ما الذي نخسره في الليبرالية؟
كنتُ جالساً في قطارِ الأنفاق، مُغادرِاً قلبَ فرانكفورت، أشدّ مدن ألمانيا ليبراليّةً، حين فتحتُ مجلة الفلسفة الألمانية، قارئاً فهرسها، لأصادفَ عنواناً لفت انتباهي على الفور: «ما الذي نخسره في الليبراليّة؟». قلّبتُ الصفحات على عجل لأعثر على هذا الحوار، الذي نقلتُه إلى العربية، لسببين رئيسيين: أولاً، من شأنِ هذا الحوار أن يفتحَ لنا كوّةً على واحدٍ من أشدّ النقاشات سخونةً في الوسطِ الثقافي الغربي، والقصد هو ذاك النقاش الدائر حول راهنية النموذج الليبرالي في الغرب وخسائره وإمكانات إصلاحه وكذلك رغبات تجاوزه إلى نموذج آخر «ما-بعد-ليبرالي»؛ ثانيّاً، شدّني الأسلوب الحيويُّ الذي جرى به الحوار الذي أنجزته مُحاورة من مجلة الفلسفة مع مُفكَّرين مُعاصرَين يشتركان في نقد واقعِ الليبراليّة العالمية، لكنهما يختلفان، إلى حد بعيد، في صياغتهما النقديّة وتحديدهما لمكامن الخلل في النموذج الليبرالي الحديث، وكذلك في مقترحاتهما لحلّها. يَتّبعُ الحوارُ أسلوباً تفاعلياً، تغيبُ فيه المُحاورِة حيناً، مفسحةً المجال للضيفين ليتبادلا الآراء ويتجادلا، لتظهر بعد حين، مُتسائلةً أو معقّبةً أو مُساهمةً، ما سمح للأفكار المطروحة أن تتدفّق بحيوية لافتة.
إلى ذلك، يضعنا الحوار أمام نموذجين فكريين سائدين بين الأنتلجنسيا الغربية الراهنة: نموذج فكري ناقد لليبراليّة لكن من وجهة نظرٍ إصلاحيّةٍ، يسعى لتحسينِ شروطِ الاجتماعِ البشريّ بتعزيز روح التضامنِ بين البشرِ وإحقاقِ مزيدٍ من العدالة الاجتماعيّة وتخفيضِ حدّة التنافسية الرأسمالية المتفشية مع الابقاءِ على منجزات الليبراليّة المتحقّقة عبر التاريخ؛ ونموذج فكري آخر، ناقد بدوره لليبراليّة، لكنه غير مؤمن بإمكانية إصلاحِها، بل يسعى إلى تقويضها والانتقال لــ «مابعدها». ولا يُخفي هذا النموذج الأخير ميوله الماضويّة المُحافظة، فينقدُ الليبراليّة باعتبارها هدّامةً لأشكالِ العيش «الطبيعيّة» التي كانت قائمةً على التراثِ والتقليد. كما يعتبر هذا التفكير المُحافظ أنّ زمناً جميلاً قد استُبدِلَ بزمنٍ أنانيٍّ منعدم التضامنِ ومفتقدٍ لكلّ قيم الالتزامِ والتعاون البشري. قد يختلفُ المرءُ مع هذا التوجّه المُحافظِ في أغلبِ طروحاته، لكن لا يمكنُ لأيِّ مُراقبٍ مُنصفٍ إنكار أن الليبراليّة، بشكلها النيوليبرالي الراهن، قد ضعضعت العلاقات الإنسانية وأهملت قيماً اجتماعية جوهرية كالتضامنِ والعناية بالطبقاتِ الدنيا وشروط حياتها، فاسحةً الدرب أمام جشعِ الأسواق وأنانيّتها المدمِّرة؛ بيد أنّ المُقلِقَ، بل المُفزِعَ، في هذا الخطاب المُحافِظ أنه ينزعُ إلى مجتمع منعزل خائف من الغرباء والحريّات والاختلافات، ويُنتِجُ أبطالاً مُريبين من طينة فلاديمير بوتين وفيكتور أوربان ودونالد ترامب وسواهم من نجوم الخراب والعنصريّة في زماننا.
إذن، يُسلّطُ الحوارُ الذي بين أيديكم ضوءاً على نقاشٍ ثقافيٍّ ناقدٍ لليبراليّة من منظورين مُتباينين، أحدهما تطويريٌّ، أو لنقل إصلاحي، قريب من رؤية الاشتراكية الأوروبية، والآخر إقصائيٌّ، رافضٌ، قريبٌ من خطابِ الأحزاب والحركات اليمينية «المتجددة» في أوروبا والولايات المتحدة. ومن أبرزِ ما يتطرّقُ إليه المحاوران مسألة الخسارة في المجتمع الليبراليّ؛ فيختلفان هنا أيضاً، مستندين إلى تقييمين متباينين لمفهوم الخسارة في السياق الاجتماعي وكيفيّة التعامل معها.
