جولتي في شمال شرقي سوريا عززت مخاوفي من عودة “داعش”/ تشارلز ليستر
قبل اربع سنوات تلقّى تنظيم “داعش” و”دولته” المزعومة، هزيمته النهائية في قرية الباغوز شرق سوريا. واجهت الجماعة الإرهابية والأراضي التي كانت تسيطر عليها هجوما عسكريا دوليا مضادّا، ومنسّقا شمل أكثر من 34500 ضربة جوية ومدفعية، وحملة برية في سوريا والعراق. استغرق الأمر في نهاية المطاف قرابة السنوات الخمس لدحر مشروع “داعش” المتمثل في إقامة “دولة” مزعومة، بشكل منهجي. وانتهى الصراع بمقتل عشرات الآلاف من عناصر التنظيم الأصولي، فكانت سلسلة الأحداث تلك بمثابة تذكرة بيّنة بالمدى الهائل الذي استطاع “داعش” بناءه، والذي وجب على المجتمع الدولي هزيمته بعد ذلك.
لوهلة، بدا للبعض أن هزيمة “داعش” الإقليمية كانت نهاية الحملة الكبرى المتعددة الجنسية، وتلا ذلك بالفعل تراجع في الاهتمام الإعلامي والسياسي بمكافحة “داعش” في سوريا والعراق بعد هزيمة التنظيم. بيد أن الواقع كان مختلفا، ومثلت نهايته الجغرافية، بداية فصل جديد بالغ التعقيد، تمكن التنظيم خلاله من التحوّل إلى العمل السري والقيام بعمليات تحت الأرض، وهو ما يتعذر مكافحته، ويتطلب وجود قوى أمنية واستخباراتية وقدرات تشبه قدرات القوات الخاصة. فوق ذلك، واجهنا إضافة إلى تمرد “داعش” تحديا آخر غير مسبوق تسلّل إلينا، دون أن يحظى بقدرٍ مناسب من الاهتمام العام، لكنه يهدّد بعودة التنظيم في المستقبل.
عندما انطلقت وحدات من “قوات سوريا الديموقراطية” (قسد) بدعم أميركي جوي ومدفعي إلى ساحة المعركة لمواجهة “داعش” في قرية الباغوز الصغيرة أوائل عام 2019، كان ثمّة افتراضٌ بأن بقايا “داعش” سوف تندثر وتُدفن تحت أنقاض آخر موقعٍ له. لكن ما جرى كان مختلفا، إذ بينما كانت “قوات سوريا الديموقراطية” والتحالف الدولي يتحضّرون لإعلان النصر، استسلم الآلاف من الرجال من أتباع “داعش” ومعهم نحو 60 ألف امرأة وطفل. وجرى نقل الذكور بالشاحنات إلى سجون موقتة تديرها “قوات سوريا الديموقراطية”، بينما توجهت النساء ومعهم الأطفال إلى مخيم للنازحين الداخليين يُعرف باسم مخيم الهول.
ولَّد هذا الوضع أزمة معتقلين لم يشهد العالم لها مثيلا. زرت شمال شرقي سوريا الأسبوع الماضي برفقة الجنرال إريك كوريلا قائد القيادة المركزية الأميركية بغرض تفقد السجون والمخيمات التي تضم ما يقرب من 65000 رجل وامرأة وطفل تربطهم صلة بـ”داعش”، قدموا من أكثر من 55 دولة. كنت أول شخص مدني يُسمح له بالدخول إلى قاعدة الرميلان الواقعة داخل مخيمي الهول والروج، وأيضا إلى سجن غويران الذي يخضع لحراسةٍ أمنية مشددة، كما سُمح لي أيضا بالدخول إلى مقر “قوات سوريا الديموقراطية”.
