منوعات

إن لم يعدّ الجهاد عملاً فما “العمل”؟/ عمّار المأمون

لا نعلم كيف تدبّر أبو الفداء أمره بين 2019 و2023، لكنه أكّد أن عمله في مطعم “سوشي إدلب” لا يعني تركه للجهاد!

ضجّت المواقع الإخباريّة ووسائل التواصل الاجتماعي بسيرة الجهادي السابق أبو الفداء الداغستانيّ، الذي جاء إلى سوريا عام 2015 “للجهاد ومساعدة الشعب السوري”، ومع توقّف المعارك المباشرة عام 2019، يمكن القول إنه وجد نفسه بلا عمل، إلى أن قرر أخيراً افتتاح مطعم للسوشي في إدلب الخاضعة لسلطة “هيئة تحرير الشام”.

لا نعلم كيف تدبّر أبو الفداء أمره بين 2019 و2023، لكنه أكّد أن عمله في المطعم لا يعني تركه للجهاد، أما المطعم، فكان نتيجة خبرته السابقة لكسب لقمة عيشه، التي لا تتجاوز زيارته لمطاعم آسيويّة أثناء “أعماله” السابقة، ويشير  إلى أنه “يستورد” المواد اللازمة من تركيا، لتعريف سكان المنطقة على السوشي.

كلمات “مستورد” و “أسفار” و”أعمال” لا تشير الى المعنى بدقة، خصوصاً أننا لا نعلم خبرة أبو الفداء المهنية، ولا دوره الدقيق كمقاتل، ولا طريق الاستيراد/ التهريب/ التجارة بين الهيئة وبين تركيا، يمكن القول إن مطعم أبو الفداء، مشروع “ناشئ” لا نعلم إن كان هناك ما يشبهه في المنطقة.

 ترافق مطعم السوشي مع محاولات الجولاني تقديم صورة جديدة للمنطقة التي يسيطر عليها، خصوصاً مع حرب أوكرانيا، مؤكداً انحيازه الى الغرب.

القصة مثيرة للاهتمام وتحوي الكثير من المفارقات، التي لا يمكن تجاهلها، والتي تتضح في عناوين الأخبار التي تناولت القصة “من الجهاد إلى الوسابي”، نسبةً إلى الصلصة الحارة التي ترافق السوشي، انتهاءً، هي صلة الهيئة مع تركيا، التي لا تقتصر علاقتها على استيراد الوسابي والسلمون والسماح بمرور المساعدات الأممية، إذ تشير تقارير إلى استثمار الهيئة أموالها  السائلة جنوب تركيا بصورة معلنة.

 ترافق مطعم السوشي مع محاولات الجولاني تقديم صورة جديدة للمنطقة التي يسيطر عليها، خصوصاً مع حرب أوكرانيا، مؤكداً انحيازه الى الغرب، ورسائل عن الوضع الداخلي ونظام “الإدارة” المتّبع هناك، أي بصورة ما، هناك مساحة استثمارية يمكن الاستفادة منها، تتضح مثلاً عبر افتتاح سوق للخضار بتمويل قطري في مدينة “سرمدا” عام 2021،  ربما في محاولة لنفي ما يقال عن المنطقة التي توصف بأنها “مرتع الجهاد العالميّ”.

ما يهمنا هنا مفهوم “العمل”، فمصير الجهاديين الأجانب في المنطقة غامض، وهناك الكثير من السيناريوات حول إشكالية عودتهم إلى بلادهم، أو اعتقالهم من التنظيم، أو المساومة عليهم بوصفهم ورقة سياسيّة، لكن الإشكاليّة ما زالت قائمة، إذ إن هؤلاء الذين وصفهم أبو محمد الجولاني بـ”الأخوة المهاجرين الذي جاؤوا للمساعدة” عام 2021، جزء من الوضع القائم، لبعضهم عائلات و”حياة”، ومع انخفاض وتيرة القتال، لا  بد لهم من “كسب رزقهم”، ففي حين تغوي الهيئة الشباب برواتب تتراوح بين 100 إلى 300 دولار، المقاتلين الأجانب وضعهم غامض، وفي ظل انخفاض وتيرة المعارك، بماذا “يعملون”؟.

بعيداً من التصنيفات الرسميّة، إرهابيون، جهاديون،  واعتقال هيئة تحرير الشام المتهمين بالانتماء إلى “داعش” و”القاعدة”، نحن أمام كتلة بشريّة “أجنبيّة” اعتُقل بعضها، وبعضها الآخر ما زال خاضعاً لسلطة الهيئة، ولا بد لها من “عمل”،  وإن كان خيار العمل في مطعم سوشي يحوي سخرية أو مفارقة، فقد تحول بعض هؤلاء إلى “مرتزقة”، كرستم آزييف ، قائد جماعة أجناد القوقاز، الذي انضم العام الماضي إلى صفوف المقاتلين الأوكران، للجهاد ضد روسيا، وبسبب تضييق الهيئة على المقاتلين الأجانب، يُشكّ أيضاً في أن جماعة “جنود الشام”، قائدها مسلم الشيشاني، قد تنضم إلى جبهات أوكرانيا، ومعها مقاتلون من جماعة “أبو قتادة الألبانيّ”.

طعم السوشي يحوي أيضاً مقاتلين سابقين يعملان الآن كطباخين.

ما يهم هو الكتلة البشريّة الأجنبيّة التي بقيت في شمال سوريا، والتي لا نعلم بدقة مصيرها، وهنا تكمن أهمية حكاية الجهادي صاحب محل السوشي، فهي ربما، وإن كان الأمر  غير واضح،  علامة بداية على الاستقرار،  أي لم يعد وجوده موقتاً، فـ”العمل” و”الدكان” يعنيان أننا أمام “حياة” مدنية، خصوصاً أننا لسنا أمام جهاديين مشابهين لتنظيم “القاعدة” المتخفّي في الجبال سابقاً، ولا لتنظيم “داعش” ذي الحدود المائعة، وإنما نحن أمام كيان شبه سياسي، ذي علاقات دوليّة و سلطة على الأرض.