صدر الحوار في عدد مجلة الفلسفة (Philosophie Magazine) الصادر في العاشر من تشرين الثاني (نوفمبر) 2022. أدارت الحوار جنا غلايس (Jana Glaese)، وشارك فيه أندرياس ريكفيتس (Andreas Rikwitz) أستاذ علم الاجتماع العام وعلم الاجتماع الثقافي في جامعة هومبولت في برلين. لاقت بعض أعماله صدى في الوسط الثقافي والأكاديمي، منها كتابه «نهاية الأوهام» الصادر في عام 2019. وباتريك ج. دينين (Patrick Deneen)، أستاذ العلوم السياسية في جامعة نوتردام الأميركية، وكاتب مشارك في منصة «The Postliberal Order» ذات التوجّه المحافظ. نَشرَ، في العام 2018، كتاباً حصل على شهرة واسعة، عنوانه «لماذا فشلت الليبرالية»، وقد أوصى باراك أوباما بقراءته أيضاً.
آندرياس ريكفيتس , باتريك ج. دينين
ترجمة: سوار ملا
سيد دينين، لقد كنتَ في السابق، حسب قولك، يسارياً ومؤيداً للحزب الديمقراطي، لكنّك لم تعد تستطيع التعرّف على هذا الحزب. كما أنك تُعتَبر الآن واحداً من أبرز المفكرين المحافظين في أميركا. فما الذي جعلك يسارياً ذات مرة وما الذي جعلك تتراجع عن تعاطفك هذا؟
1.الصفقة أو الاتفاق الجديد يُشير إلى مجموع السياسات الاقتصادية التي اتبعها الرئيس الأميركي فرانكلين روزفلت منذ عام 1933، والتي أخرجت الولايات المتحدة الأميركية من أزمتها الاقتصادية الطاحنة من خلال دعم الطبقة العاملة والإنفاق السخي على البنية التحتية وبرامج الحماية الاجتماعية والصناعات الوطنية، ونهجت في ذلك مبادئ الاقتصاد الكينزي نسبةً لعالم الاقتصاد البريطاني جون ماينرد كاينز.
2.المجتمع العظيم يشير إلى مجموع البرامج الاقتصادية التي أطلقها الرئيس الأميركي ليندون جونسون في عامي 1964 و1965، وركزت على مكافحة الفقر واللامساواة في زمنٍ كانت الطبقة العاملة البيضاء لا تزال ديمقراطية الهوى في الولايات المتحدة الأميركية.
3.حركة الحقوق المدنية هي الحركة الاجتماعية والسياسية التي هدفت إلى إنهاء الفصل العنصري المُقونن والاضطهاد والتمييز بحق الأميركيين السود في الولايات المتحدة الأميركية. تعود بدايات الحركة إلى عام 1954 لكنها نشطت على الأخص خلال الستينيات وحتى عام 1968 – المحرر.
باتريك ج. دينين: أنا سليل كاثوليكييَن إيرلندييَن. وفي الفترة التي نشأت فيها كان من المحتّم تقريباً على كلّ كاثوليكي أميركي أن ينتسب إلى الحزب الديمقراطي. كانت صور البابا وجون ف. كينيدي مُعلّقةً على جدار مطبخ جدّتي. وكان ثمّة تماهٍ كبير بين الحزب الديمقراطي ومجتمع المهاجرين المُنتمي تاريخيّاً إلى الطبقة العاملة. ومنذ زمن النيو ديل تحت حكم فرانكلين دي روزفلت1 مروراً بـ كينيدي ووصولاً إلى مجموعة برامج ليندون جونسون المسمّاة «المجتمع العظيم»2، كان لدى اليسار الأميركي أخلاقُ الطبقة العاملة المتّسقة إلى حد ما. غير أنّه، ابتداء من نهاية الستينيات، وخصوصاً في السبعينيات والثمانينيات، راح يبتعد عن هذا التوجُّه. كما قدمت حركة الحقوق المدنية3 الزخم لسياسات هويّةٍ أكثر شمولاً، كتلك التي نشهدها اليوم في ازدهار كامل. لذا، فإن الحزب الديمقراطي، بل اليسار الأميركي والعالمي بأكمله، بدأ يتماهى بشكل مُضطردٍ مع تحرير الهويّات المتنوّعة وصار مُوجَّهاً إلى نخب المجتمع. وتشكّلَ، بالنتيجة، حزبٌ ديمقراطي أشدُّ نيوليبراليةً وتكنوقراطيةً وعولمةً وتأييداً للهجرة، ذو مُساهمة في عمليّة تراجع التصنيع في البلاد.
