولى، ومظلومية مَن منهم لها الأولوية على مظلومية الآخر.
كسْرُ هذه الحلقة الدموية، على صعيد قوى الأمر الواقع، يقع على عاتق القوة التي ترى نفسها الأفضل، أو تلك التي يُنظر إليها بوصفها الأقل سوءاً. فإذا كانت الإدارة الذاتية ترى نفسها في هذا الموقع فهي الأولى بأن تقدّم النموذج الأفضل، وأن تحاسب أي مرتكب على انتهاكاته، من دون تمييز بين الضحايا. وهي، إذا فعلت ذلك، لا تكسر حلقة الثأر والثأر المضاد فحسب بل تقدّم النموذج المطلوب كي لا تكون سوريا بأكملها أرضاً للإفلات من العقاب. النموذج الأفضل مطلوب أيضاً من أولئك المواظبين ليل نهار على تكرار اتهام قسد بأنها إرهابية وانفصالية، ولا يجدون أنفسهم مطالبين بتقديم تجربة وطنية فيها حدّ أدنى من العدالة واحترام الحريات الشخصية والعامة.
وإذا كان من السذاجة توقّعُ أن تفعل سلطات الأمر الواقع ما لم تفعله خلال عشر سنوات، فإن من المهم في هذه الظروف أن يبادر مَن هم خارج تلك السلطات إلى التبرؤ من انتهاكاتها، لأن الصمت عليها يؤوَّل على نطاق واسع بأنه موافقة وتشجيع. لا تتعلق إدانة الجرائم “والمنطق الثأري من ورائها” بالأخلاق وإنما بالسياسة أولاً، إذ لن ينجو أحد بخطاب الكراهية والتحريض، وواهم من يظن أنه سينتصر عاجلاً أو آجلاً بمزيد من الدماء، أو بمزيد من التطرف والعنصرية.
يستطيع عرب وأكراد خارج تلك السلطات الشروع في تقديم نموذج مغاير لها، يعزلها تدريجياً أو يدفعها إلى تغيير نهجها. ومن شروط ذلك ألا ينتظر طرفٌ المبادرةَ من الآخر، أو يلومه لأنه لا يبدأ بها، وألا يشترط طرف الحصول على نتائج فورية لمبادرته من الطرف الآخر، فالتخلي عن خطاب التحريض والثأر ليس في الأصل هبة تقدَّم للآخر، بل يُفترض أنه لأجل أصحابه أولاً. كذلك هو حال الاعتراف بحقوق غير منقوصة للآخر، إذ يُفترض ألا يكون مشروطاً. قد يبدو هذا صعباً أو مستحيلاً، إذا تناسينا أن العرب والأكراد يعيشون في أسوأ الأحوال، وأن الطرفين مهدَّدين بالتحسر على هذا الزمن المضيَّع
المدن
————————-
جريمة جنديرس والتهرب من المسؤولية/ بكر صدقي
بلدة جنديرس في ريف مدينة عفرين كانت إحدى أكثر المناطق تضرراً من الزلزالين المدمرين اللذين ضربا مناطق واسعة في جنوب شرق تركيا وشمال سوريا، فقتل عدد كبير من سكانها وتدمرت معظم مبانيها. ولم تكد البلدة تضمد جراحها حتى جاءت الجريمة البشعة بقتل 4 أفراد من أسرة واحدة من سكانها عشية يوم النوروز التي اعتاد الكرد الاحتفال به كل عام منذ قديم الزمان.
كانت الأسرة توقد النار إيذاناً بقدوم «اليوم الجديد» وإذ بعدد من الشبان المسلحين يقومون بإطلاق النار عليهم في مقتل فيقتلون أربعة أشخاص دفعة واحدة فيما وصفه الأهالي محقين بالمجزرة. الفصيل العسكري المسمى «جيش الشرقية» ومظلته السياسية المسماة «حركة التحرير والبناء» يسارعان للتنصل من المسؤولية عن الجريمة بدعوى أن القتلة «ليسوا مسجلين ضمن قوائم الفصيل»! وإنما يستظلون بمظلته. التفسير الذي يقدمه الناطق باسم جيش الشرقية معبر حقاً، فهو يقول إن هناك مدنيين يحملون السلاح ويستظلون بالفصيل للاستفادة من بعض التسهيلات، ومن جبي المال على المعابر وغير ذلك. هذا يعني أن جيشاً من المجرمين يرتكب ما يشاء من جرائم من غير أن يحاسبه أحد، وقبل أي جهة أخرى الفصيل نفسه الذي يسمح بهذا التسلح بين مدنيين لهم مصالح وأهواء. ثم تأتي مسؤولية قيادتهم السياسية في «حركة التحرير والبناء» التي لم تردع جرائم سابقة ارتكبها عناصر الفصيل أو مستظلون بمظلتها ومسلحون بسلاحها. ثم تأتي مسؤولية ما يسمى «الجيش الوطني» الذي شكلته تركيا وتدفع رواتب مسلحيه، وتالياً مسؤولية تركيا نفسها التي غزت ثلاث مناطق سورية بدعوى محاربة القوات الكردية، وسلمتها لفصائل مسلحة كانت، قبل سنوات، تقاتل النظام في إطار الثورة السورية، ثم تحولت إلى مجموعات من المرتزقة تفرض إجرامها على مناطق لا تملك فيها أي حاضنة شعبية. منطقتي عفرين و«نبع السلام!» من بين المناطق التي تسيطر عليها تركيا هي مناطق ذات غالبية سكانية كردية، كانت قبل الغزو التركي محكومة من «قوات سوريا الديمقراطية» ثم جاءها غزاة الفصائل الذين عرف عنهم السلب والنهب والخطف بغاية طلب الفدية وقتل المدنيين وغيرها من الأحداث الإجرامية التي كنا نسمع عنها بصورة متواترة.
الأصل في جريمة جنديرس إذن هو الغزو العسكري التركي وغزو فصائل السلب والنهب للمنطقة واستعبادها لمن تبقى من سكانها بعد تهجير الآلاف فيما استحق وصفه بالتهجير الديموغرافي.
غير أن فظاعة الجريمة لا تقتصر على قتل مدنيين عمداً على يد مسلحين، بل تتجاوزها إلى دوافع الكراهية العنصرية الكامنة وراءها. فالضحايا قتلوا لأنهم كرد، لا لأي سبب آخر. تذرع القتلة بإشعال الضحايا للنار في ليلة نوروز هو عذر أقبح من الذنب، فنار نوروز هو رمز هوية للكرد، يزيد من مسؤولية القتلة والجهات التي يستظلون بها، لأنها تؤكد على استهدافهم العنصري، فقد كان يمكن للضحايا أن يكونوا من أسرة أخرى أو مجموعة أخرى من المدنيين الكرد بلا أي تشخيص. هذا فظيع، ولا تكفي معاقبة القتلة كأفراد عقاباً على ما فعلوه. لقد عبرت جموع المشيعين في اليوم التالي عن غضبها، كما عن مطلبها الواضح المحق في وجوب انسحاب جميع الفصائل المسلحة من مناطقهم. هذا أقل ما يمكن من أجل ضمان عدم تكرار جرائمهم. كما طالبوا بدخول «بيشمركة روج» إلى مناطقهم، وهو فصيل من الكرد السوريين ممن انشقوا عن جيش النظام ومن الشبان الذين ثاروا في مناطقهم ضد نظام الأسد، دربتهم قوات بيشمركة بارزاني في إقليم كردستان، ومنعت «قوات سوريا الديمقراطية» دخولهم إلى الأراضي السورية. هذا المطلب يشير إلى أن سكان المنطقة يثقون بأبناء جلدتهم وبقدرة هؤلاء على حمايتهم، بدلاً من المسلحين الذين فرضوا عليهم على مرحلتين: الأولى فترة سيطرة الوحدات الكردية التي حكمت تلك المناطق بقوة السلاح والتسلط، والثانية هي فترة ما بعد الغزو التركي الذي جلب معه فصائل المرتزقة إلى المنطقة فعاثت فساداً وإجراماً طوال السنوات السابقة، ليس في المناطق الكردية وحدها بل كذلك في منطقة «درع الفرات» شمال حلب حيث غالبية سكانية عربية. واللافت أن القوات التركية الموجودة في المناطق الثلاث لم تفعل شيئاً لضبط هذه الفوضى الأمنية، مع أن كل جريمة يرتكبها هؤلاء المسلحون تحسب على تركيا بوصفها القوة المسيطرة هناك. فقط حين اندلعت الحرب، قبل سنتين، بين بعض تلك الفصائل و«هيئة تحرير الشام» التي يقودها أبو محمد الجولاني تدخلت تركيا وفرضت على الفصائل أن تتوحد في إطار أسمته «الجيش الوطني»! بعد ذلك عادت الأمور إلى ما كانت عليه واستمرت الفوضى الأمنية والجرائم بحق السكان.
كان لافتاً أن «هيئة تحرير الشام» حضرت مباشرةً بعد مجزرة جنديرس، ووعد الجولاني أهالي الضحايا بالاقتصاص من القتلة، كما سيطرت قواته على بلدة جنديرس بدون قتال بعدما فر منها مسلحو «جيش الشرقية» في توكيد جديد على ما دأب الجولاني على إظهاره من «سلوك مسؤول»! فمعروف أن الرجل يعتبر نفسه «دولة» تتدخل قواته لحماية السكان من فوضى السلاح والإجرام!
مطالب المشيعين لضحايا الجريمة لن تتحقق على الأرجح، ما لم تتخذ القيادة التركية قراراً بسحب مسلحي الفصائل من جميع مناطق سيطرتها، ليس فقط مسلحي «جيش الشرقية» المسؤول المباشر عن الجريمة الجديدة، بل كل مكونات «الجيش الوطني» التي لا تقل إجراماً. ويحمّل قرار من هذا النوع القوات التركية مسؤولية مباشرة عن أمن السكان.
الرحمة لأرواح شهداء جنديرس والعزاء لأهلهم.
كاتب سوري
القدس العربي
———————-
جنديرس الكردية من كارثة الزلزال إلى “جريمة الكراهية”/ شفان ابراهيم
“ما حصل استهداف لهم ولكل الكرد، بخاصة أن كل أهالي الخيم يشعلون النار بسبب البرد أمام خيمهم ولم يطالب أحد بإطفائها، عدا أن هذه القضايا من تخصُّص الأمن الداخلي-الشرِطة، ولا علاقة للفصائل المسلحة بها”.
