في رحيل كنزابورو أوي: أسئلته لا تزال راهنة/ إسكندر حبش
عن عمر 88 عامًا، غيّب الموت الكاتب الياباني كنزابورو أوي “بسبب الشيخوخة في الساعات الأولى من يوم 3 مارس/ آذار” الحالي، وفق ما أعلنه ناشره، الذي أضاف أن عائلته لم تعلن الوفاة إلا يوم الاثنين الماضي في 13 آذار “إذ رغبت في أن تكون جنازته بعيدة عن الأضواء”. مثلما عاش حياته بعيدًا عن الضوضاء والضجة، يرحل الكاتب والمثقف الياباني، بصمت، وبعيدًا عن هذه الضجة، كما اختار دائمًا في حياته. حتى أنه تشكى ذات يوم من أن جائزة نوبل للآداب (1994)، وما تبعها من شهرة، كانت بالنسبة إليه “عذابًا لا يستطيع تحمله”.
عديدة هي الكتب التي ترجمت لأوي إلى العربية، نذكر منها: “مسألة شخصية” (ترجمة وديع سعادة، مؤسسة الأبحاث العربية، سلسلة ذاكرة الشعوب)، و”علّمنا أن نتجاوز جنوننا” (ترجمة كامل يوسف حسين، دار الآداب، بيروت)، و”الصرخة الصامتة” (ترجمة سعدي يوسف، منشورات المدى، سلسلة مكتبة نوبل)، و”هموم شخصية” (ترجمة صبري الفضل، روايات الهلال)، و”اقتلعوا البراعم، اقتلوا الأولاد” (ترجمة ديمتري أفييرينوس، شركة المطبوعات المصورة) و”الموت غرقًا” (ترجمة أسامة أسعد، شركة المطبوعات المصورة) وغيرها…
هنا إطلالة على هذا الكاتب.
حين حاز الروائي الياباني كنزابورو أوي جائزة نوبل للآداب عام 1994، تساءل عدد كبير من الكتّاب والمثقفين في أوروبا وأميركا عمّا إذا كان أوي يستحق فعلًا هذا التمييز الكبير الذي حظي به؛ إذ لم يجدوا عند هذا الكاتب الياباني من مميزات “سوى اثنتين قليلتي الإقناع”: الميزة الأولى، بحسب ما وصفوه، تكمن في “مزاجه الأشعث والقاسي، ما سبّب له شهيّة أدبية عبّر عنها من دون أن يكون مالكًا فنًّا كبيرًا”. أما الميزة الثانية، فتتلخص في طريقة روايته للحكاية التي “تعتمد تقليد واستنساخ” بعض الروائيين الأميركيين، وتحديدًا جون أوبدايك، وصول بيلو. أما القسم الآخر من المثقفين، فكان على النقيض تمامًا، إذ وجد في أوي كاتبًا كبيرًا، وأن تتويجه على عرش نوبل جاء تتويجًا لأحد أجمل الأصوات الروائية في العالم، وبهذه الجائزة، كافأت اللجنة الملكية السويدية عملًا وإبداعًا، أكثر مما تكافئ حضارة، مثلما درجت اللجنة في عاداتها. فأوي ليس بالكاتب الياباني التقليدي، مثل يوكيو ميشيما، الغارق في تراثه، وإنما أحد أبرز “الإنسانويين” (humaniste) المستمدين فلسفتهم من الفكر الأوروبي الغربي، وتحديدًا الفرنسي، بأبرز تجلياته، من دون أن ينسى بالطبع حضارته الآتية من غابر الأزمان، ولكنها لم تشكل له عائقًا حدّ من انفتاحه على ثقافات العالم.