سيد ريكفيتس، في كتابك نهاية الأوهام، تتحدث أيضاً عن تحوّلٍ سياسي مأزومٍ، لكنه، بالنسبة لك، ليس مرتبطاً بحزب معين أو باليسار. فأين ترى الخلل إذن؟
4.يعدّ مفهوم الــ «Checks and Balances» (الضوابط والتوازنات) مركزيّاً في الفكر الليبرالي؛ فهو يصف نظاماً متوازناً من حيث توزّع السلطة وفصلها؛ والغاية هنا هي إنشاء نظام يمنعُ تنامي سلطة مؤسسةٍ ما على حساب أخرى، متيحاً المجال لضوابط متبادلة بينها.
أندرياس ريكفيتس: تمرُّ الليبرالية الغربية حالياً بأزمة جوهريّة. لكن من المهم أن نفرِّق بين المستويات المتباينة لهذه الأزمة. فالمستوى الأوّل كامنٌ في المواجهة بين الديمقراطيات الليبرالية والأنظمة الاستبدادية. بعد سقوط الستار الحديدي، افتَرض الكثيرون أنه سيكون هناك تحوّلٌ عالمي نحو الديمقراطية الليبرالية بما تحمله هذه من تعدديّة، وحقوق مدنية، وضوابط وتوازنات4. إلا أننا، في الوقت الحاضر، نواجه تعزيزاً للأنظمة الاستبدادية، في روسيا، ولكن أيضاً في «الديمقراطيات المعادية لليبرالية» كالمجر أو بولندا. المستوى الثاني من أزمة الليبرالية هو على نطاق أضيق؛ إذ يتعلّق بالبرامج الحكومية داخل الديمقراطيات الغربية. منذ الثمانينيات طرأ تحوُّلٌ في البارادايم السياسي، بالابتعاد عن البارادايم الديمقراطي الاجتماعي-المسيحي العائد لفترة ما بعد الحرب، والتوجُّه نحو ليبرالية جديدة مقسمة بين يسار-الوسط ويمين-الوسط. تحدّثت نانسي فريزر عن «نيوليبرالية تقدمية»؛ لكني أودُّ أن أتحدّث في هذا السياق عن ليبرالية ديناميكيّة سعت إلى هدم الحدود وتأجيج المنافسة في الأسواق، ولكن أيضاً إلى تعزيز الحقوق الشخصية للأفراد.
دينين: إذن، إعادة اصطفاف تُغيّر بدورها الديمقراطيين واليساريين الأميركيين أيضاً.
ريكفيتس: بالضبط. لكني على عكسك، يا سيد دينين، لا أرى هذا التحوّل في البارادايم، بوصفه انحرافاً مبدئيّاً، إنما كَرَدِّ فعل مفهوم على الحداثة «المُنغلقة» للغاية في فترة ما بعد الحرب، وكذلك العجز في التواصل العالميّ والتعدديّة الثقافية والحقوق الفردية. لكن، مهما يكن من أمر، فقد استُنفِدَ هذا البارادايم. أمّا على المستوى الثالث، فهنالك أزمةٌ في النموذج الحديث للتقدُّم. لقد ارتبطت الحداثة منذ البداية بفلسفة تاريخ ليبرالية افترضت أنّ التاريخ هو تقدُّمٌ نحو ما هو «أفضل» و«أكثر». لكن حتميّة التقدُّم هذه راحت تفقد اليوم معقوليتها باضطراد، وذلك لأسباب ليس آخرها مواجهة التغيّر المناخي. كما أننا، الآن، في مواجهة خسائر لم يعد من الممكن تغطيتها بعباءة تاريخ التقدُّم الكلاسيكيّ.
سيد دينين لقد قمتَ بدورك، في السنوات الأخيرة، بصياغة نقدٍ للّيبرالية؛ تلك الفلسفة السياسيّة التي تُركّز على حقوق وحريات الفرد. ولكن نقدك أكثر مبدئيةً. أنت تقول: «الليبرالية فشلت، لأنها كانت ناجحة». ماذا تقصد بذلك؟ ولمَ الأزمة، بالنسبة لك، أعمق مما وصفها السيد ريكفيتس؟
دينين: أعتقد أن تحليلاتنا تتقاطع بشكل كبير، حتى لو كنّا في الظاهر نتوصّل إلى استنتاجات مختلفة. كلانا يجد أن هناك علاقة قوية بين النموذج المثاليّ للتقدُّم ومشروع الفلسفة الليبرالية. ومن المُلفِت للنّظر عدد أولئك المفكرين الذين ساهموا في صياغة هذا المشروع وأدركوا أن التقدّم يكون، بصورة دائمة تقريباً، على حساب أولئك الذين يُرَون على أنهم مُتخلّفون، أي على حساب أولئك الراغبين في الحفاظ على أسلوب حياة محدّد والمُعتقدين أنّه على المجتمع أن يُبنى على أسس تقليديّة. أما الليبراليون الاقتصاديون فوجدوا بأنه من أجل إنشاء أسواق أكثر شمولاً، لا بدّ من تجاوز الهياكل السياسيّة القديمة. ويتّضحُ ذلك أيضاً في ما تُسمّيه، يا سيّد ريكفيتس، بالجانب «المُنغلق» للحداثة. إنّ تراث الديمقراطية المسيحية، الذي قدّره أشخاص مثل كونراد أديناور، لا يزال يُوصي بأنّه لا بدّ للديمقراطية أن تكون مرتبطةً بالقيم الأخلاقية الأساسية وأشكال التنظيم الاجتماعي القائمة على الأسرة التقليدية المؤلفة من الأم والأب والأطفال. إلا أنّ ذلك أيضاً قد تمّ تحويره في الأثناء. إذ بتنا نتّبع اليوم مفاهيم ليبرالية تنطوي على نظرة أكثر ثوريّة للنظام السياسي.
