“انقسام الروح” لوائل السواح.. رواية شخصية عن العقد الأول من حكم حافظ الأسد/ علي سفر
تطرح مذكرات الكاتب السوري وائل السواح الصادرة قبل أيام عن دار “عشتار” الكندية، بعنوان “انقسام الروح”، مجموعة من القضايا المثيرة للقارئ السوري، وللباحثين في مجال التوثيق والتأريخ، خاصة وأن العنوان الفرعي للكتاب يغري المختصين بذلك، فهو”سيرة ذاتية لليسار السوري الجديد في سبعينيات القرن الماضي وثمانينياته”.
صحيح أن الكاتب قد حذّر في نهاية مقدمته من اعتماد المعطيات الواردة في مذكراته، في الإطار التوثيقي أو البحث، حيث قال إن صفحات كتابه “ليست تاريخاً ولا تأريخاً ولا توثيقاً سياسياً، بل هي سرد للأحداث وتعريف بالأشخاص كما عشتها وكما عرفتهم. بل أغامر بالقول إن خيالي ورغباتي يمكن أن تكون قد جمّلت بعض الأحداث أو قبّحتها، ويمكن لبعض الأحداث أن تكون خيالاً أو سراباً أو أمنيات، فلا يجوز إذن الاستشهاد بالصفحات التالية في توثيق أو كتابة تأريخية أو أعمال أكاديمية” (ص11-12).
إلا إن هذا قد يُفسَر على أنه ترويج للمحتوى، عبر إثارة حواس القارئ المختص، لكنه قد يُقرأ من زاوية أخرى، على أنه محاولة للتنصل، من أي نقاش أو جدال، قد تؤدي إليه محتويات شهادة وائل السواح، عن تاريخ وتجربة عاشهما، ودفع كغيره أثمانهما.
الحقيقة التي لا يمكن تغطيتها، تقول: إن أي حرف يكتبه المؤلف، وينشره للقراء، يصبح مادة جدلية وتاريخية، وتوثيقية، خاصة وأن جزءاً كبيراً من الوقائع، التي يسردها الكاتب ههنا، كانت قد نُشرت في مواقع سورية، خلال الفترة السابقة، بالانطلاق من رؤية ترى بأن ما حدث ذات يوم، على الصعيد الشخصي، يجب أن يوثق، ويُدلل على هذا، عبر لمس الحديث التفصيلي عن التجربة الحزبية، الذي لم يكن ملحوظاً فيما سبق، أو لم ينشر كما الآن، في الكتاب الحاضر بين يدي القراء.
وائل السواح يلفت الانتباه إلى ثراء ما يكتبه، في تلك القطع المتناثرة هنا وهناك، ليس بسبب لغته الطرية والحميمية وحسب، وليس بسبب صراحته في سرد التفاصيل فقط، بل عبر إدراكه حاجة القارئ السوري ذاته، إلى الاطلاع على الصندوق الأسود لتاريخ سوريا، في السبعينيات والثمانينيات، خاصة وأن التأطير العام للأحداث التاريخية إن كان من قبل مؤرخي النظام، أو من خلال مؤرخي المعارضة، يفرض على القارئ رتابة وصلافة مزعجة، حيث تصبح صور البشر باهتة، ويتحول الجميع إلى مجرد خيالات ملحقة بالنظام والأحزاب وبالمؤسسات: النظام بمراحله، منذ استيلاء حزب البعث على السلطة، الذي بدا ثورياً، وانتهى كواجهة للفئات الأكثر فساداً ودموية في سوريا الحديثة، والذي لا يمكن أيضاً وضع علامات اختلاف بينه وبين الأحزاب الأخرى، لجهة التركيبة الداخلية أو منهجيات العمل، والمؤسسة العامة التي نشأت في هذه المرحلة، أي كل المؤسسات السورية العامة والخاصة!
قليلة هي المدونات التي تحكي عن تاريخ البؤر الثلاث السابقة من باطنها، إذ تغيب عموماً المؤلفات المتخصصة، فلا يجد القارئ المعني بمثل هذه التفاصيل مناصاً من الاعتماد على المذكرات الشخصية للشخصيات الفاعلة.