وبين هذين الرأيين، لا بدّ من أن نجد بابًا آخر ندخل منه إلى أعمال أوي: إذ يبدو عمله الروائي، بشكل عام، وكأنه يسير على خطين، أو بمعنى آخر، نجد أن هذا الإيحاء للإلهام الكتابي يستمده من منبعين حيويين، منبعين نجد فيهما ذلك الحريق الذي يؤرقه ويدفعه إلى البحث فيه داخل إشكالية الكتابة التي يطرحها. المنبع الأول، هو فكرة نهاية “الأيديولوجيا الإمبراطورية في اليابان”. هذه الأيديولوجيا التي ما انفك أوي عن محاربتها في أعماله العديدة، كما في حياته الخاصة. إذ تعكس أعماله، انشغاله المتزايد بالقضايا السياسية والاجتماعية، التزامًا سياسيًا محددًا دفعه إلى أن يكون المعبّر الأول عن المثقفين المنتمين إلى “اليسار الياباني الجديد” خلال ستينيات القرن العشرين.
أما المنبع الثاني فتحمّله “للعذاب والألم” الذي سببّه مولد طفله المختل نتيجة الإشعاعات التي خلفتها القنبلة الذرية في هيروشيما. ومن هذين الشقين، تنبثق فرادة صارمة وجميلة لعمل حيّاه ذات يوم كاتب اليابان الكبير يوكيو ميشيما قائلًا فيه: “إن ذروة الأدب الياباني، في فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية، تتمثل في كنزابورو أوي. عمل يمتزج فيه عطاء مميز لواقعية دقيقة، حاقدة، مع موهبة نصية لقول يبحث عن الرحمة والشفقة”.
وعلى الرغم من امتداح ميشيما له، إلا أن الكاتبين كانا يقفان على طرفي نقيض. فأعمال ميشيما كانت تدل على عودته الدائمة إلى أحضان “الثقافة اليابانية”، ودفاعه عن الإمبراطورية، وما انتحاره “الاستعراضي” بنحر بطنه (على طريقة “الهاراكيري”) سوى تقديس لهذه الثقافة ودفاع عن “الإمبراطور”، الذي تحول إلى “إنسان” بعد أن كان “إلهًا”، وذلك عقب إذاعته بيان الهزيمة من الإذاعة اليابانية (يومها سمع اليابانيون صوته للمرة الأولى، ويقال إن كثيرين بكوا عند اكتشافهم صوته).
أما أوي، فهو كاتب مختلف من حيث توجهه الثقافي، فهو يرفض هذه الثقافة التي كان مصدرها طوكيو (تحولت طوكيو إلى مركز الثقافة منذ إصلاحات ميجي)، وكان يطالب بحق القطيعة مع هذه اليابان، المسؤولة بشكل مباشر، وربما كانت المسؤولة المباشرة عن الهزيمة، وعن الكارثة التي حلّت بها (مع العلم بأنه لم يغسل أيدي أصحاب المجزرة، الحقيقيين، ممّا حدث).
ملاحظات حول هيروشيما
يستطيع القارئ (الذي لا يعرف اللغة اليابانية) أن يعيد اكتشاف هذا النص الإشكالي، الذي يتحدث فيه أوي عن هيروشيما، وعن مخلفات الكارثة النووية، من خلال كتاب (أعتمد على الترجمة الفرنسية الصادرة عن منشورات غاليمار) “ملاحظات حول هيروشيما”، كما على كتاب آخر صادر بالعربية، وهو الثاني بعنوان “اقتلعوا البراعم، اقتلوا الأولاد”؛ إذ يبدو هذان النصان (الأول تحقيق صحافي، والثاني قصة سردية صغيرة) وكأنهما يشكلان كلّ المغزى والعوالم التي سار عليها أوي في بداية حرفته الأدبية. فكتاب “ملاحظات حول هيروشيما” يشير، في واقع الأمر، إلى تحول جذري في أعمال الكاتب كما في حياته، إذ اكتشف الأمل ومعناه، في تلك المدينة التي غلفتها الإشعاعات الذرية، حيث كان متأرجحًا بين الرغبة في أن يترك القدر ليلعب لعبته وبين أن يخضع ابنه، الذي ولد معاقًا، لعملية جراحية، مع العلم بأن العملية هذه لم تكن لتسفر عن شيء، إذ سيبقى طيلة حياته شخصًا غير طبيعي.