لكي نفهم مدى التحدي الذي يفرضه هذا العدد الهائل من المعتقلين، دعونا نقارن هذه الحالة بحالة خليج غوانتانامو. منذ ما ينوف على واحد وعشرين عاما، وضعت الولايات المتحدة 780 مشتبها فيه بالإرهاب في معتقل غوانتانامو، وهو منشأة مخصصة للاحتجاز تقع في جزيرة منعزلة، بعيدا من دائرة أي صراعٍ نشط. من بين هذا العدد الكبير، لا يزال في المنشأة اليوم واحد وثلاثون معتقلا، إثر تضافر الجهود لإغلاق المنشأة من طريق تحويل السجناء إلى الخارج. لعلّ مقارنة بسيطة بين 780 شخصا في حالة غوانتنامو مقابل 65000 شخص اليوم في سوريا تبيّن لنا حجم المشكلة التي نواجهها في سوريا.
عندما سافرْتُ جوا إلى القاعدة الأميركية الواقعة في الرميلان على متن طائرة عسكرية من طراز C-17، كنت أتوهم أنّي أعرف الكثير عن حجم أزمة المحتجزين، لكن معاينة الوضع شخصيا على أرض الواقع كشفت عن تعقيدات إضافية لم تكن في الحسبان. من قاعدة الرميلان، والتي يشار إليها عادة باسم RLZ” “، يدعم المقاتلون الأميركيون الذين يتحدثون العربية خطوط اشتباك عدة لمؤازرة “قوات سوريا الديموقراطية”، ووحدات “الآسايش” الأمنية المحلية، والمجالس القبلية في العراق وسوريا، والحكومة العراقية، من أجل إدارة عملية إعادة العراقيين إلى العراق. في هذا السياق تجري وسطيا كل ستة أسابيع إعادة 50 رجلا عراقيا و550 امرأة ليكونوا في عهدة الدولة العراقية. إن هذا الجهد حيوي للغاية ويمثل الاستجابة الأكثر تشجيعا حتى الآن لأزمة المعتقلين. لكن، ووفقا للمعدل الحالي، سيحتاج العراق إلى ست سنوات على الأقل لمعالجة عودة 25 ألف امرأة وطفل عراقي آخر، وآلافٍ عدة من المقاتلين الذكور.
لا يتعلّق الأمر بالعراقيين فقط، فبالإضافة إلى عودة هؤلاء إلى بلدهم، ثمّة عنصر آخر من الحلّ يتمثل في التعامل مع ما يقرب من 12000 امرأة وطفل سوري وما بين 2000-3000 مقاتل سوري. ووفقا لما يقوله قادة “قوات سوريا الديموقراطية” وكبار المسؤولين في وزارة الخارجية الأميركية، فإن معظم السوريين الباقين في السجون والمعسكرات ينحدرون من المناطق التي يسيطر عليها النظام في البلاد، الأمر الذي يجعل أي عودةٍ لسوريين آخرين شبه مستحيلة، لذلك يبدو أن مصير هؤلاء الأشخاص الـ 15000 سيبقى معلّقا في شكل أو آخر من حال الاحتجاز الدائم.
ثمّ تأتي مشكلة رعايا الدول الثالثة، وهم مواطنون من 55 دولة على الأقل خارج سوريا والعراق، وبينهم في المعسكرات الآن ما يقرب من 2500 من مقاتلي “داعش” الذكور، ونحو 12500 امرأة وطفل في مخيمي الروج والهول. ليس من حلّ واقعي لهذه المشكلة هنا سوى إعادتهم إلى أوطانهم، لكن إقناع حكوماتهم باستعادة مواطنيها المرتبطين بـ”داعش” لا تزال مهمةً ديبلوماسية في غاية الصعوبة بالنسبة إلى الولايات المتحدة. إذ اكتسبت عمليات الإعادة إلى الوطن والالتزامات الديبلوماسية زخما حقيقيا في بادئ الأمر في عام 2022، مع ذلك لم تتم إعادة أكثر من 1٪ فقط من النساء والأطفال من مواطني البلدان الثالثة إلى بلدانهم. ولسوف يستغرق الأمر وفقا لهذا المعدل 30 عاما على الأقل لإعادة جميع الأطفال إلى أوطانهم، وعندها سيكونون قد بلغوا منتصف العمر.
