“المرض بالغرب” والخطاب العربي المعاصر… تحية واجبة إلى جورج طرابيشي/ عبدالله أمين الحلاق
يُعتبر الراحل جورج طرابيشي واحداً من مثقفين ومفكرين سوريين وعرب، ساهموا في صياغة وتطوير التفكير النقدي لدى أجيال من العاملين في الحقلين الثقافي والأكاديمي، وعلى امتداد عقود شهدت إنتاجاً غزيراً له، كتابةً وتأليفاً وترجمةً ونقداً.
ولعلّ أول ما يتبادر إلى الأذهان بمجرد ذكر اسمه، تلك “المناظرة” الشهيرة والمكتوبة بينه وبين الأكاديمي المغربي محمد عابد الجابري، صاحب مشروع “نقد العقل العربي” المتضمَّن في أربعة كتب رئيسية، والذي تفرغ طرابيشي للرد عليه ومساجلته على امتداد ربع قرن، ضمن رباعية حملت عنوان “نقد نقد العقل العربي”، قبل أن يضيف إليها ما يمكن اعتباره جزءاً خامساً وهو كتابه “من إسلام القرآن إلى إسلام الحديث، النشأة المستأنفة”. وإذا كانت هذه المناظرة، والتي بقيت مناظرة من طرف واحد ومن دون ردود عليها من قبل الجابري، من المناظرات التي “يأسف المرء لكونها مرت في الثقافة العربية مرور الكرام” بحسب حسام عيتاني، فإنه من الظلم اختزال طرابيشي في كونه فقط مساجلاً للجابري، على ما يتقصد كثيرون، بعيداً عن كل ما ترجمه أو ألّفه وأغنى به خزانة المكتبة العربية.
هذا المقال تحية غير متأخرة إلى طرابيشي في ذكرى رحيله، وتتضمن المساحة الأكبر منه عرضاً لواحد من كتبه التي لم يتم تناولها كثيراً، وهو كتاب “المرض بالغرب، التحليل النفسي لعصاب جماعي عربي”. أما الدافع الرئيس وراء اعتبارها “تحية غير متأخرة”، فلأنّ مضمون الكتاب وتناوله الهزيمة الحزيرانية عام 1967 وأثرها النفسي على “الجموع” يبقى راهناً حتى اليوم، مع الهزائم الكثيرة التي منيت بها مشاريع التغيير في المنطقة، قبل وبعد هزيمة الثورات العربية، ومع المآسي التي وصلت إليها بلدان تلك الثورات.
في المنهج
جورج طرابيشي هو المترجم الذي نقل مؤلفات سيغموند فرويد إلى العربية وعن لغة وسيطة هي الفرنسية، وعرّف القراء العرب بها، قبل أن تَصدر ترجمات مختلفة لمؤسس التحليل النفسي ومنها ترجمات جديدة ومنقحة لطرابيشي نفسه، وهو يروي حادثة “طريفة” عن بداية علاقته بفرويد، ضمّنها ضمن مقاله الأخير “ست محطات في حياتي”.
بدأت قصته مع فرويد عندما كان يجلس إلى مائدة الطعام ويمسك برغيف الخبز، فلا يجد نفسه إلا وهو يقطّعه من أطرافه لا شعورياً، وسط اعتراض زوجته وابنتيه، وكان لا يستطيع منع نفسه من تفتيت الخبز حتى بحضور ضيوف على المائدة. وهكذا إلـى أن صادف ذات مرة أن قرأ مقالاً كان في الغالب لأحد تلاميذ فرويد، يحكي فيه عن هذه الظاهرة النّفسية ويعتبرها عرضاً عصابياً بصفتها فعل تمزيق لا إرادي ولا شعوري للأب. يقول طرابيشي: “عندما قرأت هذا المقال أُصبت برجفة: فأنا إذن أمزّق أبي! وبالفعل كنت على صدام في مراهقتي مع أبي. ومنذ أن قرأت ذلك المقال انفتحتُ على التحليل النفسي، وعكفت على قراءة فرويد ثم شرعت أترجم له.. وأصفّي حسابي مع نفسي وتجاه أبي وأستعيد نسبة كبيرة من الهدوء النفسي وأنظر إلى الحياة نظرة جديدة إلى حدّ ما. ولقد ترجمت لفرويد نحواً من ثلاثين كتاباً”.
