مراجعات الكتب

كتابها «التفكير الحرّ» ينتقل إلى المكتبة العربيّة | حنة أرندت: مسار إشكاليّ وفكر راهن/ مصطفى شلش

تصاعد أفكار اليمين المتطرّف والحركات الشعبوية في الولايات المتحدة وإيطاليا والبرازيل والهند، تزامناً مع تجربة الإغلاق العالمي خلال جائحة كوفيد 19 حين أحكمت الحكومات قبضتها على حياة الشعوب، أدّى إلى تزايد الانقسام داخل النظرية السياسية بين أولئك الذين يجادلون بأن الديمقراطية الليبرالية هي الحل للديكتاتورية الشمولية، وأولئك الذين قد يجادلون بأن عناصر الشمولية متأصّلة في الديمقراطية نفسها، مُحتكمين إلى تلك الفروق الأرسطية التي تقول بأنّه لا يمكن أن يكون لديك شكل خالص لأي نظام سياسي.

نقاش يجعل أعمال الفيلسوفة الألمانية الأميركية حنة أرندت (1906 – 1975) ذات أهمية راهنة، علماً أنّها تنتمي إلى القائلين بأن عناصر الشمولية ستستمر في الوجود في العالم أينما كانت هناك معاناة سياسية واجتماعية واقتصادية بغضّ النظر عن شكل النظام السياسي، لكنّ أعمالها تناولت بشكل تحليلي نقد معاداة السامية والاستعمار والعنصرية والنازية والستالينية.

حنة أرندت التي تعود إلى الواجهة من خلال ترجمة كتابها «التفكير الحر» (ترجمة مالك سلمان ـــ دار الساقي/ راجع المقال أدناه)، ولدت عام 1906 لأبوين يهوديين بالقرب من هانوفر، ونشأت في الدوائر المتعلمة في كونيغسبيرغ. في عام 1924، بدأت بدراسة الفلسفة واللاهوت، أولاً في ماربورغ، ولاحقاً في فرايبورغ وهايدلبرغ، وحصلت على الدكتوراه في الفلسفة عام 1928. في وقت باكر عام 1931، توقّعت أرندت أنّ النازيين سيصلون إلى السلطة، ما دفعها إلى الهجرة إلى فرنسا لتعمل مع بعض المنظمات الصهيونية الشبابية لمساعدة اليهود في باريس إلى جانب عملها الأكاديمي. هناك التقت بهاينريش بلوشر، الرجل الذي سيصبح زوجها في ما بعد. وجراء نشاطها في الأوساط اليهودية، سُجنت في معسكر اعتقال جنوب غرب فرنسا، قبل أن تتمكن مِن الفرار عام 1941 مع زوجها ووالدتها إلى نيويورك عبر لشبونة، لتحصل لاحقاً على الجنسية الأميركية عام 1951.

خلال الأربعينيات، كتبت أرندت مقالات عن معاداة السامية واللاجئين والحاجة إلى جيش يهودي في عدد مِن المجلات الألمانية في المهجر. عملت كذلك محررةً في Schocken Books وشغلت منصب المدير التنفيذي لـ«منظمة إعادة الإعمار الثقافي اليهودي». شهدت الخمسينيات نشر أعمال أرندت الرئيسية: «أصول الشمولية» (1951) دراستها الثاقبة للأسس الفكرية والتاريخية للأنظمة النازية والستالينية، و«الوضع البشري» (1958) الذي قدّم روايتها لتراجع الحياة العامة في العصر الحديث. أما كتاب «في الثورة» الذي نُشر عام 1963، فقد كان تعبيراً عن تأثرها الشديد بالنمط السياسي الأميركي المتعلق بالديمقراطية الدستورية والحرية السياسية، بالإضافة إلى عملها الإشكالي «أيخمان في القدس – تفاهة الشر» الذي لقي صدى واسعاً في العالم الفكري بين مؤيد ومُعارض، إذ تناولت فيه جرائم أحد قادة النازية ومدى قانونية مُحاكمته. وقد أصدرت العديد من المؤلفات مثل: «بين الماضي والمستقبل»؛ «الرجال في الأوقات المظلمة»؛ و«أزمات الجمهورية»، وكتابها الأخير غير المكتمل بعنوان «حياة العقل». نُشر مُعظم تلك الأعمال بعد وفاتها عام 1975.

