مقالات تناولت أسباب فشل “الربيع العربي”
=========================
تحديث 30 تموز 2023
———————————————-
“هل نعلن هزيمة الربيع العربي؟”… الحفر والنجاة من أنظمة جعلت الأرض فخاً/ عمّار المأمون
الخوض في سياسة الحفر، خصوصاً في ظل سؤال “هل نعلن هزيمة الربيع العربي؟”، يكشف أثر الصراع بين السلطة والمواطنين على سيادة الأرض، فالقوى الشعبيّة التي أرادت إزاحة السلطة، وفشلت، وجدت نفسها وباقي “المواطنين” يسعون الى مناورة السقوط في الحفر، عوضاً عن المواجهة واستمرار “الصراع” مع السلطة القائمة.
تعكسُ الحفرة في الأرض الهيمنة السيادية على اليوميّ والبديهي، كونها، أي السلطة، المسؤولة عن بسط التراب/ شق الطرقات لتسهيل الحركة، و”تركها” للحفر عمداً يُهدد أمن الأفراد، وقدرتهم على الانتقال، ما يحوّل الطرقات إلى حلبة للنجاة من “أفخاخ/حفر” التقصير والفساد والعنف السياسيّ.
ضمن المتغيرات السابقة “حفرة-سلطة- مواطن”، تتضح الهزيمة السياسيّة، القوى الشعبيّة التي أرادت إزاحة السلطة، وفشلت، وجدت نفسها وباقي “المواطنين” يسعون الى مناورة السقوط في الحفر، عوضاً عن المواجهة واستمرار “الصراع” مع السلطة القائمة.
الخوض في سياسيّة الحفر، خصوصاً في ظل سؤال “هل نعلن هزيمة الربيع العربي؟”، يكشف أثر الصراع بين السلطة والمواطنين على سيادة الأرض، خصوصاً أن السؤال مريب وإشكاليّ، إن قرأنا تاريخ المنطقة ومآلاتها خلال السنوات العشر الماضية، عبر رصد بعض الحفر بمعناها الماديّ، الحفر التي نتجت إثر العنف السياسيّ المطبق على التراب، الذي أنتج حفراً سواء للبناء أو الهدم والتدمير.
اللافت في سياق الحديث عن الحفر في المنطقة، أن الدول التي لم يمسّها الربيع العربيّ مباشرةً، ذات حفر من طراز غريب، إذ تحوي إمارة دبيّ مثلاً، “حفرة” للغطس بعمق 60 متراً. بصورة ما، نحن أمام “عالم” مغمور، يتيح الاكتشاف، والتحرك ضمنه بحريّة. الحفرة/ المغطس هنا، علامة على قرار سياسي بخلق حفرة آمنة، حدودها الاسمنت وكمية الهواء في الرئتين.
الدول التي لم يمسّها الربيع العربي، تزحزح التراب للعمران وتمنحُ زوار أرضها إقامات ذهبية (الإمارات)، وإقامات مواطنة رقميّة (السعوديّة)، وتستقطب كل ممثل وكاتب وأنفلونسر هرب من مصر وسوريا ولبنان وتونس والعراق، الأرض التي تتالت عليها موجات الربيع العربيّ، وانتهت بديكتاتوريات عسكريّة، عدا لبنان، المحكوم بقادة ميليشات مُتقاعدين، وكارتيل مخدرات، جعل الأرض غير ثابتةً تحت سكان بيروت، المدينة التي تحوي حفرةً بعمق 43 متراً، كشاهد على انهيار المدينة.
نحن أمام ما يشبه أرضاً مجوّفة في سوريا، كل مساحة تحوي حفرةً تعيد نوستالجيا لحظات الرقص والتظاهر، لكن بعد “الهزيمة” أصبح المشي أثقل، وكأن الخسارة هي العجز عن المشي بثبات على أرض ترابها أصوات من قضوا.
سوريا: حُفر الموت صدفةً وعمداً
لا يمكن عد الحفر التي ثقبت سوريا منذ عام 2011، سواء جراء القصف أو حفر الخنادق أو انهيار الأبنية، لكن أكثرها دلالةً على “لا سلطة” النظام القائم على الأرض، والفشل في إزاحته، هي إحدى حفر الصرف الصحيّ في مدينة اللاذقيّة، التي سقطت فيها فتاة وفارقت الحياة، للعجز عن تأمين حبل لانتشالها.
تعكس هذه الحادثة هزيمة شديدة على المستوى المحلي واليومي، سيلٌ جرف فتاة وقادها إلى أسفل حفرة. سوء الخدمات وعدم عناية الدولة بالصرف الصحي في المدينة لا يمكن إنكارهما، الحادث اليومي قد يبدو بريئاً بداية، لكنها ليست الحفرة الوحيدة، النظام في سوريا جعل الأرصف فخاً ومقبرةً لكل من حاول الوقوف بوجهه، وتركها هشّة تأسر من يمشي عليها حذراً.
“حفرة التضامن” علامةٌ أخرى على استمرار الجريمة في الزمن، وذكرى هزيمة الحشود التي هُجّرت وقُتلت، ورُميت في الحفر، هي مقبرة في الهواء الطلق، تحبس أرواح من فيها. “حفرة الهوتة” في ريف الرقة، مقبرة جماعيّة لضحايا “داعش”. أنفاق ريف دمشق، حفر لضحايا لا نعرف أسماءهم. حُفر أسفل أفرع المخابرات لمعتقلين غمرهم الدم والأشلاء والملح.
نحن أمام ما يشبه أرضاً مجوّفة في سوريا، كل مساحة تحوي حفرةً تعيد نوستالجيا لحظات الرقص والتظاهر، لكن بعد “الهزيمة” أصبح المشي أثقل، وكأن الخسارة هي العجز عن المشي بثبات على أرض ترابها أصوات من قضوا.
ترك الحفرة على حالها شأن سياسيّ، الحفرة المفتوحة فخّ بانتظار أن يقع فيها أحد، وأطياف من قضوا فيها تزرع الرعب بمن يمشي على الأرض، احتمالات السقوط إذاً لا نهائيّة، الأرض ذاتها، كما في حالة فتاة اللاذقية، عاجزة عن حمل من يقف عليها، الحفرة في سوريا تبتلع الجميع، لا حدود تحتويها، وحرفياً يخاطر السوريون هرباً إلى بحر ذي سطح يهددهم بالغرق، نحو “أرض جديدة” أشد ثباتاً وأكثر قدرة على ضبط الحفر.
تونس: حفرة الديمقراطيّة الهشّة
شهدت مدينة القيروان التونسيّة عام 2020، وقوع أحدهم في حفرة ظهرت فجأة، بينما كان الشاب يمشي على الرصيف، “خسفت” فيه الأرض ووقع في الحفرة، لكن تم إنقاذه. هذه ليست الحفرة التي تحدث عنها الصافي سعيد مجازاً، حين قال “أحنا طحنا في الحفرة مع قيس سعيّد… و الثورة أصبحت لعنة”، فحفرة القيروان واقعيّة، تهدد كغيرها كل من يمشي على الأرض.
المفارقة أن سلطة الدولة، وخصوصاً في عهد سعيّد الذي ركز بيده السلطات، تقع بدايةً على الأرض، ثم الأجساد، كون الأخيرة يمكن التضحية بها وسجنها في سبيل الأرض نفسها. الأرض التي يعلق الدستور لأجلها في حال لم تكن صالحة لتنفيذه، حسب أحد المقاربات النظريّة لتفسير قانون الطوارئ وسلطات الاستثناء.
ضمن المنطق السابق، هبوط الأرض بمواطن، شأن سيادي، الأرض “غير ثابتة” ولا تصلح للمشي، وهنا يمكن قراءة “الاستثناء التونسيّ” بنوع من السخرية، ديمقراطيّة تونس التي وعد بها قيس سعيد، كالرصيف ذاته، يقع في حفرتها من يمشي، هي ديمقراطيّة غير صالحة للانتقال إذاً، تلتهم المواطنين بمجرد محاولتهم “الحركة”.
العمران في مصر مهزلة عسكريّة في عهد السيسي، الكباري والمدن الجديدة والحفر في الأرض لإرضاء غرور العسكر، تعكس العجز عن إدارة الأرض، لتظهر الحفر كعلامات على جهود السيادة الفاسدة. في الوقت ذاته، تختزن الحفر مآسي لا نذكرها إلا في أخبار “الحوادث”. عام 2022، سقط الشاب العشريني خالد محمد شوشة راشد، في حفرة بعمق 18 متراً، والسبب الإهمال، وفي التقرير الذي يصف الحادثة نقرأ العبارة التالية: “وعرضها يصل إلى مساحة منزل بالتمام”.
حفرة بمساحة منزل، ومن دون أي علامة على وجودها في الشارع، من يذكر ميدان التحرير، الأرض التي حملت الثورة المصريّة إلى حد نوم المتظاهرين فيها، يقف متأملاً في الحفرة التي يتمت ابنة خالد، هالة ذات الأربعة أشهر، بينما “تنتصر” الديكتاتورية العسكريّة لنظام السيسي، الذي يبني جسوراً، ويترك الحفر، داعياً المواطنين إلى أن يغلوا أرجل الدجاج لغلاء ثمن “الفرخة”.
الحفرة التي وقع فيها خالد علامة إشكالية لا على الهزيمة فقط، بل على الفشل في النجاة أحياناً، أن تتحول الشوارع إلى حلبة مسابقات، ينجو فيها من لا يسقط في الحفرة، هزيمة تتجاوز الإهمال، نحو تعمّد التخريب، أن تترك أفخاخاً في المدن يعني أن تسحب الأمان من سكانها، إلى حد أن توصف حفرة بـ”المنزل”، لكن عوضاً عن الأمان والاستقرار، هي مساحة للموت في الظلام، إهمال للسيادة على الأرض، خلق قبراً بمساحة منزل.
العراق: حفرة “الخفسة” والحداد المعلق
ما زالت حفرة “الخفسة” القريبة من الموصل شاهداً على فظائع “داعش”، الحفرة التي لا نعلم عدد الذين أُلقوا بها إعداماً من قبل التنظيم، شاهد على ما اختبره العراق، وفي الوقت ذاته، هي مزار للنحيب، آلاف الضحايا في عمق الحفرة لا نعلم أسماءهم، ما زالت أطيافهم تحوم حولها.
كشف “داعش” عن اسم 2070 شخصاً “رُميوا فيها”، واستمر استخدامها بعد دحره، نحن إذاً أمام فتحة للحداد المعلق، كل ميليشيا ترمي ضحاياها فيها، داعيةً إلى حداد معلّق لم ينتهِ حد الآن.
هناك إشكالية سياسية تتعلق بالحداد حول هذه الحفرة، إذ تكررت محاولات ردمها من التنظيم ومن السلطات العراقيّة، لكن ماذا عن الجثث دخلها؟. عدم انتشال الأشلاء والجثث جريمة مستمرة وإمعان في النسيان وتعليق للعدلة، وهنا تعود إشكالية الحفرة، كيف نتعامل مع العنف السياسي المحيط بها؟ هل تردم نهائياً و”تبسط” الأرض وتطبع الحياة حولها؟ أم تُترك مفتوحة لحداد لن ينتهِ؟
وصف فتح الحفرة واستخراج ما فيها بأنه بحاجة إلى “جهد دوليّ”، أي بصورة ما، هي عطب في نظام “العالم” كونها محاطة بألغام أيضاً، نحن أمام فخ لا تنجو منه إلا الأشباح ولا يصله إلا البكاء، وكأن الحفرة ستبقى مفتوحة، إلى حين عودة الأرض وما حولها إلى الحالة التي تجعلها صالحةً للحياة. عدا ذلك، الهزيمة مستمرة طالما لم تُغلق قبور من رحلوا.
درج
——————————-
“هل نعلن هزيمة الربيع العربيّ؟”… أمومة الاستبداد/ فارس البحرة
لم خرج الجماهير عام 2011 لإعلان الولاء للقائد الفذ، والتغنّي بسلامة حبل السرة الذي يصلها به، وإنما لتعلن على الملء عزمها على قطع هذا الحبل، والخروج عن حالة الانصهار بفرد، والتمايز عن الأب القائد، عن الرئيس ـ الأم.
ما الذي حل بالفردانية التي نادى بها الربيع العربي، هل جُرحت، قُتلت، خصوصاً مع صعود ديكتاتوريات ما بعد الثورة؟ وهل يصح هنا كلام عن نكء للـ”جرح النرجسي” للشخصية العربية المأزومة، على مثال ما قرأ جورج طرابيشي نكسة حزيران/ يونيو؟
أستلهم هذه الأسئلة من سؤال “هل نعلن هزيمة الربيع العربي؟”، ولما كنت عاملاً ميدانياً في مجالي الطب والعلاج النفسيين، ارتايت أن أرتكز في محاولة إجابتي على الابتداء من تأمّل الأعراض السريرية لا النظرية، بل الصورة السريرية لراهن المجتمعات العربية التي شهدت ثورات الربيع العربي.
وعلى رغم أنني أميل عموماً إلى منظار يرى أن البنية النفسية الجمعية للمجتمع العربي تحاكي الاضطرابات النرجسية الفردية، فإني أعتقد أن المعاناة العربية الراهنة جمعياً والأشيع فردياً، أكثر توافقاً مع اضطراب ما بعد الصدمة. فإن كانت تحمل شيئاً من سمات مذلّة نرجسية، فالأمر في ظني مزمن سابق للثورات، إضافة إلى كونه حَدَثِية ثانوية ناجمة عن نكوص مترتب على الصدمة، آخذين بالاعتبار كون الاضطراب النرجسي بحد ذاته من وجهة نظر التحليل النفسي، نتاج نوع من الصدمة المبكرة أو خللٍ مبكر في البنية النفسية مكافئ للصدمة.
لا بد هنا من التنويه إلى أن توظيفي في الأطر الجمعية لعمل ومصطلحات ومراجعات نظرية عدة خاصة بـ”الإمراضيات” الفردية، من دون ضبط مصطلحي دقيق لهذه النقلة، يبقي مقاربتي هذه في إطار المجاز، لتكون أقرب إلى الفهم الثقافي منها إلى الأكاديمي.
خواء داخلي
تتفق الاتجاهات التحليلية النفسية الأحدث على أن الاضطرابات النرجسية الفردية عادة ما تترافق مع خلل في العلاقة بين الرضيع وبين الموضوع الأولي الأقرب (وهو مصطلح تحليلي يقصد به الشخص الأقرب إلى الرضيع في حياته المبكرة، الدور الذي تضطلع به الأم غالباً، وسنعتمد هنا اختصاراً الأم)، خلل يكافئ ما يسمى باضطراب التعقيل (Mentalisation).
يقصد بالتعقيل العملية التي يتم من خلالها إدراك الأحوال النفسية (العقلية) لدى كل من الذات ولدى الآخر، بتفسير سلوك الآخرين من خلال إحالته إلى حالات عقلية، الأمر الذي يتطور من خلال إدراك المعاني الذاتية الى الوجدانات المختلفة وفهم المشاعر المرتبط بالخبرات البشرية المبكرة.
فلا يعتبر وفقاً لذلك فهم الذات والآخر والتمييز بين الحقائق النفسية الذاتية والغيرية، وبين الذاتي والموضوعي، شأناً بيولوجياً صرفاً ولا معرفياً محضاً، بل هو بالدرجة الأولى عملية شعورية تبدأ في حياة الرضيع بعلاقته مع الأم، ومن خلالها تتطور القدرة على التنظيم الشعوري، وعلى الاستشعار العاطفي للذات والآخر، كما القدرة على التقمص الوجداني (Empathy). يؤدي الخلل العاطفي في علاقة الرضيع بأمه، وعدم قدرة الأم على الاحتواء العاطفي (Containing) وعلى تمثّل واحتمال معاناة الطفل لتجربة غيابها المؤقت إلى اختلال قدرته على إعادة اختراع صورتها في غيابها وإلى النكوص (النرجسي) إلى نفسه.
اختلال التوسّط العاطفي الأمومي يعقّد شعور الرضيع الناشئ بنفسه كذات مستقلة، فعدم القدرة على احتمال غياب الأم وتصوّره، يشكل القدرة على تصور الانفصال عنها، الأمر الذي يوافق اختلالاً في الشعور بالذات، يترافق مع رضّ مبكّر متمثل باختبار خواء داخلي متمثّل بالنكوص النرجسي إلى الذات. عبر استراتيجيات غير واعية، يلجأ الرضيع الى تجاوز هذا الرض إلى ثوابت مطلقة تتمثل في أمْثَلَة (Idealisation) الذات والآخر.
فعندما لا يتلقى الرضيع توكيداً أمومياً يعترف بخبراته الشعورية ويطمئنها، فإنه يعجز عن إدراك الآخرين عاطفياً بشكل مناسب، وعن التواصل معهم عبر تبادل الخبرات الشعورية، فيميل إلى تجاهلهم عاطفياً، ما يتمظهر تالياً في تبخيس الآخرين، ما نراه بكثرة في اضطراب الشخصية النرجسية، أو يميل إلى الإعلاء من هذا الشأن، ليعوّض بهذا وذاك عن العجز عن اختبارهم عاطفياً بشكل مناسب، عبر إرساء ثوابت (وهمية) في عالم متداع لا يجد له جذوراً خارج تجربة اختبار الخواء الراضّة.
ينتج من ذلك اختلال في العلاقات، يتراوح بين أمثَلَة الآخر والحط منه، ما يترافق في الوقت ذاته مع خلل في تقييم الذات غير القابلة للتعيين شعورياً، متمّثل بتعظيم الذات النرجسي الأشيع، أو بتبخيس الذات الفادح (غير الموسوم بالنرجسية في العرف الشائع مع أنه تعبير أكثر مباشرة عنها)، أو باختلاط الأمرين (وهو الأشيع) من دون أن يسفر هذا الاختلاط إلى التوصل إلى معادلة متوازنة لقيمة الذات.
يرتكز مفهوم الجرح النرجسي على استمداد قيمة الذات (العاجزة عن تقدير ذاتها شعورياً) من تقدير الآخر والشعور بمذلة عميقة في غياب هذا التقدير. تجدر الإشارة هنا، إلى أن الخلل النرجسي الذي تكاد آثار منه على الأقل تكون موجودة عند جميع البشر، ليس مكافئاً لاضطراب الشخصية النرجسية الأندر حدوثاً، والذي ينتج عادة من رض مبكر هو من الشدة بمكان بحيث يؤدي إلى اضطراب تعقيل جسيم، يتسم بفقد كامل أو شبه كامل للقدرة على اختبار متناسب لقيمة الذات والآخر والاضطرار إلى اللجوء إلى مرجعيات غير شعورية، بل معرفية محضة لفهم الذات والآخر، ما ينتج منه الإفراط في التمركز حول الذات والنزوع الى استغلال الآخرين للأغراض الشخصية (أو الخضوع الكامل لهم) ونقص لافت في القدرة على التعاطف.