باتريك ج.دينين، أستاذ الفلسفة السياسية في جامعة نوتردام في الولايات المتحدة الأميركية
5.منظّر ومدون ماركسي بريطاني اشتهر بمدونته ك-بانك في أوائل الألفية. من أهم كتبه: كابتيلست رياليزم (Capitalist Realism) الصادر عام 2009
ريكفيتس: النّظر إلى خسائر الحداثة باعتبارها مجرد خسائر للمحافظين ينمّ عن أفق ضيق للغاية. في العقود الأخيرة غدت تجربة الخسارة عالميةَ النطاق. وثمّة، إلى حد ما، بين اليساريين ما أسماه مارك فيشر5 بــ «الميلانكولية اليساريّة»، تلك المتعلّقة، مثلاً بتحوّلات دولة الرفاه والقوى العاملة الصناعية في الخمسينيات والستينيات. وبالفعل حدثت خسائر فادحة في «المكانة» في سياق تحوّل القوى العاملة إلى قوى غير صناعيّة أو ما بعد صناعيّة. غير أنّنا نواجه الآن خسائر ناجمة بالدرجة الأولى عن التغيّر المناخيّ، ما يُشكِّل تحديّاً جوهرياً أمام سرديّة التقدّم. ولم تعد الخسائر هنا متعلّقة بالماضي فحسب، بل أيضاً بالمستقبل: ترقّب الخسائر.
أندرياس ريكفيتس، أستاذ علم الاجتماع في جامعة هومبولت في برلين
6.مقولة بوكنفورده، هي مقولة منسوبة للحقوقي والمفكّر إرنست فولفغانغ بوكنفورده في مقاله تأسيس الدولة بوصفه عملية علمنة، وفحواه باختصار: إن الدولة الحرة العلمانية تعتاش على شروط مسبقة لا تستطيع أن تكفلها بنفسها.
دينين: أزعم أن إحساس اليسار بالخسارة يُشير في الواقع إلى خسارة نظام قبل-حداثي، تقليدي، هذا النظام الذي ظلَّ قوّيّاً وصولاً إلى الحداثة. وكان لدى الناس في هذا النظام حسٌّ تجاه الأرض كما تجاه بعضهم البعض. وكان يشتمل ذلك على قوَّة كابحة صعَّبت تقدُّمَ الليبرالية. وأعتقد أيضاً بأن عدم الارتياح السائد بين الليبراليين قد نشأ تحديداً بسبب هاجس أن أعظم لحظات المجتمع الليبرالي تطلّبت الاعتماد على عناصر لم يخلقها بنفسه. في ألمانيا يُطلق على ذلك «مقولة بوكنفورده»:6 بمعنى أننا وَرَثَةُ تقليدٍ ليس متوافقاً بصورة تامّة مع الليبرالية. إلى درجة أنّنا الآن، حيث راحت الليبرالية تُقدّمُ مبادئها بشكلٍ يزداد نقاءً باضطراد، بتنا نرى تكلفتها الهائلة بالنسبة للمجتمع.