لقد سافرت مع الجنرال كوريلا من القيادة المركزية الأميركية في قاعدة الرميلان على متن مروحية بلاك هوك إلى مخيم الروج، وهو منشأة آمنة أصغر حجما تضم حاليا ما يقرب من 2500 محتجز. إذ يعتبر مخيم الروج مكانا أكثر هدوءا وأمانا من مخيم الهول، ويضم مدارس وملاعب كرة قدم حديثة التشييد وسوقا ومستشفى. تجولنا في جميع أنحاء المخيم، والتقينا بسيدات كن في معظمهن منقّبات، بينما أسفر البعض منهن عن وجوههن. تحدثنا في السوق مع نساء من روسيا وأوزبكستان وقيرغيزستان وكازاخستان وباكستان والبوسنة وغيرها، وكلّهن كنّ يردن معرفة المزيد عن مدى استعداد حكومات بلدانهن لإعادتهن إلى أوطانهن.
من المقيمين في مخيّم الروج 21 أميركيا من بينهم هدى مثنّى، وهي امرأة أميركية المولد، من ولاية ألاباما، تبلغ من العمر 29 عاما انضمت إلى “داعش” في العشرين من العمر. وبعدما صافحت الزائرين وجميعهم كانوا من الأميركيين الذكور، قالت إنها تخلّت عن “داعش” وعن التطرّف، لكن ينتابها القلق على أمنها وأمن ابنها البالغ من العمر خمس سنوات وسط ما زعمت أنه تطرف متواصل في صفوف سكان مخيم الروج. وكانت السلطات الأميركية قد سحبت الجنسية الأميركية من هدى مثنى في عام 2016 على أساس أنها مُنحت لها من دون وجه حقّ، لأن أباها كان ديبلوماسيا يمنيا في الولايات المتحدة في ذلك الوقت، مما يحرم أولاده المولودين في الولايات المتحدة من الحصول على الجنسية. لذلك هي عالقة مع ابنها في سوريا من دون جنسية.
سافرنا بعد ذلك من مخيم الروج إلى مخيم الهول الواسع الذي يؤوي ما لا يقل عن 50.000 شخص، أكثر من 50% منهم أطفال دون سن الثانية عشرة. وفي حين أن مخيم الروج كان ينعم ببعض الهدوء فإن جوا من التوتر كان يخيم على مخيم الهول. إذ تلقت أخيرا قوات الأمن النسائية المسؤولة عن المخيم تهديدات من “داعش” على هواتفهن النقالة. وتم إحباط مؤامرة كبيرة لـ”داعش” لمهاجمة المخيم باستخدام شاحنات مفخخة في مزرعة قريبة قبل أسابيع. وفي سبتمبر/أيلول 2022، أدت عملية لـ”قوات سوريا الديموقراطية” SDF استمرت أسابيع عدة إلى اعتقال 300 عنصر من تنظيم “داعش” داخل المخيم، بالإضافة إلى العثور على مخابئ مليئة بالأسلحة والمتفجرات. كما أدى هجوم بقذائف آر بي جي داخل المخيم إلى مقتل عنصرين من “قوات سوريا الديموقراطية”. وتم اكتشاف العديد من المدارس التابعة لـ”داعش” أيضا. كما أن المجموعات الإغاثية العاملة ضمن المخيم تتلقى تهديدات بشكل روتيني، ويتعرض العديد من معلمي المنظمات غير الحكومية للاعتداء على أيدي الأطفال الصغار. ويعد القسم المخصص لرعايا الدول الثالثة منطقة محظورة على الغرباء.