الاضطرابات الأقل حدة هي الأكثر انتشاراً، وانتشارها هو ما يشكل المرجعية الشعبية الواسعة، الشعبوية ربّما، التي تحظى بها شخصيات نرجسية. ولا بد من التوضيح بأني لا أستخدم مصطلح النرجسية من قبيل الشتيمة أو أعدالها، بل بدلالاته الباتولوجية: إشكالية وعي الذات والموضوع (الآخر) وعياً عاطفياً متناسباً غير مضطر إلى الأمثلة أو التبخيس من شأن الذات أو الآخر، لتجنب تهديدات الفناء وعدم الاعتراف بالوجود.
ما الذي حل بالفردانية التي نادى بها الربيع العربي، هل جُرحت، قُتلت، خصوصاً مع صعود ديكتاتوريات ما بعد الثورة؟
إن يشأ شئت
يتماشى اعتبار نكسة حزيران نكأً لجرح نرجسي في رأيي مع فكرة التحام القائد مع الجماهير: الزعيم النرجسي الذي تعيش فيه الجموع تجسيداً لنرجسياتها الفردية، وتتراضى في العلاقة معه على التنازل عن حدودها الفردية، فهي امتداد وتماد له وهو كذلك لها. ولطالما كان هذا الالتحام قيمة ينشدها الإعلام الاستبدادي صراحة، ونادراً ما تلقى استنكاراً. وحسبنا أن نتذكر الهوى الشعبي السوري الذي لقته مناشدة الضباط السوريين لجمال عبد الناصر لعقد الوحدة مع سوريا، وإن على حساب الحريات الفردية والمجتمعية والسياسية والاقتصادية.
وإلا فلمَ على مفترق كهزيمة حزيران أن يؤثر على التوازن النفسي لمجموع بشري لا وزن لرأي الواحد فيه في القرار السياسي؟، ستتركز أمثلتي في ما يلي على سوريا ومصر، انطلاقاً من تقاطع تاريخ الاستبداد في هذين البلدين عند نقاط حاسمة عدة.
نقل الكاتب والصديق عمر قدور على صفحته على “فيسبوك”، المشهد التالي من كتاب “من أسرار حرب اليمن” لمؤلفه وجيه أبو ذكرى:
“بدأ الرئيس عبدالناصر يتحدث عن التدخل العسكري في اليمن، وكان يتحدث بنشوة ما بعدها نشوة، وعلى يمينه يجلس المشير أركان حرب عبدالحكيم عامر. وكان كمال الدين حسين ينظر إلى الأوراق التي أمامه دون أن ينظر للرئيس، وكأنه لا يعيره اهتماماً. فسأله عبدالناصر: مالك يا كمال؟. وسكت كمال الدين حسين. فواصَل الرئيس عبدالناصر حديثه: تكلم يا كمال… سمعت إنك تعارض دخولنا في اليمن. – أيوه يا ريس… أنا رأيي… وقاطعه الرئيس عبدالناصر: ومن إمتى بقالك رأي؟ فرد كمال الدين حسين: والله أنا شايف إن البلد بتغرق وأنا محسوب من اللي بيقودوا البلد. فرد عليه عبدالناصر: اسمع يا كمال.. روح شوف الأول أنت عملت إيه في التعليم.. وبعدين تعال اعترض.. أنت يظهر تعبان.. وأنا من رأيي تستريح شوية. فرد كمال الدين حسين: أنا فعلا تعبان.. البلد ما تتحملش مصاريف أكتر في اليمن.. احنا بنينا الجيش عشان يحارب اليهود مش عشان يغزو اليمن. احنا مالنا ومال اليمن.. احنا صرفنا دم قلبنا في سوريا.. ودي كانت النتيجة؛ الانفصال. ولا يجوز إن دم أولادنا يهدر على جبال اليمن. فرد عليه عبدالناصر: الله.. ده أنت بقيت تعرف في السياسة.. وبقيت زعيم.. ونظر الرئيس عبدالناصر لسيادة المشير عامر وقال له: – كمال بقى سياسي يا عبدالحكيم.. في ذمتك ده مش تعِبْ ومن حقه يستريح شوية؟“.
ما يلفت الانتباه، أن الصحافي وجيه أبو ذكرى يرى أن انشغال كمال الدين حسين بأوراق أمامه، وعدم التفاته إلى عبد الناصر، يثيران شبهة، كونه لا يعير اهتماماً للرئيس، فيثير بذلك حفيظة الأخير، كأنه يحرّض لديه مشاعر هوان نرجسي.
يبدو أن الكاتب نفسه يراها مفهومة ومتسقة مع جو الجلسة العام، فيرتكس الرئيس بالتذكير بالمبادئ العامة للزعامة النرجسية: لا أحد غير الزعيم الأوحد يدلي برأيه، بل ليس لغيره أن يكون له رأي أصلاً.
في وقت لاحق، عندما يعالج جمال عبد الناصر هزيمة حزيران بتقديم استقالته، نجد أن الجموع (الممعنة في النكوص إلى فموية ما قبل الكلامية) تتلقف هذه المبادرة (الأمومية)، فتخرج إلى الشارع مناشدة ممثلها الفموي، الذي يثرثر كثيراً من دون أن يقول شيئاً، ويمنع الآخرين في الوقت نفسه أن يتكلموا، أو حتى أن يكون لهم رأي، كي يعود إلى كرسي الرئاسة ويصدح كالكروان في الميكروفونات المحببة. وسيرثي كبار الشعراء العرب في ما بعد رحيل جمال عبد الناصر، كنزار قباني في قصيدة مطلعها “قتلناك يا آخر الأنبياء”، ومحمود درويش في قصيدته “الرجل ذو الظل الأخضر”. بل إن شعراء تعرضوا للسجن في عهده مثل عبد الرحمن الأبنودي وأحمد فؤاد نجم، عادوا متأخرين إلى رثائه، وفي قصيدة الأخير إشارة تدعم ما أزعمه من تلاحم فموي ونرجسي بين عبد الناصر ومحبيه، فيصفه نجم في قصيدته “زيارة لضريح جمال عبد الناصر” بلقب يختصه لنفسه عادة، فعبد الناصر: “فاجومي من جنسنا”.
تشرح لنا الكاتبة والناشطة نوارة نجم، ابنة الشاعر، في لقاء متلفز مع الإعلامية منى الشاذلي، معنى هذا اللقب: “والدي هو اللي سمى نفسه الفاجومي، وطلعها من المعجم مشتقة من كلمة فجم… اللي هو لما بييجي يتكلم من كتر ما بيتكلم بسرعة ورا بعض يطلع رذاذ من فمه يخبط في وش اللي قدامه”.
القائد الأم
لألفة جمال عبد الناصر مع زمانه خصوصية ما ستثير لدى من تلاه من زعماء العرب مشاعر الحسد، وإلا فالغبطة والحنين إلى زمن الاستبداد الجميل (يطلق الشاعر محمد الماغوط على إرهاب الدولة في زمن عبد الناصر مقارنة بما يليه إسم “لإرهاب النبيل”!). سيشقّ على الزعماء العرب (المتنازعين بمال النفط والوعود الأميركية والسوفياتية) تحقيق الانصهار النرجسي المنشود مع الجماهير.
وعلى رغم النرجسية التي لا تخفى لمعظم الزعماء العرب، لم يستطع أحد منهم (فلا بد لمثال الأنا من ميّزات أخلاقية تعوزهم) أن يتوصل إلى حالة تصادٍ مع “الشعب” يكون الزعيم فيها لوحة إسقاط منشودة للنرجسيات الفردية وتجلياً جسدياً للأمة، بما يمكن مقارنته بالحالة الناصرية. لكنهم كانوا يرغمون الجماهير على التظاهر بهذا الالتحام. ولا بد من الاعتراف بأن الجموع العربية، وعلى رغم وعيها للإرغام، عاشت الدور مطولاً وأبلت في أدائه بلاء حسناً، ما يشير إلى أن الزعامات العربية، رغم انخفاض شعبيتها، تمكنت حتى وقت قريب من مداعبة وتر جماهيري حساس، متمثل بالنزوع إلى تخلي المواطن عن فرديته ومواطنيته لصالح الانصهار بالزعيم (من تمظهرات هذه الحاجة، الشعار الذي رددته بعض الجموع الإسلامية المنتمية إلى الثورة السورية: “قائدنا إلى الأبد سيدنا محمد”. ظاهر الأمر تحريف لشعار روّجه النظام في الثمانينات “قائدنا إلى الأبد الأمين حافظ الأسد”، إلا أن إقحام النبي العربي في هذا القالب البعثي يحمل إشارة تأصيل تاريخي الى الميل للانصهار الجماعي في الزعيم الفرد).
ربما كان حسن نصر الله (على الرغم من كونه قائد ميليشيا طائفية) الزعامة العربية الوحيدة التي حققت تفاعلاً جماهيرياً واسعاً من غير إرغام، إثر مناوشاته مع إسرائيل في بداية الألفية الثالثة، إلا أنه سرعان ما فقد معظم رصيده (النرجسي) عند المواطن العربي، بعد تدخل “حزب الله” في سوريا لقمع المعارضين لنظام الحكم.
لم تعاود الجماهير العربية بعد جنازتي جمال عبد الناصر وهواري بومدين، وجنازتي أم كلثوم وعبد الحليم حافظ في سبعينات القرن العشرين، الخروج إلى الشارع خروجاً مدوياً إلا بعد انقضاء عقود. بيد أن خروجها هذه المرة لم يكن لإعلان الولاء للقائد الفذ، والتغنّي بسلامة حبل السرة الذي يصلها به، وإنما لتعلن على الملأ عزمها على قطع هذا الحبل، والخروج عن حالة الانصهار بفرد، والتمايز عن الأب القائد، عن الرئيس ـ الأم.
لربما هو الظهور الجماعي الأول للنزعة الفردية العربية، على ما هذه الجملة من تناقض صميم! فعند هذا المنعطف الحاسم من التشافي النرجسي، كيف للفرد أن يعّبر عما لا يمكن التعبير عنه؟! كيف له أن يستعيد الخبرة الراضّة الأصلية ويعاني الخواء؟ كيف يصف معاناة ما لا يمكن معاناته؟ عبّر الإنسان العربي عن القسر التربوي العميق وعن إجباره فرداً على ابتلاع الصمت، بالصراخ الجماعي في الشوارع. وعاد الزعيم العربي بذلك ليكون محور الحدث، وشاشة إسقاط للمجتمع، ولكن على اعتباره علة الشقاء والعقبة الكأداء في درب التحرر.
وسرعان ما عادت مؤشرات الحاجة إلى الانصهار الأعمى بالزعامات لتظهر مجدداً (من شعار “قائدنا إلى الأبد سيدنا محمد” إلى ظاهرة زهران علوش و”جيش الإسلام” في سوريا، إلى الالتفاف الشعبي المصري النسبي حول شخص محمد مرسي (من دون تمحيص في خططه السياسية)، ما أعقبه ظهور نكوصات إلى حالات الانصهار بالزعيم في أسوأ أشكالها، مثال الحماسة الهذيانية التي أبداها بعض المتحمسين السابقين للثورة المصرية لشخص عبد الفتاح السيسي، الذي يبز عبد الناصر في القدرة على التفوّه بثرثرة لا تقول شيئاً.
محترفون عباقرة
إن كان هتاف الجموع في ميدان التحرير القاهري قد جسّد أول الاستثناءات البصرية – السمعية لمرحلة الثورات العربية وما بعدها، فإن ثاني هذه الظواهر الاستثنائية كان مشهد المدن السورية المخربة، وإنزال الدمار الشامل على رؤوس الناس على الهواء مباشرة. أوقعت أقسى العقوبات بالسوريين، وصولاً إلى قصف أحيائهم عشوائياً ببراميل متفجرة، وخنقهم بالأسلحة الكيميائية، وتعذيبهم حتى الموت على مرأى العالم وسمعه، وإلا فبعلمه. ليظهر بعد ذلك الرئيس السوري في خطاب أو مع صحافيين أجانب، تجسيداً لسادية فموية تنزع الى ابتلاع الواقع كاملاً، واستهانة نرجسية بالذات وبعقول من يصغي إليه في الداخل والخارج، كما في تصريحه حمّال الأوجه لوكالة أميركية “لا يقتل شعبه إلا زعيم مجنون”.
إن كان مشهد ميدان التحرير تجسيداً لعفوية الحراك الاجتماعي، فإن الانتقام الجماعي العلني للنظام السوري تجسيد للرد القصدي المخطط والأبعد من العفوية. من أقوال الأسد الأب إبان حرب 1973، والتي صُدّعت بها رؤوسُ السوريين: “لسنا هواة قتل وتدمير، وإنما نحن ندفع عن أنفسنا القتل والتدمير”، عدّلت مجموعة “الشعب السوري عارف طريقه”، المكونة من ناشطات وناشطي الثورة السورية، هذه المقولة “الخالدة” لتستخدمها في إنتاج ملصق استعيرت فيه الأجواء البصرية لملصق فيلم كوبولا الشهير “العرّاب”، لنرى الطاغية السوري الراحل ترافقه المقولة ذاتها محرّفة “لسنا هواة قتل وتدمير… نحن محترفون”.
بخبرته الإجرامية الطويلة، فهم النظام السوري المدرك استحالة إصلاحه، أنه أمام تحدّ وجودي، إذ بات عاجزاً عن استمالة السوريين بالأساليب النرجسية القديمة، وحتى عن إرغامهم على التظاهر بالعودة من جديد إلى تعظيم الزعيم بدل السخرية منه في الساحات. فعمد مدفوعاً بمشاعر الإهانة النرجسية، إلى تصديع الوعي السوري والعربي معه، ليسدّ دروباً تم البدء بتلمّسها، ويعرقل محاولات التمايز الفردي والخروج عن المعارف المستغلقة عن الذات والآخر، والتي لا تستطيع الأنظمة الاستبدادية البقاء من دونها.
لا أزعم هنا بأن الثورات العربية كانت مساعي واعية للتمايز الفردي، فهي بحد ذاتها ظواهر جماعية تستقوي بالجماعة، إلا أنها خروج سافر عن سيناريو دُربت الجماهير العربية مطولاً على استظهاره، لتكون بذلك إرهاصات أولى نحو وعي الذات. بإرهاب الدولة في أبشع صوره، انتقم النظام بضراوة من محاولة التحرر من مفاهيمه مسبقة الصنع. وعلى الرغم من الخبث المتجلّي بالكذب المنهجي وتصنيع الإرهاب الجهادي واستخدامها(خبرة كوّنها النظام في العراق ولبنان)، لم يزدد إعلام النظام في أزمته إلا ضحالة، فبعد أن كان الحذاء العسكري تمثيلاً مجازياً يستخدم رمزياً في معرض نقد الأنظمة الشمولية وهجائها، بات التمجيد الفج والمباشر للحذاء العسكري وتوثينه غرضاً يتردد في تصريحات أبواق النظام، وطقساً شبه رسمي لحملات إعلامية واسعة وأعمال فنية رعتها وموّلتها حلقات قريبة من مركز القرار.
فاستجلاء النزعة التخريبية لنظام لا تقل الغاية لديه سوءاً عن الوسيلة، لا يحتاج إلى كثير من التنقيب، وإن كان هناك من فهم مقولة بشار الأسد “لا يقتل شعبه إلا زعيم مجنون” على أنه لاعتبارات طائفية لا يعتبر هذا الشعب شعبه، فإن هذا الفهم لا يتناقض مع التأويل النرجسي الأعمق، لطالما كان العظماء خوارج لا ينضوون في قطيع أو شعب، والجنون لا يعيب العباقرة!.
حدث ذات مرة في سوريا
إن كان لوعي الشعوب الجمعي لذاتها بالعموم قرابة نرجسية، بمعنى أن الأفراد يلجأون إلى تكريس صلتهم بالكلانية التي تجمعهم تحت مسمى شعب انطلاقاً من دوافع نرجسية تتداخل فيها الهوية الفردية بالجمعية، فإن الثورات العربية كثفت هذه الأزمة ورفعتها إلى مستوى القمة، دافعة بها إلى الزعامات المصابة أصلاً باضطرابات نرجسية فردية عميقة يبدو أنها شرط لازم للوصول إلى قمة أنظمة حكم استبدادية فاسدة على شاكلة ما عرفته بلادنا.
طالب إعلام الأنظمة العربية باستعادة صورته المعهودة عند جماهيره، بأداء الأنا المزيفة (false self) التي تستعيض بترديد ما ينتظر منها عن غياب الذات الفعلية، بالمستدمجات (Introjects) التي بثها في نفوس مواطنيه: بصوت حسني مبارك الصغير، حافظ الأسد الصغير، وحتى جمال عبد الناصر بل أنطون سعادة الصغيرين، بكل ما جرى ازدراعه بأساليب واعية وأخرى غير واعية، عبر التهديد والترغيب، كي لا تعكس مرآةٌ شيئاً إلا صورة الزعيم الأم.
عندما اتضح أن الآليات القديمة لم تعد صالحة، سلك الجيش المصري درباً ملتفاً، واستطاع بأكبر قدر من الدهاء والاعتماد على قوة الخصم (الشعب هنا) تحقيق أهداف المؤسسة، عبر استخدام مرشّد نسبياً للعنف، والتضحية برأس النظام، وإتاحة فرصة للديمقراطية، حُمّل جزء لا يستهان به من مسؤولية إهدارها للإخوان المسلمين ومن انتخبوهم، ثم عبر تعويم عبد الفتاح السيسي بوصفه شخصية توحي بمطلق الاستيعاب والتفهم من دون أن تحقق في الواقع أي شيء منهما!.
في المنقلب الآخر، لجأ النظام السوري إلى التنكيل، مستهدفاً أجساد المواطنين ووعيهم، عبر إنهاك من ينجو من المقتلة بأعراض الصدمة التي تنال قبل كل شيء من القدرة على الشعور، وتدفع بالأفراد إلى النكوص إلى مستوى الوعي الطفلي النرجسي، والعودة إلى اللغات البدائية، والاستخدام غير اللغوي للغة، من حيث هو تعبير مبهم عن الألم الهائل والمتراكم والسخط على الذات والعالم. فهل نحن أمام مذلة نرجسية؟، لا يخلو الأمر من ذلك. لكننا أدنى لأن نكون بمواجهة فشل إرهاصات لتجاوز حالة المذلة النرجسية المزمنة عبر إحياء الذات الحقيقية والوعي الذاتي الفعلي.