“اقتلعوا البراعم، اقتلوا الأولاد” (الذي صدر باليابانية عام 1958) كتاب ذو بصمة تشاؤمية واضحة، وهذا التشاؤم هو الأمر الذي غلّف أعمال الكاتب الأولى، كذلك يدلنا إلى بداية هذا الشاب الذي “تغذى” على المثاليين الكبار في فترة ما بعد الحرب (الديموقراطيين ودعاة السلام). يشعرنا أوي في كتابه هذا كم كان هو نفسه يشعر بأنه طائر خارج سربه: إذ كان مسكونًا بالحنين إلى تجمع الأطفال في مسقط رأسه، في تلك الجزيرة البعيدة، شيكوكو (حيث ولد عام 1931)، ولم يكن يرى حوله سوى الاضطراب النفسي، والمنفى الذاتي.
العودة الأبدية
هاتان الفكرتان نعود ونجدهما في روايتين من روايات المراحل الأخيرة (وأحدد هنا قبل حيازته جائزة نوبل)، وهما “رسالة إلى سنوات الحنين” و”م/ت أو قصة غرائب الغابة”، إذ يعبّر أوي في روايتيه هاتين عن حنينه إلى تلك العودة الأبدية إلى القرية، القرية التي تذكر بالأزمنة الغابرة، وكأنها تنويع على قريته التي ولد فيها، إذ كان يعود إلى ضيعته من خلال الكتابة. تلخص هذه الفكرة علاقة الأشياء بعضها بالبعض، خلال رحلته الأدبية. يقول عن ذلك في حديث نشرته معه “الماغازين ليتيرير” (عدد 24، تموز/يوليو ـ آب/أغسطس 1987): “انتقلت في البدء من القرية إلى الكتابة. في القرية كنّا نستعمل لغة أو لهجة تختلف عن اللغة اليابانية المستعملة في طوكيو، وقد توجب عليَّ، لدى وصولي إلى طوكيو، أن أتعلم هذه اليابانية الموحدة (…) وهكذا حدث الانتقال من القرية إلى الكتابة، ولكني وأنا أكتب طرحت على نفسي السؤال التالي: ما هو الشيء الذي أؤثره بالكتابة؟ وما الذي أحتاج إليه فعلًا؟ وكان الجواب: ميثولوجية قريتي. وهكذا عدت إلى قريتي للحصول على وسائل الكتابة”.
يستدعي أوي في كتاب “اقتلعوا البراعم…”، الذي يبدو فيه تأثره بكتّاب ما بعد الحرب (وهو من الجيل اللاحق بهم) مأساة مجموعة من الأطفال في منزل إصلاحي، الذين، بسبب القصف الأميركي، وضعهم المشرف على تربيتهم في قرية بإحدى الجبال، كان “عمدتها مقتنعًا بأنه يجب إزالة الأولاد السيئين منذ تبرعمهم”. ومن خلال نظرات هؤلاء الأطفال الفزعة، يصف أوي تدهور العلاقات البشرية، تلك العلاقات التي أصبحت مكتفية بالحاجات الأولية فقط. وفي هذه القرية، التي أصبحت قاحلة، بسبب الوباء، يبدو الأطفال كأنهم استؤصلوا بدورهم. تمتلك حكاية أوي هذه جميع خاصيات أدبه الكبرى (القبض على الخيال والعنف والعاطفة). لكن الكاتب لم يكن بعد قد أبطل “مفعول سمّ اليأس” فهو قد وجد أسباب عيشه بين ضحايا الحرب النووية كما خلال أولئك الذين، برغم ما يكابدونه، لم ينتحروا أبدًا.