لم تنم مدينة جنديرس وعموم الكرد في ليلة 20 مارس/ آذار على وقع جريمة قتل أربع أشخاص من عائلة “بشمرك” وجرح آخر وضعه خطير، المتهمون ثلاثة أشخاص ينتمون إلى فصيل “جيش الشرقية” التابع “لحركة التحرير والبناء” المنضوية في “الجيش الوطني السوري”.
يمكن تلخيص موقف أهالي المنطقة الكُرد من الجريمة بعبارة قالها أحد أقرباء العائلة، خالد عثمان (52 عاماً)، الذي أكّد لـ”درج” :”لم نضع الخيمة للعزاء، بل خصصناها لاستقبال المعتصمين والمطالبين بالمحاسبة”.
تبدو الجريمة استهدافاً للهوية الكردية، ويمكن تصنيفها كجريمة كراهية، إذ يصف المتخصص في القضايا الجنائية كمال طلاع (57 عاماً) ما حدث قائلاً: “إطلاق النار لم يكن رشاً أو عشوائياً، إنما تقصّد المتهمون القتل برمي الضحايا بالرصاص دراكاً، أيّ طلقة طلقة”. هذه العمديّة في “القتل” لا تندرج تحت الخطأ، وتجعل العدالة مطلباً ضرورياً، إذ يقول خالد لـ”درج”: ” لا نطالب بأكثر من العدالة والقصاص من الجناة، لن نصالح ولن نقبل أيّ فدية أو اعتذار، طفح الكيل بهم وبجرائمهم، خمس سنوات ونحن تحت نيران العبودية والظلم، خطفٌ وقتلٌ وابتزاز وفرض ضرائب وسرقة أرزاقنا، ليصل بهم الحال الى قتل الأبرياء فقط لأنهم أشعلوا ناراً احتفالاً بقدوم عيد النوروز، هؤلاء يقولون لنا إن الظلم سيبقى دوماً وأبداً على رؤوس الكرد، لن نسامح أبداً”.
تفاصيل الجريمة
تشير التفاصيل التي حصل عليها “درج” عبر تواصله مع مجموعة ناشطين وشهود عيان، الى أن عائلة كردية أوقدت النار قرب منزلها المتهاوي احتفالاً بعيد النوروز، مرت بعدها دورية مؤلفة من ثلاثة عناصر طلبوا من العائلة إطفاء النار، وتلفظوا بعبارات مُهينة مثل “من أنتم”، ثم رددوا بعدها عبارات مثل “إنهم عبدة النار، كفار، مجوس، طقوس النوروز مخالفة لشرع الله”، وبعد رفض العائلة الأوامر، حصلت مشادة كلامية بين الطرفين أطلقت فيها الدورية النار بشكل مباشر على المحتفلين، ما أدى الى مقتل أربعة وجرح آخر بإصابات بليغة.
يصف الناشطون الذين تواصل معهم “درج”، دوافع الجريمة بالقومية والعنصرية، وبأنها نابعة من “الحقد تجاه الكُرد”، فهذه النار أوقدت قبل 2800 عام، بداية رأس السنة الكردية، ومنذ ذلك الوقت، يتعرض الكرد لكل أنواع المضايقات، وهؤلاء أكملوا دورة القصاص من الكرد، فقتلوا المحتفلين رفضاً لإشعالهم نار الكرد والنوروز.
يرفض حسان زاده (62عاماً)، من وجهاء أهالي عفرين، ما نُشر على صفحات “جيش الشرقية” حول “غياب أي دوافع كراهية أو انتقامية على خلفيات دينية قومية”، إذ يؤكد أن النار كانت صغيرة في “منقل شواء”، وبعيدة من مكان الخيم التي تدّعي الفصائل أن القتلة خافوا من انتقال النار إليها، وأيضاً ما علاقة انتقال النار بعبارات “عيد النوروز شرك بالله وكفر به” و “النوروز هو عيد المجوس والمرتدين عن الإسلام”؟!
يضيف زاده :”هذه العائلة معروفة بنضالها القومي الكردي، وسُميت بالبشمركة نتيجة انخراط قدامى العائلة ضمن صفوف الحركة الكردية، وأمانتهم في العمل وصدقهم في التعامل، ما حصل استهداف لهم ولكل الكرد، بخاصة أن كل أهالي الخيم يشعلون النار بسبب البرد أمام خيمهم ولم يطالب أحد بإطفائها، عدا أن هذه القضايا من تخصُّص الأمن الداخلي-الشرِطة، ولا علاقة للفصائل المسلحة بها”.
ينتمي مرتكبو الجريمة إلى “جيش الشرقية”، من دون تقييدهم في قوائمه، إنما بشكل خارج الوثائق، فلكل فصيل مجموعة مسلحة يختلف عدد أفرادها من فصيل إلى آخر وفقاً لميزانية كل طرف وحجم استفادته من الضرائب والحواجز والمعابر، ووفقاً لــ”كمال طلاع” هم “يُشكلون كارتيلات للسلطة، يستفيد منها الجيش الوطني بزيادة المنتسبين إليها وتنفيذ أي عمليات عسكرية، والفصائل أيضاً تستفيد منهم في عمليات خاصة مثل السرقة والنهب والتصفيات، وما حصل في جنديرس جزء من تلك التصرفات التي لم يعد بالإمكان الصبر عليها”. يختم زاده حديثه، “لا أخلاق ولا معايير ولا قيم لهم، في الصباح جاؤوا إلى أحد الأفران التي دشنتها مؤسسة البارزاني الخيرية، وطلبوا الخبز بالمجان متذرعين بعدم امتلاكهم المال، وحصلوا على ما أرادوه، وفي المساء قتلونا، هذه هي تربيتهم الأمنية والعسكرية”.
الكُرد ينتفضون
“رداً على عملية القتل، ألغينا مظاهر الاحتفال بعيد النوروز في عموم عفرين، وتجمعنا أمام دار الشهداء، وبعد رفض المستشفى العسكري، حصلنا على الجثامين عنوة، وحولنا التشييع إلى تظاهرة عارمة، رفعنا فيها شعارات واضحة مثل، عفرين حرة حرة فصائل يلطع برا، وخمس سنوات حاجة ظلم، وآزادي آزادي-حرية حرية، نريد حماية دولية، نريد أن تحكمنا البشمركة وليس هؤلاء المرتزقة”، هكذا يصف الناشط كمال إدريس (35 عاماً) من أهالي جنديرس مظاهر الاحتجاج، ويضيف: “خرج معنا عدد غير قليل من باقي المكونات والنازحين إلى عفرين، شهدنا تعاطفاً وتضامناً واضحين من قنوات إعلامية وناشطين وإعلاميين، لكن هذا غير كافٍ، لن يُبرد دماءنا وقلوبنا المحترقة إلا القصاص العادل، مطلبنا هو العدالة، ولا مجال للالتفاف عليها أو وصفها بالمشاجرة أو سوء الفهم، هو فعل القتل المباشر ولا توصيف آخر مقبول بالنسبة إلينا”.
تمكّن “درج” من التحدّث إلى شقيقة الشهداء، التي اشترطت تسميتها بــ”أم الشهداء”، إذ قالت: “خلقنا الله أكراداً، ماذا نفعل، هل نموت قتلاً، ما ذنبنا أننا كُرد، هل يجب أن نموت دوماً، لا شيء يشفي أوجاعي على أخوتي سوى القصاص العادل منهم، كانوا ثلاثة قتلوا أربعة من عائلتي، يجب أن يُعدموا هم الثلاثة أيضاً، لن نقبل أن يذهب دمنا هدراً، قتلوا رجالنا بدمٍ بارد وكأنهم ينحرون الخِراف”، وأضافت: “ياليتهم ماتوا بالزلزال، وليس بيد هؤلاء المجرمين، كان الأمر أهون أن يقتلونا بسبب نار النوروز، أتذكر حين كان أنين أبنائنا تحت أنقاض الزلزال يصدح في كل مكان، كانوا يقولون إنهم خنازير اتركوهم للموت”. واختتمت حديثها عبر الهاتف قائلة: “خمس سنوات وهم يقولون عنا أولاد الجن والنار، المجوس والكفرة، الملحدين، النساء السافرات العاريات، وهذه الجريمة يجب أن تكون آخر المجازر وبداية الخلاص منهم، يجب أن يخرجوا من ديارنا”.
الجولاني على خط الجريمة
يخشى أهالي عفرين من أن يسعى الجولاني وجبهة النصرة الى استثمار الجريمة، وتقديم أوراق اعتمادهم لإدارة المنطقة، وهذا ما اتضح من حديث الجولاني مع أهالي الضحايا في معبر أطمة، وفق ما وثقته عدسات الصحافيين، في رفض نائب رئيس الائتلاف السوري المعارض وعضو المكتب السياسي للحزب الديمقراطي الكردستاني-سوريا، الدكتور عبد الحكم بشار، عبر منشور على صفحته في “فايسبوك”، دخول الجولاني على الخط، إذ كتب ما مفاده أن الجريمة تدفع بسكان المنطقة من الكرد الى قبول حكم أي جهة تضمن لهم الأمن والاستقرار، بمن فيهم حكم الجولاني المصنف على لوائح الإرهاب. على الجهات التي تحكم عفرين الكف عن حديث المؤامرات، الذي هو جزء من منطق النظام وأسلوبه ونمط تفكيره، عليها ضمان أمن الناس وحمايتهم وحماية ممتلكاتهم، وضمان حرية الرأي والتعبير وإخراج المسلحين والسلاح من المدن، وتوفير قضاء عادل وحوكمة رشيدة وعادلة تسهر على أمن الناس وتوفير الخدمات لهم، حينها تنتفي كل المؤامرات وتتجسد قيم الحرية والعدالة والمساواة، ولن يبقى للإرهابيين موطئ قدم فيها.