وما يغلب اليوم على الجموع العربية التي شهدت انتقام الزعامات المهانة، هو الصدمة وأعراضها: من قلق وخوف، استرجاع قهري للذكريات الراضّة، كوابيس ليلية، تثلّم وكلل الشعور، انفصال انشقاقي عن الواقع، تجنب الانفتاح على التجربة الشعورية، ارتياب، واستغراق في كل ما من شأنه أن يخدّر الحواس والوعي، ويمنع عود إغراق المشاعر بفيضانات الألم التي اختبرها سكان المنطقة والمنتمون إليها في السنوات المنصرمة، في المختبر السوري الذي قصد منه إعادة تربية المنطقة والعالم.
درج
——————————–
=================
عن تأثّرنا بالتحوّلات الدولية/ مروان قبلان
رغم تأثّر النظم الإقليمية عموما بما يجري في المستوى الأعلى من النظام الدولي، إلا أن النظام الإقليمي الشرق أوسطي، وفي قلبه المنطقة العربية، يعدّ أشد عرضة من غيرِه للمؤثرات الخارجية، وأكثر حساسيةً للتحولات الدولية، وذلك نتيجة عوامل ومسبّبات جيوسياسية وتاريخية، برزت خصوصا بعد نهاية الحرب العالمية الأولى التي كانت لنتائجها اليد الطولى في تشكيل إقليم الشرق الأوسط الحديث. في مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية، انقسمت المنطقة وفق خطوط الحرب الباردة، لكن كثيرين انتقلوا مع غروب شمس الاتحاد السوفييتي للوقوف تحت المظلة الأميركية في عصر القطب الواحد. كان مصير الممانعين العزلة والإنهاك وحتى الغزو، كما حصل مع العراق.
عندما انطلق الربيع العربي، كانت واشنطن قد بدأت تدير ظهرها للمنطقة، بعدما منيت فيها بفشل ذريع (نشر الديمقراطية انطلاقا من العراق)، وازدادت غربتها عنها بفعل ثورة النفط والغاز التي حوّلت الولايات المتحدة إلى قوة طاقية كبرى، وأخذت تركّز بدلا من ذلك على شرق آسيا ومنطقة الباسيفيك، ما سمح للقوى الإقليمية بهامش حركة كبير، فاحتدم التنافس بينها على النفوذ والسيطرة، وكان ذلك سببا في تحول عدد من دول الثورات العربية إلى مسرح لصراع مرير (سورية واليمن وليبيا). عندما اضطرّت واشنطن للعودة الى المنطقة بسبب صعود تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) وإعلانه “دولة الخلافة”، انكفأت دول الإقليم (العربية خصوصا)، وتغير تركيزها بفعل الضغط الأميركي نحو مواجهة “داعش”.
مع انتهاء الحرب على الإرهاب (داعش)، عادت واشنطن إلى التركيز على شرق آسيا بعدما هالها صعود الصين التي استغلّت انشغال واشنطن في صراعات العالم الإسلامي لتعظيم مصادر قوتها. الانكفاء الأميركي عن المنطقة، وتردّد واشنطن في الدفاع عن حلفائها، فتحا الباب مجدّدا على تغيرات عميقة في بنية النظام الإقليمي. لكن الإنهاك في هذه المرحلة كان قد أصاب الجميع بسبب حروب العقد السابق، وهي نتيجةٌ يرى بعضهم أن أميركا ربما ساهمت في بلوغها من خلال ترك الجميع يتقاتلون إلى حد الإنهاك.
ومع تبنّي الرئيس بايدن مقاربة سلفه في تجاهل صراعات المنطقة، والتركيز بدلا من ذلك على التنافس الاستراتيجي مع روسيا والصين، أخذت استقطابات المنطقة القديمة تتلاشى، لتحلّ محلّها مقاربات أكثر واقعية، أثمرت تغيرات كبرى، كان أهمها التفاهم السعودي – الإيراني والتفاهم التركي – المصري. وبالتوازي مع انحسار النفوذ الأميركي، وتحرّر القوى الإقليمية من ضغوط الأجندة الأميركية، بدأت حظوظ ما سمّيت “بالاتفاقات الإبراهيمية” تتراجع، وهي التي تحوّلت، في عهدي ترامب وبايدن، إلى ركيزة أساسية للسياسة الأميركية في الشرق الأوسط، سمحت بحصول تطبيع بين إسرائيل وعدة دول عربية (الإمارات، البحرين، المغرب، السودان)، بهدف عزل إيران، ومضايقة تركيا، عبر توطيد أسس تحالف شرق أوسطي جديد (ناتو إقليمي).
ورغم عدم اتّضاح الأسس التي قام عليها التقارب السعودي – الإيراني، والتزاماته، فإن المرجّح، بحسب المعطيات، حصول انفراجة في اليمن، تُنهي التورّطيْن السعودي والإيراني في الصراع، من دون أن تؤدّي، بالضرورة، إلى حله، نظرا إلى تعقيد الوضع الداخلي اليمني. وقد ينطبق هذا في سورية أيضا، وإن كانت الأمور فيها أعقد، نظرا إلى تعدّد الأطراف الخارجية المنخرطة في الصراع. أما المصالحة المصرية التركية فيتوقع لها أن تنعكس إيجابا في ليبيا، حيث دخل الطرفان في حرب وكالة مستمرة منذ عام 2014، حيث أيّدت مصر قوى شرق ليبيا، وفي مقدمتها اللواء المتقاعد خليفة حفتر ومجلس نواب طبرق، فيما أيدت تركيا قوى الغرب والحكومات التي تتّخذ من طرابلس مقرّا لها. يتوقع أن تحصل أيضا عملية إعادة اصطفاف في التنافس على الطاقة في شرق المتوسّط، حيث دخلت مصر في تحالفٍ هدفه عزل تركيا، وضم إليها قبرص واليونان.
شكّل صعود الصين في النظام الدولي عاملا مهما آخر في تغير السياسات الخارجية لدول الإقليم، فالدول الصغيرة والمتوسطة ترتاح أكثر في نظام ثنائي أو حتى متعدّد الأقطاب، حيث يمكنها المناورة بين القوى الدولية واستغلال المنافسة بينها لمصلحتها، وهو ما تفعله دول عديدة حاليا في المنطقة، وفي مقدمتها السعودية والإمارات ومصر، حيث تعمد إلى التقارب مع الصين وروسيا بهدف الحصول على شروط تحالف أفضل مع الولايات المتحدة، لكن بعضها قد يمضي إلى أبعد من ذلك، مع تعاظم أثر التغييرات في النظام الدولي.
العربي الجديد
———————–
هل انتصرت الثورات العربية المضادّة؟/ علي أنوزلا
بعد 12 سنة على اندلاع ثورات “الربيع العربي”، أصبحت منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا أكبر منطقة في العالم تشهد صراعاتٍ مستمرة على السلطة، وتضم أكبر عدد من الدول الفاشلة أو تلك المهدّدة بأن تكون فاشلة. وإذا كانت شرارة “الربيع العربي” قد اندلعت بعد إضرام محمد البوعزيزي النار في جسده في تونس، فإن إضرام النار في الذات، في تعبير قاسٍ ومأساوي للاحتجاج عند من بلغ لديهم اليأس درجةً ما تحت الصفر، لم يعد يحرّك ساكناً، كما حصل أخيراً في المغرب وتونس، عندما أقدم فنانان على إضرام النار في ذواتَيهما حتى الموت، من دون أن يكون لفعلهما الاحتجاجي صدىً يذكر. فما كان قبل 12 سنة فعلاً بطولياً للتعبير عن الغضب، ويحرّك الشارع العربي، تحول إلى مجرّد حالة يأس تبعث الشفقة والأسى على أصحابها، فما الذي حدث؟
ما كان يوصف بأنه نقطة تحول تاريخي وكبير في تاريخ المنطقة، بات ينظر إليه اليوم على أنه أكبر نكسة شهدتها دوله، قلبت حياة الناس فيها رأساً على عقب، فكل الشعارات والآمال التي حملتها رياح “الربيع العربي” معها تبخرت، بل واستحالت حروباً وصراعات وانقلابات وتقتيلاً واعتقالات. أما الأوضاع الاقتصادية والظروف الاجتماعية للناس، فأصبحت أسوأ مما كانت عليه، فيما تزداد مديونيات دولٍ كثيرة ارتفاعاً، وبات بعضها عاجزاً عن سداد ديونه أو غير قادر على الحصول على ديون جديدة إذا لم تستجب للشروط المذلّة للمُقرضين الدوليين. وفي المقابل، تسود حالة من عدم الاستقرار في أكثر من دولة، وتهيمن أنظمة استبدادية وقمعية على مقاليد الحكم في أكثر من عاصمة، ويعمّ عدم اليقين عند الكثير من شعوب المنطقة التي يعاني شبابها من البطالة وانسداد الآفاق الاقتصادية أمامها.
كيف تحوّل ما كان يعتبر بمثابة بارقة أمل لنهوض شعوب المنطقة وفرصة لاستعادتها زمام تقرير مصيرها بيدها إلى سبب لإطالة معاناتها مع الفقر والقمع؟ ما يحدُث اليوم نتيجة لعقد ونيّف من الثورة المضادّة التي خطّطت لها وموّلتها أنظمة خليجية بتواطؤ مع فلول الأنظمة التي طردتها شعوبها، ومع قوى استبدادية وتسلطية داخل أكثر من دولة عربية. بدأت هذه الثورة المضادّة بعسكرة الثورات الشعبية في سورية وليبيا واليمن، حتى حوّلت بلدانها إلى مسارح لحروب أهلية وإقليمية وإثنية مدمّرة حرقت الأخضر واليابس، هدمت العمران وقتلت وشرّدت وهجّرت الملايين من أوطانهم. وكان أول انتصارات الثورات المضادة وأكبرها مجسّداً في انقلاب العسكر على أول نظام مدني تشهده مصر. وكانت نتيجة السنوات العشر الماضية من حكم العسكر كوارث على جميع المستويات، حوّلت البلاد إلى أكبر معتقل لسجناء الرأي في العالم، وزجّت الاقتصاد في أزمات غير مسبوقة انعكست سلباً على مستوى معيشة السكان الذين باتت معاناتهم مزدوجة مع الفقر والقمع. أما تونس التي كانت نقطة انطلاق الربيع العربي، وآخر بلدٍ صمد بوجه الثورات المضادّة، فتشهد اليوم أكبر انتكاسة تحت حكم رئيس رُفع عنه القلم، يقود البلاد نحو الهاوية.
وما بين انقلاب مصر وانتكاسة تونس، عاشت دول عربية كثيرة مآسي وحروباً وانقسامات واضطرابات وقمع وأزمات اقتصادية جعلت الناس تحنّ إلى حكم الأنظمة القديمة، بعد أن تقوّت شوكة قمع الأنظمة التي نجت من رياح الثورات الشعبية، وتمكنت أنظمة ثارت عليها شعوبها من العودة قوية إلى مقاليد الحكم رغم، أو بفضل، كل الجرائم التي ارتكبتها ضد شعوبها. وما نشهده اليوم من دعوات للتطبيع مع نظام إجرامي مثل نظام بشار الأسد الذي قتل وشرد وهجّر الملايين من أبناء الشعب السوري، عنوان لمرحلة جديدة من انتصار الثورات المضادة وإعلان لعودة النظام العربي القديم، لكنه سيكون أكثر صلابة وأشدّ قمعاً!
وفي المقابل، ما زال ملايين الناس الذين نزلوا إلى شوارع العواصم العربية قبل 12 سنة للمطالبة بالحرية والكرامة والعدالة على حالهم، بل وزادت أحوالهم وأحوال بلدانهم سوءاً. كذلك، إن الأنظمة السيئة والفاسدة التي خرج المتظاهرون يطالبون برحيلها ما زالت في مناصبها، أو عادت إليها أكثر قوّة وتسلطاً. وما يفسّر عدم خروج الناس، للتعبير عن غضبهم وسخطهم على أوضاعهم وتطبيعهم مع الفساد والقمع، الخوف واليأس وفقدان الثقة بكل شيء، حتى بالحلم، وإلا فإن أغلب الناس في هذه الدول تدرك أن شرعية أنظمتها وحكّامها تحطّمت منذ فترة طويلة، ويعون أن الاستياء من الظلم والفقر والقمع ما زال قائماً، وسيستمر كلما تجبّر التسلط وازداد الوضع الاقتصادي سوءاً، وسيأتي الوقت الذي سينفد فيه الصبر ويخرج المستاؤون والغاضبون مرّة أخرى، يرفعون المطالب نفسها، وقد تعلموا الكثير من دروس ثوراتهم المُجهضة، وأيضاً من الثورات المضادّة التي سرقت حلمهم، وفي هذا عبرة للمنتشين بانتصار الثورات المضادّة، لأن دوام الحال من المحال!
ما يشهده العالم من أزمات وحروب وصراعات تزعزع السلم والاستقرار العالميين في أكثر من منطقة، وتخلف آثاراً كارثية على الاقتصاد العالمي، ومن آثار مدمّرة لتغير المناخ وما يصاحبه من مخاطر الجفاف والفيضانات، ومن انتشار لأوبئة خطيرة تهدّد مستقبل البشرية على الأرض، كلها علامات تجعل أكثر الناس تفاؤلاً على يقين بأن مشكلات العالم ستزداد تعقيداً وتدفعهم إلى التوجس من أن المقبل من السنوات سيكون أسوأ، ولن يستثنى العالم العربي من هذا القدر المأساوي.
العربي الجديد
——————————-
إسرائيل: دولاب الربيع العربي توقف ونحن أمام شرق أوسط جديد وخطير
تغييرات تكتيكية وتحالفات جديدة: تطرأ على العلاقات بين الدول في الشرق الأوسط في الأشهر الأخيرة انعطافة تخلق مرحلة جديدة في هامش القوات في المنطقة. لا يدور الحديث بعد عن “شرق أوسط جديد” لكن إسرائيل تتابع من كثب التطورات السياسية في المنطقة وخريطة المصالح كثيرة الأذرع. للصين وإيران دور متزايد في الخريطة الحالية، مقابل الولايات المتحدة التي توجه الوسائل والمقدرات باتجاه الحرب الروسية الأوكرانية، مخلفة فراغاً يحتله آخرون.
في 10 آذار وقع اتفاق بين إيران والسعودية بعد قطيعة في العلاقات منذ العام 2016. الوسيط هي الصين، التي لها مصالح اقتصادية في المنطقة، انطلاقاً من رغبة سعودية في خطوات إيرانية لوقف الحرب الأهلية في اليمن.
في الأسبوع الماضي، استقبلت المملكة وزير الخارجية السوري بعد مقاطعة طويلة على الدولة، منذ بدأت الحرب الأهلية. وتأتي الخطوة كترسيم لعودة سوريا إلى حضن الدول العربية. وإلى جانب ذلك، فإن تونس وسوريا تعيدان السفيرين إحداهما لدى الأخرى.
في جناح آخر من الخليج الفارسي، عينت إيران سفيراً لها في الإمارات، بعد سنوات من التوتر. وبالتوازي، أعلنت قطر والبحرين عن استئناف العلاقات الدبلوماسية بينهم.
يصبح هذا الأسبوع قريباً أكثر منا. فوفقاً للتقارير، بعد قطيعة أكثر من عقد ونصف في العلاقات مع حماس، رحبت السعودية برئيس المكتب السياسي لمنظمة الإرهاب إسماعيل هنية وإلى جانبه خالد مشعل.
أداة الصين
“في نظرة تاريخية واسعة، تعد هذه مرحلة جديدة توقف فيها الدولاب منذ الربيع العربي”، يقول لـ “إسرائيل اليوم” اساف اوريون، باحث كبير في معهد بحوث الأمن القومي.
“منذ 2010 دخلت سوريا في حرب أهلية، وتموضعت إيران في كثير من الفضاءات التي نشأت في المنطقة، وتوجهت ضدها الدول الملكية حولها. أما الآن فنرى نوعاً من إعادة التنظيم، ومصمما الأساس هو تركيز الولايات المتحدة على أجزاء أخرى من العالم، ولذا تستثمر أقل في الشرق الأوسط. إضافة إلى ذلك، فإن استعداد الولايات المتحدة لاستخدام القوة قل منذ الهجوم الإيراني في السعودية في 2019”.
ووفق اوريون، فإن المفهوم في الشرق الأوسط القاضي بأن التصميم الأمريكي يقل، يجسد للدول التي تحتاج للحرص على نفسها بطريقتين: الأولى، أن تخفض الخطر من إيران نفسها من خلال سلسلة العلاقات والتهدئة، ومثال ذلك استئناف العلاقات الإيرانية – السعودية. والأخرى، تنويع المساند من القوى العظمى، مثلما تعمل بضع قوى في المنطقة.
“الصين لا تعرض ضمانات أمنية كالولايات المتحدة، فهي تعمل بأداتها المفضلة – الأداة الاقتصادية – ومن خلالها تحقق أهدافاً سياسية”، يقول اوريون.
ينبغي الإيضاح بأن الولايات المتحدة لا تهجر المنطقة. الحقيقة هي أن السعودية تقيم علاقات مع الصين، وفي الوقت نفسه تطلب ضمانات أمنية من الولايات المتحدة، وتشتري طائرات من شركة “بوينغ” الأمريكية بعشرات المليارات. “نرى في المنطقة نوعاً من تنوع المساند، وتكاثر العلاقات، والموردين والحوارات، لكن ليس تحيزًا لطرف ما”، يقول اوريون.
تتابع وزارة الخارجية التطورات في المنطقة وتصف الوضع بشكل مشابه: “الكل يتحدث مع الكل. إذا كان واضحاً إلى أي طرف ينتمي كل واحد قبل خمس سنوات، فثمة ميل لتعدد الحوار في السنوات الأخيرة “.
إيران تتموضع
اتخذت كل من إيران والصين، بل وإسرائيل أيضاً، خطوات مهمة للغاية في تغيير الخريطة منذ التوقيع على اتفاقات إبراهيم. إسرائيل هي الأخرى “تتحدث مع الكل”، مثلاً – رسمياً مع الإمارات، وبشكل غير رسمي مع دول أخرى في محاولة لتوسيع الاتفاقات. كما أن تحسين العلاقات بين إسرائيل وتركيا في الأشهر الأخيرة، بعد قطيعة طويلة، تعيد تصميم خريطة القوى.