بناء على ما سبق، وضمن عوالم التحليل النفسي لدى فرويد ومن جاءوا بعده، وانشداد طرابيشي إلى تلك العوالم، يأتي “المرض بالغرب” كتاباً ومسرحاً وملعباً لكل خبراتِ مؤلِّفه وإلمامه بالتحليل وأدواته ومناهجه، مع إضافات جديدة تتعلق بالموضوع المطروق والمدروس في الكتاب. “فالتحليل النفسي ليس منظومة جاهزة من القواعد، بل هو، كمنهج، برسم إعادة الاختراع دائماً”، وإذا كان ثمة صعوبات كثيرة يمكن أن تعترض الباحث في هذا المجال لدى تمديده “الخطاب العربي المعاصر” على سرير التحليل النفسي، خصوصاً أن فاعل الفعل في عملية إنتاج هذا الخطاب هي واو الجماعة، وليس ضمير الأنا المتكلم، فإن الرضات الكبرى ومنها رضة هزيمة 1967، من شأنها أن تجعل الجماعة تبدو وكأنها تسلك سلوك الفرد الواحد. هذا الكلام لا يمنع من توضيح يسوقه طرابيشي في تقديمه الكتاب ومفاده أن “الحديث عن عصاب جماعي عربي لا يُعمَّم ليشمل جميع العرب في جميع بلدانهم وبجميع أجيالهم وطبقاتهم، بل يُخصخَص ليقصد به، حصراً، الخطاب المعصوب الذي تنتجه وتعيد إنتاجه شريحة واسعة من الإنتلجنسيا العربية منذ هزيمة حزيران”.
الصدمة والرضة و”ضمادة التراث”
ثمة شبه إجماع في الخطاب العربي المعاصر، على اعتبار لحظة احتكاك العالم العربي بالغرب لحظة “صدمة”، بصرف النظر عن المفردات الإيديولوجية التي قد تتبع الكلمة: صدمة استعمارية أو كولونيالية أو غربية أو إمبريالية، أو صدمة حضارية، وربما صدمة الحداثة.
تتناول دراسة طرابيشي في الكتاب المفعول الإيقاظي والتنبيهي للصدمة، والذي انقلب إلى ضده، أي إلى مفعول تخديري تنويمي، بتحوّل الصدمة إلى رضّة أو كدمة مع الهزيمة. يميز المؤلف بين الصدمة كحالة فيزيائية والرضة كحالة نفسية أو حالة ذات مفعول نفسي، تستنفر اللاشعور (اللاوعي) وتثلّم الوعي وتخدّر حساسيته، كما تفتح أمامه المسارب للهرب من الواقع بدل مواجهته. والحال، أن هذا ما كانت عليه هزيمة حزيران كهزيمة لعمارة المجتمع العربي ولبنيته المادية والعقلية معاً، هزيمة كاشفة لتأخره السياسي والاقتصادي والتقني والثقافي، فضلاً عن تأخره العسكري. أما العامل أو الفعل أو الدافع في كلتا الحالتين، حالة الصدمة وحالة الرضة، فكان دويّ المدافع في حملة نابليون بونابرت على مصر عام 1798، ودويّها في الحرب العربية الإسرائيلية عام 1967.
لم يُطق الوعي العربي المعادلة الكمية للهزيمة، فما كان أمامه من سبيل إلا أن ينقلب هو نفسه إلى لا وعي. وإذا كانت اللغة الأثيرة عند هذا الأخير هي الرمزية الجنسية، كما دلت أبحاث فرويد ويونغ ورانك، فإنه لن يعز علينا، والكلام دائماً لجورج طرابيشي هنا، أن نتحرى آثاراً من الرمزية الجنسية في الصور المشاعة عن إسرائيل في الوجدان العربي. “فالمشروع الصهيوني كان ولا يزال يُقرأ من قبل الوعي الجمعي العربي على أنه نموذج ناجز لفعل الاغتصاب، ولا يكاد يأتي ذكر لإسرائيل في الخطاب العربي المعاصر إلا مقرونة باسم الفاعل: إسرائيل المغتصِبة.. في مقابل فلسطين المغتَصبة. ومن الصور المتخيلة الأكثر تداولاً عن اسرائيل في المخيلة العربية، صورتها كـ “إسفين” دُق في جسد “الأمة العربية”، أو كـ “ربيبة” للاستعمار”. ومما يزيد في الأذية هنا، في وجدان الخطاب العربي المعاصر والمدروسة عينات كثيرة منه في الكتاب، “أن هذا الإسفين مستعار من الخصم التاريخي الذي هو الغرب”.
إلى ذلك، كانت هزيمة حزيران في المقام الأول هزيمةً لعبد الناصر، “ذلك الأب المعبود والمؤمْثَل الذي أخذ على عاتقه، وقد فرشَ مظلة حمايته على أبنائه من المحيط إلى الخليج، أن يتحدى ويستفز تلك الجنية الشريرة التي كانت، على ما هي عليه من قزامة، وبالاعتماد دوماً على المستعار من عدتها، مصدر إذلال لهم منذ نكبة 1948. في 1967 قتلت اسرائيل ذلك الأب، تاركةً الأبناء في حالة يتم مفجعة، ولم يكن أمامهم سوى أن يلوذوا بحمى أب أكثر تجذراً في الاستمرارية التاريخية وأكثر ثباتاً في ليل العصور، وهو التراث، بوصفه أباً رمزياً وحامياً لهم”.
في تلك الأجواء والانزياحات الثأرية عن الخطابات السابقة، ازدهرت حالة من “تأثيم الذات” على إيقاع الهزيمة وعلى مستوى أعمق وأخفى بكثير، وعلى نحو لا يلاحظ عادةً إلا في سيرورات النكوص النفسي. “فهزيمة حزيران لم تصدّع فقط بناء المجتمع العربي الحديث، ولم تحدث فقط شرخاً في واجهة وعيه، بل طال مفعولها النّاخر الأسس الإيديولوجية والتاريخية التي قام عليها عصر النهضة وفلسفته”. وفي ظل الردة إلى الماضي أو إلى التراث بوصفه ضمادة “الجرح النرجسي” بحسب طرابيشي، جرى التشهير بأباء النهضة المؤسسين، ولا سيما الجذريين منهم، باعتبارهم هم أيضاً أبناء متمردين خرجوا على الشرعية التراثية وسعوا إلى تهجين سلالة الأجداد والآباء بما زرقوها من سموم الحداثة التي رضعوها من ثدي أمٍّ دخيلة، هي الحضارة الغربية.
كان هذا يسير جنباً إلى جنب مع الحنين إلى الدولة العثمانية والدعوات إلى إعادة تقييم دورها التاريخي، ووضْعِ عبد الناصر، المهزوم، في نفس الخانة مع مصطفى كمال أتاتورك الذي قضى على الخلافة العثمانية عملياً. واستأنَف الخطاب العربي خطاب الممانعة، ناطقاً بكلمات وعبارات من قبيل “التراث وتحديات العصر” و”التحديات المطروحة علينا” و”مواجهة التحديات” وغيرها مما يعتبره طرابيشي، وبالاعتماد على عالم النفس الفرنسي جيرارد ماندل، سيكولوجيا طفلية وصادرة عن عقدة طفلية، انطلاقاً من “ميل الطفل إلى أمْثَلة الراشد (الذي هو التراث هنا) وإعارته قدرة كلية وسحرية”.
يتفق النهضويون على أنه لا مفر لهم من التقدم ولو عن طريق محاكاة الخصم الذي هو أوروبا، وسوف تترسخ أثناء ما عرف بـ “عصر النهضة” استراتيجية التماهي الجزئي مع الغرب، وبدافع الضرورة أكثر منه بدافع الإعجاب، “لكن هذه الاستراتيجية ستضحي في الخطاب العربي المعاصر، كخطاب ردة ونكوص، موضع تبخيس ومقاطعة ورفض، وسَيُدان معها عصر النهضة برمته”، وهو ما يفرد له طرابيشي مساحات واسعة في الكتاب وبأمثلة موثقة من كتابات مثقفين عرب مكرّسين، يشكلون مرجعيات ثقافية وسياسية لا يستهان بها وبتأثيرها.
ملاحظات حول الكتاب
في نهاية الكتاب/ الدراسة، يتحدث أستاذنا الراحل، وبإسهاب، حول أفكار الممانعة والاستنكاف عن الدخول في “الحضارة الحديثة”، ويقدّم آراءً نفترض أنها بحكم البديهيات، كقوله “إن كون الحضارة الحديثة غير قابلة للرفض فهذا لا يعني أنها غير قابلة للنقد” مضيفاً أن “شرط فعالية هذا النقد هو الانخراط في الممارسة الحضارية ذاتها”، آملاً بعالم تدخل هوامشه وأطرافه الحضارة والسياق الحضاري بحيث تتعولم الحضارة ويكف التحديث عن كونه “تغريباً”.
يبدو هذا الكلام مدرسياً للوهلة الأولى، وهو كذلك بالفعل، لكن الاتفاق من قبل رموز “الخطاب العربي المعاصر” حول ما هو مدرسيّ وبديهي ليس بالأمر السهل، بدليل كتاباتهم الكثيرة التي أبرزها طرابيشي في الكتاب، وهي كتابات استسهالية و”سلفية” في عدة مواضع، وربما كان ذكرها والتعليق عليها أخيراً بما يُفترض أنه بديهي ولا داعي للوقوف عنده، متناسباً مع درجة اللاعقلانية المختزنة فيها أو الفائضة منها.
في المقابل، ثمة كلام له يتناول وقائع يبدو أن “النخب” الثقافية العربية، بمعظمها، تحتاج وقتاً طويلاً حتى تقرّ بها، ومن ذلك أن “القانون الذي يبدو أنه يحكم المجتمعات العربية اليوم هو قانون التناقضات والتردي”. فبدل أن تنفجر تلك المجتمعات عن قوى تغيير جديدة، قد تنفجر تلك المجتمعات نفسها على الطريقة اللبنانية او العراقية في شرنقة مغلقة من التفتت والتدمير الذاتي والصراعات التناحرية التي لا أفق لها سوى البربرية.
نرى هذا الكلام صحيحاً بدلالة الوضع السوري اليوم، وقبله الوضع العراقي، في حين تتعفف “نخبٌ” كثيرةٌ اليوم عن تناول الكارثة الواقعة، تقفز عنها باتجاه تشخيصات لا عقلانية للمرض العضال، ليعود مرضاً بالغرب غالباً، أو أمراضاً بغيره.
رصيف 22