أسطورة الكافيار الروسي: بوتين ودبلوماسية بيض السمك المُريبة/ عمّار المأمون
تغيّر التعامل مع الكافيار كمُنتج روسي يُصنف ضمن البضائع الفاخرة (Lux) مع بداية الغزو الروسي لأوكرانيا، إذ وضع ضمن الحزمة الخامسة من العقوبات الأوروبيّة التي استهدفت فلاديمير بوتين، وبناته، وصادرات الفودكا والكافيار.
بثّت منصة “Russia Beyond” عام 2021 تقريراً بسيطاً بعنوان “ماذا يأكل فلاديمير بوتين؟”، جاء فيه أن “الغداء الرئاسيّ” لا يشمل الكافيار، ولا الفودكا، الشأن الذي يثير الاستغراب، فكيف يمكن لرئيس الدولة الأشهر بتصدير “الذهب الأسود/ الكافيار” ألا يتناول هذا المنتج الوطنيّ، ويروّج له بصورة يوميّة كسلفه إيفان الرهيب في القرن السادس عشر، أو كأي رئيس يفخر بالمنتجات الوطنيّة كالرئيس الفرنسي الراحل جاك شيراك الذي أحب التفاح الفرنسيّ، والرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب الذي يتبنى الـ”ماكدونالدز”.
غياب الكافيار عن طاولة بوتين لا يهدد الصورة النمطيّة المرتبطة ببيض السمك الأسود الفاخر، ولا ينفي وصفه كمنتج وطني روسي، وكجزء من الدبلوماسيّة الروسيّة، إذ تناوله بوتين عام 2018 مع الرئيس الصيني شي جين بينغ أمام عدسات الكاميرات وصنعا Pan cake من الكافيار.
تغيّر التعامل مع الكافيار كمُنتج روسي يُصنف ضمن البضائع الفاخرة (Lux) مع بداية الغزو الروسي لأوكرانيا، إذ وضع ضمن الحزمة الخامسة من العقوبات الأوروبيّة التي استهدفت فلاديمير بوتين، وبناته، وصادرات الفودكا والكافيار. لكن الغريب، أن السعر لم يتغير فعلياً، فهو الآن، بين 14 و16 دولاراً أمريكياً للكيلو داخل روسيا، وهو لم يتغير عما كان عليه في عامي 2018 و2019، أي بصورة ما، الكافيار الروسي متوفر بسعر مقبول داخل روسيا، وفي “الخارج” السعر لم يتغير كثيراً، العقوبات إذاً رمزيّة، ولا تهدف شلّ اقتصاد الكافيار الروسي.
يوصف سوق الكافيار في روسيا بـ”الرماديّ”، بسبب عدم القدرة على ضبطه، خصوصاً أن السوق السوداء الخاصة به أصبحت أشد نشاطاً، بعد تلويح الموقعين على “معاهدة التجارة العالمية لأصناف الحيوان والنبات البري المهدد بالانقراض” بحظر استيراد الكافيار الروسيّ للحفاظ على الأسماك في بحر قزوين، حينها وافقت روسيا وآذربيجان وكازاخستان على إيقاف الصيد حتى عام 2002، في حين لم توقف إيران الصيد. مُنع بعدها عام 2004 استيراد الكافيار من بحر قزوين، وعام 2013 منعت روسيا صيد سمك “الحفشية” الذي يبيض الكافيار.
صرامة القوانين الخاصة بالكافيار، لم تلغ الجدل المحيط بتجارته، إذ أشعل مخيّلة المعلقين السياسيين والمنتقدين عام 2009، حين التقى الرئيس الأميركي الأسبق باراك أوباما مع فلاديمير بويتن، وتناولا فطوراً متأخراً في موسكو، على الطاولة كان عليها كافيار سمكة “بيلوغا” الممنوع صيدها في روسيا، كونها من الفصائل مهددة بالانقراض. وهنا طُرح سؤال، ما مصدر الكافيار الذي كان على الطاولة؟
الإجابتان اللتان اقترحتا حينها إشكاليتان، فنحن إما أمام كافيار مُصادر من المُهربين، أو مستورد من إيران، عدو أميركا، والتي لم تنصع لتعليمات منع صيد أسماك الكافيار من بحر قزوين وخالفت الاتفاقيات الدولية، وفي كلا الحالتين، أوباما في خانة الإحراج.