أي أنك تقول بأنه كلما تنامت الليبرالية بحرية أكبر، غدت أكثر تدميراً وبالتالي أكثر توليداً للخسائر. هل تُشاركه وجهة النظر هذه، يا سيد ريكفيتس؟
ريكفيتس: انطلاقاً من وجهة نظر سوسيولوجية أودّ أن أحذر من الإفراط في تمديد مفهوم الليبرالية. فعملية التحديث هي بطبيعة الحال أشملُ من مجرّد ليبرالية. والمجتمع الحديث قائم على وتيرة سريعة من التغيير الاجتماعي، أكان ذلك على الصعيد التكنولوجي أو الاقتصادي أو الثقافي. ونتيجة لذلك، لا تني تظهر أشكال اجتماعية جديدة لتحل محلّ الأشكال القديمة، وأحياناً بصورة أكثر تقدمية وكفاءة. وليست الخسائر التي تحدث في خضَّم ذلك هي الإشكال الأساسيّ، بل سعيُ الحداثة، وبالطبع الليبرالية، إلى إنكار هذه الخسائر باعتبار أنّها غير مناسبة مع سرديّة التقدُّم. لذا، ليست الخسائر هي المدمِّرة، بل إنكارها. وبالتالي السؤالُ الأساسُ هو ليس «كيف يمكننا استعادة ما خسرناه؟»، بل «كيف يمكنُ لتعاملٍ بَنّاءٍ مع الخسائرِ أن يبدو؟». وفي هذا الخصوصِ يعدُّ الوعي بتاريخ العنف خلال الحداثة، كالعبودية في الولايات المتحدة على سبيل المثال، أمراً هامّاً. فبذلك تخرج خسائر غير مرئية ومكبوتة منذ فترة طويلة إلى العلن، خسائر ألحقتها الحداثة الأميركية بمجموعاتٍ معيّنة.
دينين: أجد عبارة «خسائر غير مرئية» مثيرةً للاهتمام. حين كنت أستاذاً أصغر سناً، كان لدي طلبةٌ يرَون أن العالم ذا مستقبل واعدٍ بما هو أفضل، لكنّهم لم يكونوا مُدركين أنهم وَرَثَةُ تراثٍ مَكَّنهم، مهما كان ذلك ناقصاً، من ترسيخ تجاربهم. فكلّما نظر مجتمعٌ تقدُّمي إلى الماضي بوصفه وقتاً سيئاً، وقتاً للمظالم والخطأ والأحكام المُسبقة، كلما غدا ذلك وقتاً لا بدَّ من رفضه، وقتاً مجهولاً بازدياد. عوض ذلك، هناك الوعد بمستقبلٍ مُتحسِّن باستمرار، بيد أنّه يُنكَثُ بسببِ ما يُلازِمُ المستقبلَ من نقصان. لقد خسرنا القدرة على رؤية الماضي، وأًصبحنا ننظر بتشاؤمٍ مُتزايد إلى المستقبل.
ما هي الأشياء المحددة التي ترغب في التذكير بها أو التي تريد التذكير بها بشكل مختلف؟
دينين: على سبيل المثال، يتمّ الآن تعليم شبابنا أن فترة استيطان أميركا كانت فترة شرٍّ. وأنه بالكاد ثمة فترة في التاريخ الأميركي دون قمع وعنصرية وظلم عميق. هذا تقديمٌ مشوّه، تماماً كتقديم التاريخ الأميركي باعتباره تاريخ تقدُّم مستمرّ وكمالٍ مُتزايد.
ريكفيتس: يبدو لي أن ما يجري حالياً في الولايات المتحدة هو مراجعة نقدية للصورة البطولية القديمة لتاريخها. وأجد، في هذا السياق، المقارنة مع ثقافة التذكّر في ألمانيا (Erinnerungskultur) مثيرةً للاهتمام. من الأمور المركزية لثقافة التذكّر الألمانية أنها تعترف بالاشتراكية القومية والمِحرقة بوصفهما كسراً حضاريّاً، ولا تتنكّر لهذا الجرح. وهذا هو بالضبط ما جعل عدداً من الإنجازات في التاريخ الألماني بعد عام 1945 ممكناً: استقرار الديمقراطية، الاندماج في أوروبا، اللبرلة الاجتماعية-السياسية منذ عام 1970. أعتقد أن سبب تطوير ألمانيا لثقافةِ تذكُّر وازنةٍ هو عدم تنحية الفشل الجماعي في الماضي.
دينين: لقد بدأت الولايات المتحدة تُشبه أوروبا في بعض النواحي، لا سيما من حيث كيفيّة فَهمها للماضي. انطباعي هو أنه قد تمّ ربط كلّ ما سبقَ صعودَ الفاشية بكلِّ ما حدث لاحقاً في أوروبا. لكن المفارقة الساخرة هي أن ما تصفونه أنت وآخرون، يا سيد ريكفيتس، بالتشكّل الناجح لمجتمع ليبرالي ديمقراطي في ألمانيا، إنما مرتبطٌ، بدرجة كبيرة، بالديمقراطية المسيحية وبشخصيات ما بعد الحرب التي تمنّت العودة إلى زمن ما قبل صعود الفاشية وإدماجه بالمذهب المسيحي الاجتماعي. وأعتقد أنه بمقدور المرء أن يقول، عن حق، بأن البُعد المسيحي ما-قبل-الحداثي لما نسميه نجاح أوروبا ما بعد الحرب، باتَ يُرى بشكلٍ متزايدٍ باعتباره إرثاً إشكاليّاً يُمكن استبداله بهذا المشروع (الليبرالي).