وقال عضو في تجمع ناشطي الثورة في عفرين، طلب عدم الكشف عن اسمه نظراً الى الوضع الأمني فيها : “بات من الصعب تأكيد الجهة التي سيؤول إليها حكم المنطقة، فالكرد لن يتراجعوا عن مطلب القصاص وإخراج الفصائل من المدن، على رغم تعهد الفصائل المسلحة بالقصاص من القتلة، والجولاني أيضاً تعهد بالمحاسبة، ووزارة الدفاع والعدل في الحكومة السورية أيضا قالت وتعهدت إنها ستحاسب القتلة، مع تزايد حدة الإدانات الإقليمية والمحلية ضد الجريمة، خصوصاً أن الكرد يرفضون أي شكل من أشكال إدارة جبهة النصرة أو غيرها لمناطقهم، لكن هول الفواجع التي تقوم بها الفصائل المسلحة، يُخشى أن يدفع بهم الى قبول أيّ جهة تؤمن لهم الخلاص”.
تواصلت درج مع وزارة الدفاع وشخصيات من الشرطة العسكرية في جنديرس لكن لم تحصل على أي إجابات حول مصير المجرمين بعد اعتقالهم
غضب على وسائل التواصل الاجتماعي
توالت بيانات الإدانة والاستنكار حول الجريمة، فالمجلس الكردي قال في بيانه، “إن قيام عناصر هذا الفصيل بهذه الجريمة الإرهابية الجبانة والقذرة، يدل ليس فقط على تنكّر هؤلاء لكل القيم التي خرج من أجلها السوريون وقدموا التضحيات الجسام بل العمل ضدها، مطالباً بتقديمهم الى محكمة دولية، وبإدانة تركيا هذا الفعل الإرهابي وإخراج الفصائل من المدن، والمجتمع الدولي بإدانة ا(لمجزرة) وتصنيف هذا الفصيل بالإرهابي ومحاسبته”.
وأصدر رئيس حكومة إقليم كردستان العراق السيد مسرور البارزاني بيان إدانة حول الجريمة، دعا فيها الى محاسبة الجناة وتقديمهم الى العدالة. كذلك، أصدرت “جبهة السلام الحرية”، وهي تجمع سياسي مكون من أطراف كردية وعربية وسريانية، بيانات إدانة طالبت فيها بالمحاسبة والقصاص العادل. كما وصفت وزارة الدفاع في الحكومة السورية الموقتة ما جرى بـ” جريمة كراهية تمت تغذيتها بمخلفات الفكر العنصري والعقلية البعثية الإقصائية”.
من جهته، نشر الإعلامي السوري جميل الحسن، منشوراً قال فيه، “لا علاقة لنا بفصائل المجرمين. هذه الثورة لنا كلنا كشعب ضد المجرمين. نعم سيحتفل الكرد بطقوسهم في النوروز وإشعال النار، لا علاقة لأحد بهم، يجب أن يحاسب الجناة، يجب أن نقف مع الشعب الكردي”.
ونشر الفنان السوري عبد الحكيم قطيفان عبر صفحته على “فايسبوك”، تسجيلاً تضامنياً مع أهالي الضحايا، أكد فيه “أننا أمام جريمة مروعة قذرة مدانة، الذين ماتوا كانوا يحتفلون بعيد النوروز عيد الولادة والجمال والعطاء، على أيدي حفنة من السفلة وعديمي الأخلاق والتربية والقيم والوطنية والتربية، لذلك أطالب بالمحاكمة السريعة وكشف ماذا إذا كان هذا سلوكاً أرعن أزعر أم ثمة جهات تقف خلفهم”
درج
———————
جريمة جنديرس: مقدمات انتفاضة كرديّة ثانية؟/ همبرفان كوسه
مشاهد التضييق على الكرد وقمع حرياتهم الدينية والثقافية، ليست جديدة، فمنذ اللحظة الأولى لاحتلال مدينة عفرين، بعد ساعات من إعلان الجيش التُركي وفصائل “الجيش الوطني السوري” السيطرة على المدينة، اتّضحت الصورة؛ عفرين لن ترى أي نوروز بعد الآن.
انتهى الاحتفال بعيد النوروز في مدينة جندريس- عفرين بمقتل 4 مدنيين كرد وإصابة آخرين، ذنبهم أنهم كانوا يشعلون النار لمناسبة حلول العيد قرب الخيمة التي لجأوا إليها بعدما دمر الزلزال بيوتهم. فما كان من عناصر تابعين لفصيل “جيش الشرقيّة”، أحد فصائل الجيش الوطني السوري، إلا أن أطلقوا النار عليهم بلا رحمة.
تظاهر آلاف الكرد في مدينة جنديرس أثناء تشييعهم جثامين الضحايا، ورفعوا شعارات تطالب بطرد فصائل الجيش الوطني من المدينة، وتدين الجرائم والانتهاكات التي ترتكب بحقّ سكان المنطقة الكردية مذ سيطرت عليها “فصائل الجيش الوطني” وتركيا عام 2018.
مشاهد التضييق على الكرد وقمع حرياتهم الدينية والثقافية، ليست جديدة، فمنذ اللحظة الأولى لاحتلال مدينة عفرين، بعد ساعات من إعلان الجيش التُركي وفصائل “الجيش الوطني السوري” السيطرة على المدينة، اتّضحت الصورة؛ عفرين لن ترى أي نوروز بعد الآن.
فكانت البداية مع انتشار مشاهد مصوّرة تظهر مقاتلين داخل المدينة، وهم يحطّمون تمثال كاوا الحداد الشخصيّة الرمزيّة في حكايا النوروز الكردية، في مشاهد أعادت إلى الذاكرة ما فعله تنظيم “داعش”، حين حطّم ودمّر التماثيل الأثرية وشواهد القبور في الأماكن التي احتلّها.
تم التعامل مع عفرين بوصفها مدينة يقطنها “كفّار ومارقون”، وحملت الحادثة أبعاداً دينيّة وتاريخيّة، إذ تباهى الإعلام التركي بالإنجاز، سبقها استخدام أردوغان التين والزّيتون في مقدّمة حربه على المدينة، كما صدام حسين الذي استخدم الأنفال في مجازر الإبادة الجماعيّة التي ارتكبها بحق الكرد العراقيين.
انتهى الاحتفال بعيد النوروز في مدينة جندريس- عفرين بمقتل 4 مدنيين كرد وإصابة آخرين، ذنبهم أنهم كانوا يشعلون النار لمناسبة حلول العيد قرب الخيمة التي لجأوا إليها بعدما دمر الزلزال بيوتهم
تتبع تاريخ ليلة نوروز منذ تولّي حزب البعث السلطة في سوريا، يكشف تاريخاً من الاستهداف المتعمّد، إذ لم يمرّ عيد من دون أن يلقى المحتفلون نصيبهم من العنف.
في 21 آذار/ مارس 1986، فقد سليمان آدي حياته برصاص قوات الحرس الجمهوري التابع للنظام السوري، أثناء تظاهرة توجهت نحو القصر الجمهوري في العاصمة السّورية، دمشق، بعد منع الناس الاحتفال بعيد النوروز.
في 20 آذار 2006، اعتقلت قوات النظام السوري عشرات المحتفلين ليلة النوروز في حلب، وفي 20 آذار 2008، سقط ثلاثة أشخاص في مدينة قامشلو أثناء إشعالهم النّار ليلة رأس السنة على يد النظام السوري.
أمّا في 21 آذار 2009، فاعتقل قوات النظام السوري عشرات المشاركين، وأحيل 14 طفلاً قاصراً من حلب إلى القضاء للمحاكمة، كما أحيل 7 أشخاص من الدرباسية للمحاكمة.
وفي 21 آذار 2010، استهدف النظام السوري المحتفلين بعيد النوروز في مدينة الرقة، سقط خلالها عدد من الضحايا. وفي 20 آذار 2015، سقط عشرات الضحايا بتفجير انتحاري نفذه “داعش”.
وآخر عمليات الاستهداف، كانت ما حصل في جندريس مع مقتل 4 مدنيين من عائلة واحدة، لأنهم احتفلوا بالعيد!
لا يصنّف رأس السنة الكرديّة (النوروز) ضمن الاحتفالات بمعانيها الثقافيّة التراثيّة والميثولوجيّا لدى كرد سوريا، وإن كان ظاهرها كذلك؛ فهذه المناسبة، في الذاكرة الجمعيّة الكردية السورية مرتبطة بشكل وثيق بمواجهة النظام السوري، وقوانينه العنصريّة تجاه الكرد، والتمسُّك بالهوية الكردية التي تتعرض للمحق والنكران، ومواجهة الأفرع الأمنيّة والمخابرات التي كانت تلاحق المحتفلين/المتظاهرين وتعيق احتفالاتهم وتظاهراتهم دون جدوى.
فلطالما كان “النوروز” مناسبة ليذكّر الكردالعالم بحقوقهم المهدورة، فتجوب التظاهرات الشوارع، ويتم شعال الدواليب ورفع الشعارات المناهضة للنظام والقمع. وكانت هذه الاحتجاجات لا تخلو من اشتباك مع الأجهزة الأمنية التي كانت تواجه حجارة المتظاهرين بالرصاص وبالاعتقالات.
عام 2004، في 12 آذار، جال مشجّعو نادي الفتوة سوق مدينة قامشلو، رفعوا شعارات مناهضة للكرد وإقليم كردستان العراق ووجهوا السباب للزعيم الكردي مسعود بارزاني، ورفعوا شعارات تمجّد صدام حسين، وتتغنّى بجرائمه ومجازره بحقّ الكرد، كرّروا الشعارات ذاتها داخل ملعب نادي الجهاد، ما أدّى إلى اشتباك بين المشجعين، وبعدها بلحظات حصل اشتباك بين أهالي مدينة قامشلو والنظام السوري، لتنتفض بعدها المدن الكرديّة في وجه النظام السوري.
رحب النظام السوري بانتفاضة عام 2004، بل دفع الكرد إليها، لوأد أي مسعى أو طموح كردي نحو التحرّك ضدّه مستقبلاً بعد سقوط نظام صدام حسين، وحصول الكرد العراقيين على الفيدراليّة. منذ ذلك الحين، أعاد النظام السوري حساباته تجاه الكرد، وتغيّرت ممارساته، وبات الاستهداف الأمني أكثر وضوحاً، بدأت حملات اعتقال واسعة في المنطقة الكردية، واستهدفت الأفرع الأمنية المحتفلين بعيد النوروز، وأطلقت النار على احتفالاتهم، وكان مصير كل تحرك بسيط هو القمع والتضييق.
