الترجمة الآلية…حدود المفردة ومتاهة التأويل/ سامر أبوهواش
تجربة على ترجمة الشعر بين “غوغل” و”تشات جي بي تي”
من المعلوم لكلّ مشتغل في الترجمة، ومهتم بتطورها، الدور المهم الذي لعبته النصوص المقدسة في بزوغ هذه الصنعة بادئ ذي بدء، ثم في تطورها وصولا إلى زمننا الراهن، عندما باتت الترجمة فرعا أكاديميا معترفا به وله مناهجه ونظرياته وتقاليده. ولنا في ترجمة الكتاب المقدس من اليونانية إلى اللاتينية خير مثال على ذلك. وليس من المفاجئ أن مفاهيم تعدّ رائجة اليوم في عالم الترجمة، مثل الترجمة الحرفية، والترجمة التأويلية أو الدلالية، والخيانة والأمانة، وما شابه ذلك من مفاهيم، قد طرحت للتداول منذ تلك البدايات المبكرة. فأيّ موضع أنسب من الزجّ بكلمتي “الخيانة” و”الأمانة” من نقل كلمة الله؟ بل إن الكلمة الأنسب لمقتضى الحال، والتي وردت على سبيل المثال، في الحكم الذي قضى بإعدام الإنجليزي وليام تيندال Wiliam Tyndale في العام 1536بسبب ترجمته الكتاب المقدّس من الإغريقية إلى الإنجليزية، كانت “الهرطقة”، تلك الكلمة الفضفاضة التي علّق الآلاف بسببها على الصليب، والتي توازي في الحكم آنف الذكر، بين الترجمة والكفر وتجعل منهما فعلا واحدا أو “جريمة” واحدة.
وفي هذا السياق يلفت الباحثان كيفن ويندل وأنتوني بيم، في مقال لهما قبل أزيد من عشر سنوات، إلى حادثة أخرى، قريبة زمنيا من حادثة إعدام تيندال، وهي إعدام الفرنسي إتيان دوليه Etienne Dolet عام 1545، بتهمة “سوء ترجمته” mistranslation لمحاورات أفلاطون. وكان دوليه الذي اعتبر من يترجم النصوص حرفيا بأنه “مفتقر إلى الحكمة”، قد أوّل عبارة أفلاطون “بعد الموت لا يعود لك من وجود”، فأضاف إليها عبارة “ولن تكون شيئا على الإطلاق”، وهذا التأويل عدّته السلطات الدينية في ذلك الوقت إنكارا للحياة الآخرة، وما يستتبعه ذلك من تكفير وإقامة لحدّ السيف.
سلمان رشدي
ننتقل في الزمن خمسة قرون ونصف القرن، حيث شهدت نهايات القرن العشرين، حادثة فظيعة، عندما قتل، في يوليو 1991، الباحث والمترجم الياباني هيتوشي إيغاراشي، طعنا في مكتبه في الجامعة التي يدرس فيها، وذلك بعد محاولة قتل سبقتها بعام لدى إعلانه عن ترجمة رواية سلمان رشدي “آيات شيطانية”. وفي يوليو من العام نفسه جرت محاولة قتل المترجم الإيطالي الراحل إيتوري كابريولو، بوسيلة الطعن أيضا، للسبب نفسه، وهو ترجمة الرواية المحرّمة. الدلالات والصلات واضحة في ما ذكرت، بين القرون الوسطى في أوروبا، وظلامية القرن العشرين التي كادت تودي بحياة سلمان رشدي نفسه قبل فترة ليست بطويلة.