إن تسلل الصين إلى المنطقة بقوة اقتصادية، آخذة في جمع القوة، يلتقي إسرائيل مرتين. لأن الولايات المتحدة تركز جهودا أقل، وبالتالي ضعفت مكانة إسرائيل، وكذا بسبب حقيقة أن الولايات المتحدة تعرّف إسرائيل كالعدو رقم واحد لها.
الجبهة الأكثر معنى التي تشخصها إسرائيل هي إيران، التي تضعف محاولات عزلها. الاتفاق النووي لم يعد، لكن لا توجد عقوبات ذات مغزى في الموضوع، وهي تعمل لتصبح جهة في المنطقة تسعى الدول إلى قربها كي تقلل مخاطر من ناحيتها.
“لإيران الكثير من الثقة بالنفس، وتشعر بأن العزلة انتهت. الدولة نشطة جداً في العراق وسوريا وحيال تركيا. قد تنجح في تهدئة الحرب في اليمن”، يقول اوريون، ويضيف: “لا يوجد حب بين إيران والسعودية. ثمة منفعة في عودة العلاقات بين الدولتين في هذه المرحلة”.
كما أسلفنا، على المستوى الأمني تلقت إسرائيل عرضاً لمحور المقاومة، بما فيه إيران، والعراق، واليمن، وسوريا ولبنان، والذي يرتبط مع الساحة الفلسطينية، ابتداء من التخطيط والتنفيذ للعملية في مجدو، وانتهاء بعشرات الصواريخ إلى أراضي إسرائيل من لبنان.
وعلى حد قول اوريون، فحقيقة أن نصر الله يسمح لنفسه “بأكثر”، تبرز تصدع صورة قوة إسرائيل، وهذا يؤثر على الجانب الأمني وعلى رغبة الدول في المنطقة في توسيع العلاقات معنا.
كما أن تشخيص إسرائيل كضعيفة أكثر في هذه الفترة من ناحية داخلية عقب الاحتجاجات في البلاد، وضعف الحكومة كما يبدو تجاه الخارج، كانا المحفز لمحاولات متزايدة للعمل ضدها في هذا الوقت.
ويدعي اوريون: “مقياس قيمة إسرائيل في اتفاقات إبراهيم مبني من الأمن الذي تعرف كيف تعطيه، والذي يتضمن استعداداً لاستخدام القوة بما فيها القوة السياسية المتمثلة في العلاقات الاستراتيجية مع الولايات المتحدة.
“هذان الأمران يضعفان في الفترة الأخيرة. رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو لا يدعى إلى واشنطن، وزيارته إلى الإمارات ألغيت في أعقاب حجيج بن غفير إلى الحرم. وهذا لا يغلق الباب وليس نهاية المطاف، لكنها صورة الوضع في هذه اللحظة.
الجانب الإسرائيلي
مصدر سياسي يصوغ الأمور بشكل مختلف ويدعي بأن التطورات السياسية – الأمنية هي “نتاج إحباط إيراني كبير جداً بعد أن أقاموا فروعاً في المنطقة ويدفعون ميزانية كبيرة لحماس، وهذا لا يزال يردع إسرائيل من مهاجمتها في كل ساحة ممكنة”. وعلى حد قول هذا المصدر، فإن “إسرائيل تحبط معظم الأعمال التي تستهدف الاستنزاف والتخريب فيها، وهذا يصبح مؤشراً كلاسيكياً للضعف العربي المتراكم”. إضافة إلى ذلك، فإن إسرائيل لا تزج يدها إلى الصحن، حتى وإن قل الإسناد الأمريكي. إسرائيل تقيم ممثليات في دول حول إيران، مثل أذربيجان، والبحرين والإمارات وقريباً ستفتح سفارة رسمية في تركمانستان.
مثل المصالح الاقتصادية مع الصين، تعمل إسرائيل بشكل مشابه على تعميق العلاقات مع الدول التي أقامت معها علاقات في الماضي. مشاريع اقتصادية تتحقق مع الولايات المتحدة والهند والإمارات، وثمة اجتماع سنوي في المغرب لمنتدى النقب في أيار، استمراراً للقمة التي عقدت في السنة الماضي في “سديه بوكر” [النقب].
يؤدي النشاط الإسرائيلي بالإيرانيين لأن يسددوا بالعملة ذاتها ويحاولوا تجنيد حلفاء في المنطقة، هكذا يقول قادة إسرائيليون، وهذا هو سبب اتصالاتهم مع السعودية والإمارات والبحرين.
وماذا بخصوص إسرائيل والسعودية؟ لا مؤشرات على اختراق إسرائيلي في المنطقة قريباً، على خلفية شخصية بعض الوزراء الكبار في إسرائيل. ومع ذلك، لا تستبعد وزارة الخارجية هذه الإمكانية.
شيريت افيتان كوهن
إسرائيل اليوم 19/4/2023
القدس العربي
—————————-
عصر الردّة العربية عن التحوّلات الديمقراطية/ محمود علوش
أعاد صراع السلطة بين الجنرالين السودانيين، عبد الفتاح البرهان ومحمد حمدان دقلو، تسليط الضوء على مخاطر انزلاق دول عربية، مرّة أخرى، نحو حكم الاستبداديين الذين لا يرحمون. عندما أطاحت ثورة شعبية الرئيس السابق عمر البشير في عام 2019، انقلب البرهان ودقلو عليه، ووعدا بدعم عملية التحوّل نحو الحكم المدني، لكن كل ما فعلاه منذ تلك الفترة هو إفشال التحوّل الديمقراطي، وتعزيز دورهما المحوري في عمليةٍ يُفترض أن تؤدّي إلى انتقال السلطة من الجيش إلى المدنيين. السودان نموذج من نماذج أخرى تُشير إلى الردّة عن مشاريع التحوّل الديمقراطي في دول عربية طاولتها رياح التغيير منذ عام 2011. في تونس، التي كانت تُوصف بأنها مثال على التحوّل الديمقراطي السلمي بعد إطاحة نظام الرئيس زين العابدين بن علي، يواصل الرئيس قيس سعيّد خنق معارضيه وتعزيز حكم الرجل الواحد. اعتقلت السلطات، أخيرا، رئيس البرلمان المُنحل راشد الغنوشي الذي يتزعم حركة النهضة الإسلامية، وأغلقت مقارّ جبهة الخلاص المعارضة. لا أحد يستطيع التكهّن بالحدود التي يُمكن أن يصل إليها سعيّد في إرجاع تونس إلى حقبة ما قبل 2011، لكنّه مُصمّم على فعل ذلك.
في حين أن صراع البرهان وحميدتي يتمحور في الظاهر على السلطة، إلآّ أنّه إحدى نتائج مكائد الجنرالات لإفشال مشروع تسليم السلطة إلى حكومة مدنية. في تونس، يختلف الأمر بعض الشيء. ليست لدى سعيّد خلفية عسكرية، وقد جاء إلى السلطة في انتخاباتٍ نزيهة، لكنّه بعد فترة وجيزة من ذلك، بدأ يُشكّك علناً في النظام السياسي الذي أنتجته الثورة ويُطالب بالتحوّل إلى نظام رئاسي مُطلق بذريعة مكافحة الفساد. لدى كثيرين من معارضي سعيّد هواجس مشروعة من عودة البلاد إلى حكم الرجل الواحد. مع ذلك، الانتكاسة التي مُني بها مشروعا التحوّل الديمقراطي في تونس والسودان جزء من تحوّل عربي أوسع، يُعيد الاعتبار لحكم الاستبداديين.
في سورية، التي لم تنجح الثورة في إيجاد آفاق للتحوّل الديمقراطي فيها على غرار تونس والسودان، بدأ الديكتاتور بشّار الأسد يخرُج من عزلته العربية والإقليمية. لا تزال شكوكٌ كثيرة تدور حول المنافع التي يُمكن أن تحصل عليها الدول العربية وتركيا من إعادة الاعتراف بالأسد رئيسا لسورية، لكنّ المؤكّد أن الأسد لم يعد منبوذاً في محيطه الإقليمي بأي حال، ويبدو بالنسبة لكثيرين من القادة الإقليميين الذين نبذوه في سنوات الحرب أنّه أثبت قدرته على الاحتفاظ بالسلطة. مثل هذا الامتياز علامة في المنطقة على ديكتاتور استطاع توظيف كل شيءٍ من أجل البقاء في السلطة والنجاة من الربيع العربي. مع أن الأسد قد يتمكّن، في نهاية المطاف، من جعل دول المنطقة تنظر إليه على أنه الوحيد القادر على إنهاء هذه الحرب، ومعالجة تبعاتها السلبية على المنطقة، إلآّ أن مثل هذه النظرة منفصلةٌ عن الواقع تماماً. لن تكون سورية في ظل حكم الأسد قادرةً على ترميم الشرخ المجتمعي والطائفي الذي أحدثته الحرب، وستتحول إلى عبء على دول المنطقة لا يُمكن تحمّله إلى أمد طويل.
قد يبدو التطور الأكثر إيجابية الذي طرأ على الشرق الأوسط في الآونة الأخيرة اتفاق إيران والسعودية على إعادة تطبيع العلاقات بينهما، لأن مثل هذا التطبيع، المفترض أنّه سيطوي صفحة عقود من الاضطراب الإقليمي الذي أخذ، في غالب الأحيان، طابعاً طائفياً ومذهبياً، سيُساعد في تهدئة حدّة الاضطرابات بين أكبر قوتين إقليميتين، فإنه سينعكس تهدئةً، وربما انفراجةً، في بعض صراعات المنطقة المزمنة. في اليمن، وهو ساحة حرب بالوكالة بين الرياض وطهران خلال السنوات الثماني الماضية، بدأت الرياض وجماعة الحوثي محادثاتٍ من أجل التوصل إلى اتفاق سلام. وفي لبنان، الذي يُعاني من شلل سياسي وانهيار اقتصادي خطير، يأمل اللبنانيون أن يُساعد التقارب الإيراني السعودي في حل أزمتهم. مع ذلك، لا ينبغي الإفراط في الرهانات الإيجابية. من المستبعد بأي حال أن يُعالج التقارب السعودي الإيراني العداء الطويل بين البلدين بشكل نهائي. ومن غير المرجّح على وجه الخصوص أن يجعل طهران تتصرّف بطريقة مختلفة في المنطقة العربية.
مع ذلك، يعزّز الوجه الآخر للتقارب السعودي الإيراني، في الواقع، المستقبل القاتم في المنطقة العربية، فالحوثيون، الذين دعمتهم إيران بعد اندلاع الحرب واستخدمتهم ورقة في صراعها الإقليمي مع السعودية، يتطلّعون الآن من أي اتفاق سلامٍ مع السعودية إلى تعزيز دورهم الجديد المؤثر في اليمن. مثل هذا المكسب سيكون انتكاسة كبيرة على وجه الخصوص لطموح اليمنيين في إعادة بناء بلدهم بعد الحرب وإنتاج نظام سياسي ديمقراطي وتقليص دور المليشيا المسلحة، التي استغلت الثورة الشعبية على نظام الرئيس الراحل علي عبد الله صالح من أجل مشروعها الديني. وفي لبنان أيضاً، تبدو النتيجة الوحيدة التي يُمكن توقّعها من التحول الإيراني السعودي هي إعادة الرعاية الإقليمية والدولية لنظام سياسي فاسد أوصل البلاد إلى الخراب. في سورية، لا داعي لسرد الكثير من النتائج المأساوية لإعادة تأهيل نظام الأسد.
النتيجة الواضحة التي تفرزها التحوّلات في كل من السودان وتونس وسورية والحالة الإقليمية الجديدة التي يخلقها التقارب الإيراني السعودي أن حقبة جديدة في المنطقة العربية تظهر وتتمحور حول إعادة إنتاج كل العوامل التي أدّت إلى انهيار المنطقة في عام 2011. كنتيجة لإعادة تأهيل الأسد وتعزيز سعيّد قبضته على تونس وتأكيد الجنرالات قبضتهم على السودان، قد لا نشهد اضطراباً عربياً واسعاً على غرار 2011 في المستقبل المنظور أو في غضون عقود طويلة، لكنّ المؤكّد أن هذا الوضع لن يُفرز استقراراً طويل الأمد في الدول العربية التي طاولتها عاصفة 2011. لم تكن هذه التحوّلات في الواقع نتيجة للانتكاسة التي مُني بها الربيع العربي فحسب، بل نتيجة أيضاً لقوة الدولة العميقة. لأن نتائج الربيع العربي غالباً ما يُنظر إليها على أنها فكّكت الدولة العربية وأشعلت الصراعات المجتمعية والطائفية، وأفسحت المجال أمام الفكر الديني الراديكالي للبروز، فإن إعادة تمكين الدولة العميقة تبدو خياراً لإعادة الاستقرار إلى الدول التي تشهد اضطراباتٍ وصراعاتٍ على السلطة. يُمكن المجادلة في بعض جوانب هذه النظرة، لكن الاستبداديين ساهموا على نحو كبير في تحقيقها، فضلاً عن أن الحالة السياسية التي أفرزها الربيع العربي لم تكن على كفاءة كما ينبغي لإظهار قدرتها على تقديم بديل للاستبداد. أهمل المتظاهرون الشباب، الذين انخرطوا في ثورات الربيع العربي، التفاصيل الجوهرية للديمقراطية، وكانت لديهم توقّعات غير واقعيةٍ عن مكاسب اقتصادية فورية من الديمقراطية. عندما لم تتحقّق الوظائف والفرص التي أرادوها على الفور، فقدوا الثقة في النظام السياسي الجديد.
تُعيد بعض الديكتاتوريات، كما في حالة سورية، إنتاج نفسها مستفيدة من رغبة المنطقة في طي صفحة الربيع العربي وإعادة التطبيع مع حالة ما قبل 2011، فيما يجنح حكم قيس سعيّد في تونس نحو مزيد من قبضة الرجل الواحد مع فارق أن بن علي لم يعد رئيساً لتونس. كما أن صراع البرهان ودقلو يُعيد السودان إلى ما كان عليه قبل عام 2019 مع فارق أن البشير لم يعد في السلطة.
العربي الجديد
——————————
آثار «الربيع العربي» بعد قيس سعيد/ وسام سعادة
ما بين انهماكات «التطبيع العربي» مع نظام آل الأسد، واشتباكات داحس والغبراء بين عبد الفتاح برهان والجنجويد في السودان، واعتقال نظام أستاذ القانون الدستوري المنتخب للإجهاز على المؤسسات قيس سعيد لرئيس البرلمان المنتخب هو الآخر راشد الغنوشي، يكون الابتعاد عن مرحلة التفاؤل بآفاق الزرع الديمقراطي في البلدان العربية قد بلغ قدراً زمنياً وتجريبياً كافياً للابتعاد عنه بالكلّية.
يفرض نفسه في المقابل التشاؤم. فقد بات هو الشرط الأوّل لوزن الأشياء واستشراف المرحلة. المفارقة أنه يقود الى تفاؤل معرفي : إذ ثمّة مجال للرؤية بشكل أفضل بعد تلاشي المبالغات وانقشاع ما بثّته الحماسة للأحداث الجماهيرية – الانتفاضية من أوهام.
فلا أحد بعد اليوم بات يمكنه الحديث عن «استثناء تونسي» يحافظ فيه هذا البلد الذي افتتح ثورات 2011 على حصته من الربيع العربي رغم انكسار الربيع في البلدان الأخرى، ويمضي قدماً في استكمال عقده الاجتماعي وبلورة مؤسساته الدستورية وتطوير انتفاعه من التداول على السلطة داخلها والفصل بين سلطاتها. قديماً كان السجال ضمن الحركة الاشتراكية العالمية إن كان ثمة مجال لقيام الاشتراكية في بلد واحد دوناً عن سائر البلدان. على غرار ذلك يمكن القول اليوم أنّ التجربة تعلّمنا أن لا قيام للديمقراطية في بلد عربيّ واحد.
لم يعد ميسّراً طمأنة الذات بأن للطغاة جولة وللشعوب جولة، وإن هي إلا عملية تداول على الزمن بين الطغاة وبين الشعوب، وليس هناك من ثمّ ما يمكن فعله سوى تطليق جولة والتأهب لأخرى.
فمثل هذا النَفَس الملحمي سارع للاستنجاد بانتفاضات السودان والجزائر والعراق ولبنان 2018-2019 على أنّها الراوند الثاني لربيع الشعوب. الفكرة التحررية – على ما حسبه أهل الاندفاع – حين تُدهَس في بلد تعود فتنبت في بلد عربي آخر، والحياة كرّ وفرّ.
هذا النفس الملحمي يقوم على المكابرة. فما الذي يمنع الربيع الذي أطيح به في بلدان موجة 2011 بأن لا يُطاح به في بلدان موجة 2018 إن كانت أحابيل وأدوات وشبكات حماية الطغم العسكرية والأمنية والميليشياوية والمالية هي هي، والقوى التي تسعى إلى التفلت من ربقة هذه الطغم وصولاً إلى ابتغاء تفكيكها هي قوى فجّة وهشّة، قليلة الرغبة في أن تبني وعيها السياسي على الوعي التاريخي، ولا تكاد تنتشر بين الملايين حتى تعود وتنزوي في مئات من الكوادر المصدومين بهجران الجماهير لهم، والمستمرين بالنطق باسمها على أمل أن ترجع؟!
والعطب هنا في الامتداح الذاتي لعناصر الوهن وتمجيدها على أنها نسائم حياة. كمثل اندفاع أهل «الثورات» هذه للتفاخر بأن لا حاجة فيهم إلى قادة كاريزميين وتنظيمات هرمية. بدعوى أنّهم سيقعون حينذاك في شرك التماهي مع أنظمة حكم الفرد الواحد الأبدي والحزب الحديديّ.
وقد غاب عنهم هنا أنّ القائد الكاريزمي – الجماهيري لم يعد منذ وقت طويل سمة لقادة الأنظمة. هيهات. الحكم نفسه بات في غنى عن أي شرعية كاريزمية، وعن أي شرعية أيديولوجية. كل ما يلزمه قاعدة اجتماعية «من تحت» مقتنعة أنها ستفتقد للقليل الذي تقتات عليه إن سقط هذا النظام، ونخب «من فوق» خائفة على الكثير الذي لها، ومقتنعة تارة بأنها «عقل» هذا النظام وتارة بأنها «قلبه» أو «ضميره». وما بين الفوق والتحت يتكفل النظام بتأمين الحلقة الوسيطة، بمعية أجهزته الاخضاعية للمجتمع.