لم تتولَّ أرندت أبداً وظيفة أكاديمية ثابتة، مع ذلك كانت أول أستاذة جامعية في «جامعة برينستون»، ودرّست أيضاً في «جامعة شيكاغو»، و«جامعة كاليفورنيا بيركلي»، و«جامعة ويسليان»، بالإضافة إلى مساهماتها في مجلات The New York Review of Books و Commonweal و Dissent و The New Yorker.

لم تكتب أرندت بصفة الأكاديمية أو الفيلسوفة واحتجّت بشدة على اللقب الأخير، وخصوصاً بعد عام 1933 بعد حرق الرايخستاغ وتنامي العداء الشديد لليهود في ألمانيا، والتنكيل بالشيوعيين. شاهدت كيف تحول أصدقاؤها وزملاؤها وأساتذتها إلى نازيين، ما دفعها إلى ترك عالم الفلسفة الأكاديمية. فضّلت وصفها بـ«منظِّرة سياسية»، وهذا عائد للتمييز إلى حد كبير في فهمها بأنّ «كل تفكير يأتي من التجربة». رغبت في تناول الأحداث والأفعال التاريخية بمعيارية للوصول إلى رؤى أصلية حول الاستعداد الحديث للاستبداد والتهديدات لحرية الإنسان التي يفرضها كل من التجريد العلمي والأخلاق البرجوازية.

عبارة «كل تفكير يأتي من التجربة» هي تأثير أفلاطون وكارل ياسبرز على مفهوم التفكير لدى أرندت. فلسفياً، هي لم تحِد بعيداً عما يُسمى «الظواهر المادية الغربية»، حيث تُصبح تجاربنا في العالم مادةً لتفكيرنا، ما يعني أن التغيرات في محيطنا المادي تُغيّر جودة تفكيرنا، وتؤثر على قدرتنا على التعامل مع هذه التغيرات. هذا هو أحد الأسباب التي تجعل أرندت حذرة من صعود مجتمع الحداثة وفقدان التمييز بين الحياة الخاصة والعامة، وانعدام العزلة، وفقدان مساحة للتفكير، حيث يبدأ كل شيء في أن يصبح أحادي البعد ومسطّحاً ونبدأ في فقدان هذه الفروق، ما يُضعف تفكيرنا وقدرتنا على الحكم. وإذا فكّرنا بذلك في سياقنا السياسي المعاصر اليوم، فإن التكنولوجيا تتوسط معظم التجارب التي نعيشها. وهذا يعني أنها تغيّر طريقة تفكيرنا، لكن لا يعني بالضرورة التسليم بأنه تغيير سيّئ.

ظهرت مركزية مفهوم «التفكير» لدى أرندت في كتابها «أيخمان في القدس»، مُعتبرة أن القائد النازي أوتو أدولف أيخمان (تولى تنظيم عمليات الهجرة القسرية والترحيل للشعب اليهودي لتنسيق ما يسمى بالحل النهائي وبين عامي 1942 و 1945، أرسل أكثر من مليون ونصف مليون يهودي إلى معسكرات الموت) لم يكن قادراً على التفكير في أي شخص آخر، فقط فكّر في نفسه، ولم يكن عاكساً لذاته. لكنها اعتبرت جرائمه ناجمة عن فشل في التفكير، وهي قراءة أفلاطونية مفادها أنّنا لا نستطيع إلا التفكير في الفضائل: الخير والشجاعة والسعادة. لكنها لم تكن كافية لأرندت لأنّ أفلاطون وصف الشر فقط، ولم يقدم إجابة عن أصل الشر. إنه يفسر فقط وجود الشر في العالم على النقيض من الأشكال المثالية، ما دفعها لكي تُعيد قراءة أوغسطين في اعترافاته (سبق لأرندت أن كتبت أطروحة أصلاً عنه).