تبدو جريمة جنديرس النموذج الحديث للأسباب الّتي أوجدت الانتفاضة الكرديّة في سوريا. في جنديرس، صداميّون من ميليشيا جيش الشرقيّة يطلقون النار على محتفلين في ليلة عيد النوروز، ويسقطون عدداً من الضحايا. في السنوات الخمس الماضية، منذ احتلال المدينة، كانت احتفالات عفرين بعيد النوروز شبه سرّية، تقتصر على بعض المظاهر البسيطة في عدد من القرى، وداخل المنازل، إذ شهدت المنطقة منعاً وقمعاً ممنهجاً لكلّ محاولة استعراض للهوية الكردية في المدينة، ناهيك بأن معظم سكان المنطقة مهجّرون، والكرد في المدينة يشكّلون أقليّة صغيرة بعد سنوات من التغيير الديموغرافي، إلّا أنّ كارثة الزلزال الّتي حلّت على جنديرس، أعادت إظهار هويّتها الكرديّة، وأحيت من بقي في المدينة.
دخلت منظّمة “بارزاني الخيريّة” المنطقة عقب الزلزال، فخرج الكرد من منازلهم، وحملوا أعلامهم من جديد، وكأن قافلة المساعدات أعادت إليهم الروح، برغم كارثة الزلزال.
فطوال خمس سنوات، كان أبناء هذه المدينة مخطوفين ومعتقلين ومتّهمين ومهدّدين بالقتل بسبب هويتهم القومية، فيما أراضيهم مسلوبة وبيوتهم وأرزاقهم مستباحة للجيش الوطني ولتركيا.
بعد دخول منظمة البارزاني، بات الناس يُعلنون عن أنفسهم، ويتحدّثون بلغتهم، إلى أن قرّروا إشعال نار النيروز على مقربة من خيمهم التي ينامون فيها جانب منازلهم المهدّمة، لكن عادت العربات التي كانت تجوب قامشلو، وأطلقت النار عليهم، وكأن الرسالة في جنديرس تكرر ما قُيل عام 2004: كلّ محاولة إظهار للهوية الكرديّة، كل مسعى ومطمح إلى الحريّة من الاستبداد، يُقابل بالرصاص.
تُشير الميثولوجيا الكُرديَّة، إلى أنَّ الملك آزدهاك، كان يأكل أدمغة أطفال الكُرد بسبب مرض حلّ به، ليثور عليه كاوا الحداد ويُنهي حكمه، ويقوم بإشعال النيران على قمة الجبل؛ ليطلق على يوم نهاية حكم الملك “نوروز”، أي “اليوم الجديد”.
درج
—————————
إخوتنا الكرد بين جهالة القتل وإنسانية الحياة.. نوروز جنديرس أنموذجاً/ أحمد الشمام
في عصر يوم ربيعي ذات جمعة من جُمَع الثورة في القامشلي أمطرت السماء فضاعت رائحة التراب، تلك التي لا تغيب عن حاستي وحواس كل ابن ريف؛ إذ تشهق الروح عاليا كلما أمطرت غيمة ربيع أو خريف يطل بريح وغيم ومطر، ولا تختلف تلك الرائحة سواء كانت في أرض الحماد في الجنوب، أو العجاج بدير الزور أو الرقة أو شتى محافظات سوريا، في ذاك المساء وعقب المظاهرة بساعات زارني صديق كردي عرفني عليه الشهيد مشعل تمو قبل أعوام، وقد اصطحب صديقي هذا أخاه الذي لا يفقه شيئا لا في السياسة ولا في الثقافة، ودارت بيننا الأحاديث حول معالجة المخابرات لمظاهراتنا، وقد سألني عن اعتقالي الأخير لدى فرع الأمن العسكري، ورويت لهما صدمة أجهزة الأمن حين فهموا أن هناك من العرب من لا يمكن أن يخضع لهم تحت ضغط قوة الشارع السوري وثورته، وأنه ليس كل العرب بعثيين بالفطرة رغم أن البعث ألقمنا إياه مع حليب الأمهات، وأذكر كيف حاول رئيس الفرع منعي من الافتتان بالعمالة الكردية حسب قوله، وإن كان لا بد من عمل ما فليكن ليس معهم، رد علي صديقي بفهم واضح وأكد أنه قد تم طلبه للفرع نفسه وقد طُلِب منه عدم التظاهر مع العرب، وقد أدركنا خطة النظام في تكريس فكرة خاصة بالجزيرة لإيجاد تنابذ بين الطرفين لعب عليه حزب البعث العربي، وأكملته أحزاب البعث الكردي فيما بعد. مثلما ذهب في مناطق التماس الطائفي على أسلمة الثورة وتطييف المطيّف من شتى الأقليات الدينية.
ولأن الشعوب قد تجاوزت نخبها في ثورات الربيع العربي فقد كان للشارع الكردي نصيب في تجاوز نخبه وأحزابه، لكن سرعان ما تم نسف تنسيقيات الشارع الكردي بسلسلة اعتقالات واغتيالات، وتحزيب داخلي وتشتيت، والعمل على تخويف الكرد ليعودوا إلى حاضنة تلك الأحزاب، كما تم العمل على تأجيج التباغض لدى العرب ليبقوا في صف النظام ويتبرؤوا من ثوارهم، وفي عودة لشقيق صديقي البسيط الذي قال بضرورة الافتراق والعمل كل لمصلحته ولاقى ما لاقاه من أخيه المثقف، بينما عملتُ على تخفيف حدة الموقف، وقلت لا حق لي في اتخاذ موقف منك بناء على حلمك لأن الصائم قبل الإطار يحاول أن يشتري كل السوق نهارا؛ وعند الإفطار لن يأكل سوى عدة لقيمات، وبعد أن تخف نزعة الحرمان سيدرك أن الاندفاع لن يأتي بنتيجة خيرة، وكذلك نزعة الأحزاب التي تقتات على التحشيد والاختلاف، وستلعب القوى الدولية بالجميع وسنكون وقود حروبها، رد صديقي المثقف وقال لأخيه “العرب لا يكرهون الكرد ولا الكرد يكرهون العرب” وشقيقه ينفر من ذلك وينكره، تدخلت أيضا وقلت “بل إن العرب يكرهون والكرد يكرهونهم كذلك إن شئت فاقبل مني ما أقول” إن المشكلة لا تكمن في الكراهية ذاتها -فيما لو سلمنا بها-؛ بل باتجاهها فالعربي لا يكره الكردية كمادة أو منشأ خلقه الله ليكون جذر جماعة بشرية، ولا الكردي يكره العروبة كمنشأ تجذر منه العرب، بل الكراهية تكمن لدى الكردي في الفعل السياسي للقومية العربية التي لم ير منها إلا قادتها الذين بنوا تاريخهم على الدكتاتورية والإقصاء والتخندق، وكراهية العربي تتجه نحو الفعل السياسي القومي الكردي الذي نحى في آخر المطاف وحسب قانون الفعل ورد الفعل أن يكون نسخة عن البعث العربي، فاقتتلت الأحزاب ورجالاتها بينما بقيت الشعوب نظيفة نقية خالية من كل كراهية، ولولا أن مجريات السياسة والأعمال العسكرية على الأرض وما خلفته من قتل وتدمير واللعب على عامل الخوف لدى كل فرد ليلجأ فطريا للجماعة، لما مثلت تلك التوجهات الحزبية من كلا الشارعين إلا النزر اليسير، لقد دفع المدنيون من كل طرف ثمرة الممارسة الشاذة لأحزابه وتشدد أحزاب الطرف الآخر، ومثلما جاءت داعش التي قيل إنها عربية ضد الكرد في حين أنها عابرة للقوميات، جاءت داعش الكردية الحزبية ممثلة بقسد مع بعض الرتوش البسيطة من تجنيد قسري للعرب لتنفي عنها ردايكاليتها المقيتة، والمؤسف أن أحزابا كردية لم تستطع أن تطرح بديلا وطنيا بل بقيت تلعب في لعبة المزاودة بين الأطراف كلها، أما عن الكرد البسطاء والعرب عامة فقد ضاعوا كالعشب الذي انتهك تحت أقدام الثيران المقتتلة، وقد يختلف معي الكثير في المساوة بين الطرفين في المحنة لكثرة ما عانى العرب من ويلات قسد وطيف أحزابها ومنافساتها، ولاتساع الرقعة التي يقطنها العرب من القامشلي إلى ريف حلب، لكن ما يخص الأكراد أن لهم مظلومية تمنح من رؤية ذات بعد إنساني، واتخذت شكلا مؤطرا سياسيا يحمل عقدة لا بد من تفكيكها سياسيا وثقافيا في المستوى السياسي وفي إطار وطني يتيح للجميع حق المشاركة، قبالة ذلك لا بد من استيعاب حتى احتمالات الخطأ ما دام غير عسكري في المستوى الشعبي فماذا أجرم المحتفلون بعيد النيروز ليقتلوا؟
ثمة جهد شهدته من خلال التواصل مع الداخل من الفئات المهجرة من دمشق إلى إدلب، ويحتاج لبحث واسع لتوكيد ثماره والعمل عليه إذ أن عائلات دمشقية من دمشق وريفها، ومثقفين ليسوا من رواد مواقع التواصل، ولا من الباحثين عن بريق الظهور الإعلامي، ولا من النشطاء في الجمعيات الخيرية التي تكاثرت، قد أدركوا في الوسط الجديد الذي هجروا إليه عنوة وجود فرق في الطبائع والعادات والتقاليد بينهم كبيئة محافظة من جهة وبين سكان المنطقة من أكراد، إذ إن مجموعة من الشيوخ وخطباء المساجد وجهات غير رسمية ولا نصيب لها من سلطة القوى العسكرية المسيطرة وشبابا ناشطين؛ أدركت أهمية كسر الحواجز بين سكان البيئتين، وقد اجتمعوا على أرض واحدة؛ فأقيمت زيارات ولقاءات أهلية عفوية؛ ثم اتخذت شكلا مبرمجا بعد اكتشاف هوة بين فهم كل من الطرفين عن الآخر، وتم تفكيك كثير من الصور النمطية التي وجد أنها قد تشكلت نتيجة جهل كل طرف بالآخر حتى باتوا جميعا كردا وعربا لا يؤمنون بتسمية “طرفين” التي نطلقها اللهم إلا في بعض خصائصهم الاجتماعية وأصولهم، وهم جميعا يحاربون الفقر والموت المعمم، وغضب الطبيعة والأسد والروس وخذلان العالم كله.