“أن يُلعب بوجود بكامله، بشكل قاطع، في فضاء أيام عدة؛ أسطورة أصبحت أؤمن بها منذ الآن”. هكذا يكتب أوي في مقدمته لكتاب “ملاحظات حول هيروشيما”. وبفضل هذا التحقيق، يقوم الكاتب، من دون أن يعرف، برحلة داخلية، غيّرت في ما بعد موقفه وتصرفاته أمام الحياة والأدب. كان في الثامنة والعشرين من عمره، يومها، وكان قد بدأ يحظى بشهرة، إذ تحول لأن يصبح الناطق الرسمي باسم جيله. ومع ذلك، فإنه كان يشعر بنفسه في مأزق، إذ كان، ثقافيًا، موزعًا بين التصاقه بقيم ما بعد الحرب، وبين قلقه في أن يكون منتميًا بالكامل إلى عصر كان يخونه. والى هذه “الأزمة الثقافية”، تضاف أزمة شخصية هي أزمة أب في مواجهة ميلاد ابنه الأول، الذي ولد معاقًا. وقد كتب عنها روايته البديعة “مسألة شخصية”، التي يصف فيها كل مناخات أب يقف عاجزًا أمام المأساة التي تولد أمامه. بالأحرى هما مأساتان: مأساة بلد يخرج من دمار حرب ذرية، ومأساة شخصية لا تقل دمارًا عن الأولى. لكن لو عدنا اليوم إلى النظر في ما حققه أوي مع ابنه لقلنا إنها معجزة، إذ أصبح هذا الطفل “المختل” واحدًا من أهم عازفي الموسيقى الكلاسيكية في اليابان. (وقد رحل قبل والده بأشهر قليلة).
في صيف عام 1963، رحل أوي المحبط إلى هيروشيما، من أجل القيام بتحقيق طلبته منه مجلة “سيكاي” (العالم)، وهي مجلة يابانية قيل إنها كانت شبيهة بمجلة سارتر “الأزمنة الحديثة”. ذلك التحقيق كان لمناسبة “المؤتمر العالمي التاسع حول الأسلحة الذرية”. وفي هيروشيما، قام بتجربة كان آخرون سبقوه إليها، وهي تجربة إعادة العيش في “مكان مأسوي”، بحثًا عن “حدث مأسوي”. كانت إقامته “حدثًا مأسويًا” بدورها، ولكنها “حدث تجريدي”، إذ خبر هذه المآسي المفتتة من خلال التقاطه إياها عن طريق لقاءاته الذين تعرضوا للإشعاعات النووية، فقد تواجه حينذاك مع آلام الذين بقوا في هيروشيما بعد الكارثة.
الوجوه الجهنمية
يروي أوي (وهو “الصحافي الملتزم” و”المناضل” في تلك الفترة) في كتابه هذا، التغيرات الاجتماعية والجدالات التي دخلت النسيان والتاريخ. لكن هذه التغيرات شكلت لأوي “هيروشيما الحقيقية” التي من سماتها، تلك الكائنات التي التقاها، والتي روت حياتها وذكرياتها. فمن عاش تلك التجربة لا يستطيع إلا أن يستخلص عاطفة عميقة من هذه اللقاءات، ومن هذه الروايات التي تلازم هذه الوجوه الجهنمية التي تسير بين الخراب والدمار. لكن، برغم حساسيته، فإن اقتراب أوي من موضوعه يبقى اقترابًا أدبيًا: فهو يكتشف صورة الكرامة في “هؤلاء الناس الذين من دون أن يعلنوا أبدًا أنهم مهزومون قد استمروا في العيش هنا، حيث ينبت أقسى اليأس والجنون اللذين لا شفاء منهما”. فهو يجعلهم “أخلاقيي زمننا”، أي أنهم “النقاد المتنورون للطبيعة البشرية”. فالشجاعة والأمل والإخلاص لها هنا “معنى حسي خاص جدًا”، مثلما يكتب. من هنا، أيضًا، يمكن أن نقرأ مجموعته القصصية الموسومة “علّمنا أن نتجاوز جنوننا”، التي لا تتوقف عن استعادة تلك التفاصيل بمناخ ساحر، وبخاصة قصة “علمنا كيف نكفكف دموعنا”، التي يطلب فيها من الإمبراطور حلًا لهذه النكبة التي أصابت مجتمعًا بأكمله. إن قصف هيروشيما ليس بالتأكيد سوى إحدى مآسي البشرية. لكن عدد الضحايا، والرعب الذي تفجر في عُشر من الثانية، والنزع البطيء لأولئك الذين تخطوه، ليس سوى فاصل من تاريخ العذاب البشري، لأننا “نحمل كلنا جزءًا من هيروشيما في داخلنا”.