إشكالية الكافيار تمتد نحو قضايا فساد ونهب وتهريب في روسيا، مع ذلك تحيط به هالة ديبلوماسية كونه ثروة وطنيّة مشبوهة، إذ لم يهدد المنع السابق هذه التجارة ولا سوقها الأسود في روسيا، إذ تشير تقارير إلى أن نصف كمية الكافيار في السوق الروسية عام 2017 كانت مصادرها مشبوهة، ومن تجارة غير شرعيّة، على رغم العقوبات المشددة على من يستخرج الكافيار ويبيعه. نحن أمام “تجارة” خطرة تاريخياً إن صح القول، إذ شهدت التسعينات ما يشبه حرب كافيار بين المافيا الروسية والمدافعين عن الحياة البرية، التي أدت إلى مقتل ما يقارب 20 منهم.
هذه الشبهة المحيطة ببيض السمك الفاخر تتضح في بيان العقوبات الأوروبية، الذي أكّد أن المنع لا يستهدف “الشعب الروسيّ”، بل الكرملين ومن يدعمه من مافيات روسية/ أوليغاركية، تتاجر بالكافيار بصورة غير قانونيّة، مع ذلك لم تتلاشَ هالة الفخامة المحيطة بالكافيار، بل تلاشى اسم روسيا نفسه، خصوصاً أمام الصيد الجائر الذي تتعرض له أسماك “الحفشيّة”، التي مددت دول بحر قزوين من ضمنها روسيا منع صيدها حتى عام 2023، عدا ما يصطاد لأغراض بحثيّة.
إقرأوا أيضاً:
بوتين يغيّر قواعد اللعبة… هل يتدخّل الغرب لإنقاذ أوكرانيا هذه المرة؟
بوتين… مطاردة الصحافة المستقلّة ودفع المجتمع المدني إلى سراديب الموتى
أسطورة الكافيار
تشير مقالات وإحصاءات إلى أن الكافيار في الولايات المتحدة مصدره الصين، لا روسيا التي أنتجت عام 2019 ما يقارب 52 طناً فقط، أمام 634 طناً عالمياً، وصدّرت منها طنّاً واحداً فقط أمام 123 طناً تم تصديرها عالمياً من مختلف الدول، إذ تتربع على قمة المصدريّن للاتحاد الأوروبي كل من إيسلندا والصين والولايات المتحدة، وهنا يتضح مفهوم رمزيّة العقوبات، فهدفها إذاً ليس اقتصادياً، بل تحطيم صورة روسيا ومنتجاتها، فإن أردنا أن نكون واقعيين، فالأمر يتعلق بكافيار “أوستيرا” غالي الثمن، وحسب.
السعي إلى تحطيم أسطورة الكافيار الروسي، أتى على مراحل عدة مع بداية الحرب على أوكرانيا، بدأ الأمر بالعقوبات، وترافق مع ظهور الأصوات التي تقول إن الكافيار ليس روسياً وإيرانياً فقط، هناك مثلاً الكافيار البولندي، الذي أنتجت شركة “كافيار أنطونيوس” 42 طناً منه عام 2021، تضاف إلى ذلك المحاولات الفرنسية لإنتاج كافيار محليّ ضمن مزارع مائيّة لسد الطلب الوطني. والأهم، الوقوف بوجه الصين التي أصبحت رائداً عالمياً في إنتاج الكافيار، فشركة صينية واحدة تُنتج ما يزيد عن 40 طناً سنوياً، وتدعي تزويد 21 مطعماً فرنسياً بالكافيار من أصل الـ27 التي تحمل ثلاث نجمات ميشلان، ويتداول حالياً مقولات مثل الصين “تغرق” السوق بالكافيار ما أدى إلى انخفاض أسعاره عالمياً، أي الخطر حالياً هو الغزو الاقتصادي الصيني لا فقط معاقبة روسيا وتدمير هالتها.