نعم صرح الكرد بأنهم كانوا يظنون بأنهم كفار بنظر الآخرين، واكتشفوا زيف هذا الظن ولمسوا فيمن التقاهم ممن ذكرنا جهدهم تفاهما ومشتركات كثيرة، وكانوا يتصورون القادمين محتلين فأدركوا أن الفصائل والميليشيات شيء والشعوب شيء آخر، كما أدرك أبناء الشام المهجرون أن الكرد بشر كمثلهم على اختلاف مستوى تدينهم وأن فيهم من يفضل على أبناء الشام أنفسهم، ولا يريد أي منهم سوى العيش بسلام وطمأنينة بشتى طبائع ملبسهم ومأكلهم وتقاليدهم، لقد اشتغل قسم من المهاجرين في عمل نبيل وتحفظوا على تغطية عملهم إعلاميا لئلا يعانوا تدخلا فصائليا في قضية أهلية مدنية؛ تنسج روابط الثقة والتواشج والتصاهر بين السكان، إلا أن قيام مجموعة عسكرية بإطلاق النار على محتفلين كرد بعيدهم في بلدة جنديرس تعيدنا لسياسات الأسد، وتصب في تعزيز سردية من يشتغل في عزل الكرد عن محيطهم عن أهلهم وإخوتهم، ولا بد من محاسبة المجرمين وإنصاف الضحايا بموقف مشترك واضح بعيد عن كل التجاذبات السياسية ومصالح الأحزاب ولا التسويق أو التلفيق.
رحم الله الضحايا لهم حق الإنصاف قانونا وعرفا ولهم مجد البراءة، والعار ثوب يستحقه القتلة.
تلفزيون سوريا
—————————-
جنديرس.. في إدانة جرائم التمييز والاستغلال السياسي/ أحمد البرهو
ليست الحريّة كلمة عابرة نستخدمها في أثناء الكلام فحسب بل حاملا جوهريّا وأصيلا استنادا إليه يتعرف الوعي إلى ما تلاه من هويّات الأشياء والأسماء والأفعال بل وحتّى السلوكيّات، وسواء أكانت طبيعة الإنسان شريرة أم خيّرة فإنّ غياب الحريّة يمنع ذلك الإنسان من بلوغ حقيقته فضلا عن إدراك حقيقة ما سواه!
ثمّة حدث مؤكّد وهو مقتل خمسة مواطنين سوريين يوم 21 آذار الجاري في ناحية جنديرس التابعة لعفرين في المنطقة السورية التي صار يطلق عليها بعد العمليّة التركيّة في آذار 2018 منطقة “غصن الزيتون”، وتقول الأنباء الواردة أنّ القتلة هم عنصران أو ثلاثة من فصيل “أحرار الشرقيّة” الفصيل الذي ينتمي جغرافيّا إلى شرق دير الزور السوريّة والموجود في عفرين- جنديرس منذ العمليّة العسكريّة المشتركة بين العديد من الفصائل والقوات التركيّة.
انتشر فيديو لامرأة من ذوي المغدورين تقول وهي تذرف الدموع: (الله خلقنا أكرادا فماذا نفعل!؟)
من حيث المبدأ فإنّ القاتل والمقتول سوريّان والفارق بينهما أنّ المقتول هو من أهالي المنطقة بالمقابل القاتل وافد إلى المنطقة في أثناء العمليّة العسكريّة لطرد تنظيم pyd الذي تتهمه تركيا بالارتباط بـ pkk والأخير مصنّف على لائحة الإرهاب بالنسبة إلى تركيا.
ومن حيث المبدأ أيضا فإنّ الإنسان الذي يمتلك ثلاث هويّات: طبيعيّة ومدنيّة وسياسيّة، فإنّ هويّته العرقيّة -أيّا تكن- هويّة طبيعيّة لم تخضع لاختياره فضلا عن كونها تهمة مسؤولا عنها؛ في حين أنّ الحزبين المذكورين حزبان سياسيّان ويُفترضُ أنّهما قد تمّ إخراجهما من عفرين وجنديرس منذ الإعلان عن انتهاء العمليّة العسكريّة وسيطرة “الجيش الحر” المدعوم تركيّا؛ وأنّ من تبقى من السكّان لا يمكن أن يكونوا لا pyd ولا pkk لأنّهم لو كانوا كذلك لخرجوا مع العناصر العسكرية والمدنيّة التي خرجت منذ ذلك الحين، وإذا كانوا بالفعل منتمين إلى تلك الأحزاب المحضورة تركيّا فلماذا لم يتم القبض عليهم أو إدانتهم حتى 2023!
وانتشر فيديو آخر لامرأة عفرينيّة تقول: “اذهبوا وشوفوا السجون لأنها ممتلئة بشبابنا -الكرد- وأنّ الكرد متّهمون طوال الوقت ومعرّضون للمساءلة” ولعلّنا نميل إلى تصديقها لسببين غير كونها امرأة منكوبة:
الأوّل يتمثّل بغياب القانون فضلاً عن المساواة أمام القانون؛ مع التأكيد على أنّ القواعد التي تفرضها القوّة لا يمكن اعتبارها قانونا وأنّ التساوي إن لم يكن ثقافة حاصلة ومعتمدة بين جميع أفراد المجتمع وأطيافه فإنّ التساوي في الوقوف أمام القانون محض افتراض باطل!
الثاني أنّ مجتمعاً لا يحكمه القانون ولا يقوم على المساواة ويعاني فوضى السّلاح وندرة فرص العمل.. فإنّ ذلك المجتمع سيُفرز علاقات سلطويّة محورها القوّة؛ ومن المرجّح أن يبحث العاطل إلّا عن حمل السلاح عن تفعيل دوره في منظومة “القوّة/ السلطة” وسيكون مشغولا بالبحث عن متّهم أكثر ضعفاً منه وتهمة مناسبة طوال الوقت!
ولو حاولنا تتبع موضوع السّلاح بذاته فلعلّه لا يخرج عن إحدى الذرائع التاليّة: “محاربة النّظام، أو داعش، أو pkk و pyd” وبالطبع فمن غير المنطقي اتهام الكرد بالتبعيّة للنظام أو لداعش –فهذه تهم جاهزة يمكن توجيهها للعرب غالبا- أمّا الكردي فيمكن ابتزازه باتّهامه بالتبعيّة للـ pyd أو pkk!.
ومن حيث المبدأ دائما فإنّ العلاقات القائمة على القوّة -لا على الحريّة – إنّما هي علاقات ما قبل مدنيّة، حيث يبدو الأقل قوّة موضوعاً متّهما طوال الوقت من جهة القوّة؛ فتتصاعد سلطة الأمر الواقع في تسلسل هرمي من العلاقات الاجتماعيّة بين أفراد الأسرة ثمّ الحي فالمدينة وصولا إلى أعلى هرم سلطات الأمر الواقع؛ لذا فقد لا تكون إدانة مرتكب الجريمة – صاحب العلاقة المباشرة بالجريمة- بمفرده إرضاء للرأي العام، كافية. مع التأكيد دائما على أهميّة دور الإعلام الحرّ في الاستناد إلى الرأي العام كوسيلة للضغط على سلطات الأمر الواقع.
ثمّة سياق آخر يمكن قراءته من حدث الجريمة: تلك الجريمة حدثت في يوم عيد النيروز وأنّ المغدورين كانوا قد أشعلوا النّار احتفالا بعيد النيروز؛ ما يوحي أنّ دوافع ارتكاب الجريمة قد تكون متعلّقة بالتشدد الديني. وقد أظهر أحد الفيديوهات امرأة من ذوي المغدورين تحاول تبرير إشعال المغدورين النّار خارج المنزل بالبرد من جهة وبالخوف من الزلزال من جهة أخرى؛ ولعلّ محاولتها التبرير –وإنْ كان ما ذكرته يمكن أن يكون صحيحا بالفعل- إلّا أنّ مجرّد انشغال امرأة مكلومة بتقديم مبرّر يشير بوضوح إلى خوفٍ أكبر من الحزن الذي يكلمها ذاته؛ وهل إشعال النّار خارج المنزل احتفالا بنيروز يحتاج إلى تبرير!
من جديد لا بد من محاسبة القتلة باعتبارهم مسؤولين مباشرين عن الجريمة لكن لعلّنا نستخدم نار نيروز وحطبها لنضرب مثالا عن المسؤوليّة غير المباشرة أيضا: إنّنا حين نضع نارا وحطبا في مكان ضيّق ثم يشتعل الحطب بالنار فإنّ من غير الكافي نسبة الفعل إلى النّار وحدها ولا حتّى لنسمة الهواء التي أوصلت النّار إلى الحطب؛ بل لا بدّ –منطقيّا – من توجيه المسؤوليّة إلى الأشخاص والجهات والثقافات المسؤولة بشكل مباشر وغير مباشر، فأحيانا تكون المسؤوليّة غير المباشرة أكثر تأثيرا!
إذاً ليس من العيب مطالبة الجهات السياسيّة والحكوميّة التي أعلنت نفسها مسؤولة على منطقة الشمال السوري بالإعلان عن مسؤوليّتها؛ وليس من العيب أيضا المطالبة بمراجعة شاملة للثقافة الاجتماعية والسياسية التي لا تقوم على مبدأ المساواة فتشجّع على ممارسة التمييز العرقي أو الديني أو كليهما معا باعتبار ذلك التّمييز “فضل بعض النّاس على بعض” بدلا من استنكار تلك الممارسات، وليس عيبا أيضا توجيه المسؤوليّة إلى الجانب الاقتصادي والاعتراف بالفراغ الأمني والقانوني!