قد يستطيع أحدنا أن ينتقد أوي في أنه يظهر تملصه بإلقاء التهم، فهو لا ينكر أبدًا مسؤولية اليابان في كونها شنّت حربًا اغتصابية، فهو يحاكم فظاعتها، ويحاكم تجاهل التزام مثقفي جيله من اليابانيين في هذه المسألة. فهو هنا، يسائل ويتساءل، وينادي أن نحفظ فظاعة هذه الآلام التي سبّبتها، وليس أن نحفظ قوتها وما دمرته. وبشكل آخر، يجد أنها “التوزيع العادل” لتلك الفظائع المرتكبة من قبل الإمبراطورية اليابانية، لذلك لا ينبغي تلافيها. ووسط الخراب المحسوس في هيروشيما، وجد أوي أسبابًا لعدم اليأس. فبعد عام من “ملاحظات حول هيروشيما”، نشر روايته “القاسية” (التي ترجمت إلى العربية) “مسألة شخصية”، حيث يظهر فيها المأزق الذي عاشه بخصوص ابنه المعاق. لقد اختار الكاتب منطق الأمل الهجين بالصبر، أكثر من اختياره اليأس. فعلاقة الأب بالابن ستكون في قلب أعمال أوي، وهي نبع حنان لا ينضب (عاد وعالج حججها في كتابه “علِّمنا كيف نتجاوز جنوننا”).
الشجرة الخضراء
بعد نشره ثلاثيته الروائية “الشجرة الخضراء المشتعلة”، قبل فترة وجيزة من حيازته نوبل للآداب، أعلن أوي عن رغبته في التخلي عن كتابة الرواية. امتدت فترة الصمت لسنين عديدة. لكن موت صديقه، المؤلف الموسيقي تورو تاكيستو، دفعه إلى الرجوع عن قراره، ليعلن عن رغبته في كتابة الرواية من جديد (عبر حديث صحافي، في جريدة “أساهي شيمبون” اليابانية، ترجمته مجلة “لوكورييه أنترناسيونال”). وقد حدث ذلك بالفعل. يومها قال أوي: “إذا كان عليَّ أن أظهر لروحه خلاصة حياتي، أعتقد بأنني لا أستطيع القيام بذلك إلا عبر الرواية، ولا شيء آخر”. ويشرح الكاتب أنه حين أعلن عن قراره التخلي عن الكتابة الروائية، فذلك عائد إلى أن كتابته لم تعد تسمح له بالقبض على الإشكاليات الروحية، لأنه كان هناك اختلاف بين مشاعر الراوي وعمق فكره. وخلال فترة توقفه، أمضى أوي أيامه بالقراءة، وخاصة قراءة أعمال سبينوزا.
من خلال هذه الأعمال، بدأ اكتشاف نمط جديد من الكتابة. يقول أوي (الحديث المذكور سابقًا): “إن الرواية المثلى التي كتبت في القرن التاسع عشر، وفق صيغة “ضمير الغائب”، التي كانت تسمح بتحليل نفسية أشخاص عدة، كانت أنسب من صيغة ضمير المتكلم، كي نقبض على أحداث عصرنا. لكن جان بول سارتر الذي أرى فيه معلمي على صعيد الفكر كان ينتقد هذه الطريقة، إذ كان المؤلف يسيطر على أشخاصه، كما كان يعرف نفسية كل واحد منهم. أنا نفسي، كتبت وفق صيغة ضمير المتكلم محاولًا توسيع أفقي، لكن، بهذا الأسلوب، يستطيع الراوي أن يذهب في بحثه إلى أقصاه، وإلى أقصى نفسه… لذلك أحاول حاليًا صوغ انطباعات جديدة حول الكتابة وفق صيغة ’ضمير الغائب’”. وقد وصف أوي هذه الرواية الجديدة، يومها، بالقول: “على عتبة القرن الواحد والعشرين، يعرف جميعنا أن ليس هنالك أية رؤية جديدة بالفيض على العالم بأسره. لأننا لم نعد نؤمن لا بإله بمعناه الديني التقليدي، ولا بإله بالمعنى التاريخي الهيغلي، ولا بإله بالمعنى الماركسي… لذلك كان عليَّ أن أتخلص من هذه الرؤى الثلاث… ولذلك أعتقد أن دور المخيلة في العمل الروائي يكمن في محاولة التقاط رؤية شاملة. إن أسلوب الكاتب الألماني “موزيل” في وضعه على بساط البحث أشخاصًا عدة ليدخل إلى عمق نفسياتهم، يذكر بروايات القرن التاسع عشر، ولكنه، في الوقت ذاته، وسيلة جديدة وعملاقة، فهو حين كان يرفع الروح البشرية كان يدخل بذلك إلى عمق روحاني، فإذا كان عملي الماضي يقارن بعزف منفرد على البيانو، فأنا حاليًا أرغب في أن يقارن بعزف خماسي”. من هذا المنطلق، “أرغب في كتابة قصة أناس يفكرون بالمسألة الروحانية في نهاية هذا القرن”.