أراد أوغسطين أن يفهم طبيعة الشر ويثبت وجود الله، ويجادل بأن الشر ظاهرة، فالشر في القراءة الدينية ظاهرة تظهر إلى الوجود في العالم، لكنها ليست جزءاً من خلق الله. لكن في قراءة أرندت العلمانية لأوغسطين، التي لجأت فيها إلى الفينومينولوجيا الألمانية، فالشرّ لا ترتكبه الوحوش، بل البشر. لذا عندما خلقت مصطلح «تفاهة الشر»، فهي كتبت عن شكل خاص جداً من التفكير. وعندما قالت إن أيخمان كان يفتقر إلى القدرة على التفكير، كان ما تعنيه أنه يفتقر إلى القدرة على تخيل العالم من منظور آخر. أي أن الشر هو عدم وجود خيال مُتعاطِف. وهذا ما تسميه عدم التفكير. ومن الممكن أن يُفكر أيخمان، لكن مع افتقار إلى الشكل المحدد للخيال السياسي. وهذا يحسم الجدل حول هذا العمل، إذ تمّت مُهاجمة أرندت مِن قبل أغلب المثقفين الإسرائيليين آنذاك، الذين اتهموها بخيانة الشعب اليهودي، على الرغم من أنّ أرندت كانت منتبهة إلى التمييز بين المبادئ الأخلاقية التي تؤكد الضرورات الأخلاقية للعمل، وتحدثت كثيراً عن المسؤولية الأخلاقية، لكنّ قراءة البعض لها جاءت بناءً على أنّها ناشطة سياسية، فأغفلوا البعد الفلسفي في تفكيرها، ما جعل الكتاب يخرج عن سياقه ويأخذ بُعداً إشكالياً.

على صعيد آخر، فرّقت أرندت بشكل بديهي بين القيم الليبرالية والإيديولوجية الليبرالية، ما بدا واضحاً في تعبيرها الصريح عن القيم التي قد نربطها اليوم بالديمقراطية الليبرالية، مثل التعددية وحرية التعبير والحاجة إلى العمل السياسي، لكنها لا توافق على ما تسمّيه «أسطورة التقدم»، ولا ترى كيف يمكننا التمييز بين تاريخ التقدم وتاريخ الهمجية. خلال تكريمها في «جامعة تورنتو» عام 1972، سألها هانز مورجنثاو: «ماذا أنت؟ هل أنت ليبرالية، هل أنت جمهورية، هل أنت ديمقراطية؟» فقالت: «لا أعرف قط. ولا أعتقد أن هذا النوع من الأسئلة سيساعدنا في الرد على المشاكل السياسية الملحّة التي نواجهها اليوم». لكنها قالت إنّ الشيء الوحيد الذي «كنت عليه كان صهيونياً». كان ذلك من عام 1933 إلى منتصف الأربعينيات، عندما كان ذلك ضرورياً من الناحية السياسية. لكن بشكل عام كانت أرندت معادية للإيديولوجية بعمق، ما يعني أنّها لن تشترك في نوع الديمقراطية الليبرالية التي يكتب عنها المنظّرون السياسيون المعاصرون اليوم.

لأرندت مواقف جدلية: عارضت حكم المحكمة العليا في قضية «براون ضد مجلس التعليم»، وهي القضية التي ستصبح الأكثر شهرة. يومها، رفع أوليفر براون دعوى قضائية جماعية ضد مجلس التعليم في كانساس عام 1951 يرغب بدخول ابنته ليندا براون إلى أحد مدارس البيض. عُرضت القضية أمام المحكمة العليا، التي أقرّت بأنّ الفصل في المدارس العامة كان له تأثير ضارّ على الأطفال الملوّنين وأسهم في الشعور بالدونية، لكنه لم يخلّ بالمساواة. انتقدت أرندت هذا الحكم على أساس العمل السياسي، ورأت أن على الناس تحمّل المسؤولية والتصرف على المستوى اليومي للسياسة بدلاً من أن تفرض المحكمة العليا نوعاً من السياسة، فهذا يؤدي إلى تدخل أكبر من الحكومة الفيدرالية والسلطة القضائية في حياة الناس، ما يسمح بمزيد من الاستبداد. وقالت إنها لا تعتقد أن من مسؤولية الحكومة الاتحادية سنّ تشريعات للمساواة الاجتماعية. وعلى الجانب الآخر من ذلك، اعتقدت أن تشريع الحكومة الفيدرالية للمساواة الاجتماعية من شأنه أن يؤدي إلى رد فعل عنيف واسع النطاق وربما المزيد من التحيز. وأعلنت أنّ المساواة لا يمكن فرضها، بل يجب كسبها.