تُلَمّحُ في ملاحظاتك، يا سيّد ريكفيتس، إلى أن ما يتمّ اعتباره خسارةً ليس أمراً بديهيّاً مفروغاً منه، بل مسألة للجدل والتأويل السياسيين.
ريكفيتس: هذا أمرٌ جوهري: فالخسائر في حدّ ذاتها ظاهرة اجتماعية. كما أن الزوال والخسارة ليسا أمرين مُتطابقين. فالأشياء تزول دائماً، الناس يزولون، والدول تزول. لكن ثمّة زوالٌ مُعيّن يتم تفسيره في العملية الاجتماعية على أنّه خسارة. لذلك ليس هناك خسائر موضوعية، إنما يتمّ، بالدرجة الأولى، تفسيرها من قبل أفراد أو مجموعات اجتماعية على أنها كذلك؛ باعتبارها أمراً سلبيّاً مرتبطاً في الغالبِ بالعواطف السلبيّة والحزن وربما أيضاً بالغضب أو الخوف. وحين ينطبق ذلك على مجموعات بأسرها، فغالباً ما تحدث انشغالات فكريّة بمسائل مثل: ما الذي يُعدّ خسارةً؟ ما هي الخسارة التي يجب الاعتراف بها اجتماعياً بوصفها خسارة؟
دينين: هنا أريد أن أختلف معك بشدِّة. فإذا أردنا أن نَصِفَ ما يحتاجه شخصٌ ما لكي يتقدَّم، فسنقول عالَماً طبيعياً لا ينهار بسبب الإفراط في استغلاله وكذلك عالَماً اجتماعياً يتكوّن من مجموعة متنوعة من العلاقات. لكن هذه الشروط الموضوعية للتقدّم في تدهور. لدينا وفرة من البيانات حول تراجع المشاركة الاجتماعية، تَراجُع الصداقات الوثيقة، تَراجُع تكوين الأسر، تَراجُع معدلات الزواج وعدد الأطفال لدى الناس. في وسع المرء أن يتناقش حول وجود أشياء أخرى تُعوِّضُ هذه الخسائر، غير أنّي أزعم أنه هناك أشكالٌ موضوعيّة وحقيقيّة من الخسائر أنتجتها الليبرالية.
ريكفيتس: كما قلتُ، لا يمكن أن نساوي بين الزوال الموضوعي لظواهر معيّنة وبين الإحساس بها أو تقييمها سلباً كخسائر. ويعدّ تغيّر المناخ مثالاً جيداً على ذلك: فثمّة موقفٌ في النقاش البيئي يحاجج بأنّه لا يجب اعتبار التراجع الكميّ في مستويات المعيشة على أنه خسارة بالضرورة: فمن وجهة النظر المُغايرة هذه، يمكن لحياة مختلفة وأكثر وعيّاً بالمناخ، وفقاً للشعار القائل «الأقلّ هو الأكثر»، أن تكون أكثر إشباعاً. ومن هنا نرى كيف تصبح مسألة تأويل شيءٍ ما بوصفه خسارةً في حدّ ذاتها موضوعاً للجدالات الاجتماعية.
لكن ألا تعني الخسارة أيضاً بأنه لا بدّ أن يملكَ المرءُ شيئاً ما، مكانةً أو ثروةً أو تطلُّعاً، حتى يخسره؟ وهل وحدهم أصحاب الامتيازات من يمكنهم أن يمروا بتجربة الخسارة؟
ريكفيتس: بالطبع، لكي تخسر شيئاً لا بدّ أن تملكه أوّلاً. لكن نطاق الخسائر المُحتمَلة فسيح للغاية: بدءاً بالمرض والموت مروراً بخسارة المكانة، خسارة القيم والمعاني الثقافية، خسارة الموطن، خسارة النظام والسيطرة، وصولاً إلى خسارة التوقعات الإيجابية للمستقبل. القاسم المشترك بينها جميعاً هو أن الذوات مرتبطة عاطفياً بشكل إيجابي بما خسرته، وأنّ هذا الشيء كان مهمّاً لهويّتها. والخسارة هنا هي، في جوهرها، دوماً خسارة للذات وكذلك خسارة للعالم. وبالنظر إلى ذلك في سياق التقسيم الطبقي، يمكن للمرء أن يخْلُص إلى أنّ الطبقات العليا لديها، في كثير من الأحيان، «رأس المال» اللازم لتعويض ما خسرته، ما يجعل خسارة الذات في هذه الحالة غير ممكنة بسهولة. أما في حالة المجموعات التي تمتلك امتيازات أقل، فإن الخسائر تعني لها «كلّ شيء أو لا شيء». وبالتأكيد تكون خسارة التوقعات الإيجابية للمستقبل أمراً بالغ الجسامة في هذه الحالة: فاحتمال ألا يكون المستقبل أفضل هو أمرٌ مُدمِّر للمجموعات الأقلّ امتيازاً.