غادرنا مخيم الهول بعد ذلك في قافلة مدرعة إلى مدينة الحسكة لزيارة سجن غويران السيئ السمعة، حيث يتم اعتقال أخطر 5000 سجين من تنظيم “داعش” في سوريا. وكان التنظيم قد شنّ في يناير/كانون الثاني 2022 هجوما واسعا أدّى إلى اندلاع معركة استمرت 10 أيام، استقطبت القوات الخاصة الأميركية والبريطانية وأدت إلى مقتل أكثر من 500 شخص. وكان هذا السجن في السابق مدرسة ثانوية تم تعديلها لاحتواء المتشددين من “داعش” والذين أُسِرهم جميعا (هناك شيء ما ناقص في الجملة، وغير مفهوم) في معقلهم الأخير في الباغوز. قبل أيام من زيارتنا تلك المنشأة، أحبطت “قوات سوريا الديموقراطية” مؤامرة(للتأكد من صحة هذا الاستخدام) هجومية لتنظيم “داعش” قام بتنسيقها من داخل السجن أمير عراقي من أمراء التنظيم وشارك فيها عناصر من خارج السجن أيضا.
وعلى الرغم من أن السجن تحت سيطرة “قوات سوريا الديموقراطية”، إلا أن الحكومة البريطانية هي التي موّلت دفاعاته وبنيته التحتية مستفيدة من دروس تعلمتها من منشآت مماثلة كانت تعمل سابقا في أفغانستان. ويتألف السجن من أكثر من 200 زنزانة، يضم كل منها 25 سجينا، وتحرسه قوة مجندة من أهالي الحسكة المحليين. حراس السجن الذين يرتدون زيا أزرق وقبعة بايسبول سوداء كتلك التي يرتديها فريق نيويورك يانكيز، لم يبدُ أنهم منكبّون جيدا على عملهم، ولم يُجب عن أسئلتنا باللغة العربية سوى عدد قليل منهم وبطريقة مقتضبة جدا، ما أحبط رغبتنا في الحوار معهم. لا بد أن نذكر هنا أن ثمة تقارير منتشرة تفيد بأن هجوم “داعش” الذي حصل قبل عام كان بتسهيل من حراس تلقوا رشاوى أو أجبروا على التعاون مع “داعش”.
كانت مجموعتنا الصغيرة بقيادة الجنرال كوريلا محمية طوال اليوم بطائرات بدون طيار وطائرات هليكوبتر ومركبات قتالية من طراز برادلي ومجموعات متعددة من قوات النخبة الخاصة، بما في ذلك فرق سرية تتنقل في مركبات مدنية، وذلك لأن تمرد “داعش” كان لا يزال مستمرا. وأثناء مغادرتنا سجن غويران، هبطت على المهبط المجاور لنا طائرة طبية أميركية تحمل على متنها مقاتلا من “قوات سوريا الديموقراطية” مصابا بطلقين في هجوم لـ”داعش” في دير الزور، فهرعنا جميعا للتحقق من حالته الصحية أثناء نزوله من المروحية. كانت جروح الرصاص في ساقيه بمثابة تذكير صارخ بالتهديد الذي يشكله تنظيم “داعش” اليوم، وهو تهديد مخفي لكنه موجود دائما.
وعلى الرغم من اختفاء أخبار تنظيم “داعش” من صحفنا وشاشاتنا التلفزيونية واستبدالها بأخبار عن الحرب في أوكرانيا ومنافسة القوى العظمى مع الصين، إلا أن التنظيم في حد ذاته لم يختف في الواقع. إذ أن الجماعة الإرهابية مستمرة في تمردها، وميزتها الأهم تكمن في جنودها المعتقلين في السجون والبالغ عددهم 10 آلاف معتقل في سوريا و20 ألفا في العراق، بالإضافة إلى الجيل القادم المحتمل وهم نحو 25 ألف طفل موجودين في مخيمي الهول والروج، بحسب القيادة المركزية الأميركية. وتمثل أزمة معتقلي “داعش” ثاني أهم تهديد للأمن القومي في الشرق الأوسط بالنسبة إلى الجيش الأميركي بعد إيران. وعلى الرغم من أن حكومة الولايات المتحدة وإدارة بايدن قد جذبتا الاهتمام الديبلوماسي إلى قضايا العودة والإعادة إلى الوطن، إلا أننا، وفي غياب حشد ديبلوماسي وإنساني دولي كبير، ما زلنا بعيدين كل البعد عن الشعور بالثقة في شأن وجودنا على طريق الحل.
المجلة