رفضت أرندت بشدة السياسة المركّزة حول الهويات، إذ اعتبرت أنّ الهوية هي «الفرد» وفقط، وعارضت محاولات خلق موضوع كوني للأغراض السياسية. اختلفت مع أفكار روزا لوكسمبورغ حول النسوية (1912)، إذ كانت روزا ترى مشاكل المرأة باعتبارها مشكلات اقتصادية داخل المجتمع الطبقي. لكن بالنسبة إلى أرندت، هناك ما نحن عليه، ما يظهر مِنا إلى العالم. تقول في كتابها «الوضع البشري» إنّه بمجرد أن يسألنا أحدهم «من يكون هذا الشخص؟» ننزلق بسرعة كبيرة إلى تأطيره، فإن سألتك: مَن ذاك الشخص هناك؟ إنها امرأة طويلة. لكن هذا ما أرغبه، بل إنّ الإجابة الصحيحة «لتحديد ماهية شخص ما»، هي ما يتم الكشف عنه من خلال كلامه وأفعاله. تُريد أرندت تجنيب الإيديولوجيا وكشف ما هو فريد عند الناس، وخصوصاً كشف طريقة تفكيرهم، والأصل الداخلي لشخصيتهم. وكان نقد أرندت لاذعاً لشخصية نسوية أخرى هي سيمون دو بوفوار التي عرفتها في باريس خلال الأربعينيات، وكتبت عنها في مراسلاتها مع ماري مكارثي، إذ أوردت أنّ سيمون ليست ذكية جداً ـ غبية ــ وأن من الأفضل مغازلتها من إضاعة وقتكم في محاولة التحدث معها.

في مقال لأرندت بعنوان «نحن لاجئون»، تُقدم مثالاً لشخصية السيد كوهين. كان كوهين أفضل مواطن ألماني حتى أُجبر على مغادرة ألمانيا، ثم كان أفضل مواطن فرنسي حتى أُجبر على مغادرة فرنسا، ثم كان أفضل مواطن سويسري وهكذا. فقط لأنه يهودي، كان محكوماً عليه بحياة بائسة كمتسائل من نوع يوليسيس، طالما أنه غير راغب في قبول ما هو عليه. كان هذا مُلخص تجربة اللجوء الحقيقية التي مرّت بها في باريس في الأربعينيات.

تقول في مقابلتها (عام 1964) مع غونتر غاوس بأنّ الشيء الوحيد الذي بقي لها بعد الحرب هو لغتها الأم: اللغة الألمانية. لذا رفضت أن تفقد لهجتها. كانت لغة القصائد الألمانية التي حفظتها عندما كانت طفلة في عقلها جعلتها «غريبة» و«منبوذة» في المجتمع الأميركي، لكنّها أعطتها مساحتها الخاصة من التمرد.

رفضت أرندت نبذ ما هي عليه، وتعاملت بوصفها يهودية ألمانية مُهاجرة إلى أميركا. فهمت إلى حد كبير بأنها تقع بين عالمين، في الفراغ البيني، بين الماضي والمستقبل. انجرفت كثيراً في السياسة الأميركية، وكانت مفتونة بالنظام السياسي والديمقراطية الأميركييْن، وكانت تعتقد حقاً أن هناك حرية مطلقة في الولايات المتحدة، وأنّ ما وحّد الأميركيين لم يكن أي نوع من القومية العرقية أو الشوفينية بالمعنى التقليدي، بل إنّ الجميع يخضع لمبادئ الدستور. لذا في مراسلاتها الباكرة مع ياسبرز على وجه الخصوص، حرصت على مقارنة السياسة الأوروبية والسياسة الأميركية، وتفضيل الأخيرة.

لم يستمر هذا الانبهار طويلاً. قرب نهاية حياتها، حذّرت من ظهور الاستبداد في الولايات المتحدة، وخصوصاً من قبل السلطة التنفيذية، ورفضت تدخّل وسائل الإعلام في السياسة، إذ بدأ التلفزيون في تشكيل النقاش العام في الستينيات، ما دفع بتغيّرات سريعة وغير إيجابية في آليات الأحزاب السياسية في التعاطي مع الانتخابات السياسية الأميركية. عارضت النزعة العسكرية التي بدأت تظهر خلال حرب فيتنام، وشاهدت نسيج الحياة العامة يتآكل نتيجة إضرابات السياسة وانعدام استقرار المؤسسات الأميركية.

لعلّ أهم شيء يمكن أن تقدمه لنا أرندت هو التحذير من خطر الإيديولوجيات، والشعبوية، وتنامي العنصرية، والصوابية السياسية، وغلق المجال العام أمام الحريات. الحل ليس من أعلى عبر السلطات والحكومات والمحاكم، بل عن طريق الانخراط السياسي الجماعي الواعي المدفوع بتفكير نقدي تحليلي جادّ. أرندت نموذج تمرّد غير تقليدي بقي ــ رغم كل النقد والعداء ومحاولات الإقصاء ــ صادقاً لأفكاره، وإن كانت بيننا اليوم قد لا تُبالي كثيراً بصراخ اليساريين في ساحات الجامعات أو بعنف اليمينيين الرمزي. ستبقى مُستقلة. لعلّ هذه هي الفضيلة الغائبة عن عالمنا السياسي اليوم.

ملحق كلمات

———————-

«التفكير الحرّ» في زمن الأزمات/ عفيف عثمان

لا بد لنا في بادئ الأمر من النظر في استقبال الفكر العربي لترجمات حنّة أرندت. في هذا الشأن، كتب أستاذ التاريخ في «جامعة تورنتو» المختص في الشرق الأوسط، نيس هانسن، مقالاً شديد الأهمية بعنوان «قراءة حنة أرندت في الشرق الأوسط: ملاحظات أولية في الشمولية والثورة» (مجلة الدراسات الفلسطينية ـــــ العدد 95، 2013). تتبّع هانسن في هذا المقال، الاستخدام الغرضي لأفكار الفيلسوفة، رغم رفضها القاطع لهذه الصفة. في زعمها، إنّ الفيلسوف هو الشخص الذي «يعرف أنه لا يعرف شيئاً» وفقاً للمعلم اليوناني سقراط، وبالتالي ليس لديه ما يُعلمه للآخرين.

مقالات مرتبطة

وكان سؤال الباحث الرئيس: «لماذا تستحضر أرندت في خدمة قضايا هي محل نزاع، ولم تتواتر العلاقة العربية مع أفكارها إلا مع اشتداد النزاعات؟ الصلات الأولى كانت غير منتظمة، فأولى الترجمات قام بها خيري حماد عام 1964 لكتاب «رأي في الثورات» (أعيد طبعه عام 2011). وفي عام 1974، ترجم عبد الرحمن بوشناق عملها «بين الماضي والمستقبل: ستة دروس في الفكر السياسي» (أعيد طبعه عام 2014). ويشير هانسن إلى أنه في ربيع عام 1983، قدّم قسم الفلسفة في الجامعة الأميركية في بيروت مساقاً للدراسات العليا بعنوان «تأملات فلسفية معاصرة في استخدام العنف السياسي» كُرّس لأعمال أرندت الرئيسة، نسقه المُدرس الأميركي فينس دولان. من دون أن نُدخل نظرية المؤامرة في صلب السرد، يتساءل الكاتب (بخبث) عن السبب الذي دفع البروفسور الشاب (آنذاك) المقيم منذ عام 1980 في لبنان، لأن يُعلم في بيروت «الغربية» ويمكث فيها أعوام الحرب القاسية. ويطلعنا أنه في عام 2017، قدّم المعهد الإيراني للفلسفة في طهران، إبان حكم أحمدي نجاد، مساقاً للدراسات العليا عن أرندت بإشراف الأستاذة الأميركية الزائرة، نورما موروتزي. وتقول هذه الأخيرة إن الطلبة شهدوا بأمّ أعينهم عقم إصلاحية خاتمي: «كانوا يتوقون إلى دراما سياسات الشارع وفوريتها». ومن ثم أتى انشغال المثقفين العرب اللاحق بأفكارها حول التوتاليتارية والثورة والعنف والسلطة بسبب ما أسماه هانسن «انقشاع» أوهام بعضهم حول الماركسية، فتحولوا «نحو نموذج من النقد أشد تأملاً»، فهاجروا من ماركس إلى ابن خلدون وإلى أرندت، أي ذهبوا من النقد الخارجي إلى النقد الداخلي. تتالت الترجمات وأكثرها نُشر في بيروت: «في العنف» (1992)، «أسس التوتاليتارية» (1993)، «في الثورة» (2008)، «أيخمان في القدس» (2014)، «ما السياسة؟» (2014)، «الوضع البشري» (2015)، «حياة العقل – التفكير» ( 2016)، «حياة العقل – الإرادة» (2017 )، وهذه الأعمال في مجملها تغطي ميادين تفكيرها وانشغالاتها العملية.

وبين أيدينا ترجمة جديدة لعملها الذي حمل بالعربية عنوان «التفكير الحر» أنجزها مالك سلمان (دار الساقي) والترجمة الحرفية من الإنكليزية تقول: «التفكير من دون درابزين ـــ محاولة في الفهم 1953 ـــ 1975» Thinking without a banister : essays in understanding المنشور عام 2018 بإشراف وتقديم جيروم كون (J. Kohn)، ورعاية القيّمين على تراثها الفكري، وهو يشرح بعض سياقات أفكارها والمناخ العام الذي هيمن على القرن العشرين الذي أثّرت فيه عميقاً.

الكتاب المذكور عبارة عن مجموعة من الدراسات والمقالات والمقابلات والخطب والرسائل والمداخلات والردود، وُضعت في مناسبات وأزمان متباعدة. لكنّ المسألة السياسية والسلطة والثورة تقع في قلبها، وبالتأكيد قضية الحرية، وقد قدّمت فيها معنى جديداً للحياة السياسية في زمن أزمة المجتمع الحديث. فداخلت في «الانعتاق» والثورة وشروطها ومعناها، والشمولية والحرب الباردة وفي الدولة القومية والتقليد والقيم والأخلاق، من دون أن تنسى توجيه التحية لأستاذها ومرشدها، الفيلسوف الألماني الأشهر مارتن هايدغر «في عامه الثمانين».

ولدخول عالم أرندت، من المفيد نقل قولها حول «التفكير من دون درابزين»: «عندما تصعد وتنزل الدرج يمكنك أن تتمسك به كيلا تقع. لكننا فقدنا هذا الدرابزين. أنا أفكر بهذه الطريقة. وهذا ما أحاول أن أفعله في حقيقة الأمر».

تتحدث أرندت هنا عن الفهم والحكم من خلال الذات من دون الاعتماد على «المقولات المتصوّرة مسبقاً». هذا ما قصدته بعبارة «التفكير بدون درابزين» (من دون شيء نستند إليه) كما فعل نيتشه في «هكذا تكلم زرادشت»، إذ رأت أرندت أن فقدان المعايير المميّز لعصرنا يمثل أزمة وفرصة في الوقت نفسه. عندما يفكر المرء بدون تحديدات، فهو يفكر من دون الرجوع إلى مقولات الفكر التي لا جدال فيها. وعندما يحثنا نيتشه على الشك بنحو أفضل من ديكارت، فإنه يحثنا على التفكير من دون عوائق، ومثل هذا التفكير خطير لأنه يجب أن يكون فوق الخير والشر وبالتالي بدون الرجوع إلى «الأخلاق».

إن اهتمام أرندت بالتفكير الذاتي لازمها مدى عمرها، ويعود على الأقل إلى وقت عملها مع أستاذها هايدغر. أعلنت في مؤلفها «الوضع البشري» (1958) عن اهتمامها «بالتفكير في ما نفعله». مع ذلك، فإن تأملات أرندت الأولية والأكثر شمولاً حول التفكير جاءت إلى درجة كبيرة من تجربتها في محاكمة أدولف أيخمان (1961). لقد صُدمت في القدس بالدرجة التي كان فيها أيخمان إنساناً عادياً – ليس سادياً – ولا حتى معادياً للسامية بشكل خاص. وجدت أنّ ما كان محورياً بالنسبة إليه هو عدم تفكيره. والتحدي الذي تضعه لنفسها ولنا جميعاً هو إعادة تعلم فن التفكير.

رغبت المُنظرة السياسية في رؤية «الشر المحض» (الجذري بتعبير كانط الذي استعاده الفيلسوف الفرنسي بول ريكور لاحقاً) الهادف إلى التدمير الصرف، ذاك الذي «لا يتمتع بأي ارتباط جوهري بمعاداة السامية أو أي إيديولوجية أخرى»، وكانت قد رأت الشر في ظهور الأنظمة الشمولية (التوتاليتارية) ومصادرتها للحرية الإنسانية.

في نصها عن «الثقافة والسياسة» (1958) استعراض واسع للمفهومين ولا سيّما عند اليونان، إذ أدرك الإنسان نفسه «كائناً سياسياً» إلى صفته الإنتاجية من خلال العمل، وبناءً عليه، ترى المفكرة حاجة السياسة إلى الثقافة، لأن هذه الأخيرة تضمن استمرار أقوال وأفعال البشر الفانين، وإلى تداخلهما ثمة خاصية مشتركة بينهما هي انتماؤهما كظاهرتين إلى «العالم العام». تقرّ بأنّ الفضاء السياسي لا يزدهر ويعيش في «معزل عن جمال الأشياء الثقافية، وتلك الأبهة الساطعة التي تتجلى فيها الديمومة السياسية وخلود العالم».

ترى أرندت في «محاضرة في الحرية والسياسة» (1960) إلى الارتباط بينهما بخلاف التعريفات الكثيرة للحرية، فلا يمكن اختبارها، في شكل إيجابي إلا في «عالم السياسة والفعل، ففي المجتمعات الاستبدادية تغيب السياسة عن الفضاء العام: الحرية والسياسة متزامنتان في تجسّدهما الواقعي وترتبطان ببعضهما كوجهي العملة الواحدة». بيد أن العصر الحديث فصل بينهما وركّز على مسألة الأمان من دون الحرية، وجهدت الأنظمة الشمولية في قمع الحريات. غير أن أرندت تقدّر أنه من العسير منع البشر من التصرّف بحرية، ذلك أن لا أحد يستطيع منع الناس «من التفكير والإنتاج وتجريدهم من الإرادة». لا تربط أرندت الحرية بحرية الإرادة أو الاختيار، كما يفعل أكثر الفلاسفة الغربيين التقليديين، بل تربطها بالفعل، فـ «الناس أحرار في سياق الفعل، وليس قبله أو بعده، وأن تكون حراً يعني أن تكون منخرطاً في الفعل». بالتالي، يتطلب ذلك ميداناً مناسباً للفعل. تشدّد على أنّ أشياء كثيرة تعتمد على الحرية الإنسانية، ولا سيّما «قدرة الإنسان على منع الكوارث» التي تحدث دائماً. وقد أكدت على الفعل في قولها أثناء مشاركتها في مؤتمر عن أعمالها نظّمته «جمعية تورنتو لدراسة الفكر الاجتماعي والسياسي» عام 1972: «إنني أؤمن أن الفعل مشروط بالعمل الجمعي، وأن التفكير شيء فردي، وهذان وضعان وجوديان مختلفان تماماً». وحين سئلت عن موقعها في الانتماءات المعاصرة، أجابت بشفافية، بأنها لم تكن اشتراكية أو شيوعية، رغم أن أبويها كانا اشتراكيين، والمجموعة الوحيدة التي انضوت فيها هي «الصهيونية» بين عامَي 1933 و1943، ومن ثم انفصلت عنها، وهي تعبر عن ندمها، وتبرر هذا الانتماء بأنه كان للدفاع عن نفسها بصفتها يهودية، وكان أجدر بها أن تدافع عن نفسها بصفتها كائناً إنسانياً.

انتهت أرندت في تجربتها الفكرية الغنية إلى الانسحاب من العالم والانغماس في التفكير الذاتي، حين تبدّت لها صعوبة المهمة من دون شيء تتكئ عليه، وحين وجدت هوّة عميقة بين الماضي والمستقبل، وهي تنقل عن المفكر الفرنسي ألكسيس دو توكفيل قوله: «عندما لا يعود الماضي يلقي بضوئه على المستقبل، فإن عقل الإنسان يهيم في المجهول». لذا، رأت أن على المرء التفكير «كأنّ أحداً لم يفكر من قبل، ومن ثم يبدأ في التعلّم من الآخرين». وكما سبق أن عبّرت أرندت في «الوضع البشري»: «ليس اغتراب الأنا، كما كان ماركس يعتقد، هو خاصية العصر الحديث، بل هو الاغتراب عن العالم».

————————-

Show More

Related Articles

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Back to top button