أساس الفكرة الشعبوية، أي الزعيم الذي ينجح في تقديم نفسه على أنه «تجسيد» للشعب غير قائم هنا. هل يمكن القول إن قيس سعيد يقدّم مثالاً مضاداً على هذا الصعيد؟ لغته العربية القشيبة لا تكفي وحدها لتقليده صفة الزعيم الكاريزمي. فهذه الشخصية تجد ماهيتها في برودتها. فيما الزعيم الكاريزمي من دم ولحم وعصب… وكهرباء. لكن ظاهرته هي بالفعل تجسيد لحلم أراده الكثيرون عام 2011. الحلم بوصول رئيس مدني، وغير إسلامي في الوقت نفسه، وليست له علاقة عضوية بالنظم السابقة. فكان ما كان، والنتيجة انقضاض على تجربة دستورية بحجة هشاشتها، واستخدام الكثير من الرطانة ضد الفساد والمفسدين، إنما من دون أي مضمون اجتماعي – اقتصادي منحاز على نحو من الجدية والمثابرة الى جانب الطبقات الشعبية.
لا يسع القوى المضادة للأنظمة التسلطية مواجهة أخصامها الشرسين من دون قادة كاريزميين. من دون ابتعاد عن سردية «موت الأيديولوجيات». من دون أفكار تتجاوز النطاق المجتمعي الداخلي الصرف. ومن دون إدراك أن لأي نظام قاعدة اجتماعية من تحت ونخب تسنده من فوق، وأن الإسناد له يقوم على أسباب وحيثيات موضوعية فعلية ولا يختصر بأن هؤلاء «مغرّر بهم» أو «باعوا أنفسهم».
لقد أعتقد معارضون كثر للأنظمة أنهم لعبوا الدور الحاسم في خروج الناس عام 2011. لكن ما جعل الناس تخرج على الطغاة لم يكن وليد النضالات التراكمية. إلا فيما قلّ ودلّ. كان وليد الكبوة الطويلة، ونجاح الأنظمة في عزل الحالات المناوئة لها وشيطنتها في مقابل عدم تمكن معظم هذه الأنظمة من تنظيم عملية تجديد النخبة الحاكمة فيها، ونقلها الى جيل جديد.
ما كانت المشكلة مطروحة عندما كانت وفرة في الانقلابات العسكرية، أو عندما كانت الأحزاب الحاكمة «الثورية» لا تزال تحتفظ ببعض حيوية ونوستالجيا جدية مع فترة البدايات النضالية.
لكن، عندما ضمرت الحيوية في الأحزاب الحاكمة، وتقدّم العمر بالماريشالات، وندرت الانقلابات العسكرية، وبخاصة تلك التي كان يقودها ضباط شبان من صغار الرتب، لم يعد هناك قابلية لتجديد «شباب» هذه الأنظمة إلا بانفجار أزماتها في الشارع، ليظهر من ثمّ أن أزمات الشارع نفسها، فضلا عن التوازن الكارثي لسنوات بين أهل النظام وأهل الثورة عليه هنا، وبين الإسلاميين وبين أخصامهم هناك، كل هذا أعاد منح هذه الأنظمة صعقات كهربائية جديدة.
فقط في سوريا نجح النظام في توريث الابن طغيان أبيه. وهذا ما فتح في الجمهوريات الأخرى شهوة التوريث دون امتلاك الشروط نفسها. بخاصة في مصر، البلد الذي احتار فيه العسكر بين «أبوية» حسني مبارك عليهم وبين إيثاره توريث أحد ولديه الحكم. وابن العسكري «مدني». في سوريا، السمة الممليشة والحزبية كما الطائفية للنظام سمحت بعسكرة سريعة للطبيب ابن الرئيس. في البلدان العربية الأخرى، تأمن عنصر من هذا وغابت العناصر الأخرى. بما في ذلك في الحالة اليمنية، الذي كان ابن الرئيس فيها على رأس الحرس الجمهوري. وقريبة منها الحالة الليبية. في الوقت نفسه، هذا الاختلاف بين سوريا وبقية البلدان له حدوده أيضاً. فالمسألة لا تتصل بتوريث شخص واحد فحسب، بل بتجديد النخبة الحاكمة، وهذا لم يحصل في سوريا عام 2000، وانما في إثر الانسحاب من لبنان وتداعياته، ثم الثورة والحرب الأهلية وما إليهما.
لقد تمكن التسلّط العربي من خنق ليس فقط «براعم» ديمقراطية، وإنما حركات جماهيرية مليونية هادرة.
ولا يمكن التقليل هنا من أهمية الدعم الذي تلقته عملية إعادة ترميم الأنظمة التسلطية الجمهورية العربية من الخارج، من اليمين العربي الملكي. لكن على الأقل، هذا اليمين الملكيّ كان واضحاً من الأساس: إنه غير مقتنع بالديمقراطية أصلا وفصلاً، ويعاملها معاملته في السابق لشعارات الاشتراكية. كذلك لا يجدر إهمال تزامن الخيبة العربية الحالية من انتظارات الربيع، مع خفوت سحر الفكرة الديمقراطية على الصعيد العالمي، بما في ذلك سحبها من التداول الغربي عندما يتعلق الأمر بالبلدان العربية، وطمسها تحت سابع أرض في تقارير المنظمات الدولية حول المنطقة العربية، هذا بعد أن جرى التطرف في ابتذالها والترويج لها بشكل «تربوي» مفتعل، وخلعها على أي كان، وسحب صفتها من أي كان، وبعد أن تصدعت، في بلدان الغرب نفسها عقود المزاوجة القائمة بين الديمقراطية (المصدر الشعبي للحكم وتجديد من يتولاه ومراقبته، لكن كذلك الرصيد الاقتصادي – الاجتماعي لأي حياة ديمقراطية) وبين الليبرالية (حقوق الفرد المقوننة، على قاعدة أن المساواة القانونية هي وحدها الممكنة وكل مساواة أخرى مجرد لغو).
التشاؤم السياسي يمكنه أن يفتح المجال للتفاؤل معرفة ومناقشة بما كانت الحماسة والعنجهية تستبعدانه عندما كان المدّ الجماهيري خلاقاً وحيوياً. في الوقت نفسه لهذا التفاؤل المعرفي المقرون بالتشاؤم السياسي قيمة عملية، سياسية في نهاية المطاف: ذلك أنه في مقابل كل الأوهام التي تبدّدت حول ما «يستطيعه الشعب»، فإن ما تعتاش عليه أنظمة التسلّط في المنطقة العربية اليوم، هو وهم الرجعة بالزمن الى ما قبل 2011. الزمن لا يسير في خطوط مستقيمة، أبداً. لكنه، لا يرجع الى الوراء إلا في سرابه. ما لم تحله الأنظمة العربية قبل 2011 من مشكلات لا يمكنها أن تحله اليوم. ما حصل ان الانتفاضات عليها أعطتها – حين لم تتمكن من حسم الصراع – مادة لإعادة تجديد نخبها كأنظمة ولم تعطها القدرة على أن تكون معاصرة لزمان هذا الكوكب وتحدياته المعاصرة.
كاتب لبناني
القدس العربي
—————————————
————————————–
عُنف دول الربيع العربي أنتج بدائل أعنف منه/ شفان ابراهيم
يُشير العنف المنتشر بكثرة في حواضن البلاد العربية، المبتلية بكل أشكال العسف والفقر والتجهيل، لحالة الفزع والرعب والهول؛ فهو يقود المخيلة دوماً لأقصى درجات وأشكال وصور الرعب المتمثلة بالاعتقال والتعذيب والقتل على الهويّة. وهو ما يخلق فظاعة في التفكير الحداثي بغض النظر عن المعتقدات والانتماءات والهويّات. وتقاطعت نتائج الكثير من النظريات والأبحاث حول أسباب انتشار العنف وجذوره، في دور التربية والتعليم والفقر والحاجة واللأدلجة الدينية والسياسية…إلخ، لكن أعظم سببٍ للبلاء الأكبر -العنف- إنما هو عنف الدولة الذي لم يأتِ لحصار العنف الساحق لحيوات الناس، بل لتمكينها أكثر، خاصة أن من أهم وظائف أيّ دولة، أن تحمي مواطنيها من العنف، لا أن تأتي هي بالعنف. والسبب أن بنية الدولة العربية المعاصرة فاقدة لمفهوم دولة القانون، ولا داعي حينها من الحديث عن الديمقراطية والحرية والعدالة والمساواة والهويّة الجامعة، ومستويات التعليم والجامعات، فيكفي القول إن العنف هو أحد أهم الركائز البنيوية لاستمرار حيازة السلطة، والحديث هنا ليس عن تخصيص دولة عن سواها، إنما كمفهوم أكدته ثورات الربيع العربي، وما شهدته من عنفٍ ممنهج.
عنف جديد لم يختلف عن عنف السلطة
الواضح أن كل حالات الحكم الطارئة/ سلطات الأمر الواقع في دول الربيع العربي، إنما نحت منحى السلطة نفسها؛ فالدولة تدّعي أو تقدّم نفسها كقوة إصلاح وتطوير وحماية في وجه التخلف والفساد والظلم، لكن مشكلة تلك الدولة أنها تحتوي على فائض كبير من العنف والظلم وغياب العدالة والعسف السياسي. كل ذلك ساهم في تمدد “داعش” وقبله تنظيم القاعدة، والجماعات التكفيرية كما حصل في أغلب الدول العربية وتحولت لفاعل ومحرك قوي في محاولة منها لرسم معالم مستقبل الدولة، ولولا حملات التصدي الشعبي والنخبوي لتلك المحاولات، لكانت حواضن هذه البلاد اليوم غارقة في أقسى درجات العنف والخروج من التاريخ. والمعضلة أنَّ هياكل الحكم التي ظهرت للعلن في مناطق تقلصت فيها سيطرة الدولة في مختلف بلدان الربيع العربي، هي الأخرى لم تكن أكيس حالاً من الدولة نفسها، بل لم تنظر لنفسها كسلطة تقوم بواجبات الرعاية والحماية. وما جني الإتاوات عنوة إلا واحد من أشكال العنف الناعم والتسلط الهادف لفرض السطوة والسيطرة، وهي أوجه مشابهة لممارسات الدولة نفسها، وبل يُمكن القول إنها إعادة المجتمعات لحالات العصبيات والبداوة، فيما لو أخذنا بالاعتبار أن الدولة العربية المعاصرة أخذت نفساً طويلاً وعقوداً من السلطة والشرعية عبر الانتخابات، والنظم السياسية، والسلك الدبلوماسي والعلاقات الدولية والإقليمية…إلخ، لتأتي الجماعات المسلحة، سلطات الأمر الواقع، هياكل حكم عسكرية أو مدنية، بإنتاج عنف بنيوي جديد يُطيح بالمجتمعات، ويخلق ثقافة مجتمعية جديدة قائمة على تبيئة العنف. خاصة أن العنف تحول لظاهرة تبحث عن أيّ حامل يساعده في التمرد على عنف السلطة نفسها ومواجهتها، بغض النظر عن الوسيلة، بما فيها لو كانت تأويلات نصية دينية خاطئة تحولت لإطار إيديولوجي، المهم بالنسبة لتلك الشعوب هو الخلاص من الظلم، ولو جاءت بظلم جديد.
هياكل حكم جديدة وفكر قديم في التعامل الاجتماعي
الغريب أن هياكل الحكم “البديلة” على طول البلاد في ظل ثورات الربيع العربي، لم تأخذ على عاتقها أن تطل على مسببات الانهيار السريع لتلك الدول، خاصة طريقة تعاملها مع الحركات الاحتجاجية والقمع الوحشي، والذي لعب دور المدماك والمحرض على إخراج والتسبب بتنامي الحركات المضادة والراديكالية في بعض الدول. والأكثر غرابة أن تلك “السلطات البديلة” لا تكترث أبداً بدور وأهمية الحركات الاجتماعية في تغذية العنف والاحتجاجات أو الحد منها. خاصة أن الحركة الاجتماعية والثقافية، يُمكن أن تتحول إلى عنفية ومواجهات مستمرة؛ لما تلقاه من قمع وعنف وضرب واعتقالات، وهي ما يُعرف في الأوساط الاكاديمية بمصطلح “التصعيد التنافسي”، أي احتدام المنافسة بين المحتجين لكسب الرأي العام ضد الخصوم السياسيين المتمثلين بالسلطة وأذرعها. وأثبتت المشاهدات والوقائع تطابق ممارسات الدولة ومن يدّعي أنه البديل الجديد، حول سرعة استخدام الشرطة والأمن للعنف، بسرعة تفوق استجابة الحكومات/هياكل الحكم، لأيّ أزمة تعصف بالبلاد فيما يتعلق بالتعليم، الصحة، وفرص العمل. وهذه كفيلة بخلق تفاعلات وردّات فعل تقود الجماهير والنُّخب إلى العنف المضاد لعنف السلطة، وبل تنطلق-القواعد الاجتماعية- من قناعة ثابتة راسخة لا بوادر لتغييرها، قناعة أنهم يعيشون في إطار عام من الظلم والمظلومية على مستوى الدولة ككل، وأنهم يعانون من الممارسات ذاتها من الحكم البديل للدولة، وأنهم يعيشون تكرار تجربة فقدان العدالة.
قديم ذكي وجديد غبي
وإذا كانت الأنظمة العربية ذكية، وخلقت تباعداً وتمييزاً بين المكونات، وفضّلت إحداها على الأخرى، ومنحت بعضها مزايا وأحجمتها عن بعضها الآخر، فإن “الغباء” المطلق لأنظمة “الحكم البديلة” قائم على شمول الجميع بالفقر والحرمان وفقدان العدالة، فتصبح أي معارضة لتلك الهياكل شكلاً من أشكال الدفاع عن الجماعة كلها، فالعنف يوّلد المزيد من العنف، خاصة أن الحركات الاجتماعية حين تتيقن من انسداد الأفق السياسي، تشارك بكثافة في استخدام القوة، كرد فعل، بعد أن كانت تشارك كمحركة اجتماعية ثقافية ترغب بفرض أو طرح شيء جديد بطرق سلمية، وهي بداهة واضحة من تلك الحركات. فالدول التي شهدت التظاهرات كانت تتابع غيرها من الدول التي لم يقبل شعبها وشبابها العودة للمنازل قبل ضمان حريتهم وحقهم في الحياة، لكنها لم تستفد ولم تكرر سوى استخدام العنف المفرط، لدرجة أن أصبحت تلك الممارسات من سمات وأدوات وثقافة وتأريخ الدولة. وجذر رفض الحركات الاجتماعية للعنف هو ثقافي-نفسي، ورد فعل أو عنف/قوة ضد العنف العالي المستوى للدولة، والصراع بين منسوبي العنف هدفه من قبل السلطة/هياكل الحكم الجديدة المزيد من الدماء والقتل، ومن قبل تلك الحركات طريقة لإنهاء العنف وتقويض أيّ شرعية للدولة القائمة أساساً على العنف.
الأصل والبديل وجهان لعملة واحدة
وجه الشبه الآخر بين الدولة العربية وهياكل الحكم التي قالت إنها مغايرة وجديدة، هو عشق الطرفين لممارسة العنف في مناطق سيطرتهما؛ لسببين مركبين أولهما: فائض العنف الموجود لديها ولا بد من استخراجه بغية ضمان الخضوع، والثاني: الفراغ الرهيب الحاصل في أروقة الحكم؛ بسبب غياب منظومة الحوكمة والحكم الرشيد والرفاهية. وتالياً تصبح القوة والعنف والقانون أوجهاً لعملة واحدة تستخدمها السلطة وفق مزاجها وتُحكم السيطرة عليه، وتمنح نفسها الحق الكلي في ذلك، وتخلق جيشاً من المبررين لذلك العنف، وتسويغه وشرعنته، ولا بد للمواطن أن يكون تحت الرقابة والخضوع.
والمقاربة الأكثر رواجاً أو تبريراً للعنف البنيوي المركز من قبل السلطة وبدائلها، والتي يُمكن أن تكون مفتاحاً لتفسير كل هذا العنف والضغط والحصار، هي مقاربة أن المواطن مجرد تابع وكائن ضمن سلطة يحق لها التحكم بالأجساد وفق مقتضاها. هذه المقاربة تمنح السيادة والسلطة المطلقة للحاكم كي يكون خارج إطار القانون، ويخلق حالة الاستثناء له ولحاشيته، ليجد المواطن نفسه عارياً ورهناً لجبروت تلك المزايا، والمشكلة الأكبر أن تلك الاستثناءات تصبح قاعدة تُبنى عليها العلاقة بين الحاكم والمواطن، وتصبح العلاقة بينهما أشبه بعلاقة الصياد مع طريدته، لا يعرف لها وجوداً إلا لاصطيادها، والشرط الوحيد في مخيلة تلك السلطة أن بقاءها مرهون باستمرار هذا النموذج من العلاقة، وهو نوع خاص من الحرب غير المعلنة أو الواجب السكوت عنها. كل ذلك للهروب من أزماتها الداخلية، والخوف من انهيارها.
قصارى القول: لم تشهد المجتمعات العربية سلاماً حقيقياً، والترويج الرسمي للسِّلم ليس سوى كذبة كبيرة، فالشعوب تخرج من دوامة لتدخل في غيرها، وليس من كلمة تعلو على الحرب سوى العنف، وإذا كانت السلطة منذ بواكير سيطرتها على البلاد وهي تخوض الحروب الكثيرة ضد ما تسميه بالأخطار الداخلية/الخارجية وتقمع شعوبها، وهي في صلبها هرباً من أزماتها الداخلية، فلماذا تحذو هياكل الحكم التي تقول إنها بديلة عن السلطة المسلك ذاته، وتؤسس مؤسسات لضبط سلوك وانتماءات الناس، وتشدد الرقابة، عوضاً من خلق أرضية مهيئة للدولة الوطنية والهويّة الجامعة؟.
ماذا يستفيد المواطن من استبدال الظلم والاستبداد والملاحقات بأخرى تُشبهها أو تزيد عليها في الكثير من الأحيان؟
العربي الجديد
——————————-
الثورةُ المضادة والارتدادات الثورية الناعمة/ عبير نصر
مما لا شك فيه أنّ نظام الأسد اتسم بالجهالة والعنجهية عندما قرأ انتفاضة ثمانينيات القرن الماضي قراءة سطحية، فاعتبرها سحابة صيف عابرة، الأمر الذي جعل من انفجار عام 2011 قانوناً اجتماعياً نافذاً بل وحتمية تاريخية لا راد لها. هكذا طفت على سطح البركان السوري الروائح الكريهة المنبعثة من قاع الاستبداد والفساد اللذين أنتجا مجمل القيم السلبية والمدمرة، بما شكّل، لاحقاً، الخميرة المغذية للثورة المضادة والصخرة الصماء التي تحطمت عليها أحلام الربيع السوري. كلّ ذلك كي يحقق طاغية دمشق الرؤية المشوّهة التي تحدث عنها الكاتب الإيرلندي أدموند بورك للتشهير بالثورة الفرنسية في كتابه “تأملات في الثورة الفرنسية” الصادر عام 1790، وفيه يجادل (بأنّ في الكون أناساً خُلقوا سادة، وآخرين خُلقوا مَسُودين).
وعليه من البداهة أن تتحول ثقافة التغيير إلى وجه من وجوه إلقاء الذات في التهلكة في ظلّ الأسد، على أنّ القوى الناعمة، بروافدها السحرية المتجددة، لا تتوقف عن تفجير الأمل الذي يستمد وهجه من زخم الهزّات الشعبية الارتدادية للثورة الأم، إذ كثيراً ما قرأنا عن تغييرات تاريخية كبرى انطلقت من خطأ تاريخي غير مقصود، أو حروب ساهمت في تغيير ميزان القوة العالمي، من النقيض إلى النقيض، كان منطلقها واقعة شخصية بسيطة، ولنا في حادثة حرق البوعزيزي أدلّ مثال، والتي تمخضت عن سقوط ثلاثة حكّام عرب في عام واحد وهم من أعتى الطغاة وأعند المستبدين، غير أنّ هذا الخطأ أو تلك الواقعة لم يكونا السبب المباشر لدفع المشهد السياسي إلى مربعات جديدة ومحددات أكثر وضوحاً، بل إنّ الحدث الانفعالي الذي تمّ رصده لحظة وقوعه بدقة يخفي وراءه سيرورة تاريخية ويحيل على تراكمات وتناقضات تداخلت أزمانها.
لنتفق إذاً أنّ الثورات الشعبية التي لا تنتهي بأن تكون مشروعاً نهضوياً متكاملاً تصبح أكثر قابلية للانتكاس والانحراف أو حتى السقوط المذهل على يد الثورات المضادة التي لها صخبها، ومهرّجوها من فقراء الضمائر، المتشبثين بأطناب الليل، الفزعين من خيوط الفجر المطلّ، الطفيليين.. يستل كلّ واحد منهم عصا السلطة ويعظ الناس بنصها “المقدس”. لنتذكر.. في 17 فبراير/شباط 2011 عندما أهان شرطيّ مواطناً في منطقة الحريقة بقلب دمشق، تجمّع الناس وانطلقت هتافات تؤيد الشاب من مثل “الشعب السوري ما بينذل” و”حاميها حراميها”، إلا أنّ هذه الهتافات سرعان ما تحولت إلى “بالروح بالدم نفديك يا بشار” بعد قيام وزير داخلية النظام السوري بحلّ الأمر لمصلحة الشاب، وكما تقتضيه الضرورة الاستبدادية بالطبع.
هكذا تُنقل الانتفاضات المُحقّة من نهج إصلاحي تفاوضي إلى مواجهة وجودية هوجاء مع المنظومة الاستبدادية حتى يُلوى عنقها، وما جنحت إليه الثورة السورية من راديكالية واشتداد همجية النظام وظهيرِه الدولي مجرّد مخرجات حتمية لهذه الظاهرة. في المقابل جاءت الثورة حصاداً لتوسّع مُطَّرد في مساحة الوعي الجمعي وإحساس السوري بإنسانيته المغتصبة، وإن أخفقت في موسمها الأول فبالتأكيد لم تنكسر شوكتها، أما القول بأنها قد ماتت فهو حكم قاصر لا يراوح سطح المسألة، لأنها، ببساطة، حققت أحد أهم أهدافها الاستراتيجية وهو إصابة جسد النظام القديم بالوهن والاعتلال، فخلعت عنه أخيراً صفة “القداسة” و”الأبدية”.
بالتالي من الطبيعي أن يتحوّل المدّ الثوري إلى جزر رجعي يفاقم من وحشية النظام الحاكم، ويشهد إمعاناً في تسميم أجواء الأروقة السياسية، باستخدام خطاب إعلامي تصعيدي، وتلميع شخصيات صدامية صنعت خطاباً تحريضياً استهدف كلّ رموز المعارضة المدنية الديمقراطية، لتغرق البلاد في ردّة خطيرة وتآكل مأساوي من شأنهما أن يؤدّيا إلى مرحلة مديدة من الانحطاط، يخفف من حدّتها اندلاعُ الانتفاضات الناعمة الارتدادية المتجذّرة في واقع المعاناة. والحقيقة إنّ إنجاز التغيير الذي تحتاج إليه سوريا اليوم لا يتطلّب قيادات حركية على درجة عالية من التصميم الثوري بقدر ما تحتاج إلى شرارة إنسانية معزّزة بالنفثة الأخلاقية والطاقة المتجددة، يرسخ إيمانها بذاتها وبحتمية انتصارها كونها حركة حقّ وعدل ومساواة.
ومهما كانت المآلات السورية الراهنة معقدة، فهذا لا يعني أنّ أصوات الملايين تضيع بلا فائدة. خذ مثالاً التصريحات الأخيرة لإعلامية لبنانية “صفراء” هاجمت الشعب السوري “المتخلف” و”القذر” فقط لأنه لا يعرف “الشوكولامو” وأتكيت السلام والطعام، على حدّ تعبيرها، فأثارت عاصفة من الغضب وسط وابل من الاتهامات بالعنصرية والتمييز. وقبلها حدث أنْ استنفر السوريون جميعاً لإنقاذ المتضررين من زلزال السادس من شباط/فبراير المنصرم، ما شكّل تضامناً غير مسبوق بين أفراد شعبٍ ممزق، وفق سياسة إنسانية تتماشى مع الواقع المأزوم. هذه الأصوات وتلك الفعاليات إنما، في جوهرها، إعادة تمرّن الجماعة على قول “لا” في وجه الظلم المزمن. فالتغيّر تراكمي لا شك، والتاريخ لا يرتدّ إلى الخلف، وكذلك الشعوب حتى وإن أصيبت بهزيمة مؤقتة. ومثلما شكّل إضرامُ العزيزي النار في جسده، ردّاً على واقع ظالم ومشوه، منعطفاً تاريخياً، فغدا جسده الممر الذي تسللت عبره روحه الممزقة لتحلّ في أجساد أخرى، فإنّ الأصوات السورية التي ترتفع بين الفينة والأخرى، وإن لم يكن لها علاقة مباشرة بممارسات النظام الوحشية، تتحد في نهاية المطاف لتمثل تحدياً جماعياً صريحاً لرأس الهرم نفسه.
بالتساوق مع ما تقدّم ووسط حيادية نظام الأسد أمام إهانة السوريين، يتضح بشكل جليّ أنّ ثورتهم لم تكن مؤامرة “صهيو-أميركية” كما يحلو للبعض أن يصوّرها، ولا الربيع السوري كان خريفاً دموياً، ومن يحاول حماية حكم الأسد إنما يسعى إلى تعميم منظورٍ غير موضوعي يتجاهل حقائق الواقع، ومؤشرات الحراك الاحتجاجي، ومطالبه ومكوناته، ويرى في ثقافة الاحتجاج نهجاً ضبابياً وغير حقيقي. في المقابل لم يستوعب الطاغية بعد أنّ المطالب إذا انتقلت إلى ما هو “إنساني” يصعب جداً إخمادها، وأنّ أهم ما حققته الانتفاضة السورية هو إعادة الثقة بحقيقة أنّ الأسد ليس قوياً بحرسه وأبراجه ومخابراته، وإنما قويّ بخمولهم واستكانتهم، وأنّه لا يملك من السلطة إلا ما أعطوه، ولا من القدرة على الأذى إلا بقدر احتمالهم الأذى منه.
قصارى القول.. الثورات التي لا تعدو كونها فورات حماسية عبثية تتحول إلى تمرُّد وقتي سرعان ما ينتهي إلى “ظاهرة صوتية” وانفعالية، لا فائدة مرجوّة منها، وإن ما يلفت الانتباه، حقاً، في الثورة السورية ارتداداتها المتتابعة التي ستعيد إنتاج خصائص الفعل الثوري نفسه، وهو ما يسمح بالإقرار بأنّ التآكل الداخلي سمة مميزة لكلّ أنواع التحولات التاريخية المفصلية، ويبقى الأمل الوحيد كي تنهض الثورة المستكينة من سباتها العميق هو الفعل التراكمي المتمخض عن الهزات الشعبية عميقة الأثر بشقّها “الإنساني” تحديداً. في المقابل لنكن واقعيين ونتفق أنّ هذه النبوءة ليست قابلة للتحقق في المدى المنظور وسط المعطيات الكارثية الحالية، لكن ما يمكن رؤيته بوضوح هو أنّ هذه الإرهاصات والمناشدات ليست سوى قطرات مياه رقيقة جداً تسقط على حجر صلد، ليس لها هذا الأثر المشاع المرجو منها اليوم، لكنها قد تحدث تغييراً كبيراً في زمن ما، إذا ما استمرت، وتكاثفت، واشتدت، حتى ينشقّ ذاك الحجر.
تلفزيون سوريا
———————————
“هل نعلن هزيمة الربيع العربي؟”: مأزق الديمقراطيين العرب في ظلّ مصالحات الأنظمة/ ديانا مقلد
ضمن ملف “هل نعلن هزيمة الربيع العربي؟”، تناقش ديانا مقلّد المتغيرات التي شهدتها المنطقة على المستوى السياسيّ، التي “توّجت” بوقوف الأسد في القمة العربيّة، أمام فشل أميركي وأوروبي في ردعه، وتغير خطاب أنظمة الخليج التي دعمت الثورات بداية، ثم رحبت بمن وأدها.
نطرح في “درج” سؤال الهزيمة والربيع العربي، بعد 13 عاماً على شرارة الثورات في الساحات والميادين، المتغيرات الجديدة من التطبيع العربيّ مع رئيس النظام السوري بشار الأسد إلى ديكتاتورية عبد الفتاح السيسي وقيس سعيد، وقائع دفعتنا إلى التأمل، ماذا تبقى لنا من الربيع العربي؟
نجرؤ على السؤال، بعد انهيار العواصم العربية التقليديّة، بغداد، دمشق، بيروت، القاهرة، والملاحقات التي يتعرض لها فنانون وصحافيون ونشطاء في عالم عربي يعلن أن السلطة لا يمكن التنازل عنها، وأن السجن هو مصير كل من يطرح سؤالاً.
“شو بعدنا عم نعمل هون…شو الفايدة؟”
لا أستطيع إحصاء عدد المرّات التي طرح فيها هذا السؤال أو ما يعادله. نثيره دون انتظار جواب بالضرورة، فالخيارات تكاد تكون معدومة. البقاء والعيش في بلاد منهارة وفي ظل الديكتاتوريات، بات قدراً حتى حين نحاول تجميل الواقع في فضاءاتنا الصغيرة بنقاش طموح حول عدالة اجتماعية وسياسية ونظم اقتصادية، إذ نجد أنفسنا في النهاية أمام أفق مسدود.
استُهدفت بيروت بانهيارات اقتصادية وبتفجير مرفأها، ودمشق استردها الظلام الأسدي، والقاهرة في قبضة العسكر فيما الخرطوم تنازع، وبغداد تتعثر أما تونس فتحثّ الخطى نحو العودة إلى ما قبل الثورة.
هذا الواقع جعل الخذلان وفقدان الرغبة في فعل أي شيء يطغيان على جموع عربية واسعة، لم تعد تحركها انتهاكات أو فضائح فساد. لم يعد الاحتجاج خياراً تلقائياً، وكأننا بتنا حيال مجتمعات لا مبالية، تم تسليح يأسها وخيبة أملها الذي تحول إلى قدرة هائلة على ابتلاع القمع والظلم بوصفهما الوضع الراهن الجديد.
هل نعلن هزيمتنا؟
مع تمدد الطور المعتم والمسدود الذي تمرّ به المنطقة، وهو طور مُقلق بالمعنى الوجوديّ، يبرز سؤال حول ما إذا كانت أكلاف الثورات، بعد سحقها وتدميرها أكبر من أن تتحملها أجيال هتفت وحشدت وهُجّرت وسُجنت وقُتلت وحلمت وتحطمت في السنوات الماضية.
كانت الهموم مشتركة بين محتجي الموجة الأولى من الثورات من مصر وتونس وسوريا وليبيا واليمن، ولاحقاً بين محتجي الموجة الثانية في العراق والسودان ولبنان. ثورات بدأت سلمية تطرح أفكاراً تغييرية من حرية وعدالة اجتماعية، كانت النساء فيها ضمن موقع متقدم، قبل أن تنقلب القوى الحاكمة والمتشددة عليها.
هزيمة مطالب التغيير والحرية أمام الاستبداد ووحشية الأنظمة والميليشيات، تردنا إلى الأسئلة الكبرى المؤجلة: كيف نخرج من الانحطاط الذي تراكم حتى بات بنى سياسية طائفية وثقافية واقتصادية استحوذت على الفضاء العربي!
لا شك في أن المسمار الأخير في جثمان الثورات العربية التي تقدمها شبان وشابات عام 2011 شهد صفحة النهاية، مرحلياً على الأقل. ذروة تلك المشهدية تجلت في قمة جدة لزعماء الدول العربية، حيث كان ذاك الاستقبال الاحتفائي بديكتاتور سوريا بشار الأسد، بمثابة ستار النهاية.
تهدف العودة الرسمية للأسد إلى جامعة الدول العربية إلى الاحتفاء بانتصار الاستبداد، وهذه الحقيقة يحاول مؤيدوها عقلنتها بأنها براغماتية، لكنها ليست سوى تلخيص للتضامن بين ديكتاتوريي المنطقة وتقديمهم الجماعي للاستبداد على أي إصلاحات وتطوير.
يحصل ذلك برضا غربي ضمني مهما تباينت الرسائل. صحيح أن عواصم غربية بينها واشنطن لاتزال ترفض التطبيع مع نظام الأسد لكن مد السجادة الحمراء للأسد والاحتفاء به هو انعكاس مباشر لعيوب السياسة الخارجية الأمريكية والغربية عموماً في المنطقة. فالدعم الانتقائي لـ “المبادئ الديمقراطية” يشبه عدم الوقوف إلى جانب أي شيء. الفشل في ردع الأسد وحلفائه عن ارتكاب جرائمه هو نتيجة التضعضع الأميركي والغربي وضيق الأفق والخطوط الحمراء غير القسرية.
شاهد العالم مجرم حرب يقف لالتقاط الصور في قمة إقليمية بعد تشريد نصف شعبه. هذا الحضور هو مسمار في نعش التزام عالمي يتم تجاهله وهو حماية السكان.
منذ بدء الاحتجاجات عام 2011، قُتل أكثر من 30 ألف طفل في هجمات شنتها قوات النظام السوري في جميع أنحاء البلاد. علاوة على ذلك، فإن أكثر من 47 في المئة من 5.5 مليون لاجئ يقيمون في البلدان المجاورة هم دون الخامسة والعشرين، وأكثر من ثلثهم لا يحصلون على التعليم. آمالهم في مستقبل أكثر أماناً وديمقراطية – الآمال ذاتها التي أشعلت ثورة 2011 في البداية – لم تعد ممكنة في سوريا الأسد.
صحيح أن الخيبة السورية ليست الخيبة الوحيدة في المنطقة لكنها الأكثر قسوة بلا منازع. ولا تزال ذكرى الثورات العربية التي انطلقت عام 2011 حاضرة دائما في أذهان قادة المنطقة، خوفًا من اندلاع موجة أخرى من الانتفاضات بسبب الإحباطات الاقتصادية المتصاعدة.
سلطت القمة العربية، التي عقدت في 19 أيار/ مايو الماضي في جدة بحضور بشار الأسد للمرة الأولى منذ 12 عاماً، الضوء على مشروع إعادة تموضع إقليمي بقيادة ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان.
تقف خلف هذا التموضع شخصية بن سلمان الذكية والمتهورة والقاسية، إذ شرع الأمير البالغ من العمر 37 سنة، في جهود دبلوماسية كبيرة تهدف إلى إعادة تموضع الشرق الأوسط على الخريطة العالميّة.
وفعلاً نجح بن سلمان، كما بات معروفاً، في تغيير الأوضاع من خلال ثورة اجتماعية اقتصادية في بلاده، بالتزامن مع قمع سياسي وسيل من الإعدامات، فيما اعتمد إقليميا مبدأ الخلط بين الانتهازية والبراغماتية، في تجديد علاقات بلاده مع كل من تركيا وقطر، ما أدى إلى تقدم السعودية على الإمارات العربية المتحدة، بعدما كانت الأخيرة قد سبقته إلى التطبيع مع الأسد، لكنها أيضاً سبقته الى اتفاقات إبراهام مع إسرائيل.
ربما الأجدى اعتبار أن عودة بشار الأسد في القمة وما سبقها وتبعها من “حرارة” لقاءات متبادلة بين دمشق وعواصم خليجية وعربية، بمثابة عودة الديكتاتور السوري إلى موقعه الطبيعي بجانب أشباهه من المستبدين.
زمن ادعاء بعض الزعماء، الذين لا يقيمون وزناً لحرية شعبهم، وقوفهم الى جانب حرية السوريين او حرية أي شعب آخر انتهى، والجيد راهناً هو أن هذه الخديعة التي استمرت لسنوات قد انتهت تماماً.
نحن في زمن المصالحات…
قناة “الجزيرة” لم تعد تلاحق قتلة جمال خاشقجي ولا سجاني الناشطات السعوديات، تماماً كما لم تعد قناة “العربية” مهتمة بكشف اللثام عن تمويل قطر للجماعات الإسلامية المتشددة.
الآن مع المصالحة السعودية- الإيرانية ينطوي فصل آخر من اللعبة، وكأنما عودة بشار الأسد أنهت أوهاماً حاول كثيرون تصديقها.
ماذا نفعل؟
عاد المستبدون إلى نصابهم وانتهت الخطابات الفارغة التي هدفت للإيحاء بأن أنظمة الاستبداد النفطية تدعم ثورات محقة! أو أن الخلاف بين مستبد مُطبّع ومستبد مُمانع هو على مقاومة إسرائيل؟ همد جنون الصراع العربي- الإيراني، وعاد الجميع إلى حظيرة البؤس والقمع.
صارت مصالحات المستبدين ممكنة بعدما زال خطر التغيير، وساد اليأس والفقر والمهانة. وهذا أكثر ما يؤلم، أي أن أسباب اندلاع الثورات تضاعفت وتفاقمت فيما السجن والنفي باتا يستهدفان كتلاً هائلة تتكبد أثمان هزيمة حريتها.
الثورات اشتعلت في وجه أنظمة عسكرية وانقلابية وفاسدة تحمل ملامح طائفية وقبلية. المجموعات التي حملت شعارات التغيير ودافعت عنه، فهي تعيش ضياعاً وتصدعاً ليس واضحاً بعد كيف ستقوم منه، وكأنما صار المطلوب، فيما نحن نرفض هذا الواقع، أن نفكّر أكثر ونحشد بشكل مختلف ربما.
لا أحد يملك وصفة جاهزة، لكن الأكيد أننا لا نملك ترف الاستكانة واليأس مع استمرار هذه الزمر في التحكم في مصائرنا، وهذا يعني حتماً المثابرة في تطوير دورنا الذاتي كأفراد ومجموعات تحاول أن تكون متحررة من القيود الطائفية والعائلية والاثنية، وتؤمن بقيم ديمقراطية عادلة ولا تردعها تهم من هنا وهناك.
الانهيار الذي نحن فيه، والتعثر الذي نواصل الاصطدام به، لا يعنيان النهاية، مهما بدا التسليم والإحباط مسيطرين، والوهم بأن التغيير يمكن أن يحصل في لحظة احتجاج أو خلال فترة قصيرة، دفعنا أثماناً باهظة بسببه، ومن يحمل وهم الثورة التي ستقلب كل شيء، يفوته أن حجم الخراب الذي أحدثته هذه الانظمة جوهري وعميق، ورأبه هو عملية بناء طويلة المدى.
الثورة أو الاحتجاج الشعبي هي خطوة من خطوات كثيرة مطلوبة لرأب الصدع السياسي والاجتماعي والثقافي الذي تسببت به أنظمة عسكرية وشمولية وأتوقراطية، لكنه ليس كافياً وليس محكوماً بالنجاح بحسب ما علمتنا السنوات الماضية، لكننا في المقابل لا نملك ترف اليأس والاستكانة لأننا محكومون بمزيد من الأزمات إن فعلنا ذلك.
إن كان من حاجة للاستفادة من عثرات الثورات العربية فهي أن التغيير مسار طويل ومراكمة لخبرات وتعلم من الفشل والخيبة وليس استسلاماً للأخيرة..
درج
—————————–
“هل نعلن هزيمة الربيع العربي؟”: شبح الثورة المصريّة الذي ما زال يطارد الديكتاتور/ عبد الله بكر
ضمن ملف “هل نعلن هزيمة الربيع العربي؟”، يناقش عبد الله بكر مآلات الثورة المصريّة، ورعب السيسي من ثورة أخرى، خصوصاً أنه خليفة عسكريّ أشد قمعاً، من الديكتاتور العسكريّ الذي سبقه، مرتدياً قناع الأبّ وحامي الأسرة وباعث أمجاد الفراعنة.
في كتابه How madness shaped the modern history، يحمل كريستوفر فيرجسون حجة ذات وجاهة، وهي أن جنون الحكام ليس منفصلاً عن جنون الجماهير، الذي يُعرِّفه بأنه سيطرة لحظة غير عقلانية تحكمها الهيستيريا الجماعية، بخاصة في أوقات التوتر وعدم اليقين والأزمات، وأن الآليات النفسية نفسها التي قد تؤدي بالأفراد إلى فقدان قبضتهم على الواقع، يمكن أن تعمل أيضاً على المستوى الجماعي.
لكن ما يحدث أن ينهض من بين الشعوب رجل قوي لحل الأزمة، يحمل سمات اضطراب الجماهير نفسها، كأنه المرآة والمحصلة النهائية للجنون الجماعي. لكن ما تحصل عليه الشعوب أشبه برمية نرد قد تجيء بالإسكندر الأكبر (أو حاكم رغم جنونه أو بسببه، يوحّد الأمة فعلاً في لحظات تعرّضها للتمزق) أو كاليجولا الذي أطلق عهداً مروعاً من الإرهاب قبل اغتياله.
في الحالتين، كان الديكتاتور رغم اختلاف النتائج، يحمل طيفاً من أطياف الجنون والاضطراب العقلي. رغم أننا نعيش في عصر لم يعد يرى ملوكه فوقه، ورغم ما هو معروف من أن أطياف الاضطراب العقلي ليست بالضرورة صفة سلبية بشكل عام للأفراد، وإذا ما ارتبطت بالقادة والحكام قد تعينهم أحياناً على اتخاذ قرارات حازمة ومنقذة في أوقات الأزمات، إلا أن عالمنا العربي الذي لم يطور مفهوم العقد الاجتماعي بعيداً من أهواء حكامه المستبدّين، ليس بإمكانه تحجيم الآثار السلبية لخلل النرجسية أو جنون العظمة، فيظل محكوماً برمية نرد تصب في اتجاه واحد: أن تحصل على كاليجولا يدعي أنه الإسكندر. أو على الأقل ذلك هو الوعد الذي اعتاد حكامنا العرب تقديمه لتأسيس شرعيتهم.
رئيس عسكري استبدادي
إذا كانت هناك محصلة واضحة لثورات الربيع العربي، أو بالأحرى هزيمتها إذا إما اعتبرنا الهزيمة هي الفصل الأخير في حكاية ثورة يناير التي تنهي القصة كمأساة، فهي صعود رئيس عسكري إلى السلطة مجدداً، لكن أكثر راديكالية في استبداده ممن سبقوه.
رئيس بدا للغالبية من شعبه، في تلك اللحظة، رجلاً قوياً قادراً على حسم الاضطراب والفوضى اللذين خلفتهما الثورة، ووصول الإخوان إلى الحكم، ووصول البلاد إلى شفا حفرة من التمزق والاستقطاب، أزمة لا تتحملها الثورة والإخوان وحدهما من دون أن يعفيهما ذلك من تحمّلها أيضاً. بل تقر الحكمة بأثر رجعي- والتي لا تدلنا على خلاص حقيقي قدر ما تشير إلى سذاجة تفكير سابق- هو أن الثورة المضادة التي قادتها الدولة العميقة من خلف ستار، في تحالفها مع رجال عهد مبارك من سياسيين ورجال أعمال وعاملين بالإعلام وتحت قيادة كوادر جديدة (السيسي بديلاً للمشير طنطاوي)، قد سعت الى تعميق هذا الاستقطاب، لصالح استعادة النظام الذي ضحى برأسه القديم لحماية جسده. بطريقة ما، الرئيس السيسي مدين لثورة 25 يناير في صعوده إلى السلطة، فلولا شرعية تغيير الحاكم عبر الميدان لما طمح الى التفكير في الوصول إلى رأس السلطة في مصر.
أعادت الثورة المضادة استخدام آليات يناير نفسها للتخلص من الإخوان، لكن بمباركة من الجيش والشرطة، ثورة تستنسخها السلطة لن تكون بالتأكيد إلا تكراراً للتاريخ كمهزلة، وتفريغ حدث نادر وأصيل من معناه، لصالح نسخة كاريكاتورية مبهرجة تعتمد على المبالغة في الحشد، بل ولم تفتقر إلى التصوير السينمائي عبر طائرات الجيش وكاميرات المخرج خالد يوسف.
الحقيقة التي لا يمكن إنكارها أيضاً، أن السيسي لم يصل إلى الحكم قسراً، بل عبر رغبة شعبية جارفة، احتمت بالدبابات، وبالعكس، وعبر ثورة لم تكن موجّهة ضد الإخوان وحدهم، بل ضد يناير أيضاً، لأن ثوّارها فشلوا ببساطة. تبنّى الناس خطاب السيسي، لأنه بالأساس كان مستشرياً بينهم، ولم يكن نظام الحكم الحالي إلا انعكاسه، وقد تجلّى في صورة الرئيس.
انتهت الثورة اﻵن، ليس فقط على أرض الواقع وبحكم انتصار السلاح والتأييد الشعبي، لكن أيضاً من مخيلة صانعيها، ورغم ذلك ما زالت هي محور أحاديث وخطب شخص واحد فقط، هو الرئيس، كشبح لشيء غير موجود، لا يكاد أن يفوت خطاباً من دون أن يذكرها ويحذر من حدوثها مرة أخرى، وهو أمر عجيب، إذ لا تبدو الثورة اﻵن، رغم ارتفاع وتيرة الخراب الاقتصادي بشكل يفوق ما قامت الثورة ضده، خياراً لأحد، ليس فقط ﻷن الشعوب جربت الرد العنيف للسلطات الذي فاق في تغوله كل حدود المنطق، لكن ربما ﻷن من شاركوا في صنعها أنفسهم، يحملون في أعناقهم ذنب الإتيان بمستبد جديد أكثر عنفواناً محل القديم، أو أنهم منهكون ببساطة. انتصار لم يعد في حاجة إلى إطلاق رصاصة واحدة، ومع ذلك ما زال الرئيس يطلق رصاصاته.
إذا كانت هناك محصلة واضحة لثورات الربيع العربي، أو بالأحرى هزيمتها إذا إما اعتبرنا الهزيمة هي الفصل الأخير في حكاية ثورة يناير التي تنهي القصة كمأساة، فهي صعود رئيس عسكري إلى السلطة مجدداً، لكن أكثر راديكالية في استبداده ممن سبقوه.
خطابات وأقوال متناقضة
في 25 كانون الثاني/ يناير 2022، ألقى الرئيس السيسي خطاباً في احتفال وزارة الداخلية المصرية بعيد الشرطة الـ69، والذي تزامن مع الذكرى الحادية عشرة لثورة يناير 2011. وقال في كلمته: “يصادف هذا اليوم ذكرى ثورة 25 يناير التي يقودها شباب مخلص وطموح من أجل مستقبل وواقع أفضل. وأقول لشباب مصر إن بلدكم بحاجة إلى جهودكم وأيديكم لاستكمال مسيرة البناء والتنمية وتحقيق آمال المصريين في توفير فرص متكافئة لحياة كريمة”.
لكن هذا الثناء المقتضب يتناقض مع مواقفه الأخيرة المنتقدة لثورة يناير. ففي 28 كانون الأول/ ديسمبر 2021، هاجمها قائلاً إنه “لن ينسى عام 2011 ويجب ألا ينساه المصريون أبداً في كل إجراء يتخذونه وكل خطوة يتحركون بها”. وسأل: “هل تعلم لماذا كان بلدك على وشك أن يدمر ويفقد في عام 2011؟”.
وأضاف آنذاك مخاطباً المصريين: “الله وحده هو الذي أنقذكم وأنقذ البلاد من الدمار والخراب من أجل 100 مليون شخص، الفقراء والبسطاء من أجل الحكمة الإلهية”. وتساءل: “إذن هل نكرر نفس المسار مرة أخرى؟ لا والله. هل الكلام ده يزعلكم إني بحاجي عليكم وخايف عليكم من الضياع؟، تزعلوا مني؟ سواء كان مسؤولين أو ناس ماسكين شركات ده كلام؟، متزعلش إلا من نفسك إنك تكون سبب في دمار بلدك وخرابها”، وفق قوله.
في تشرين الأول/ أكتوبر 2018، هاجم السيسي ثورة يناير قائلاً: “ما حدث في 2011 هو علاج خاطئ لتشخيص خاطئ، فالبعض قدم للناس صورة عن أن التغيير من الممكن أن يحدث بهذه الطريقة، وأن هناك عصا سحرية ستحل المشكلات”. أما في أيلول/ سبتمبر 2019، فوصف السيسي ثورة يناير بأنها مؤامرة ضد وزارة الداخلية والدفاع، قائلاً: “المؤامرة التي حدثت في 2011 كانت على وزارة الداخلية ووزارة الدفاع، لأن من يريد ضرب مصر لا بد أن يبدأ بهما”.
ربما ظنّ الرئيس أنه منح في بداية حكمه، شيكاً على بياض من الشعب نفسه، لأنه، وهذا ما كشفت عنه الخطب اللاحقة التي تحدث فيها بنفسه عن نفسه، اعتبر ذلك ليس تفويضاً شعبياً فقط بل إلهياً أيضاً. إذ تحدث مباشرة عن الملك الإلهي، وربط نفسه بالنبي سليمان، لكنه نسي أنه فُوض حقاً من الشعب، لا الله، بناء على عقد غير مكتوب. افعل ما شئت مقابل أن تستعيد دولة قوية حتى لو استخدمت البطش والقتل والاعتقال. كان التفويض مقابل شيء واضح: الاستقرار الاقتصادي والسياسي، بينما رأى فيه المثقفون، بخاصة من جيل الستينات، عبد الناصر جديداً، صورة لمستبد عادل يحقق الإنجازات بمنطق عودة المكبوت لفرويد،المستبد الذي يعرفونه والذي ظل كامناً طويلاً في نفوسهم، حتى من راجعوا موقفهم من الرئيس، وهم قلة، من بينهم الروائي صنع الله إبراهيم، فعلوها بمنطق أنه لم يطابق الأصل الأبوي في المخيلة، أو بكلمات ماركسية تنظيمية لأنه خالف النظرية.
رب عائلة سلطوي
رأى الشعب في السيسي أباً سلطوياً مستبداً، أقرب إلى رب الأسرة فعلاً، هو القادر وحده، عبر العودة إلى قيم العائلة الكلاسيكية والحزم، أن يقمع كل انفلات، بديلاً عن الأب مبارك، الذي طولبنا في الثورة أن نعتبره “أبونا”، والذي كانت خطيئته تراخيه في سنواته الأخيرة، رغم أن ذلك لم يكن حقيقياً، بل إن ما أبقاه على عرشه ثلاثين عاماً هو التراخي المحسوب لصنع توازنات كارتونية، وما أطاح به كان نسيانه رائحة البارود التي اغتالت السادات، والتي حكمت الكثير من تصوراته عن إدارة السلطة.
كانت لحظة مثالية للفاشية، فالرئيس الذي مهد لحكمه بأسطورة أسر قائد الأسطول السادس الأميركي، واختراع جهاز لمعالجة الإيدز، كان من الطبيعي أن تصعد في عهده مفاهيم متطرفة.
وبحسب فيلهيلم رايش في كتابه “سيكولوجية الجماهير الفاشية”، فإن الشخصية التي تتوق الى الاستبداد، نشأت في الأساس في أسر مستبدة كنموذج اجتماعي يقوم على السلطة والطاعة والقمع، وينشئ أفراداً مطيعين وخاضعين، وقد زثرع في داخلهم شعور بالذنب والخوف قائم على تثبيط الرغبات، كما فعلت الثورة، التي كانت بمثابة إعادة إطلاق لكل ما ظلّ مقموعاً.
ربما كان أحد أهم أركان شرعية الديكتاتور الجديدة، أو وعوده، اجتثاث كل أثر لدولة لا تخضع إلا لسيادتها الوطنية، وكل ما قاد البلد الى الفوضى والضياع والتدخّلات من “الغرباء” بحسب الخطاب المتبادل بين الجماهير والسلطة، مُسترجعاً كل بلاغة اليمين العالمي حول هوية وطنية. عززتها خطابات فنانين مثل محمد صبحي: “اقفل علينا يا ريّس”.
تفشّت موجة من الشك في الأجانب المقيمين في مصر، بوصفهم جواسيس، أما الناشطون والثوّار فهم جزء من مؤامرة خارجية. فيما اعتُبر اللاجئون السوريون وغيرهم دُخلاء مسؤولين عن البطالة. وأحدث الاتهامات الموجهة إليهم اليوم، المساهمة في رفع سعر الدولار عبر تهريبه، رغم أن مصر على المستوى الرسمي تعدّ مكاناً يعمل حقيقةً على دمج اللاجئين بشكل أسهل من دول أخرى.
ظهرت أيضاً دعوات قومية تدعو الى العودة الى مصر الفرعونية، وتنكر أي انتماء عروبي أو أفريقي، وتبدو أقرب الى أفكار اليمين المتطرف في خطابها، وترفض أساساً وجود الآخر، لذا يتفق كل من “أبناء كيميت” و”القوميون الجدد” في خطابهم، على رفض وجود اللاجئين، وضرورة ترحيلهم إلى أوطانهم.
حتى الإعلام كان هدفاً
الإعلام تم تأميمه من جهات سيادية، وتحدّث الرئيس عن خطاب موحّد، يُعامل الشعب بوصفه كتله متّسقة تخدم هدفاً واحداً. فيما سيطر الجيش على الاقتصاد الى درجة قاربت الاحتكار، وأضرّ بالقطاع الخاص من المدخل نفسه، أي استعادة “الدولة الوطنية”.
نسي الرئيس أنه لم يحصل على تفويض مجاني، وأن المفوض لم يكن الله، بل الشعب، الذي رأى فيه حلاً للإنقاذ، فمنحه كل الأدوار بالنيابة، الأبوة بوصفها سلطة قادرة قد تتخلى عن الرحمة لصالح الاستقرار والرخاء، أب قوي قادر على أن يرتكب مذبحة لا يستطيع الشعب أن يرتكبها بنفسه، أن يتقدم لحمل ذلك الوزر عنهم، وهو ما انعكس في خطابات الرئيس الأولى التي حملت عبارات مثل “ذلك الشعب لم يجد من يحنو عليه”، ” إنتوا مش عارفين إن إنتوا نور عينينا ولا إيه”، لكن ذلك كان وعداً هامشياً، فيما كان الوعد الأساسي أن تتحسن الأمور بعد اليأس من حلول الثورة وصناديق الانتخابات.
تبدّل الخطاب من الحنان إلى الإهانة، من موقع المتغطرس الذي سيطر على كل الأمور كرب العائلة، وحمّلهم مسؤولية الأخطاء كلها، ساخراً من كل تصرفاتهم وسلوكهم وطرق تفكيرهم، ثم واصل الإهانة والشراسة بعد انكشاف كذب الوعود، لكن من موقع الدفاع عن النفس.
لم يعد الرئيس في نظر شعبه، أباً أو حامياً أو زعيماً كما توهم. وحلوله لم تهدف الى إرضاء شعب لم يجد من ” يحنو عليه”، بل الى إذكاء نرجسية خطاب التفويض الإلهي.
الغريب، أن النظام المصري الذي بدا أنه حرر نفسه من أي التزامات تجاه شعبه أو المجتمع الدولي أو منظمات المجتمع المدني، يجد نفسه الآن مضطراً إلى الاستجابة لإجراء تعديلات داخلية، لكن ليس بسبب الثورة أو المعارضة، بل بسبب ضغط أنظمة الخليج وصندوق النقد الدولي.
ومن أسباب فشل الاقتصاد المصري عموماً، عسكرة الاقتصاد، فعندما آل الأمر بالنظام إلى الاستدانة من صندوق النقد الدولي مجدداً، ضغط عليه الأخير بقوة لإخراج الجيش من الاقتصاد، وكذلك تعويم العملة الوطنية، وبيع أصول شركات مصرية لمستثمرين عرب وأجانب.