الأسلوب الآخر الذي يستهدف الكافيار الروسيّ يرتبط بالذنب الأوروبي والأمريكي، وانتشار موجة مقاطعة كلّ ما هو روسي، لكن الكافيار إشكالي، هو علامة على الغنى، والندرة، وهنا ظهر دور الشركات الأخرى، التي تستهدف الكافيار الروسي، بوصفه ليس الوحيد، فروسيا لم تعد المصدر الأول، وبالإمكان استهلاك كافيار من مصادر أوروبية ومحليّة، من دون الشعور بالذنب تجاه الأوكرانيين الذين تنتهك روسيا حريتهم وتحتل بلدهم.
تحول الأمر أيضاً إلى ما يشبه السخريّة، إذ نشرت “النيويورك تايمز” مقالة أرشيفية تعود إلى عام 1982 عن “حرب أسعار” بين متجرين أميركيين حول الكافيار الروسي، بصورة أدق تنزيلات نهاية العام التي خلقت نوعاً من المضاربة، إذ صرح حينها صاحب أحد المتاجر بأن “الدماء ستسيل في الشوارع” نتيجة تلاعب الأسعار. لا نعلم إن كانت الإحالة إلى الآن، تستهدف الذوق الرفيع الذي يطلب الكافيار الروسي فقط، أو الإشارة إلى مفارقة مفادها أن الكافيار لم يعد شديد الغلاء، وما من داع لسفك الدماء لأجله.
كلّ بلا ذنب
تلاشي الدور الذي يلعبه الكافيار الروسيّ، هدد مكانة روسيا ربما، إذ نقرأ مثلاً أن بوتين نفسه تذوق الكافيار الصيني مرتين، مرة في قمة الـG20 عام 2016، ومرة ثانية، عام 2018، في الحادثة التي ذكرت في البداية، إذ كان الكافيار صينياً، لكن أليست الصين حليفة روسيا أيضاً؟ الذنب إذاً واحد الآن، لكن العداوة تجاه روسيا فقط، أما الصين فما زال شأنها حساساً، ولا يمس الكافيار مباشرةً.
كل هذه المقاطعة والمحاولات للوقوف بوجه الكافيار الروسي، لا تعني أنه اختفى، هذا العام تم إيقاف شاحنتين تحاولان تهريب 250 كلغ من الكافيار نحو كازاخستان، قبلها عام 2019 صادرت موسكو نصف طن من الكافيار الأسود، ولا نعلم إن كانت طرق التهريب البريّ هُددت في الحرب مع أوكرانيا، كونها تمر عبر تركيا وجورجيا نحو الاتحاد الأوروبيّ، كما أن صعوبة تحديد مصدر الكافيار يشكل عقبة أمام التحقق من مصادر البضائع التي تصل إلى الاتحاد الأوروبي، إذ يمكن أن يكون المصدر روسياً أو حتى إيرانياً.
أكثر ما يثير المفارقة في شأن أسطورة الكافيار ما يُسمى بالصيد الاحتجاجي بسبب قوانين منع صيد الأسماك في بحر قزوين، إذ واصل بعض الصيادين الصيد، رفضاً للمنع الذي صادر رزقهم، ناهيك بأن المزارع الاصطناعيّة لإنتاج الكافيار، حرمت كثيرين لقمة العيش، فاستمروا بالصيد من دون أن نعلم بدقة مصير ما يصطادونه، كما أن بعض الذواقة ما زالوا يفضلون الكافيار الروسي البريّ، وكافيار أوستيرا الذي يتراوح سعر الأونصة الواحدة منه بين 450 و650 دولاراً.
درج