دينين: أزعمُ بأنّ الامتيازات تلعب دوراً في هذه المسألة، ولكن بشكل معكوس: فالخسائر أكثر شيوعاً لدى أولئك الأقل امتيازاً. فأنا أعيش في الوسط الغربي من الولايات المتحدة، بالقرب من العديد من التجمّعات الأميشيّة (Amisch)، التي لا تسمح لأعضائها بإبرام عقود التأمين، لأنّها تعتقد بأن ذلك سيقوِّض التزام الأفراد تجاه الجماعة، المتمثّل بمساهمتهم في تعويض الخسائر الناجمة عن احتراق منزلٍ أو فقدان أحد الوالدين. بينما في المجتمع الليبرالي الحديث، فيتمّ الترحيب بفكرة التأمين في جميع مجالات الحياة تقريباً، لأنها تحرّرنا من الالتزام بالمشاركة في حياة الآخرين والتضحية بعطلة نهاية الأسبوع لإعادة بناء منزل. لكن نتيجة ذلك، بالنسبة لأولئك الأقل تجهيزاً للنجاح في مثل هكذا مجتمع، تتجسّد في بروز أشكال من الخسارة يصعب التغلّب عليها.
غالباً ما يُعزى نجاح دونالد ترامب إلى حقيقة أنه تطرّق إلى الخسائر الاجتماعية والاقتصادية التي لم تعالجها الأحزاب العريقة. لكنّه كان بالتأكيد مهتماً أيضاً بالإشارة إلى خسارة مزعومة للامتياز العنصري.
دينين: أعتقد أن دونالد ترامب كان «موهوباً أحمق» (idiot savant) تمكّن من إدراك أنّه ثمّة مجموعة سكانيّة وشعورٌ معيّن لم تتم مخاطبتهما من قبل الحزبين الرئيسيين. دونالد ترامب شخصية تفشل في معالجة مصادر هذا السخط بشكلٍ جاد، لكنّي أعتقد أن أولئك الذين يحتقرونه، لا سيما في اليسار السياسي، يرتكبون خطأً جسيماً حين يَعْزون نجاحه إلى مجرد أسباب عنصرية أو إلى رغبته في استعادة أميركا المسيحية البيضاء. في الواقع، لقد حقّق ترامب في انتخابات عام 2020 بالمقارنة مع عام 2016 نتائج أفضل بين الناخبين من أصل هسباني (لاتيني) بل وحتى بين السود. والدعم الهسباني لمرشحي الحزب الجمهوري مُتزايدٌ في انتخابات التجديد النصفية هذه. وأعتقد أن التركيز على دونالد ترامب يحولُ، في كثير من الأحيان، دون تحليل الأسباب الأعمق لنجاحه. وأيُّ تحليل ينبذ هذا الشخص بصورةٍ تبسيطيّة بوصفه أحد أعراض العنصرية من دون أن يشكّك في تواطؤ المؤسسات القياديّة في نشوءِ عدم الرضا بين الناس، إنما تحليلٌ ذو طبيعة نفعيّة للغاية.
ريكفيتس: إن شعبوية دونالد ترامب اليمينية، كمثيلاتها في أوروبا، ناجحة لأنّها تتفاعل بمهارة وتلاعب مع تجارب الخسارة والخوف الاجتماعيين. إنها تجنّد الخسائرَ السابقة وكذا الخسائر المستقبلية المتخَيّلة والمحتملة. تركّز الشعبوية تحت شعار «استعادة السيطرة» على المشروع المستحيل الكامن في استعادة الماضي. والسؤال السياسي هنا هو: ما هي الطرق البديلة المتوفّرة للتعامل مع هذه الخسائر؟. إحدى هذه الطرق هي اتباع السياسة القائمة على حساب المخاطر وتلافيها وتأمينها لمنع الخسائر المستقبلية المحتملة. وهنا تكونُ لـ«المرونة» كقيمة لمجتمع يتعلّم تحمُّل الخسائر، دورٌ أساسيّ. ثمة استراتيجية أخرى أيضاً، وقد ذكرتها سابقاً، تكمن في رؤية الخسارة مكسباً؛ وهذا موجود في النقاش البيئي على سبيل المثال. غير أنّي أعتقد أن تطوير استراتيجياتٍ لمجتمع يتعلّم التعامل مع ما هو سلبيِّ، هو مهمّة مركزية لسياسات المستقبل المتجاوزة للشعبوية كما لتلك الرؤية، التي لم يعد تصديقها ممكناً، القائلة بأن «كلّ شيءٍ سيكون أفضل حالاً».
