العدمية السورية وفنّ صناعة التفاهة/ عبير نصر
ليس من باب تعليل الأمل أو معاندة الواقع الحالي المأزوم القول إنّ تعدّد الانقلابات العسكرية، التي بدأت نهاية أربعينيات القرن الماضي، ساهم في إغناء سورية، وجعلها تنمو سياسياً واجتماعياً واقتصادياً وفكرياً لتعيش عصرها الذهبي، إلى درجة نالت فيها دمشق في عام 1950 لقب “عاصمة الأناقة” في العالم، لا بل كان سيُطلق على سورية “يابان الشرق الأوسط”، لو قُدِّر لهذه المسيرة أن تستمر، ووفقاً لفريقٍ اقتصادي ألماني زارها آنذاك، لأصبح سعر الليرة السورية موازياً لسعر الفرنك السويسري. وبعد تاريخ 8 مارس/ آذار عام 1963، سيُقدّر للبلاد أن تغوصَ في وحل الاستبداد، مدفوعة بالثقل الأخطبوطي لعسكرة المجتمع، الذي شكّل سدّاً منيعاً في وجه التحوّل السلس من سلطة تسلّطية مستوطنة إلى سلطة انتقالية تستوعب ما تبقّى من الدولة. أدّى هذا كله إلى غليانٍ مخفي تحوَّل في لحظة غير متوقعة إلى انتفاضة شعبية، قُيّد لها أن تواجه نظاماً متجذّراً في بنى المجتمع عبر احتلاله المساحة البصرية واللغوية على الجغرافيا السورية كاملة. فأينما تذهب، ترى صور الزعيم وتماثيله، وعبارات الولاء والتمجيد، وهو ما كرّست له سلطة الأسد جهدها وماكينتها الإعلامية عبر عقود القهر، نوعاً من البرمجة اللغوية العصبية للسوريين، الذين غرقوا أخيراً في مستنقع التتفيه والتيئيس، الغاصّ بفيروسات التطيّف والتطرّف والانتقام والاستئصال والثأر، لتتحوّل سورية إلى ورقة في مهبّ صراعات دولية وإقليمية، تتزاحم وتتسابق على احتلال بلدٍ جرى تفريغه من دواخله ومن معناه.
واليوم، أي حضيضٍ وصلت إليه سورية بعدما غدت عاصمتها أسوأ مدن العالم معيشة؟! دمشق، وهي أول مدينة عربية، استخدمت “الترام” في مواصلاتها، وافتتحت فيها بنوك وشركات وفنادق عالمية، وأول مدينة عربية سارت سيارة في شوارعها عام 1905، وأول من تأسّس فيها برلمان، وافتتحت بها جامعة… وعليه، أليس من الفصام أن يغدو حاكم هذا البلد سلطة مطلقة مقدّسة فوق التاريخ، وفوق الأمة، وفوق القانون، والمحكمة الدستورية العليا التي يمكن لها أن تسأله، أصبحت تُقسم هي بحياته؟! المؤسّسة العسكرية، بدورها، والتي كانت صمّام البلاد في مواجهة الأخطار الخارجية والتنافسات الداخلية ومراقبة نزاهة الانتخابات، باتت هي من تهندس صناديق الانتخابات الوهمية. مجلس الشعب، الذي كان أول برلمان عربي يسير في طريق الديمقراطية منذ عام 1932، تحوّل إلى قبّة لا تتجاوز مهامها المديح والتصفيق. الصحف التي كان يُغلقها المحتلّ الفرنسي، وما تلبث أن تستهلّ صدورها بعد أيام، أغلقها الرفاق حتى قيام الساعة. التأميم الذي حكم على الاقتصاد السوري بالإعدام، بهدف إعادة توزيع الثروة بين الأغنياء والفقراء، ذهب بتلك الثروات لجيوب رفاق العشيرة وأصحاب النفوذ! … إلخ.
إذاً، دعونا نجزم باطمئنان بأنّ نظام الأسد سعى، ومنذ بداية حكمه، إلى تسويق ثقافة التفاهة والعبث، انطلاقاً من الانكفاء المجتمعي على الذات المحطّمة والممزّقة بالمنظومة الأمنية السرطانية، والإنتاج الواسع لظاهرة الانحسار عن الشأن العام. وبعيداً عن لغة الأرقام والإحصائيات، بات من البديهيات التسليم بأنّ السوريين نال منهم أخيراً هذا “العبث العدميّ” الممنهج. الأمثلة لا تُعدّ ولا تحصى، ليس بداية بتصريحات المسؤولين الاستفزازية وخطابات الحاكم الرنّانة، أيضاً القرارات الجائرة، ولن يكون آخرها، مثلاً، أن عندما تقدّم رئيس المكتب السياسي لحزب الشباب والتغيير بطلبٍ يهدف إلى اعتصام سلمي وحضاري بهدف مطالبة الحكومة بالاستقالة، كان الردّ من معاون وزير الداخلية أنّ الظروف الاستثنائية التي تمرّ بها سورية بسبب “الزلزال” لا تسمح حالياً بمثل هذه الاعتصامات، في وقتٍ تسعى خلاله الحكومة إلى تجاوز الأزمة، والتركيز على دعم المتضرّرين، والابتعاد عن القلقلة وتسجيل المواقف الزائفة لأبعاد شخصية!