تحمّس كثير من النّاشطين لـ “إقامة العدل” والاقتصاص من القتلة، وتناقلت العديد من المواقع والناشطين خبرا مفاده: أنّ وفدا من أهالي المغدورين استنجد بهيئة تحرير الشّام؛ ثم تناولت مواقع أخرى خبرا مفاده: أنّ الهيئة تعمدت سحب جثامين المغدورين إلى “أطمة ” المنطقة الواقعة تحت سيطرة الهيئة لاستدراج أهالي المغدورين إليها!
ولعلّنا نميل إلى أنّ الرواية الثانية أكثر منطقيّة قياسا إلى سابقة قريبة تتعلّق بسعي الهيئة لتحقيق مكاسب سياسيّة بذريعة تحقيق “العدل” في مقتل النّاشط “أبو عنّوم” فاجتاحت الهيئة خلال الشهر العاشر من العام الماضي مناطق عديدة من عفرين؛ والأخبار الواردة اليوم تفيد بأن تلك الأهداف السياسيّة -لا الإنسانيّة ولا المدنيّة- تمّ تحقيقها كاملة بسيطرة الهيئة على جنديرس بذريعة تحقيق “العدالة” في مقتل خمسة من إخوتنا السوريين الكرد!
لعلّنا مع هذا المآل البائس نتذكّر أن كل نشاط سواء أكان إعلاميّا أو مدنيّا أو سياسيّا إن لم يكن مبنيّا على قاعدة احترام حقوق الإنسان كإنسان؛ فإنّ ذلك النّشاط لا يندرج ضمن النشاط المدني، بل ربّما يلقي بالقضايا العادلة لقمة سائغة للاستخدام السياسي؛ فيودي بالحريّة التي بها –لا بغيرها- يُعرف العدل من الظلم!
وفي النّهاية لعلّنا أيضاً بحاجة إلى الاتفاق على إدانة دوافع الجريمة دائماً لأنّ سوريا والشمال السوري على وجه الخصوص يحتاج إلى الكثير من الوعي المدني في تناول قضاياه وإلى المزيد من الأمنيات بالسّلامة للسوريين هناك.
——————————-
—————————
بعد خمس سنوات من سيطرة تركيا والمعارضة على عفرين: عيد نيروز دام في شمال سوريا/ منهل باريش
يستمر الغليان والتضامن الشعبي مع الأكراد السوريين في منطقة جنديرس عقب مقتل أربعة مدنيين برصاص مجموعة من أبناء منطقة خشام في دير الزور، مقربين من «جيش الشرقية» أحد أبرز الفصائل العسكرية في المنطقة.
واعتصم مئات من أهالي منطقة عفرين، الخميس والجمعة، أمام منزل المدنيين الأربعة الذين قضوا برصاص عناصر محسوبة على «جيش الشرقية» في جنديرس عشية عيد النيروز، وطالب المعتصمون بحماية دولية لمنطقة عفرين، وخروج كافة الفصائل العسكرية من المنطقة. وشهد الاعتصام كلمة لعضو المجلس الوطني الكردي، وعضو الائتلاف الوطني السوري المعارض أحمد حسن، طالب من خلالها بتقديم الجناة مرتكبي جريمة قتل المدنيين الأربعة وفصيلهم «جيش الشرقية» لمحكمة دولية، كما طالب «الائتلاف المعارض» بإدانة واستنكار الجريمة واتخاذ موقف واضح ضدها. مشيراً في كلمته إلى أن الفصائل المسيطرة على المنطقة «عاجزة عن حمايتها من الانتهاكات المتكررة فمن الأولى المطالبة بحمايتها من طرف المجتمع الدولي».
وأقدم، مساء الإثنين الماضي مقربون من «جيش الشرقية» التابع لحركة التحرير والبناء وهي العمود الفقري لـ «الفيلق الأول» في الجيش الوطني المعارض، على إطلاق النار بشكل عشوائي على أربعة مدنيين من عائلة واحدة من القومية الكردية في حي الصناعة في ناحية جنديرس، خلال احتفالهم بعيد النيروز ما تسبب بمقتل ثلاثة منهم على الفور، وفارق شخص آخر من نفس العائلة الحياة مساء الثلاثاء جراء إصابته بجروح.
وفي التفاصيل، ذكر شهود عيان أن عنصراً مقربا من «جيش الشرقية» ينحدر من قرية خشام بريف محافظة دير الزور، طالب المدني الكردي، فرح الدين عثمان بإطفاء نار أشعلها على سطح منزله في حي الصناعة بجنديرس كأحد طقوس الاحتفال بعيد النيروز، بحجة الخوف من تطاير شرر النار والتسبب في حرق الخيام القريبة، إلا أن عائلة عثمان لم تتقبل الطلب، ما أدى إلى حصول مشادة كلامية بين ابن أحد القادة في «جيش الشرقية» وأفراد عائلة عثمان، فاستدعى العنصر أقربائه المسلحين من الفصيل المذكور. وقاموا بشتم العائلة وإطلاق عبارات مناهضة لعيد النيروز وطقوسه مثل «النيروز شرك بالله وكفر» تلاها إطلاق النار تسبب بمقتل فرح الدين عثمان، وشقيقيه نظمي ومحمد، ونجله محمد فرح عثمان.
وسارعت الشرطة العسكرية والمدنية على الفور بإغلاق جميع الطرق المؤدية لمنزل الضحايا، وسط انتشار أمني كثيف، وبالتوازي نفت «حركة التحرير والبناء» التي ينتمي لها «جيش الشرقية» عبر بيان لها عقب وقوع الجريمة ضلوع أي من عناصرها بعملية قتل المدنيين الأربعة، التي وصفتها بـ «الفعل المشين الذي يتعارض مع القيم الإنسانية والشرائع السماوية» وأضافت الحركة أن «مرتكبي الجريمة شخصان مدنيان لا عسكريان، وأن ملابساتها بدأت عندما اعترض المدنيان المنحدران من المنطقة الشرقية على إشعال النار بمنطقة قريبة من خيام أنشئت بعد زلزال 6 شباط (فبراير) ليتطور الخلاف لإطلاق النار على المدنيين ما تسبب بسقوط ضحايا وجرحى».
ووصف البيان اتهام الحركة بالجريمة بالمحاولات الدنيئة التي تهدف للنيل من علاقة الحركة بما وصفتها «بالقاعدة الشعبية». وعلى خلاف بيان «التحرير والبناء» الرافض لاتهام عناصر الحركة بالجريمة، أكد بيان صادر عن الحكومة السورية المؤقتة أن الجريمة غذيت بمخلفات الفكر العنصري، وعقلية البعث الإقصائية، دون أن ينفي أو يؤكد البيان ضلوع عناصر من الجيش الوطني بالجريمة.
وأعلن المجلس المحلي في ناحية جنديرس في بيانٍ له الحداد في المدينة لمدة ثلاثة أيام، داعياً لتفعيل دور المحاكم، لرد المظالم وحفظ الحقوق، ما يسهم في تحقيق العدالة والحرية والعيش الكريم. كما استنكر الائتلاف السوري الوطني المعارض، الجريمة، وتعهد في بيانٍ له بملاحقة الجناة، ومحاكمتهم بشكلٍ عادل.
وأشار «الائتلاف الوطني» إلى أنه وجه الحكومة السورية المؤقتة والجيش الوطني للتحقيق في الجريمة على أعلى المستويات والقبض على القتلة، معرباً عن رفضه لأي سلوك عدواني من أي طرف بسبب الاختلاف بالدين أو العرق أو القومية.
بدوره أخلى فصيل «جيش الشرقية» جميع مقراته العسكرية داخل مدينة جنديرس، فيما لم تفعل بقية الفصائل الأمر ذاته، وأعلنت «حركة التحرير والبناء» التي ينضوي ضمنها «جيش الشرقية» في بيانٍ مصور بثته على معرفاتها الرسمية على مواقع التواصل الاجتماعي، الأربعاء، بعد يومين على مقتل المدنيين الأكراد عن تمكنها من إلقاء القبض على ثلاثة من المتورطين بمقتل ضحايا جنديرس، وظهر في البيان المرئي المتهمون الثلاثة وهم عمر صالح الأسمر وحبيب علي خلف، وبلال أحمد العبود، وذكر ناطق البيان ان الحركة سلمت المتهمين للشرطة العسكرية في عفرين.
وقال مصدر عسكري في جيش الشرقية في حديث مع «القدس العربي» إن الجناة غير مسجلين على القوائم الرسمية لحركة التحرير والبناء التي ينضوي جيش الشرقية ضمن مكوناتها، مشيرا إلى أنهم تابعون لـ «جيش الشرقية» من ناحية العرف وصلة القرابة مع مجموعة «خشام» التي يقودها أبو خلف خشام.
بالمقابل، حصلت «القدس العربي» على صورة من مصدر في الشرطة العسكرية لعلي الخلف بن جيجان بعد أن قامت أمنية «جيش الشرقية» بتسليمه للشرطة العسكرية لمتابعة التحقيقات وهو والد حبيب الخلف أحد القتلة الذين ظهروا في الفيديو، وتشير الصورة المذكورة إلى أن والد حبيب عسكري في «جيش الشرقية».
في سياق منفصل، وجد أبو محمد الجولاني في جريمة قتل المدنيين فرصة سانحة لإعادة الكرة والتدخل في عفرين مرة أخرى، ووصل مباشرة إلى منطقة أطمة حيث وصلت جثامين القتلى، ومن الواضح أن الجهاز الأمني التابع لهيئة «تحرير الشام» هو من نقل أهالي القتلى وجثث القتلى فورا إلى حدود منطقة إدلب التي تسيطر عليها «تحرير الشام» حيث توعد الجولاني بمحاسبة القتلة ومعاقبتهم واعطائه الأمان لأهالي الضحايا. وأكد أنه لن يسمح بعد اليوم بأي اعتداء على الكرد. وبالفعل سيطرت هيئة «تحرير الشام» ظهر الثلاثاء على كامل مدينة جنديرس، بعد أن اقتحم رتل مكون من آليات عسكرية ومصفحات ورشاشات البلدة دون أن يعترضه أي فصيل من الجيش الوطني المنتشر داخلها، واقتحم عناصر «تحرير الشام» مقر المجلس المحلي لناحية جنديرس، ومقر الشرطة العسكرية فيها.
الجدير بالذكر، ان عملية اقتحام جنديرس من مقاتلي «تحرير الشام» تزامنت مع تواجد وزير الدفاع في الحكومة السورية المؤقتة، العميد حسن حمادي وعدد من قيادات الجيش الوطني للمشاركة في عملية تشييع الضحايا.