 يتّسع مفهوم “الاستقرار”، ليعني أيضاً السلطة على الزمن، وامتداد وجود هؤلاء “الأجانب” أو “الأخوة المهاجرين” حسب تعبير الجولاني، وخلق نوع من الانتماء، العمل الجهاديّ موقت، محكوم بلحظة “الموت” القادم حتماً، لا يراهن على الحياة، بل فنائها، في حين أن العمل لكسب الرزق، وخلق علاقات محليّة، مستمر، بل يمكن القول إنه محاولة للمنافسة، خصوصاً أن أبو الفداء امتهن “الإطعام”، وما يحمله هذا النشاط من قدرة على خلق علاقات مع النسيج الاجتماعي القائم، والكسب بعيداً من الصيغة العسكريّة، أي أن الرهان هنا على عرق الجبين والعرض والطلب، لا الاقتتال والراتب وإسالة الدماء.

لا نحاول هنا الحديث عن قصة نجاح، أو تغيير في آراء الجهادي، علماً أنها لم تتغير، لكننا أمام معضلة عودة الجهاديين إلى أوطانهم، محفوفة بالمخاطر بالنسبة إليهم، مصيرهم إما السجن أو الإعدام، ودليل ذلك، هو “ترك” المواطنين الأجانب والأوروبيين في السجون،  ليواجهوا مصيرهم و”عدالة” الهيئة من دون تمثيل قانوني من دولهم. أي بصورة ما، تستغني السيادة السياسية عن مواطنيها، بحجة “صعوبة إعادة دمجهم في المجتمع”. ويمكن القول إن الشمال السوري هو مساحة استقرار للأجانب من نوع ما، وفي حال لم يتم اعتقال الباقين من الهيئة، ترك هؤلاء لممارسة أعمال وأنشطة غير جهاديّة، هو بالضبط ما يشكل ترسيخاً لسلطة الأمر الواقع في الشمال السوريّ، ويخلق إشكالية سكانيّة، هناك صاحب الأرض من يسكن المخيّم وتقريباً بلا عمل، وهناك “الأجنبي” من يعملّ وذو مكان إقامة.

حاورت أحد من يترددون إلى الشمال السوريّ، في محاولة لفهم طبيعة “العمل” هناك، فأشار إلى أن الأجانب نوعان، من أصول عربيّة ومن أصول أجنبيّة، والفئة الأخيرة هي الأكثر إشكاليّة، إذ أشار إلى “مرابطتهم على الثغور” غالبية الوقت، وهم جماعات ذات أعداد قليلة، هم حرفياً “يجاهدون” وسطوتهم تتلاشى في ظل تضييق هيئة تحرير الشام عليهم. أي بصورة بما، المقاتلون الأجانب ورقة بدأت نفقد صلاحيتها، وهنا تأتي المفارقة، مطعم سوشي لجهادي داغستاني سابق، علامة كهذه يمكن قراءتها بوصفها محاولة لإعادة توصيف الشمال السوريّ، إذ تشير بعض الاتهامات إلى تسهيل الهيئة بصورة أو بأخرى عودة الأجانب إلى أوروبا، بذريعة محاربة العدو التاريخي المتمثل بروسيا، وهذا ما لا تريده القارّة العجوز، وهناك من يُعتقل ويُعدم، أما من بقي فيُدجّن، يعمل في مطعم، ويقدم وجبات “إيكزوتيكيّة” للسكان المحليين، في مقاربة  شديدة السخريّة من مفهوم الاندماج، و “الجهادي المهاجر” ذاك الذي لا يستطيع العودة إلى وطنه، استقر في البلد “المُضيف”.

يشير المصدر السابق الى أن مفهوم الاستقرار المرتبط بالعمل الذي افترضته، يحوي بعض المفارقات المفاهيميّة، إذ يرى أن القتال لأجل الأرض أو الجهاد أشد ارتباطاً بمفهوم الانتماء منه من مفهوم “العمل”، فالتركيز على الجانب التجاري فقط من هذا العمل، يعني أنه في حال سنحت “فرصة تجاريّة” أخرى أمام أبو الفداء، فلن يتردد صاحب مطعم السوشي في اغتنامها، أي أن العمل هنا مجرد شأن موقت، وليس تغييراً أيديولوجيّاً، هنا أعلق مستبعداً فكرة تحوّل الجهادي إلى رائد أعمال، مُستعيداً فكرة  ساخرةً عن “المهاجر الجهاديّ”، الذي تشبه سرديّته “المهاجر” التقليديّ، ذاك الذي بعدما استنزف مهاراته في “البلد المضيف”، لم يجد عملاً أو فرصة للاستقرار سوى العمل في صناعة الطعام.

لا ننفي المقاربة الساخرة في المقارنة بين “المهاجرين”، خصوصاً أن مطعم السوشي يحوي أيضاً مقاتلين سابقين يعملان الآن كطباخين، وعلى رغم البحث عن نماذج مشابهة، لم نجد حكايات عن جهاديين أجانب سابقين افتتحوا مطاعم أو ورشات أو انتقلوا للحياة المدنيّة في إدلب، لكن ربما الأمر لا يتجاوز “المفارقة” وخلق خبر لطيف نحمّله أكثر مما يستحق، أو بداية مرحلة جديدة، يتعهد فيها الجولاني بتدجين الجهاديين الذين سيتحولون إلى طهاة في مرحلة ما.

درج

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى