الناس

أمراض مزمنة وتشوه للأجنة… ماذا فعلت الحراقات بأهالي الحسكة؟/ شفان إبراهيم


نقلت المُدرسة شيماء العابد (29 عاماً)، ابنتها شهد ذات السنوات الخمس لأقرب نقطة طبية في بلدة تل حميس، لإصابتها بالتهاب مزمن في الصدر، ناتج عن رائحة حراقات النفط الخام المستخدمة لتأمين الوقود في المنطقة. وقالت لرصيف22: “لم أكن أعلم أن تكرير النفط سيمهد للموت في بيوتنا”.

وبعد انسحاب الحكومة السورية تباعاً من المنطقة الكردية، وخروج حقول النفط والغاز عن العمل، زادت الحاجة للحصول على مشتقات النفط، فانتشرت حراقات بدائية في عموم الريف شمال شرقي سوريا، وتسببت بأضرار بليغة للبيئة والإنسان والحيوانات، خاصة أن الدفعات الأولى منها كانت ذات بنية وتجهيزات سيئة ووضعت داخل القرى وبالقرب من المناطق السكنية.

وهو ما أكده مهندس البترول شامل يوسف لرصيف22: “توقفت أغلب مقومات الحياة في المنطقة نتيجة عدم شراء أو بيع النفط الخام ومشتقاته بين الحكومة السورية وهياكل الحكم المختلفة المسيطرة على المنطقة تباعاً منذ 2011، ودفعت الحاجة والطمع في الأموال للبحث عن البديل، ومع سيطرة مختلف الجهات العسكرية على حقول النفط، استخدم كما هو في حالته التي تسمى ‘الفيول’ دون تكرير، وتسبب بأضرار بليغة نتيجة الانبعاثات أو الحرائق، ثم كانت فكرة الحراقات”.
تكرير بطرق بدائية

زار رصيف22 إحدى الحراقات البدائية، ليتبين أنها تعمل من خلال وضع النفط الخام في خزان معدني قد تصل سعته إلى أكثر من 100 ألف لتر، وتشغيل نار في حفرة تحت الخزان بواسطة دواليب أو فيول أو خشب، فتصدر الحراقات روائح كريهة وغازات سامة، ويخرج النفط عبر أنابيب خاصة موضوعة في مجرى مائي لتكثيف المشتق النفطي وتبريده، ثم يصل لمرحلة سكبه في وعاء مصنوع من المعدن، وفرز المشتقات في أماكن مخصصة لها.

وتم تحديث الحراقات في الآونة الأخيرة إلى أخرى كهربائية، بحيث تكون النار داخلية، وجهزت ببركة ماء وجهاز من أجل حرق الغاز الناتج عن عملية الحرق. وتعمل الحراقات بنظام معين بحيث يتم أولاً فرز مادة البنزين، ثم الكاز، ثم المازوت، ثم الشحم.

يشرح الناشط في مجال البيئة ماجد بهاء الدين أنواع الغازات المنبعثة عن الحراقات، وهي غاز أول اكسيد الكربون، وهو سام جداً يؤثر على الدم والخضاب ما يؤدي إلى التسمم، واستمرار التعرض لهذا الغاز ربما يدخل الإنسان في غيبوبة طويلة أو يسبب الموت المفاجئ.

أفراداً، يمكننا تحسين الكثير مما يدور حولنا اليوم. شاركونا ما يدور في رؤوسكم حالياً. غيّروا، ولا تتأقلموا.
ادعمونا

وفي مرحلة غليان النفط الخام، يطلق غاز كبريت الهيدروجين ذي الرائحة الكريهة، التي تشبه تماماً رائحة الطعام الفاسد، وهو يؤثر على النواقل العصبية والشم ويثبط عمل الخلايا العصبية ثم قد يؤدي إلى الوفاة.

وأضاف ماجد حول أضرار الحراقات على البيئة: “استخدام مخلفات النفط الخام في عملية الحرق تتسبب بانتشار السحب الدخانية السوداء في السماء، وتنتج إشعاعات وغازات سامة تلوث الهواء ووجه التربة والأرض بمساحات واسعة، وتسبب تساقط أوراق الاشجار وثمارها ويباسها وموتها”.

ظروف بالغة الخطورة

لا يجهل إدريس خالد (42 عاماً) المخاطر التي تحيط به خلال إشعال النيران تحت خزان معدني كبير يتسع لحوالى 67 ألف ليتر من النفط الخام، وذلك في إحدى قرى منطقة آليان شمال الحسكة.

هي مهنة تدر أرباحاً جيدة، لكنها ذات مخاطر كبيرة، منها المباشرة وبعضها الآخر تظهر آثاره بعد سنوات وفقاً لإدريس، الذي يعاني من ندبة واضحة في يده اليسرى نتيجة لإصابته بالحروق أكثر من مرة.

يقول لرصيف22 إن جميع العاملين في الحراقات البدائية معرضون للإصابة بالحروق المختلفة بسبب اشتعال النيران أثناء عملية التكرير، والأخطر هو تسرب الغازات من الحراقة واشتعالها: “تعرضت يدي اليسرى للحرق مرتين، فقدت على إثرها إبهامي الأيسر. هي مهنة صعبة ومضرة، لكن لا بديل لآخر لدينا”. وتختلف أجرة العامل في الحراقة حسب خبرته وقد تصل أحياناً إلى 50 ألف ليرة يومياً، ما يعادل وسطياً سبعة دولارات.

يعرض هلال محمد صورة شقيقه هاني الذي توفى نتيجة انفجار خزان الوقود في إحدى الحراقات البدائية في الريف الجنوبي للقامشلي قبل عامين. تحدث إلى رصيف22 وعيناه غارقتان بالدموع: “كنا نعمل معاً في التكرير، طلب مني أخي أن أعود للمنزل ليكمل هو العمل، لم تمضِ ساعة حتى سمعنا صوت انفجار ضخم. هرعنا لأجد أخي جثة هامدة مرمية على بعد أكثر من كيلومتر من الحراقة، نتيجة للضغط العالي للانفجار”.

ويتحدث هلال عن عمله برفقة أخيه: “في فجر كل يوم نذهب لجلب النفط الخام، ثم نشعل النار تحت الخزان لقرابة 20 ساعة، ونجمع بقايا عملية التكرير من نفايات صلبة وشوائب لبيعها لمن يرغب باستخدامها في التدفئة، أو نرميها في مناطق بعيدة عن القرية”. ويضيف: “أكثر المراحل خطورة وإهانة للكرامة كانت مرحلة تنظيف الخزانات من الشوائب العالقة في قاعها وجدرانها، بسبب الرائحة القوية والكريهة التي تخدش المعدة والصدر والعينين، والحرارة المرتفعة جداً داخل الخزان، وكثيراً ما كانت تتسبب بالتهاب قصبات هوائية حادة لا يشفى بسهولة”.

ويكمل إدريس أن حالات اختناق كثيرة حصلت بفعل الغازات الصادرة عن الحراقات البدائية، منها بلع اللسان وثم الوفاة، وحالات ربو وضيق تنفس أو تشوهات وأمراض جلدية، بعضها احتاج لأشهر للعلاج.
أمراض وتشوهات

يشير الطبيب توما المتخصص بالأمراض الداخلية، إلى أن الحراقات تهدد الأجيال القادمة أكثر، خاصة لما تسببه من أمراض جلدية والتهابات رئوية وحالات اختناق، لتصل إلى العقم.

في حين تقول الطبيبة مروين محمد المتخصصة في أمراض النساء والحوامل إن دخان وغازات الحراقات يتسبب بكوارث للمرأة الحامل، منها تشوهات الأجنة أو وفاتهم أو نقص النمو داخل بيت الرحم، وأحياناً الولادات المبكرة، كما تنتج عنها اضطرابات سلوكية عند الطفل مثل العدوانية.

وأكد الطبيبان أن “الوضع الصحي في المنطقة أساساً هشّ نتيجة تردي الخدمات الطبية، وعدم توفر الأدوية المناسبة لمثل هذه الأمراض، أو توفرها بأسعار مرتفعة جداً لا يمكن للغالبية من شرائها”.

وضمن هذا السياق تتحدث نازلي الشهابي (27 عاماً) لرصيف22: “أنا متزوجة منذ أربع سنوات، وبعد دخول حملي شهره الخامس، صرت أشعر بالخمول والتعب، وانعدام حركة الجنين في بطني، وعند مراجعة الطبيب المختص، تأكدت وفاة الجنين منذ شهر ونصف، بسبب تلوث الهواء في القرية لقرب الحراقة منها، وأنا دوماً كنت أعاني من سعال مزمن وجاف وحشرجة في الصدر”.