جريمة سلمان رشدي هي التجرؤ على النص المقدّس من خلال التأويل والتخييل. أما جريمة إيغاراشي وكابريولو، فهي ببساطة الترجمة، حيث أن ناقل الكفر، ما زال يعتبر في مناطق كثيرة من العالم، وعلى عكس القول المأثور الشائع، كافرا بالثلاثة. فهو شريك أساسي في عملية تلقي الكتاب في اللغة التي يترجم إليها، وإن لم يكن له يد في كتابته. وهذا يقودني إلى موضوع هذه المداخلة، وهو الترجمة الآلية، أو الترجمة في زمن الذكاء الاصطناعي، بناء على ثنائية الأمانة (الحرفية) والخيانة (التأويل)، والثقل الذي يحتله كلّ منهما في ترجمة النص الإبداعي، والشعري على وجه الخصوص. فأسأل: ماذا لو لم يكن المترجم “شريكا” في صنع عملية التلقي أو صنع النص في اللغة والثقافة المتلقّيتين له؟ فالنفس أمارة بالسوء، والخيانة مفهوم عريض قد يودي بالمرء إلى التهلكة؟ فلم لا نسلّم الأمر إلى آلة أو إلى ذكاء أعلى أو عقل رقميّ لوغاريثمي، يحلّ أخيرا المعضلة المطروحة منذ مئات السنين وإلى يومنا هذا، حول الطريقة المثلى لترجمة النص؟ سؤال تتصاعد حدّته ودرجة أهميته، كلما دعت الحاجة وتزايدت إلى التأويل والتخييل. فترجمة لوحة إعلانية أو إشارة سير أو تعليمات تشغيل مكنسة كهربائية، لا تستدعي التأويل، ولا تستفزّ المخيلة، الذي قد تتطلبه ترجمة خبر صحافي على سبيل المثال، فترجمة خبر صحافي قد تتطلب أحيانا بعض الإسهاب أو الشرح، بحسب ثقافة المتلقي وقربه أو بعده عن الخبر المنقول، أما ترجمة مقال سياسي فستتطلب حكما درجة أعلى من التأويل، لكنّ غياب التأويل هنا لن يحجب على الأرجح إمكانية التلقي وإن قلّل منها.
أما حين نتكلم على الآداب، بما في ذلك النقد الأدبي، فإن التأويل والتخييل لا يعودان خيارا، بل إنني أزعم أنهما مقتضيان من مقتضيات الترجمة وضرورتان من ضروراتها. والنقاش هنا لا يعود متعلقا ببديهية ممارسة تأويل النص من عدمه، بل بمدى الحرية الممارسة في عملية التأويل هذه. يحضر الشعر هنا، بوصفه الجنس الأدبي الأكثر إثارة للحفيظة عندما يتعلق الأمر بالترجمة والتأويل.
أدع هذه المسألة جانبا، لمزيد من الدرس اللاحق، وأنتقل سريعا إلى الترجمة الآلية، لأسرد تجربة قمت بها أخيرا، فقد طلبت على التوالي من برنامج الترجمة لدى غوغل، ثم من مالئ الدنيا وشاغل الناس هذه الأيام، وأعني به برنامج الذكاء الصناعي “تشات جي بي تي” ترجمة مطلع قصيدة محمود درويش “في القدس” (لا تعتذر عما فعلت، 2004)، إلى اللغة الإنجليزية، يقول درويش:
في القدس، أعني داخل السور القديم،
أسير من زمن إلى زمن، بلا ذكرى
تصوّبني.
وقد جاءت ترجمة غوغل كالآتي:
In Jerusalem, I mean inside the old wall
I walk from time to time without memory
aim me
أما ترجمة “تشات جي بي تي”، فكانت كالآتي:
In Jerusalem, inside the old walls
I wander from time to time
without a memory to guide me
وأما الترجمة البشرية، فقد اخترتها لأشهر من ترجموا درويش فادي جودة، فهي على النحو التالي:
In Jerusalem, and I mean within the
ancient walls
I walk from one epoch to another
Without a memory
To guide me
مشتركات
سنجد في ترجمة غوغل وهي الترجمة الآلية الأشهر والأكثر استخداما في العالم، ما يشترك مع ترجمة “تشات جي بي تي” والترجمة البشرية، فهو يشترك مع الأولى في ترجمة “من زمن إلى زمن”، ويشترك مع فادي جودة في ترجمة “أسير” بمعنى المشي، في حين تحمل ترجمة تشات جي بي تي كلمة دلالية هي wander “أطوف أو أرتحل”. كما تشترك ترجمة الذكاء الصناعي في ترجمة كلمة “تصوّبني”، إلى to guide me, في حين جاءت ترجمة غوغل خاطئة حتى بالمعنى القواعدي وهي aim me” التي حتى لو أضفنا إليها حرف الجرّ to فستظل خطأ. برنامج “تشات جي بي تي” يعرف فادي جودة، فقد سبق وسألته عنه، وأجابني بفقرات وافية عن تجربته خصوصا في ترجمة محمود درويش، فليس سهلا علينا أن نحدّد ما إذا كان خياره بترجمة “يصوبني” مطابقا لخيار فادي جودة، أي to guide me، لاسيما وأن هذا النص منشور على الإنترنت، أم أنها محض صدفة، أو محض ذكاء تأويلي للكلمة هذه. وإذا كان “تشات جي بي تي” استطاع أن يترجم بنفَس شبه بشري هذه الكلمة، فلماذا عجز غوغل عن ذلك؟ هذا ربما يوضح الفرق بين الترجمة الآلية، وبين برامج الذكاء الاصطناعي لجهة أن الأولى تتعامل مع الكلمات بطريقة قاموسية، معتمدة في الغالب على القواميس العربية الحديثة المعتمدة، أما برامج الذكاء الاصطناعي فتتعامل أكثر مع السياقات.
لكنّ المسألة الأساسية تظلّ ليس في خطأ هنا أو هناك، ولا في تأويل مشترك أو مفارق، بل في إيقاع القصيدة. ففي حالتي غوغل وتشات جي بي تي، نحن أمام كلمات مصطفة جنبا إلى جنب، تحاول إيجاد معادل لغوي للنص الأصلي، وإذا كانت عند غوغل لا تكترث باستواء المعنى وسياقاته اللغوية والفنون التعبيرية التي تؤدي إليه من تشابيه ومجازات واستعارات وما إلى ذلك، فإنّ للمعنى نصيب أكبر من الاهتمام في ترجمة تشات جي بي تي، أي أن تكون العبارة سليمة مبنى ومعنى، وليس مبنى فحسب، إلا أن المعنى الدلالي في الشعر لا يقف عند حدود المبنى والمعنى، بل يتجاوزهما إلى ما يسمى الإيقاع (الذي يجد معادله الموسيقى في الشعرية العربية والغربية الكلاسيكية عبر الوزن والقافية)، وما أحبّ أن أسميه بـ صوت الشاعر.
صوت الشاعر
إن ما يجسده فادي جودة في ترجمته هو صوت محمود درويش، وفي هذا الصوت تكمن روح الشاعر ونصه معا، وفي تلك الروح طبقة عليا، دقيقة وخفية، من الدلالة، لن يكون في مقدور أيّ برنامج آلي أو ذكاء اصطناعي، رصدها أو التعبير عنها.
قبل أيام، وتحديدا في الثامن من مارس، اليوم المتزامن مع “يوم المرأة العالمي”، توّجت الشاعرة العمانية عائشة السيفي، بلقب “أميرة الشعراء” في البرنامج التلفزيوني العربي الأشهر الذي يحمل لقب الشاعر المصري الراحل في ثلاثينيات القرن الماضي أحمد شوقي، وهي أول امرأة تتوج أميرة على الشعر العربي، الأمر الذي استفزّ حفيظة كثير من التقليديين، رغم أن الشاعرة تنتمي جوهريا إليهم، وتكتب القصيدة العربية الكلاسيكية الموزونة والمقفاة، التي عفا عليها الزمن، وقد أصبحت الشاعرة ضحية للتنمر عبر وسائل التواصل الاجتماعي، بسبب مقطع من إحدى قصائدها، انتشر كالنار في الهشيم،
في هذا المقطع المجتزأ من سياقه تقول الشاعر:
يد غضة تفرك الغيم
قط يطير برجلين
بحر على تلة يجلس القرفصاء
فكيف ليد أن تفرك الغيم؟ وكيف لقط، إن طار، أن يطير برجلين وليس بجناحين، وكيف لبحر ليس فقط أن يصعد تلة، بل أن يجلس القرفصاء؟
استفدت من هذا المقطع لأختبر الترجمة العكسية، أي من العربية إلى الإنجليزية.
وبدأت مع غوغل، حيث كانت النتيجة في البداية:
A tender hand rubs the clouds
Never fly with two legs
Bahar on a hill squatting
بسبب غياب الشّدّة عن قط، فقد اعتبرها البرنامج “قط” بمعنى البتة، أما بحر فاعتبره البرنامج اسما لغياب تنوين الضم عن نهاية الكلمة، أما حين أضفت الشدة والتنوين فقد استبدل البرنامج قط، بالقط، وبحر، بالبحر.