كلام أوي، يومها، بدأ وكأن روايته الجديدة سوف تكون بعيدة عن مناخات هيروشيما. وإن كان الكاتب يؤكد أن المهم في نهاية هذا القرن هو معرفة كيف أن الناس سوف يستطيعون العيش بعد سقوط الأيديولوجيات… “لأن الشباب يبحثون اليوم عن نوع من الروحانيات، فالوضع في اليابان اليوم يشبه الوضع الذي كان عليه المجتمع بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية، أي أنه مجتمع منقسم بين العودة إلى الثقافة اليابانية، وبين الاستمرار في ركب الحداثة. فهيروشيما لم تغادرنا، لأنها في داخل كل واحد منا”.
في عام 2013، صدرت هذه الرواية بعنوان “وداعًا يا كتابي”. كانت قصة صديقين قديمين، أو بالأحرى عن صديقين قديمين. أحدهما يدعى شوكو كوجيتو، وهو يشبه إلى حدّ كبير المؤلف: إنه كاتب، وقد حقق نجاحًا كبيرًا، وحصل على جائزة نوبل، وهو أب لطفلين، آكاري، ومآشان، وهو ابن معاق شغوف بالموسيقى. الآخر يسمى تسوباكي شيجيرو، عاش في الولايات المتحدة لفترة طويلة، حيث عمل هناك كأستاذ جامعي، لكنه كان قد قضى طفولته جنبًا إلى جنب مع كوجيتو. عاد المكان عينه ليجمعهما مرة أخرى: قام شيجيرو، بكونه مهندسًا معماريًا، برسم تصاميم المنزلين التوأمين اللذين سوف يعيش فيهما كوجيتو عندما لا يكون في طوكيو: في قلب الجبال، في كيتا كارو، يوجد منزلان في الواقع يواجهان كل منهما الآخر في قرية جامعية مسالمة: ما يسمى بمنزل جيرونتيون، تكريمًا لشعر الشاعر ت. إس. إليوت، كما منزل “المجنون العجوز”، الذي سمي بذلك تكريمًا لييتس.