كما أكد أطباء متخصصون في الأمراض العصبية والنفسية طلبوا عدم الكشف عن أسمائهم، بأن أعداداً كبيرة من الأهالي يراجعون عياداتهم بسبب الاكتئاب والأمراض النفسية التي تتسبب بها الحراقات وروائحها ودخانها، خاصة الحوامل والمرضعات، نتيجة القلق والخوف الكبيرين على صحتهم وصحة الأطفال.

وأضاف أحد المصادر أن “حالات تشوه الأجنة وحديثي الولادة كبيرة جداً، فمنهم يولد مشوهاً أو يعاني من فتحة في القلب، أو نقص في التروية، أو التهاب حاد في الرئة أو تأخر النمو، كل ذلك بسبب استنشاق الأم الحامل والمرضع للانبعاثات الخطيرة من الحراقات. وحتى الكبار ليسوا في مأمن، فالتهاب الجيوب الأنفية والاختناق والتهابات الجلد المزمن والعيون ربما تدوم لسنوات أو طول العمر”.

كما تعاني المنطقة من كثرة حالات الإصابة بأمراض السل والسرطان، وفقاً للعديد من المصادر الطبية، وتواصل رصيف22 مع مشفى البيروني المختص بالأورام في دمشق، وأكد مصدر خاص فيه أن “أعلى نسبة استقبال مرضى السرطان والدم في المشفى هي لأهالي شمال شرق سوريا”، ولم يقدم المصدر إحصائية دقيقة ورسمية لكنه أكد بأن “الأعداد بالآلاف سنوياً”.
غياب شروط الأمان

لفتت مصادر ضمن الإدارة الذاتية لرصيف22 إلى أنها “أنشأت مصفاة نفط متطورة في حقول الرميلان في محافظة الحسكة، بالتعاون مع شركة أمريكية، وتصل قدرتها الإنتاجية لقرابة 3000 برميل نفط يومياً، على أمل التقليل من الاعتماد على الحراقات البدائية، كما أنهم منعوا وضع تلك الحراقات في مناطق مأهولة بالسكان، أو مراعي الماشية لأنها تتسبب بالجرب لها وتصيب الزراعة بأمراض خطيرة”. وتنتج الحراقات العادية الصغيرة وسطياً ما بين 8-10 براميل يومياً.

لكن نشطاء أكدوا لرصيف22 أن المشكلة لم تحل، ولا تزال أنواع الوقود سيئة، والأضرار مستمرة، وإن كانت أقل من السابق.

والتقى رصيف22 مع حمدان حمدان وهو رجل ثلاثيني يعمل في إحدى الحراقات في الريف الجنوبي للقامشلي، قال “غالبيتنا العظمى يفتقدون شروط الأمان والسلامة أو وسائل الحماية والوقاية، ولا نملك أي ضمانات أو تعويضات إذا لحق بنا أي ضرر، خاصة أن مخاطر انفجار الخزانات واردة جداً، ونسبة العجز أو التشويه الذي يمكن أن تتسبب به تصل أحياناً إلى 95%، بما فيها الإعاقة الدائمة أو الوفاة، لكن الفقر والحاجة يدفعاننا لذلك”.

وأضاف: “لا يُمكننا طلب أي ضمانات لإصابات العمل من أي جهة حكومية، فالعمل خاص بنا، أو بصاحب الحراقة الذي لا يدفع فلساً واحداً خارج إطار التعويض اليومي”.

وتوجه رصيف22 إلى أحد مالكي الحراقات الذي اشترط عدم ذكر اسمه، قال: “نشترط على العامل منذ البداية عدم دفع تعويضات إضافية، فالوارد بالكاد يكفينا، وعلى العمال أن يحتاطوا لأمرهم”، وأضاف: “المشكلة أن الحراقات نفسها بدائية، وحتى الكهربائية هي خطرة وانبعاثاتها كبيرة”. وهو ما أكده المحامي فريد حسين (اسم مستعار)، إذ أشار إلى أن وزارة وهيئة الشؤون الاجتماعية والعمل، التابعتين للحكومة السورية والإدارة الذاتية على التوالي، لا تلتزمان بفرض تعويضات لأجل عمال الحراقات، فهي أعمال لا تدخل ضمن خطط التغطية والتأمين وإعاقة العمل.

رصيف 22

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى