أربع سوريات لا تصلح: بنى وخطابات/ ياسين الحاج صالح
خبرت سوريا خلال ستين عاماً من تاريخها البعثي أربعة تمثيلات للبلد، تحمل من التناقضات ما آل بها إلى التداعي، وبالبلد إلى التمزق الحالي.
أولها وأقدمها صورة سوريا العربية، وهي سابقة لحزب البعث، بل لعلها سابقة للكيان السوري ذاته، تعود بصورة ما إلى عصر النهضة العربي، و«الثورة العربية الكبرى» ضد العثمانيين، ثم إلى الكفاح ضد الاستعمار الفرنسي وقد جرى على أرضية عربية وليست سوريا حصراً، وصولاً إلى الاستقلال، فالوحدة السورية المصرية التي كانت شهوة سياسية سورية في واقع الأمر أكثر مما هي مصرية. منذ نشوء الكيان السوري حمل هذا التمثيل توتراً بين وقائع اللغة والثقافة والمخيلة والذاكرة وواقع الدولة والسياسة والنظام الدولي. فسوريا دولة «سيدة» بإقليم وحدود وعلم وأجهزة حكم وسكان محددين، يتكلم أكثرهم العربية ويدين أكثرهم بالإسلام، لكن ولادتهم وحياتهم وموتهم مقيدة بهذه الدولة الإقليمية، «القطرية» في اللغة القومية العربية. وتفاقم التوتر بين الثقافي والسياسي بعد الحكم البعثي الذي يصدر عن تصور مطلق للعروبة، ينكر أي فوارق وتنوع ضمن المجمل العربي وأي جوامع ومشتركات مع خارج هذا المجمل، وتقوم شرعية الحكم في ظله على إنكار شرعية وجود الكيان المحكوم. كانت الوحدة العربية وتحرير فلسطين الركنين الأساسيين للتصور القومي العربي لسوريا وغيرها، وقد تعثرا كل التعثر بفعل اقتضائهما قوى تتجاوز قدرة العرب الفعليين، ثم لتعارض مناهج نخب العرب السياسية، التقليدية وغير العقلانية، مع هذه الأهداف، حسب ما شخص ياسين الحافظ في أيامه.
كان التصور العربي لسوري متشدداً خطابياً بفعل نموذج العروبة المطلقة المُبطِّن له، لكنه معتدل بنيوياً بفعل كون أكثرية السوريين من العرب، ولارتباط العروبة بين خمسينيات القرن وسبعينياته بتطلعات اجتماعية وسياسية تحررية، قربت منها بعض من لم يكونوا عرباً إثنياً. وفرت العروبة إطاراً يتماهى به مسلمون ومسيحيون، سنيون وعلويون ودروز واسماعيليون وغيرهم. لكن برنامج العروبة المطلقة العامل على تعريب غير العرب أو التكتم على وجودهم أو حتى محاولة تذويبهم، غرّب غير العرب، وبخاصة الكرد. العلاقة ضرورية بين التمثيل القومي العربي لسوريا وبين ارتفاع الحمية القومية الكردية، وما تحمله القومية من تطلعات للانفصال والسيادة.
في سنوات حكم حافظ الأسد، وهي تغطي سلفاً أكثر من نصف تاريخ سوريا ككيان سياسي حديث، تراكب التمثل القومي العربي لسوريا مع صورة «سوريا الأسد» التي حورته تحويراً عميقاً، جعلت من سوريا عبر العقود قوقعة للحكم الأسدي. عبادة العروبة المطلقة التي ازدهرت في الستينيات انتقلت إلى عبادة حافظ الأسد، وهو ما شرع في وقت لاحق لقيام حكم وراثي. سوريا الأسد معتدلة خطابياً، منفتحة عموماً على هويات السوريين المختلفة، بما فيها الكردية (بصورة غير رسمية) على أن تبقى هويات، ولا تصير جماعات سياسية. وهي من هذا الاعتبار مفرطة التطرف بنيوياً، تلغي عملياً الحياة السياسية والتمثيل الاجتماعي للسوريين، وتضع السياسة، وليس السيادة وحدها، بيد طاقم محدود، لا تتماهى به إيجابياً غير أقلية من السوريين. هذا الاختلال البنيوي تفجر بعنف مرتين خلال أربعين عاما من حكم العائلة.
يتصل التفجران معاً بواقع ومشاعر استبعاد واسعة، ضمن الجمهور العربي السني بخاصة، عرضت قطاعات منها منازع متشددة مذ سبعينيات القرن العشرين. أول مجزرة جينوسايدية في تاريخ الحكم الأسدي ارتكبها تنظيم متشدد متفرع عن الإخوان المسلمين، أسسه مروان حديد الذي قتل في السجن عام 1975، فشغل بذلك موقعاً سورياً مناظراً لموقع سيد قطب في مصر. ما يمكن تسميتها بالإسلامية المطلقة التي تصادر على وحدة لا تنافر فيها للمسلمين (السنيين طبعاً) وعلى تمايز مطلق وعدائي عن غيرهم، ظهرت بعد قطب وحديد، لكن يمكن التماس جانب من تاريخها عوداً إليهما.
كانت الثورة السورية 2011 شعبية وغير منظمة بالفعل، وانطلقت في سياق عام معلوم: الربيع العربي الذي تفاعلت أطياف سورية واسعة معه، وفي سياق سوري معلوم: بهيمية النظام مع أهالي من درعا دوّن أبناؤهم عبارات تندد بالنظام على الجدران. لكن تطورت الأمور في اتجاه أسلمة إقصائية متسعة، سادت عام 2013 وسيطرت على أجزاء من سوريا هنا وهناك، أي صارت سلطة، بل سلطات في الواقع. سوريا الإسلامية أو السوريات الإسلامية كانت متشددة خطابياً، معادية بصورة موتورة لغير المسلمين السنيين، ومتطرفة بنيوياً بفعل إيمانها بفضائل الإكراه، ونزوعها النخبوي الأقلوي. ولم يحدّ من ذلك كون المسلمين السنيين أكثرية السوريين بفعل تناثر البيئات السنية، وارتفاع تمايزاتها الجهوية إلى ما يقارب تعدد الطوائف. ولكن خاصة لافتقار الإسلامية إلى الهيمنة أو البعد الإقناعي في السياسة، وعجزها بالتالي عن توحيد السنيين ذاتهم، ومن باب أولى مخاطبة غيرهم.
فإذا قيمنا سوريا الإسلامية استناداً إلى نماذجها التي شهدناها بين 2013 واليوم، فإنها أقل صلاحاً من سوريا العروبية، وحتى من «سوريا الأسد». هذه الأخيرة براغماتية خطابياً، وماهرة في تأليف القلوب ومنح التنفيعات، وإن تكن بالغة الوحشية حيال منازعتها سياسياً. وهي ظهرت حامية لنمط حياة تعددي، فيما جنحت الإسلامية إلى فرض الواحدية على مستوى نمط الحياة، فأكسبت هذه التعدد غير السياسي قيمة سياسية، فيما ظهرت هي كنظام نمط واحد، كالح وعدواني.
إلى ذلك، يبدو أن النموذج الثاوي وراء تطلعات الإسلاميين السوريين السياسية ليس إلا الحكم الأسدي الذي يفكرون فيه كحكم أقلوي علوي، ويريدون حكماً أكثرياً سنياً محله. لكن النظام الأسدي ليس أقلوياً لأنه علوي، بل لأنه غير ديمقراطي، ويمكن لنظام سني أن يكون أقلوياً للسبب نفسه. الديمقراطية هي الشكل الوحيد للحكم الأكثري. إلى ذلك فإن الحكم السني المحتمل اليوم لا يمكن أن يشبه حتى حكم «أعيان المدن» ما قبل البعثي (علماً أنه كان أقلوياً بصورة مختلفة: أقلوية نخبوية وجهوية، وإن كانت معظم نخبته سنية) مثلما يفترض أن يعطي الانطباع «عَلَم الثورة» الذي هو كذلك «علم الاستقلال». كان ذلك حكم وطنيين سوريين على أرضية قومية عربية غير مطلقة ومع تعددية في أنماط الحياة وحريات شخصية. سلطات الإسلاميين التي رأيناها في السنوات العشر المنقضية هي حكم إسلاميين مطلقين، مع نزعة محافظة مقاتلة وعداء للحريات الشخصية، وأممية إسلامية متشددة وعدمية وطنية.
ظهرت صورة فرعية لسوريا بعد الثورة، ابتداءً من تموز 2012، وقت سلم النظام مناطق ذات أغلبية كردية للفرع السوري من حزب العمال الكردستاني في تركيا. حاز التنظيم المتمرس بالسلاح بعدها قيمة دولية كبيرة إثر دفاعه عن مناطق سيطرته وبخاصة كوباني/ عين العرب ضد داعش، وقت انخرط الأمريكيون في المعركة ضد التنظيم السلفي المتوحش في خريف 2014. وخلال ما يقترب من عشر سنوات حافظ التنظيم الكردي على ضرب من استمرارية سلطته في منطقة واسعة، انحسرت عن مناطق ذات أكثرية كردية مثل عفرين وراس العين، لكنها اتسعت لمناطق ذات أكثرية عربية مثل مدينة الرقة وأريافها وقسم من دير الزور ومناطق من حلب، فضلاً عن مناطق الكثافة الكردية في الحسكة والقامشلي. والأرجح أن أكثرية رعايا هذه السلطة اليوم ومنذ 2017 من العرب.
التنظيم معتدل خطابياً، يتكلم على الشعوب وعلى سوريا الديمقراطية، لكنه متشدد بنيوياً تنحصر القيادة والتخطيط والأمن والعلاقات الخارجية بيد محازبي التنظيم الكرد. وهو يعرض السمة البنيوية الخاصة بالنظام الأسدي من حيث وجود سلطة ظاهرة تعددية، مجلس سوريا الديمقراطية، وسلطة باطنة واحدية، يتواتر القول إنها بيد قيادة تنظيم حزب العمال الكردستاني في جبال قنديل. وهو ما يعني وزناً غير حاسم للكرد السوريين بالذات، ومن باب أولى للعرب وغيرهم.
والنتيجة أن هذه السوريات الأربع مختلة بنيوياً وتحمل عوامل تفجرها في داخلها.
سوريا غير المختلة توفر مواطنة متساوية لسكانها وتمثيلاً عادلاً لا يثير مشاعر اغتراب عند أي قطاع منهم، ولعلها سوريا صفت حسابها مع ضروب التحايل الخطابي الكثيرة التي وسمت تاريخنا المعاصر، وتولدت على الأرجح عن عدم القدرة على مواجهة الواقع الفعلي. ليس هناك حلول خطابية لمشكلات بنيوية، الحلول بنيوية، وعنوانها سوريا كدولة للسوريين على قدم المساواة ودون تمييز.
لا العرب ولا المسلمون السنيون ولا العلويون ولا الكرد يتأذون من سوريا دولة مواطنين، تلتئم حياتها السياسية حول تنظيم تعددها وإيجاد حلول للمنازعات المحتملة، بل المؤكدة. من يتأذى هي أقليات نخبوية تريد امتلاك الدولة لحمايات أوضاع امتيازية غير عادلة. وواقع الحال ناطق.
كاتب سوري
القدس العربي