إلى ذلك، اتهم ناشطون هيئة «تحرير الشام» بتدبير جريمة جنديرس على أنها جريمة ارتكبها الجيش الوطني ضد الأكراد، لتبرير سيطرة «الهيئة» على البلدة بذريعة حماية الأكراد، ووقف الانتهاكات التي يرتكبها الجيش الوطني بحقهم.
واتهم نشطاء القيادي العراقي في «تحرير الشام» أبو ماريا القحطاني بالوقوف وراء الحادثة، وأرفقوا صورة القيادي في جيش الشرقية حسن الضبع مع الجولاني قبل يوم من جريمة جنديرس وقالوا ان مرتكبي الجريمة تابعون لمجموعة الضبع وأبو خلف خشام، وأن الاخيرين مرتبطين أمنياً بالقحطاني.
وفي التفاصيل، خرج الآلاف من أهالي عفرين وجنديرس والمناطق المحيطة، الثلاثاء في مظاهرة غاضبة تزامناً مع وصول جثامين الضحايا الأربعة التي لفت بالعلم الكردي، وردد المتظاهرون خلال التشييع هتافات تطالب بوقف الانتهاكات بحق المدنيين الكرد في جنديرس ومنطقة عفرين بشكل عام، هاتفين «آزادي» و «الحرية لعفرين» وحملوا لافتات كتب عليها «12 سنة من الظلم والقتل والتهجير» و «جنديرس حرة، الفصائل تطلع برا» كما حمل المتظاهرون لافتة تعبر عن رمزية مقتل المدنيين الأربعة بالتزامن مع عيد النيروز كتب عليها «كاوا الحداد رمزنا، واليوم خمسة رموز».
كما طالب بعض المتظاهرين بدخول «البيشمركة السورية» لمنطقة عفرين، وخروج كافة الفصائل الأخرى، وتتبع البيشمركة السورية للمجلس الوطني الكردي، وتضم عددا من العسكريين المنشقين عن نظام الأسد، يتواجدون في كردستان العراق تحت رعاية مسعود بارزاني.
في التعليقات، اعتبر بسام الأحمد مدير منظمة شوريون من أجل الحقيقة والعدالة، ومقرها في باريس، ان الخطورة فيما حصل أنها أول حادثة قتل علني تحدث بهذا الشكل خلال يوم عيد النيروز، والتضييق السابق كان محاولات لمنع الاحتفال تحت ذرائع أمنية. ووصف ما جرى أنه «تتويج لسلسة الانتهاكات التي بدأت قبل خمس سنوات، يا للأسف».
وحول القصاص من القتلة لفت في اتصال مع «القدس العربي» إلى انه لا يتوقع حصول العدالة بقضية القتلة متسائلا أين القصاص في قضية مقتل الناشط أبو غنوم في مدينة الباب، وأين القصاص في قضية قائد فرقة السلطان سليمان شاه، محمد الجاسم أبو عمشة؟ فرغم ادانته من قبل اللجان المحلية عدة مرات خرج بريئا ولم تتمكن محكمة من حسابه» واصفا الأطر الحوكمية بـ «الضعف والهزالة».
ولفت الأحمد «كل ما يحصل في عفرين منذ خمس سنوات يؤكد الاستهداف الممنهج للأكراد، بدأ تحت ذريعة الانتماء إلى وحدات حماية الشعب. لكنه تبين لاحقا انه حجة لاستهداف الوجود الكردي في عفرين».
ونوه إلى «أهمية التضامن الشعبي وتضامن المثقفين والنشطاء السوريين الواسع، فهذا الظلم الكبير لم يعد مقبولا لدى أحد لا من العرب أو الكرد».
في ردود الأفعال، نفى رئيس رابطة الكرد المستقلين، عبد العزيز تمو في تصريح لـ «القدس العربي» أن يكون ما حدث في جنديرس جريمة مشاجرة موضحا أنها «مجزرة ارتكبها ابن المسؤول الأمني للفصيل الذي تراكمت انتهاكاته منذ سنوات بحق أبناء جنديرس، سواء من السكان الأصليين أو النازحين المقيمين دون أي رادع أو ضبط لانتهاكات هذا الشخص».
وزاد رئيس الرابطة المقربة من أنقرة «طالما حذرنا جميع الفصائل بعدم العبث بالسلم الأهلي والتعايش المشترك وتربية عناصرهم على احترام الإنسان السوري بغض النظر عن لونه وعرقه ودينه. ولكن يا للأسف فشلنا في ذلك».
وأوضح أن المستفيد من هذه الفوضى الأمنية «هما تنظيم جبهة النصرة وميليشيا قسد الإرهابيين، الأول يريد أن يظهر انه حامي الأقليات في عفرين والثاني يريد أن يقول للعالم أن من يحكم عفرين هم مجموعة من الإرهابيين».
ووجد تمو الحل لمنطقة عفرين هو «العمل على بناء إدارة مركزية موحدة من قبل مؤسسات المعارضة» وحول قضية العدالة والقصاص لم يعر أهمية للهيئات العسكرية والمدنية، مشددا «لدينا ثقة كبيرة بحليفنا الاستراتيجي الجيش التركي والحكومة التركية التي تعتبر المنطقة تحت نفوذها. بان تتم محاكمة هؤلاء المجرمين وتحقيق العدالة الاجتماعية لذوي الضحايا».
اللافت بالأمر، أن «تحرير الشام» كانت قد أرسلت في تشرين الأول (أكتوبر) العام الماضي أرتالاً عسكرية للوقوف مع «فرقة الحمزة» التابعة للجيش الوطني والمتهمة بقتل الناشط الإعلامي محمد غنوم وزوجته، وضد محاولات الفيلق الثالث للقبض على الجناة.
القدس العربي»
————————–
مسير نحو إدلب وحضور سريع للجولاني.. هل كانت جريمة جنديرس مدبرة؟
إدلب ـ ثائر المحمد
بدت جريمة جنديرس بريف عفرين شمالي سوريا بحق أربعة مدنيين أكراد في الأسبوع الماضي، وكأنه قد خُطط لها مسبقاً، بالنظر إلى الأحداث التي تبعت الجريمة، من توجه ذوي الضحايا إلى مناطق سيطرة “هيئة تحرير الشام” في إدلب ومطالبتهم لها بمحاسبة الجناة، والحضور السريع لقائد الهيئة أبو محمد الجولاني وتعهده بمتابعة القضية، ثم الانتشار العسكري الكبير لعناصر تحرير الشام في جنديرس وسيطرتهم على مواقع عسكرية ومؤسسات داخل المدينة في حرف واضح للقضية عن مسارها.
رغبة “هيئة تحرير الشام” في استثمار الجريمة للتوسع في مدينة جنديرس والقضاء على خصومها كان لافتاً منذ اللحظات الأولى، فبدأ إعلامها غير الرسمي في التحريض على فصائل حركة التحرير والبناء ضمن الجيش الوطني، والتلميح إلى فشل مؤسسات القضاء والشرطة بريف حلب الشمالي في إلقاء القبض على القتلة أو الاقتصاص منهم، ما فتح الباب للحديث عن مكيدة دبّرتها الهيئة لشرعنة القضاء على فصائل محددة ضمن الجيش الوطني.
اندفاع الهيئة وحماسها للتحقيق في ملابسات الجريمة وتصدر المشهد بدأ يتلاشى بعد 24 ساعة فقط من الحادثة، وفسّر مناهضون لـ “تحرير الشام” انسحابها من المشهد تدريجياً بأنه جاء استجابة لأوامر تركية، لا سيما أن “حركة التحرير والبناء” تمكنت من قطع الطريق عليها في استغلال الحدث، من خلال إلقاء القبض على المجرمين وتسليمهم للشرطة العسكرية والقضاء، ومع ذلك بقيت التساؤلات حاضرة، هل دبّرت الهيئة تلك الجريمة لتحقيق أهداف محددة في مناطق سيطرة الجيش الوطني؟ أم أن تدخلها كان من باب توظيف الحدث لمصلحتها وتحقيق ما أمكن من المكاسب مستفيدة من الغضب الشعبي والمطالب بمحاسبة الجناة، وملء الفراغ الناجم عن غياب الحكومة السورية المؤقتة ومؤسساتها؟
حركة التحرير والبناء تلقي القبض على المتهمين في جريمة جنديرس
أحداث متسارعة بعد الجريمة
بعد ساعات قليلة من مقتل 4 مدنيين أكراد في مدينة جنديرس على يد مسلحين، إثر خلاف مع المغدورين الذين كانوا يحتفلون بعيد النيروز عبر إشعال النيران أمام منازلهم، توجه ذوو الضحايا إلى بلدة أطمة الخاضعة لسيطرة “هيئة تحرير الشام”، مطالبين الأخيرة بالتدخل لمحاسبة مرتكبي الجريمة.
وانتشرت فيديوهات مصوّرة تظهر أفراداً يتظاهرون في بلدة أطمة – قيل إنهم مدنيون أكراد – ويهتفون “بدنا الهيئة، بدنا الهيئة”، كما اجتمع وفد من أهالي جنديرس، مع قائد هيئة تحرير الشام أبو محمد الجولاني، والقياديين في الهيئة “أبو ماريا القحطاني”، و”أبو أحمد زكور”.
وظهر الجولاني بين جموع المدنيين خلال تجمهرهم وسط بلدة أطمة، والتقى بذوي الضحايا، وخاطبهم بالقول: “هذا آخر يوم تتعرضون فيه لاعتداء، أنتوا بحمايتي إن شاء الله، وستعودون إلى بيوتكم معزّزين مكرّمين”، لترد إحدى النساء قائلة: “ما بدنا فصائل، ما بدنا فصائل”.
وفي صباح اليوم التالي شهدت مدينة جنديرس انتشاراً أمنياً مكثفاً لـ “هيئة تحرير الشام”، مع انتشار أنباء عن سيطرتها على مقار عسكرية تابعة لـ”جيش الشرقية” (أحد مكونات حركة التحرير والبناء)، وفرع الشرطة العسكرية في المدينة.