هذا الموشّح السلطوي الممجوج، أسوة بآلاف الموشّحات السابقة، يأخذني باتجاه رواية “ظلّ الريح” للإسباني كارلوس زافون (2001)، وفيها يقول على لسان إحدى شخصياته المتمرّدة: “لن يفنى العالم بسبب قنبلة نووية، بل بسبب الابتذال والإفراط في التفاهة، التي ستحوّل الواقع إلى نكتة سخيفة”. لنتمعن قليلاً… ألا تبدو هذه الجملة المثيرة للجدل أشبه برؤية مسبقة للمصير السوري؟ يعزّزها دوستويفسكي في كتابه “مذكرات القبو”، والذي أظهر أنّ تسابق الشباب نحو الحروب ليس سوى نزوات عدمية لا جدوى منها، فالعدمي تحيا ذاته شخصية متوحدة منعزلة، كغريبٍ لا يمتّ للعالم الخارجي بصلة. بهذا المعنى، يعيش السوريون لعنة الاغتراب بأقسى معانيه، لتبدو العدمية السورية أزمة مجتمعية عميقة ومُستحكمة، وانفصاماً عميقاً بين مواقع القيادة السياسية الفعلية الفاقدة للشرعية والشرعية الثقافية أو الحضارية الفاقدة للقيادة، ذلك أنّ التأثيرات الهدّامة للعدمية ستدمّر، في النهاية، كلّ المعتقدات الأخلاقية، والدينية، والميتافيزيقية، وتؤصل للأزمة الأعظم التي ستواجه الفكر البشري في التاريخ، على حدّ تعبير نيتشه.
بطبيعة الحال، تأتي مقولة “من أصابه البعوض لا يقتلها واحدة واحدة، بل يجفّف المستنقع”، لتعرّي المنطق الاستبدادي الخاص بنظام الأسد، الذي نجح في عزل الدولة عن المجتمع، بغية حماية نفسه من هزّاتٍ طارئة قد تزعزع استقراره. ومن المفيد الإشارة، في هذا السياق، إلى مشاعر الهوان وافتقاد الكرامة التي يلوكها السوريون بصمتٍ مريب، لأنها تجعلنا نفهم طبيعة التحدّي الذي فرضه هذا النظام المتعالي على إرادة شعبه، إضافة إلى التفريغ الرمزي وغزو الشعارات الجوفاء للفضاء السوري العام، الذي كان أخطر أشكال هدم الدولة. يؤكّد هذا كله أنّ حكم الأسد تحوّل إلى مجرّد “عبث سياسي”، ومن رماده انبعث هذا “القمقم العدمي” الأشبه بنكتة سمجة. وفي غيابِ خطابٍ حقيقي يأخذ بالاعتبار قدسية المصلحة العامة بدون لفّ أو دوران، سيزداد الوضع استفحالاً، وقد يصيب مفهومي الهويّة والمواطنة بانتكاسة لا تقوم لها قائمة/ وفق ما تسمّى “العدمية الارتكاسية”، بعدما بات الوطنُ محنّطاً، بعد أن اختطفته أقليّة من المنتفعين المتستّرين تارّة بسياج القانون، وتارّة بمؤسسات سيادية. وصلة بالموضوع، يبدو تصدير التفاهة في المجتمع السوري اليوم وكأنه فقهٌ محبب، وربما شعائر وطنية لا بدّ من تأديتها وفق قوانين مجتمعية لا ريب فيها. وبقليلٍ من التأمل في علاقات السوريين مع بعضهم بعضاً، يزداد الاقتناع بأنهم، جميعاً، غارقون في مستنقع لا متناهٍ من اللا جدوى العدمية!
ليس “عصر التفاهة السوري” واقعاً في الغيب أو ظاهرة معزولة عن شروطها التاريخية. بالعكس، إنه اكتمالٌ طبيعي لتراكماتٍ عنفية وقمعية متطرّفة. ولكن هذا الاكتمال ليس نتيجة آلية لما سبق، بقدر ما هو طفرة مضافة وُلِدت في سياق نظام سلطوي مجرم، تغوّل ما إنْ أزال القناع أخيراً، فنزع القشور الأيديولوجية، كما شلح سترة الخطابات والأقنعة، وجاء يحمل هراوة، يدوس عسكره على أجساد الناس، وهم يصرخون “بدك حرية.. هي حرية”. كشف عصر التفاهة هذا عن ماهية “الوطن العدمي” الذي انتهى إليه السوريون، تحت حكم “الأسد إلى الأبد”، من ارتفاع مستوى المهانة، وفقدان أفق الخلاص، وشيوع اليأس والتهميش الاجتماعي، وازدياد مشاعر العجز والازدراء والنبذ والاستعباد، وتحوّل اقتصاد البلاد إلى اقتصادٍ هشّ ينخره الفساد، تديره بطريقة سيئة منظومة لصوصية، نكّارة نشّالة أفرغت البلاد من ثرواتها المادية والحسّية، وجعلتها، وفق تعبير المفكر الأميركي بنجامين فرانكلين “بلا خبز وبلا حرية”.
العربي الجديد