A tender hand rubs the clouds
A cat that flies with two legs
A sea on a hill sits squatting
أما برنامج “تشات جي بي تي”، فأعطاني في البداية جوابا مدهشا، لكنه لم يعطني نصا شعريا، يقول:
“تعني هذه القصيدة: يُظهر السطر الأول يدا صغيرة ورقيقة تفرك الغيوم، مما يمكّن الشمس من التسلل من خلالها وتنير الأرض.
وفي السطر الثاني، يظهر قطٌّ يطير برجليه، وهذا الصورة غير مألوفة ومدهشة، مثل تلك الأشياء التي تحدث فقط في الأحلام.
وأخيرا، في السطر الثالث، تظهر صورة غير متوقعة أخرى، حيث يجلس القرفصاء – وهو حشرة – على تلة تشبه البحر”.
انتبهت إلى أن سبب جواب البرنامج باللغة العربية، هو أنني طلبت منه بالخطأ أن يترجم المقطع من الإنجليزية إلى العربية لا العكس، ولما كان المقطع أساسا بالعربية، فقد فهم البرنامج من كلمة “ترجمة” أنني أريد منه أن يشرح لي القصيدة، أي أن يؤولها بهذه الطريقة.
وحين صوبت الأوامر، جاءت الترجمة كالآتي:
“A gentle hand rubs the clouds A cat flies with two legs A sea on a hill where a beetle sits”
ما الذي تفعله “الحشرة” في جواب “تشات جي بي تي” الأول، وما الذي تفعله الخنفساء، في جوابه الثاني؟
خنفساء وقرفصاء
لم يطل بي الأمر حتى انتبهت إلى أن البرنامج خلط ببساطة بين “الخنفساء” و”القرفصاء”، وبما أن غوغل ليس بأكثر ذكاء من تشات جي بي تي، فقد بدا مستغربا أن يصيب الأول ترجمة الكلمة، ويبتعد الثاني كلّ البعد عن معناها. المشكلة ببساطة في التأويل. ففي حين تعامل غوغل مع البحر الذي يجلس القرفصاء، بوصفه كلمات مرصوفة، وبالتالي وفّق في حالة هذا المثال، في ترجمة الكلمات ترجمة دقيقة، فإن “تشات جي بي تي” اضطر إلى استعمال “مخيلته” وقدراته التأويلية، بما أنه لا يعقل أن يكون الشاعر قصد جلوس البحر القرفصاء، فلابدّ من أنه يقصد “الخنفساء” التي يبدو جلوسها على رأس تلة، أقرب منطقيا وعقليا من جلوس البحر، وساعده على ذلك تشابه مبنى الكلمتين أو شكلهما، وكان عليه أن يفسر “يجلس القرفصاء”، إلى “يجلس الخنفساء”، لكن ماذا يفعل بالبحر في هذه الحال؟ في النص الأول يقدم لنا البرنامج منطق تفكيره وكيف قرأ العبارة، حين يقول: ، في السطر الثالث، تظهر صورة غير متوقعة أخرى، حيث يجلس القرفصاء – وهو حشرة – على تلة تشبه البحر.
بين غوغل و”تشات جي بي تي”، نحن أمام شقيقين في صف دراسي واحد. الأول متزمت يلتزم بمنهج الحفظ والتكرار، والثاني وبسبب واقع أنه أعاد الصفّ عدة مرات، ينحو إلى التفسير والتأويل، أو ما نسميه الفذلكة، وتفذلك فلان بحسب لسان العرب أي “تلاعب بالكلمات موهما صدق حديثه”.
فالرحلة ما زالت طويلة، والوجهة ما زالت غير معلومة، والمؤكد أن ما نراه من تخبط في برنامجي غوغل وتشات جي بي تي، ليس ببعيد كل البعيد، عما نراه من أشكال الترجمة وأنماطها في عالم البشر، من ترجمة حرفية تصيب الكلمات وتقتل المعنى، إلى ترجمة ذكية “تأويلية” تصيب الكلمات أو لا تصيبها، لكنها في كل حال، وهنا خطورتها، لا تخطئ في المعنى، بل تصنع معنى جديدا خاصا بها.
المجلة