ثمة شخصيات أخرى، بالطبع، تتداخل في حبكة الرواية: فلاديمير، فتى من أصل روسي، وشينشين، من أصل صيني، وكلاهما من طلاب شيجيرو. ثم، تاكيشي وتاكتشان، طالبان متشابهان يكونان دائمًا برفقة فتاة تدعى نيو. تتداخل أصوات شخصيات الرواية في ما بينها، إلى درجة أن القارئ يتوه أحيانًا في تمييز من يتكلم مع من. حتى أن الكاتب يذهب إلى أبعد من ذلك، حين يبدأ بالحديث مع أصدقائه المتوفين. قد تكون رواية غريبة بعض الشيء، من حيث أسلوبها، عمّا اعتدنا على قراءته عند كنزابورو أوي. كل هذه الأصوات تجعل من الكتاب رواية معقدة ومكثفة، إذ أنها لا تكتفي باستحضار سيناريوهات متفرقة (ربما لجذب الانتباه)، ولكنها تطرح أيضًا كثيرًا من الموضوعات: موضوع الشيخوخة بالطبع، ولكن أيضًا العلاقة بين الخيال والواقع، بين الالتزام والمراقبة، أو حتى الحاجة إلى نقل عالم صحي إلى الأجيال القادمة. كذلك هنالك عدد من الأسئلة: العلاقات الوثيقة بين الصديقين القديمين اللذين تخطيا الستين من عمريهما، الغيرة والرفض المتبادل اللذان يشعران به تجاه بعضهما بعضًا، ومع ذلك فهما قريبان أكثر ممّا نعتقد في بداية الرواية. لذا لا بدّ أن نطرح تساؤلًا: هل إن هذين الرجلين الصديقين ليسا في النهاية سوى الوجه والقفا لشخصية واحدة؟
بالطبع، وجدنا هذه الفكرة في بعض الروايات والقصص الفرنسية الكلاسيكية، أي أن نسمع وجهي السؤال الواحد عينه: وهنا، في هذا الكتاب، نجد سؤال المهندس الذي “يريد أن يتصرف” في هذا العالم مع عدد قليل من طلابه، والكاتب الذي يتردد في المشاركة في هذا المشروع، مشروع البناء الغريب، ما يجعلنا نقع على جدلية لا تنتهي لكل واحد منهما بأن يعرض وجهة نظره، حول مختلف القضايا. لكن ليس هذا كلّ شيء في هذا الوداع “المذهل”. فكما أن أوي يعرف فعلًا الأدب الأوروبي، وهو متذوق له، ينطلق ليحدثنا عن بعض الروايات الغربية، انطلاقًا من الكتب التي كان يقرأها الكاتب العجوز “في تقاعده”. لكنه تقاعد مؤقت، إذ تعود إليه الرغبة في الشروع بكتابة رواية جديدة بعد أن توقف عن ذلك لسنين. يريد أن يكتب “الرواية الأخيرة” التي يريد أن يجمع فيها كلّ من سيلين، ورحلته إلى أقاصي الليل عبر شخصيتي باردامو وروبنسون الغامضة. شخصيتان تتقاطعان كثيرًا في جميع مفاصل الرواية التي يريد أن يكتبها كوجيتو. هل إن كوجيتو هو أوي نفسه (بالتأكيد، إذ ثمة تقاطعات كثيرة مع حياة أوي نفسه، وما الأدب سوى هذه الـ”أنا” التي تحدث عنها مونتاني). لكنْ، أيضًا، أليس اسم كوجيتو، هو الكوجيتو الديكارتي الذي يدفعه لأن يكون موجودًا عندما يفكر؟ لم يشعر الكاتب العجوز بوجوده، إلا عندما عاد إلى التفكير بما سيكتبه. لذلك روايته هذه هي رواية الاحتمالات الكثيرة والمثيرة التي تنفتح على مصراعيها.
هل كتب أوي، مع روايته هذه، رواية ما بعد لحظة هيروشيما التي أرقته طيلة حياته؟ ربما. وربما لا، أيضًا، فيما لو عدنا إلى حديث صحافي أجري معه بعد صدور الكتاب (صحيفة لوموند للكتب): “اليوم لديّ شعور بأن اليابان تمر بإحدى تلك اللحظات التي يبدو فيها أفقها مغلقًا: المعرفة التي لدينا عن العالم والمجتمع تبدو بلا معنى. وداعًا يا كتابي! يقتفي أثر رحلة داخلية، تتزامن مع الكارثة الجماعية التي تمر بها اليابان. لأن التفكير في المشروع الذي يهدف إلى محاربة “العنف الهائل في هذا العالم” لا علاقة له بوضوح بالأخبار النووية لما شهدته اليابان مع فوكوشيما”.
إذًا؟ من هيروشيما إلى فوكوشيما، امتدت رحلة من الكتابة الجميلة، التي تفقد اليوم رائدها. يكفي أن نعيد قراءة أوي لنتيقن كم أن أسئلته لا تزال راهنة.
(*) كاتب لبناني.
ضفة ثالثة