أي بمعنى ما، خضعت دولة السيسي الوطنية للغريب، الذي كان مسؤولاً، بحسب وجهة نظر الدولة، عن التآمر عليها، رغم كل ادعاءاتها عن نفسها، فوافقت على شروط مراقبة ومتابعة قد تمتد الى أربع سنوات مقبلة، من بينها شفافية التقارير وإبطاء وتيرة المشاريع القومية التي لم تثبت جدواها. بل أعلنت تلك الشروط بوضوح خطأ السياسات الاقتصادية السابقة، وأن الأزمة الاقتصادية المصرية سبقت الغزو الروسي لأوكرانيا، على عكس ما يكرر إعلام الدولة، وكل ما فعلته الحرب هو بلورة المشكلة.
سبق هذا، إطلاق الرئيس السيسي مبادرة الحوار الوطني، وهي مبادرة قد تكون مسرحية الطابع، لكنها أسفرت عن الإفراج والعفو عن عشرات المعتقلين السياسيين، سواء ممن لم يتعرّضوا لمحاكمة، أو أدينوا بأحكام سجن طويلة. وعلى رغم أن مئات المعتقلين لم يُفرج عنهم بعد، وما زالوا أشبه برهائن، إلا أن تلك المبادرة لم تحدث إلا تمهيداً للتفاوض مع صندوق النقد الدولي، وإقناع الدول المتحكّمة فيه بمنح مصر القرض.
إنها مفارقة كبيرة أن ينجح صندوق النقد الدولي، سيئ السمعة، في تحقيق ما لم تنجح فيه الثورة والثوار. خضوع الدولة “الوطنية” يحدث الآن رغماً عنها وعن الجميع، لكن هذه المرة بلا وعود، أو حرية، أو ديمقراطية. هذا ما حصلنا عليه في رمية النرد: أزمات وإملاءات اقتصادية وسياسية، من دون أي صورة لعالم أفضل، بعد فشل وعود الرئيس الاقتصادية بشكل واضح وتغير مزاج الشعب مع استسلام لا يشي بثورة أخرى بسبب تروما الثورات السابقة، بما فيها ما أصاب ثوريين سابقين، وبسبب الرهان على قوام الدولة المتماسكة حتى مع ارتفاع وتيرة الخراب الاقتصادي.
مع ذلك، ما زال الرئيس في خطبه يوجه أصابع الاتهام بوضوح إلى ثورة يناير التي لم تعد سوى ذكرى، ولا يفوت فرصة للتحذير من القيام بها مرة ثانية ضده. تضخم الثورة في خيال الرئيس هو دليل على إدراكه لما يحدث وإنكاره في الوقت نفسه. نصبح هنا أمام هزيمتين: هزيمة الربيع العربي التي أظنها مستحقة بسبب عدم النضج السياسي، وهزيمة الثورة المضادة أمام نفسها.
درج
———————————
سوريون يجيبون على سؤال: “هل نعلن هزيمة الربيع العربي؟”
الهزيمة بالمفهوم النمطي كلمة تتداولها الأنظمة، أما نحن فيمكننا القول: التاريخ لا يختصر بسنوات، والثورات تتعثر وترمم نفسها طالما بقيت إرادة الشعوب حية، هذه ليست نظرة تفاؤلية وإن انطوت على ذلك، تجارب الشعوب ما زالت أمامنا.
نطرح سؤال “هل نعلن هزيمة الربيع العربي؟” في السياق السوري، بعد عودة رأس النظام السوري بشار الأسد إلى الحضن العربيّ، واستخدامه اللاجئين خارج سوريا إلى ورقة للضغط السياسي، تحت شعار “المال مقابل إعادة اللاجئين”.
سؤال يحمل في طياته أكثر من عقد من الثورات ومواجهة الأنظمة الديكتاتورية في المنطقة العربية، بما تبعها من حروب ومعارك ومجازر واعتقالات، لكنه قد يعني أيضاً قبول إعلان نهاية الأحلام. في سوريا قدم نظام الأسد نموذجاً مرعباً عن نظام سياسي سفاحٍ، لم يتوانَ عن قتل أي كبير أو صغير بهدف بقائه، ومع ذلك تمّ تعويمه عربياً حتى عاد الأسد في 19 أيار/ مايو الماضي إلى الجامعة العربية وكأن شيئاً لم يكن! هذه العودة كانت أشبه بقطع خيط الأمل الأخير مع الثورة السورية، فما الذي بقي منها اليوم؟ وهل حان وقت إعلان الهزيمة؟ توجّه “درج” بهذا السؤال إلى مجموعة من المثقفين والفنانين السوريين. هنا إجابات لأربعة نشطاء وفنانين سوريين بحسب الترتيب الأبجدي:
رقية العبادي – صحافية
أعتقد بأن تطبيع بعض الدول العربية مع النظام السوري، والمكاسب التي حققها النظام على المستوى العربي، زادت المشهد تعقيداً ويأساً. لكن علينا أن ننظر إلى الربيع العربي كعملية تاريخية متواصلة، وعلى رغم التحديات التي قد تواجهها، فإن الأمل لا يزال موجوداً في القدرة على المطالبة بالحرية والديمقراطية والعدالة الاجتماعية.
بالرغم من ذلك، يجب ألا ننسى أن الربيع العربي يمثل بذرة التغيير والأمل في نفوس كثيرين. لا يمكن لأحد أن ينكر أحد أن هذه الحركات الثورية أسقطت بعض الأنظمة القمعية، وأحدثت تحولاً في الوعي السياسي والاجتماعي للشعوب. ربما فشلت الثورات في تحقيق جميع أهدافها، وقد تعاني اليوم من تدخلات خارجية وصراعات داخلية، لكن الثوار لا يزالون يحملون أحلاماً وطموحاتٍ لمستقبلٍ أفضل.
بقي من الربيع العربي شغف الشباب وعزيمتهم على المضي قدماً نحو تحقيق التغيير والعدالة. بالرغم من التحديات والعقبات التي تواجههم، إلا أن روح الثوار لا تُطفأ وتستمر في إلهامهم. خلال هذه الرحلة المملوءة بالتحديات، تراكمت تجارب وخبراتٌ قيّمة تمكنهم من بناء مستقبلٍ أفضل. ربما الأحلام تأخرت، ولكن التغيير ليس عملاً فردياً بل هو جهدٌ جماعي يتطلب الصمود والتعاون المستمر. على رغم طول الطريق وتعقيداته، الثوار ما زالوا يعملون بجد لتحقيق أهدافهم وبناء مستقبلٍ أفضل للشعوب العربية.
كصحافية ومعارضة للنظام السوري، أنا جزء من الحراك الشعبي في سوريا. أصف نفسي سياسياً بأنني أؤمن بقيم الديمقراطية والحريات وحقوق الإنسان، سواء قبل عودة النظام السوري إلى الجامعة العربية أو بعدها، أظل واثقة من أن الحراك الشعبي جزءٌ من النضال الشامل لتحقيق الحرية والعدالة في سوريا، تجب محاسبة النظام القمعي على انتهاكه حقوق الإنسان وجرائمه ضد المدنيين، وبالتالي، يُعتبر التطبيع السياسي مع النظام خيانةً للقضية السورية ومعاناة الشعب السوري الذي ناضل من أجل الحرية والكرامة.
إعلان هزيمة الربيع العربي لا يعكس الحقيقة، فأنا أؤمن بأن الربيع العربي ينبع من إيماننا بمواجهة أنظمة عربية مأزومة. برغم التحديات، لا يزال الأمل موجوداً في القدرة على المطالبة بالحرية والديمقراطية والعدالة الاجتماعية.
لذا، يجب أن ننظر إلى الربيع العربي كعملية تاريخية مستمرة. برغم التحديات، لا يمكن إلغاء الإنجازات الإيجابية التي تحققت في بعض الدول، فقد شهدت بعض البلدان تغييرات سياسية مهمة وإصلاحات مؤسسية، وزاد الوعي السياسي والمشاركة المدنية في تلك المجتمعات. وعلاوة على ذلك، يحدث التحول والتغيير المستمر في المشهد السياسي، وقد يظهر ربيعٌ جديدٌ في المستقبل.
إننا بحاجة إلى أن نتطلع إلى المستقبل بتفاؤل وثقة، وأن نستمد القوة من روح الثوار وصمودهم. فالتغيير ليس مهمة سهلة، ولكنها ليست مستحيلة. إنها مسؤولية مشتركة تقع على عاتق الشعوب العربية كلها، ويجب أن نواصل النضال من أجل إحداث التغيير الذي نطمح إليه.
في النهاية، الربيع العربي هو رحلة طويلة من التحديات، لكنها أيضاً رحلة للأمل والتغيير من أجل إحلال العدل والديمقراطية والحرية في الوطن العربي.
برغم التحديات، لا يزال الأمل موجوداً في القدرة على المطالبة بالحرية والديمقراطية والعدالة الاجتماعية.
غطفان غنوم – ممثل ومصور
كثيراً ما تمَّ إعلان موت الربيع العربي منذ انطلاقه في تونس وانتشار عدوى الثورات في بلدان عربية عدة، والمؤشرات على أرض الواقع تثبت للمتابع صحة ذلك، غير أن قراءة أكثر عمقاً لا بد أن تضع أمامنا مآلات أكثر تنوعاً، فالحكم بموت الربيع العربي يعادل القول بأن إرادة الشعوب قد ماتت أيضاً، وهذا ما لا تدعمه نظرية ولا تاريخ. الربيع العربي لم يكن في حال من الأحوال حركة منظمة ومفتعلة كمسيرات التأييد الشعبية المجهزة لدعم حكم ديكتاتوري ما، بل كان تحولاً في الوعي وتجدداً في الروح العربية، وهو بهذا قد حقق تبدلاً جذرياً لا يمكن العودة لما قبله، من غير الطبيعي ألّا يجد ذلك التحول ممانعة وحرباً ضروساً في مواجهته من فلول الأنظمة السابقة أو من متكسبي ما قبل الربيع، وتحت تلك المقاومة ستندرج كل النكسات التي نراها ونسمع عنها، ذلك كله في ظل انعدام الخبرات الثورية وضعف المجتمعات المدنية من جانب الثائرين، واستفحال العنف وحشد الخبرات القديمة وترويج الافتراءات حول حقيقة الربيع العربي من قبل الطرف الآخر. الربيع العربي سيستمر وهذه حتمية تاريخية لا يمكن لأحد إنكارها حتى لو تأخر القطاف، كل ذلك مشروط باكتساب الوعي من التجارب المريرة، والانتباه لضرورة بناء مجتمع مدني مواز وقادر على السير للأمام وفق متطلبات العصر.
لن ننكر أن عودة النظام السوري إلى الجامعة العربية كان مخيباً، وعلى مستويات عدة، عربية ووطنية، غير أن ذلك لم يشكل أي فارق بالنسبة إلي على الصعيد الحيوي الشخصي. ما زلت أجد القوة اللازمة كي أرفض وأصرخ وأعمل بحرية، وهذا هو الأهم حالياً.
الهزيمة بالمفهوم النمطي كلمة تتداولها الأنظمة، أما نحن فيمكننا القول: التاريخ لا يختصر بسنوات، والثورات تتعثر وترمم نفسها طالما بقيت إرادة الشعوب حية، هذه ليست نظرة تفاؤلية وإن انطوت على ذلك، تجارب الشعوب ما زالت أمامنا.
مايا محمد الجرف – كاتبة وصحافية
جاء الحديث عن إعادة العلاقات والتطبيع مع نظام الأسد مُرافقاً للذكرى العاشرة للثورة، وتكرّس بعودة سورية لجامعة الدول العربية، ما شكّل خيبة أمل كبيرة للمعارضة السورية التي رفضت أن تعتبر هذه الخطوة بمثابة إعلان لهزيمة الثورة، وشنّ أفرادٌ حملات على مواقع التواصل الاجتماعي تُدين فيها عودة سورية إلى “حضن” جامعة الدول العربية، وترفض إعادة العلاقات لا سيما فيما يتعلّق بقطاعي الاقتصاد والسياحة. وهُنا يجب علينا أن نسأل؛ ماذا بقي لنا من الثورة السورية؟ ولماذا نرفض الاعتراف بهزيمتها؟
لم تكن عودة النظام السوري إلى جامعة الدول العربية مُفاجئة بعد سلسلة المُصالحات التي حدثت في العامين السابقين، ولكن مع ذلك انكسر لنا حلم أخير في وقوف بعض الدول العربية في صفّ الثورة السورية، أو حتّى في صفّ أي ثورة يمكن أن تقومَ لاحقاً، فخطورة التطبيع مع نظام الأسد تكمن في إخلاء مسؤولية النظام عن كلّ ما ارتكبه في حقّ الشعب السوري من مجازر وتهجير واعتقالات. فتلك المُصالحات سمحت للنظام ومناصريه بالترويج لسورية كدولة “آمنة” تتخلّص من الحرب وتستعدّ لعودة اللاجئين إليها، ممّا شكّل قاعدة لدول الجوار يعتمدون عليها عند المطالبة بترحيل اللاجئين السوريين، وقد شهدنا في الآونة الأخيرة اعتقالات جديدة اتسهدفت سوريين عائدين من لبنان لم يلتفت إليها المطبّعون، ولم تحرّض أي دولة على إعادة النظر في مدّ يد المصالحة مع النظام. إذاً، بعد أكثر من عقد من الدمويّة، جاء التطبيع بمثابة تبرئة للأسد ومُطالبة للشعب السوري بنسيان الدم وهذا ما يجعلنا نصر على الرفض.
إضافة إلى أمر آخر يجعلنا نرفض التطبيع، وهو خوفنا من تكرار هذا السيناريو في بلد آخر؛ أن يقف ديكتاتور آخر أمام العالم ناكراً ما ارتكبه بحقّ شعبه، بل وأكثر من ذلك، ففي كلمته في قمة جامعة الدول العربية لم يبدِ رأس النظام السوري أي اهتمام بالشعب، بل اعتبر ما حدث من مقاطعات ومصالحات في السنين الأخيرة أمراً يمسّ بسيادة الدولة دوناً عن سكّانها ومواطنيها، ووصف تدخّل الغرب بالأمر غير المرغوب به، وطالب بترك القضايا الداخلية لشعوبها في حين لا يزال الوجود الروسي في الأراضي السورية قائماً، ولم يُحاسَب على جعل البلد مشاعاً لأي تدخل أجنبي وعلى كونه المسبّب الأوّل لهذه الفوضى.
لم تنجح ثورات الربيع العربي في تحقيق ما نادت لأجله – ولم تكن مطالبة بهذا النجاح- إلّا أن قيمها زُرعت في شعوبها، وإن أردنا الحديث عن الثورة السورية بشكل خاصّ، فإنها نجحت في تحقيق زيادة الوعي السياسي العام، لم يعد الحديث في السياسة “تابو” سواء عند من شارك في الثورة أو من لم يشارك، عند من غادر سوريا أو من بقي فيها. ولكن من باب رؤية الحقائق الواقعية، فأرى أنه علينا الاعتراف بانتهاء ثورة 2011، وإن كان هذا الاعتراف وهذه النهاية خارجين عن رغبتنا إلّا أنه لم يأتِ سوى من الإيمان بأن الثورة شكل من أشكال النضال من أجل التغيير. اعتراف يأتي دون نكران لأحقية وأهلية هذه الثورة التي عززت عند الشعب السوري وخصوصاً الشباب، أهميتها وفاعليتها في التغيير.
هاني عباس – رسام كاريكاتور
أفضل التحدث دائماً على المستوى البسيط من أي فكرة أي أنني أذهب في الفكرة إلى أساسها وأطرح أسئلة بسيطة لأحدد موقفي، ببساطة لم تخرج ثورات الربيع العربي بأوامر أو حتى بتحريض من دول عربية معينة (كما أشاع النظام السوري في بداية الثورة)، بل كانت حراكاً شعبياً ينادي بالتغيير نحو الأفضل وهذه صفة أصيلة في كل كائن حي أن يسعى لتحسين ظروف حياته.
خلال السنوات الـ12 من عمر الثورة السورية لم تقدم الجامعة العربية الدعم الحقيقي للشعب السوري، ليس لأنها لا ترغب بذلك بل لأنها ببساطة لا تستطيع التحرك من دون أوامر الغرب، الذي الذي استطاع في النهاية تجيير كل شيء بمصلحته في المنطقة.
ما أريد قوله هو أن الجامعة العربية لم تكن مؤثرة في التغييرات الكبيرة التي حصلت في سوريا واكتفت بدور المتفرج، وبالتالي فقبولها بعودة النظام إلى الجامعة نابع من مراقبتها لموازين القوى على الأرض وضغط عمليات تهريب الكبتاغون الذي يرعاها النظام السوري، إضافة إلى موافقة غربية غير معلنة.
بداية فقدان الأمل في التغيير لم تبدأ الآن، بل بدأت مع أول قصف بالطائرات الحربية مروراً بأول هجوم كيماوي صمت العالم عنه بكل سفالة، بدأ بأول مجزرة، وصولاً إلى دخول روسيا بجيشها وطائراتها وإبادة المدن السورية، إضافة إلى المليشيات الإيرانية الإرهابية التي أوغلت في سفك الدماء، إضافة إلى الاحتلالات التي تملأ مساحة الجغرافية السورية الآن من شرقها إلى غربها ومن شمالها إلى جنوبها.
في النتيجة لدينا وطن هرب أكثر من نصف سكانه وسكن معظمهم الخيام وفضّلوا تحمل ذلّ اللجوء على أن يعود إلى مناطق النظام، لدينا شعب فقدنا مئات الآلاف منه في المعتقلات وفي المجازر الجماعية وتحت ركام البيوت المقصوفة.
خسر الجميع، لا أحد يستطيع أن يعلن خسارته كما أن أحد اًلا يستطيع إعلان انتصاره.
تُحاسب الثورة على أسبابها وليس على مآلاتها، من يُحاسب على نتائج الثورة برأيي هو من قمعها وقتلها ومن دعمه ومن صمت عن ذلك وأيضاً من ركبها وكان أسوأ من النظام وليس من حاول التغيير بكل صدق وضحى من أجل ذلك.
ما يهمني شخصياً الآن وفي هذه المرحلة هو حياة من تبقى، حياة أفضل لهم، بخاصة مع الأزمة الاقتصادية الخانقة التي تعصف ببلدان عربية عدة، إضافة إلى الأمل بمحاسبة كل من ارتكب جريمة بحق هذا الشعب.
درج
—————————