غير أن هذا لا ينطبق حرفياً وبدقة على جزء كبير من محتويات مذكرات “انقسام الروح”، وذلك لأن تجربة حزب العمل الشيوعي في سوريا، لم تعد مغطاةً بالحجب والأسوار، بعد أن طرح الكاتب السوري راتب شعبو كتابه الهام عن تاريخ الحزب، والذي اعتنى بتفاصيله، لجهة محاولة الحيادية في سرد الأحداث في طبعة أولى، ثم قام بترميم ما تبدى من نقص فيه، عبر طبعة ثانية، ولعل المراجعات التي كتبها رفاق سابقون للكاتب، ومنها تلك التي سطرها الكاتب نصار يحيى
، كانت توضح كيف يمكن لسردية تاريخية ألا تكون منتهية وناجزة، رغم كل ما يبذل في سبيلها، طالما أن ثمة شركاء في صناعتها، وفاعلين ومتأثرين مما جرى فيها.
شعبو
راتب شعبو ونصار يحيى وغيرهما كانا من الفاعلين في التجربة، وكذلك وائل السواح الذي يقدم روايته الآن، فهم جميعاً من المحسوبين على اسم الحزب في ثمانينيات القرن الماضي، أي أن ماجرى معهم كان أكبر من مجرد تجربة عابرة، بل كان كتلة من المشاعر والعواطف مختلطة بالأحلام والهمة الشبابية، والتعلم، وأيضاً دفع الأثمان القاسية، عبر خضوعهم لأبشع جلسات التعذيب أثناء التحقيقات في أقبية فروع الأمن، وكذلك السنوات الطوال التي قضوها في المعتقلات، لكن التدوين الذي صنعه شعبو كان بحثياً، يؤدي وظيفة ضرورية ولازمة، وفي تقييمه ضمن السياق العام مهم جداً لكونه من التجارب القليلة التي ظهرت لتشرح تاريخ تنظيم سياسي سوري، حظيت تجربته باهتمام كبير في وقت ما.
وعلى مسافة من هذا النوع الكتابي البحثي التوثيقي السابق، تأتي تجربة وائل لتضيف لمسة خاصة، تتأتى من محاولة رسم ملامح الشخصيات التي عاش معها تجربته، في سياقها المركزي أي تجربة الحزب، أو هوامشها، وعلى الأخص التجربة الثقافية التي صنعها رفاق سابقون في الحزب، وسعوا لأنفسهم مساحة خاصة في مشهد السبعينيات والثمانينيات الأدبي في سوريا.
حيث ستمر في سيرة وائل أسماء بات القارئ السوري يعرفها، من خلال تجربتها الإعلامية أو الأدبية، بعضها رحل عن دنيانا في أوقات متفرقة، لكن صنائعها الأدبية ما برحت حاضرة، يشار إليها دائماً، حينما يتم الحديث عن أجيال الثقافة السورية، كجميل حتمل ورياض الصالح الحسين، الذين كانا قريبين جداً من الحزب وعلى تماس مع أوساطه.
كما أن هناك فئة من المثقفين الذي بدأوا حضورهم، من خلال تجربتهم في هذا الحزب وفي غيره، واستمروا على مواقفهم المخلصة لأحلام السوريين بالانعتاق والحرية والعدالة الاجتماعية.
وعلى النقيض من الفئتين السابقتين، سيذكرُ وائل في هامش الحيوات الثرية لمن عاش معهم في سوريا ولبنان، تفاصيل عن مثقفين أدت بهم الأحداث، التي جرت بعد موجة ثورات الربيع العربي، وعلى الأخص التجربة السورية، لأن ينقلبوا على تاريخهم، وأن يصبحوا مدافعين عن نظام الاستبداد الأسدي، وذلك لأسباب ذهنية كالوقوع في أحابيل النظام الدعائية ضد الثورة والثائرين، أو أن يصبح الموقف الأخلاقي مرتبطاً بالمصالح الشخصية، حتى وإن كانت جعالات قليلة، أو بالانتماءات الطائفية الضيقة!
وقبل هذا، يجب ألا يتجاهل القارئ أننا في قراءة المذكرات عادة، نقوم بالتلصص على حيوات الناس، من خلال نوافذ يقومون هم أنفسهم بفتحها، وإذا دققنا في “انقسام الروح” سنرى أن الكاتب قد أتاح لنا الاطلاع على نتفٍ من سيرة عائلته وأفرادها، فوالده أحمد نورس السواح من أعلام مدينة حمص، في النصف الأول من القرن العشرين، فقد كان صحفياً وناشراً، أنهت سلطة البعث تجربته المهنية ودمرت مقوماتها، كما أن شقيقه الأكبر فراس السواح أشهر من أن يُعرف، وهو الباحث في الأسطورة، وتاريخ سوريا الحضاري القديم، كما أن شقيقه سحبان كاتب قصصي وناشر أيضاً، ترك بصمات واضحة في تاريخ الثقافة السورية ولا سيما عبر تجربة مجلة “ألف” للكتابة الجديدة.
فضاء العائلة ههنا، يرتبط في وجه من وجوهه بالبيئة المحلية الحمصية، لكن الواقع السوري الذي كانت تقف دمشق في واجهته، لم يقم بقفل الأبواب أمام الشخصيات القادمة من المحافظات، أو من أريافها، وبالقياس مع تجربة آل السواح، سنرى كيف أن جزءاً كبيراً من التاريخ السوري، يرتبط بتكوين الأسر الكبيرة والصغيرة على حد سواء، وبمسارات أفرادها، التي تأثرت أشد التأثر بالهاوية التي فتحتها سلطة العسكر، الذي دمروا الحياة المدنية وفتتوا الفضاء العام.
المناورات السردية التي يخوضها وائل السواح في كتابه هذا، ليحيط بكل ما عاشه، وبكل ما تألم فيه ومن أجله، تقودنا دائماً إلى صورته بوصفه “العاشق واو”، كما سماه الشاعر حسان عزت، في قصيدة جميلة، غناها ذات يوم المغني سميح شقير.
الإفضاء بما يعتمل في القلب، من ارتجافات صوب الحبيبات والرفيقات المشاركات في النضال، اللواتي عبرن المشهد، أكبر بكثير من مجرد سطور يكتبها ويغلق عليه بنقطة في أواخرها، لأن معرفتنا بالشخصيات، وبهذا المستوى من التصريح، يقلب معادلتنا المكرسة عن الماضي المطمور في الذاكرة. إذ سيقوم الكاتب ههنا عبر اللغة الوقّادة المترعة بالمشاعر، بإحياء ذكرى من رحلن، ويفتح سبلاً لقراءة دور النساء السوريات في العمل السياسي، أبان تلك المرحلة القاتمة، لجهة القمع والإرهاب السلطوي.
لم يخض المؤلف في هذا الكتاب بتجربة السجن التي عاشها على المستوى الجسدي والنفسي، إلا من زاوية شرح الحياة الحزبية، التي نقرأ ولأول مرة عن تفاصيل الانشقاقات التي مرت فيها، ويؤكد في غير موضع أن السجن -ويا للكارثة- كان المكان شبه الوحيد، الذي قام الرفاق فيه بممارسة النقاش السياسي المفتوح حول مآلات التجربة، وهو الأمر الذي ظهر بعد خروج أولى دفعات معتقلي الحزب في العام 1991، حيث بدا واضحاً أن ثمة كتلة وازنة من أعضاء الحزب باتوا على مسافة كبيرة من طروحات وتوجهاته، وقد ترافق هذا مع التحولات الكبيرة التي شهدها العالم، بعد سقوط الكتلة الشرقية وتحلل الدولة السوفيتية.
كتاب وائل السواح، الذي يأتي بعد غيابه الطويل عن الكتابة القصصية والروائية، تدوين مهم، وإضافة محفزة، في سياق كتابة تاريخ سوريا، من وجهة نظر مختلفة عن السائد، وربما مناقضة له.