لم يتأخر الائتلاف الوطني السوري بالتعليق على الحادثة، إذ أشار إلى أنه وجّه الحكومة السورية المؤقتة والجيش الوطني للتحقيق ومتابعة تفاصيل الجريمة على أعلى المستويات للقبض على المجرمين ومحاكمتهم، مضيفاً أن ما حصل حادثة استثنائية، وأن الاحتفال بعيد النيروز يتم في كل عام في مناطق الكرد شمال غربي سوريا من دون أي قيود أو عقبات.
وفي خضم التحريض الإعلامي على “حركة التحرير والبناء”، قال القيادي في “تحرير الشام” أبو ماريا القحطاني، إنّ “الأكراد جزء من هذه الأمة ونصرة المظلوم واجبة، ولا بد من محاسبة المجرمين، فكل من في المحرر هم شعب واحد، وعلينا واجب شرعي وأخلاقي أن ننتصر للمظلوم ونأخذ على يد الظلم، الظلم يفني أمما ويهدم دولا (…) لم أجد أصعب من أن يأتي إخوانك وهم يحملون جثث قتلاهم ويطلبون منك النجدة والنصرة، ونسأل الله تعالى أن يعيننا على نصرتهم وإنصافهم”.
تشكيك في نوايا “تحرير الشام”
قوبل تدخل “هيئة تحرير الشام” في القضية باتهامات من قبل بعض المناهضين لها بتدبير الجريمة، بينما رأى آخرون أن الهيئة تحاول استغلال الجريمة من أجل تحقيق مكاسب مختلفة، منها إنهاء نفوذ “حركة التحرير والبناء” على معبر الحمام الحدودي مع تركيا، وتعبيد الطريق أمامها للتوسع في المنطقة، كون مدينة جنديرس تعد البوابة الجنوبية لمنطقة عملية “غصن الزيتون”.
السلفي المناهض للهيئة، أبو حمزة الكردي، قال في منشور على قناته في تلغرام: “لطالما تاجر المنتكس بقضايا الأمة على مدار سيرة حياته، فمرة يتاجر بالمجاهدين وتارة بالمهاجرين وتارة بأهل السنة وتارة بالمدنيين وتارة بالثوابت وتارة بالمصلحة والمفسدة.. واليوم يتاجر بقضية الأكراد، بينما هنالك الكثير من المجاهدين الأكراد في الشام إما في سجونه المظلمة أو بين مطارد وملاحق.. وما أخبار سجن الأكراد في أنصار الإسلام وغيرهم عنا ببعيد”.
من جهته ذكر القيادي السابق في هيئة تحرير الشام “أبو العلا الشامي” أن “الجولانيّ الذي يصوِّر نفسه كذباً وخداعاً ومتاجرةً على أنَّه حمامة سلامٍ وحامي الأقلِّيَّات وأمل الطَّوائف في إدلب وشمالي حلب ليفوز بوكالةٍ حصريَّةٍ أو اعتمادٍ مفضَّلٍ من الخارج، هو نفسه الذي يهدِّد الأطفال بالويل والثُّبور وعظائم الأمور بسبب هتافاتٍ من حناجرهم المقهورة تنبع من أفئدتهم المكلومة من فقد آبائهم”.
بينما أشار الباحث عبد الوهاب عاصي، إلى أن “الجولاني الذي قدّم الدعم والحماية للفصائل المتهمة بارتكاب جريمة أبو غنوم (في مدينة الباب) من أجل إيجاد المبرر لدخول عفرين لن يصعب عليه دعم وحماية عناصر ومجموعات نشطة في فصائل أخرى لارتكاب جرائم مماثلة لدخول جنديرس بعدما اضطر للخروج منها”.
لماذا تدخلت “تحرير الشام” بقوة؟
بعد مضي أقل من 24 ساعة على وقوع الجريمة، أعلنت “حركة التحرير والبناء” عن إلقاء القبض على 3 متهمين بقتل 4 مدنيين كرد في مدينة جنديرس، وتسليمهم لقيادة الشرطة العسكرية. وظهر في بيان الحركة المصور المتهمون عمر صالح الأسمر – مواليد عام 2000، وحبيب علي خلف – مواليد عام 2004، وبلال أحمد العبود – مواليد عام 2000.
مصادر من داخل الحركة ذكرت أن هيئة تحرير الشام حاولت “التسلق على الجريمة من خلال لقاء زعيمها أبو محمد الجولاني بذوي الضحايا ووعوده بإلقاء القبض على المجرمين؛ في حين كانت حركة التحرير والبناء تتابع مجريات القضية والتحقيق بها من دون أي استعراضات إعلامية”.
وقال رئيس “الحركة” العقيد حسين الحمادي في تصريح خاص لموقع تلفزيون سوريا، إن هناك من أراد أن يستغل هذه الجريمة، ويضعها في غير سياقها، مضيفاً “فمنذ تمكن الفصائل من السيطرة على منطقة “غصن الزيتون”، عملنا على تهيئة الظروف للاحتفالات الدينية والقومية، وتأمين الحماية الكاملة والمشاركة في هذه الاحتفالات، ونتعهد بمتابعة حيثيات هذه الجريمة لتقديم كل متورط من الجناة إلى القضاء لينالوا جزاءهم العادل”.
وبحسب عضو المكتب السياسي لحركة التحرير والبناء، زياد الخلف، لم يتبين إلى الآن ما إذا كانت الجريمة مدبرة، لأن التحقيقات مستمرة ولم يُفصح عن تفاصيلها، وقال الخلف في حديث مع موقع تلفزيون سوريا: “منذ الساعات الأولى للجريمة ومن خلال المعطيات التي جرت ومنها مجيء الجولاني شخصياً لاستقبال أهالي الضحايا ونقل الجثامين إلى أطمة، تولد لديّ اعتقاد أن الأمر لم يكن مصادفة إنما كان مدبراً”.
ومن وجهة نظر الخلف، فشلت الهيئة في الاستفادة من الحادثة، قائلاً: “من دون أي شك، كانت عين هيئة تحرير الشام منذ دخولها الأول إلى منطقة جنديرس على معبر الحمام الحدودي مع تركيا، حيث أرادت السيطرة عليه، لكن مقاومة الحركة لها حالت دون ذلك”.
ولفت إلى انخفاض وتيرة تهديد الهيئة بمحاسبة القتلة بسبب قطع حركة التحرير والبناء الطريق عليها، من خلال إلقاء القبض على الجناة، وتسليمهم للمحكمة العسكرية من أجل التحقيق في دوافع الجريمة، مضيفاً أنه “بهذه الحالة فشلت الهيئة في محاولة الاستفادة من الجريمة”.
هل كانت الجريمة مدبرة؟
لم تؤكد “حركة التحرير والبناء” أو غيرها من الفصائل أو المؤسسات العسكرية والقضائية بريف حلب الشمالي أن جريمة القتل كانت مدبرة من أحد الأطراف لاستغلالها لصالحه، فقد أوضح قائد “التحرير والبناء”، أنه “حسب المعطيات المتوفرة لدينا، بدأت الجريمة بملاسنة بين الطرفين، وتطورت إلى شجار وضرب بالأيدي والحجارة، وهذا يدل على أنه في البداية لم يكن هناك سلاح، ولم يكن هناك شيء مبيت لدى الجناة”.
كما أكد أنه ومن خلال حيثيات الجريمة تبين أن دوافع القتل كانت انفعالية ولم تكن بدوافع عنصرية أو تطرف، وهذا الوصف يمكن أن يقود إلى أن الجريمة هي جنائية الوصف بامتياز.
ويؤكد عضو “رابطة أهل العلم في الشرقية” عبد الله الشيباني أن الجريمة غير مدبرة بحسب التحقيقات الأولية التي تشير إلى حدوث مشكلة بين الطرفين ليلة 21 من شهر آذار الجاري، بسبب إشعال المغدورين للنار على منقل، فطلب منهم الجناة إطفاء النار لئلا يلحق الضرر بالخيم العشوائية المستحدثة بعد الزلزال الذي ضرب المنطقة، فرفض المغدورون الطلب وحصلت ملاسنة على إثرها عمد أحد الجناة إلى سلاح والده وقام بإطلاق النار ما تسبب بمقتل المغدورين الأربعة.
وأشار الشيباني إلى أن التحريض على حركة التحرير والبناء ليس وليد اللحظة كما أنه تحريض على كل مكونات الجيش الوطني ومؤسسات الثورة من شرطة وقضاء ومجالس محلية، والغرض من ذلك “واضح في إظهار فشل الإدارة المحلية للمنطقة”.
كما أن تواجد التحرير والبناء في مواقع حساسة في منطقة جنديرس يجعل من الحركة هدفاً للإسقاط والتحريض، بحسب الشيباني، الذي اعتبر في حديث مع موقع “تلفزيون سوريا” أن النقطة المفصلية تكمن في اعتقال حركة التحرير والبناء للجناة خلال 24 ساعة، علماً أنهم ليسوا منسوبين إلى الفصيل وفق ما ذكر بيان الحركة في بداية الجريمة، ذلك في الوقت الذي استنفرت فيه “تحرير الشام” لتفوز بسبق اعتقال الجناة وتكسب مزيداً من الدعاية والإعلان لها.
تقودنا المعطيات السابقة للقول إن الجريمة لم تكن مدبرة من قبل “هيئة تحرير الشام”، لكن ذلك لم يمنع الهيئة في الوقت نفسه من تصدر المشهد وفرض نفسها بقوة كطرف معني بشكل مباشر بما يجري في مناطق سيطرة الجيش الوطني شمالي حلب، خاصة أن الهيئة اشتهرت خلال الأشهر الماضية في اقتناص الفرص لبدء الحملات العسكرية ضد الفصائل الأخرى، وهو ما حدث عند استغلال الهيئة لهجمات الفيلق الثالث على فرقة الحمزة، وأحرار الشام – القطاع الشرقي، من أجل تقويض نفوذه.
كما تؤكد الأحداث الأخيرة أن الهيئة ما زالت متغلغة بكثافة في عفرين وريفها، سواء كان من خلال قواتها الرسمية، أو عبر أدواتها، في انتظار المزيد من الفرص لتوسيع نطاق السيطرة خغرافياً وفكرياً وإدارياً على حساب نفوذ الجيش الوطني.
تلفزيون سوريا
—————————-
===================