سيد دينين، أنت أحد الكتاب المساهمين في منصة (The Postliberal Order). يشير هذا العنوان إلى أنك تعمل لأجل مستقبل سياسي خارج البارادايم الليبرالي. ماذا يدور في ذهنك؟ هل ترغب في استعادة المجتمع التقليدي؟
دينين: لا أعرف إذا كان الأمر يتعلق بالاستعادة بقدر ما يتعلق بتعزيز الظروف المُتعارضة مع السياسة التقدميّة الليبرالية. يهيمن على السياسة الأميركية اليوم حزبان ليبراليان. كلاهما يتبنى رؤية الفردانيّة المستقلة. وقد نجح الحزب الجمهوري، على الأقل منذ رونالد ريغان، في فرض نظام اقتصادي نيوليبرالي غير مُنضبط. أما الحزب الديمقراطي فكان الأكثر نجاحاً في تعزيز نظام اجتماعي غير مُنضبط ومنفلتٍ من المعايير باضطراد. أمّا النظام الــما-بعد-ليبرالي المنشود فهو ذاك الذي سيدعم بفعالية نظاماً أكثر تضامناً. لا شكّ أن اليسار مستعدٌ وقادرٌ على التحدّث عن نظام اقتصاديٍّ أكثر تضامناً، لكنّه، إلى حدٍّ بعيد، غير مستعد للتحدّث عن الحاجة إلى دعم تكوين الأسر، لا سيما الأسر التقليدية التي ستشكُّل الجزء الأكبر.
ريكفيتس: حين أسمع مصطلح «نظام ما بعد ليبرالي»، أشعر بعدم ارتياح شديد. فأبطال مثل هكذا نظام في أوروبا هم أشخاص مثل فلاديمير بوتين وفيكتور أوربان. إنهم معارضون للنظام الليبرالي في ذلك المستوى الأوّل، المذكور في البداية، الذي تتقابل عنده الليبرالية والاستبداد. وفي هذه الحالة تكون الديمقراطية الليبرالية بحاجة إلى دفاعٍ مستميت. لكن بالنسبة لي، فإنّ إنهاك الليبرالية كامن بالدرجة الأولى في المستوى الثاني، في سياسة الليبرالية الدينامية. ونقطة ضعفها الرئيسية هي اعتمادها بشكل غير متكافئ على الأسواق والحقوق الفردية، وإهمالها للبنى التحتيّة العامّة المتاحة للجميع، بدءاً من التعليم وصولاً إلى النقل، وكذلك لثقافة الالتزام المتبادل بين الناس أنفسهم. لقد أظهرت أزمة كوفيد 19 مرّة أخرى أوجه القصور هذه بشكل حاد، لكنّها أشارت أيضاً إلى سُبُلِ الخلاص. إن مراجعة الليبرالية تهدف إلى نوعٍ من إعادة الاندماج الاجتماعي للأسواق والأفراد.
دينين: من المثير للاهتمام أنك تتحدث عن إعادة الاندماج، لأنّها تستبطن شكلاً من أشكال التفكُّر في الماضي. صحيح أنّها ليست نوستالجيا، لكنّها تعني أنه ثمّة عناصر اجتماعية سالفة يمكنها أن تُعيننا كبشر. وأعتقد أن السؤال الحقيقي هنا هو إن كان في وسع نظام قائم على مبدأ الحرية الفردية وتحرير الفرد من الالتزامات الاجتماعية أن يخلق شعوراً بالمهام والواجبات. لدي شكوكي، لكنّه يبقى سؤالاً مفتوحاً. وإذا قمنا بتطوير لغة خاصّة لذلك، فمن المؤكد أنها لن تكون تلك التي نعرفها كلغة ليبرالية.
ريكفيتس: إنّ إحياءً بسيطاً للماضي مسألة مستحيلة. وإذا حدث اليوم أي اندماج اجتماعي، فسيتمّ ذلك بوسائل اليوم. ولطالما كان العالَمُ الاجتماعي مُبتكِراً بصورة تبعث على الدهشة. ويمكن للمرء أن يجد ذلك في «حركة المناخ» في ألمانيا: فكثير من الناس، خاصةً من جيل الشباب، يُقرّون هناك بمسؤوليتهم والتزامهم تجاه الأجيال القادمة؛ ولم يعد يُنظَرُ إلى ذلك بوصفه أمراً مُحافظاً أو متخلفاً على الإطلاق. لكن بالطبع يريد هؤلاء، في الوقت نفسه، الإبقاء على الإنجازات الليبرالية المتحقّقة في العقود الأخيرة، كالحقوق الشخصيّة الليبرالية على سبيل المثال. والسؤالُ المطروحُ هنا ليس إن كان ذلك في حدّ ذاته متّسقا فلسفياً، بل ما هي طرق التفكير الجديدة التي تتطوُّر في الواقع الاجتماعي.
موقع الجمهورية