مقالات حوارية عن الوضع في سورية بين “سميرة المسالمة” و “علي العبدالله” -أربعة مقالات-
أكثر من توضيح … ملاحظات على الأحزاب السورية والثورة والفشل/ علي العبدالله
أسعدتني الأستاذة الفاضلة سميرة المسالمة بمداخلتها على مقالتي، تحت عنوان لطيف “للتوضيح وليس ردّاً على علي العبدالله”، في “العربي الجديد” (26/5/2023). ليس ذلك فقط، بل وأتاحت لي فرصة العودة إلى الموضوع وإعطائه حقّه في العرض والتقويم. حيث جاء مقالي، “في حاجة المعارضة السورية للعقل السياسي”، في “العربي الجديد” (24/5/2023) مكثفا، وربما أعطى انطباعات لم تكن مقصودة، فلها جزيل الشكر.
بنت المسالمة ملاحظاتها على فرضية رئيسة، عدم وجود أحزاب حقيقية في سورية. لذا فإن ما قيل عمّا أحدثته الثورة في الواقع، وما قدّمته من فرصة للأحزاب، مبالغة. كان الأنسب أن تقول إنه نافلة لأنه ليس ثمّة متلقّ. وعادت واعتبرت ملاحظتي على أداء الأحزاب مُحبطة، وهذا لا يتسق مع قولها بعدم وجود أحزاب حقيقية، وحمّلت أصدقاء الشعب السوري مسؤولية فشل الثورة. وواقع الحال أن نفي وجود أحزاب سياسية معارضة مبالغة صارخة، حتى لا أقول نظرة عدمية، فلأحزاب المعارضة، على ما فيها من ضعف وقلة خبرة، منطلقات فكرية وسياسية، ولديها هياكل تنظيمية ومؤسّسات وقيادات، وتعقد مؤتمرات وتُصدر نشرات وبيانات وعمرها في النضال طويل؛ بين 75 و100 سنة. وعدم فعاليتها يلزمنا بالبحث عن السبب وراء ترهّلها وإنهاكها، لا نفي وجودها.
يمكن التدقيق في حقيقة الموقف والعمل على استجلاء الصورة واستنتاج حكم واقعي من خلال استقراء المواقف والوقائع، فعمل النظام على إغلاق المجال العام ومنع قيام حياة سياسية حقيقية هو المبرّر المنطقي والدافع الرئيس لعمل الأحزاب السياسية المعارضة لتغيير هذا الواقع. هذا من حيث المبدأ، وهو يستدعي التفكير في سبل مواجهة هذا الواقع والتغلب على ما فيه من قيود وعقبات. إذ لا يكفي أن نتذمّر من الوضع، بل لا بد من مواجهته بدفع من غريزة الحرية والكرامة التي غرسها الخالق، عزّ وجلّ، في فطرة الإنسان. وهذا يعيدنا إلى سيرة أحزاب المعارضة وتوجّهاتها في العقدين الأخيرين وعملها على الأرض وتقدير مدى منطقيّته وعمليته.
طرحت لجان إحياء المجتمع المدني من عام 2000 إلى 2005، وكنت عضوا في لجنتها الإعلامية، بعد بيانيها، بيان الـ 99 وبيان الـ 1000، ووثيقتها “توافقات وطنية”، مجموعة مبادرات ميدانية، خميس فلسطين عام 2002، حيث يتجمّع المشاركون أمام مكتب الأمم المتحدة في دمشق للتضامن مع الشعب الفلسطيني في مقاومته الاحتلال الإسرائيلي، والاحتفال بذكرى الجلاء بزيارة ضريح الشهيد يوسف العظمة، والاعتصام أمام القصر العدلي يوم 8 مارس/ آذار من كل عام احتجاجا على فرض حالة الطوارئ والأحكام العرفية، والاعتصام أمام مقر رئاسة الوزارة في ذكرى الإحصاء الاستثنائي في محافظة الحسكة عام 1962 الذي أخرج آلاف الكرد من الجنسية السورية. وقد كانت مشاركة الأحزاب السياسية فيها فردية وبقرار شخصي لا حزبي. وكانت قد رفضت عام 2004 التوجّه إلى مدينة القامشلي للاطلاع على الوضع بعد شغب الملاعب، والذي تحول إلى مجزرة باستخدام النظام القوة وإطلاق الرصاص على المحتجّين من الكرد وقتل وجرح العشرات واعتقال المئات وخروج تظاهرات في كل المدن السورية التي فيها تجمّعات كردية، الذي دعت إليه اللجان ونفذته، فالعلة خلف ضعف الأحزاب السياسية المعارضة وضعف دورها وفعاليتها ترجع إلى عدم انخراطها في عمل مباشر ومثابر من أجل تجاوز الواقع والعوائق الأمنية والاجتماعية التي تقف في وجه التغيير؛ وعدم تدريب كوادرها على تنفيذ نشاطاتٍ ميدانيةٍ لاكتساب الخبرة والصلابة. يذكّرني حالها بمشهد في فيلم “طبّاخ الريس”، تظاهرة تنادي بالتغيير وكادر من حزب المعارضة يتابعها وهو يخفي وجهه خلف صحيفة، وعندما تهاجمها قوات الشرطة يغادر المكان.
أسرد هنا واقعتين تؤكّدان ما أقوله. في لقاء مفتوح دعت إليه لجان إحياء المجتمع المدني عام 2003 حضره عدد جيد من كوادر أحزاب المعارضة، دعوتُ أحزاب المعارضة إلى تشكيل “جبهة خلاص وطني”؛ فانبرى للردّ على الفكرة ورفضها قيادي من الحزب الشيوعي ـ المكتب السياسي وقيادي من حزب العمّال العربي الثوري. والطريف أن الأول جلس إلى جانبي بعد إنهاء تعقيبه، وقال لي: “فكرتك راح تصرعهم (يقصد النظام)، صرع”. لم يرفض الفكرة لأنها خاطئة أو غير مُجدية بل لأنها تستفز النظام. وفي اجتماع لمجلس الرئاسة في إعلان دمشق للتغيير الوطني الديمقراطي، وكنتُ عضوا فيه، طرحت فكرة عن معاضدة الثورة بأحاديث صوت وصورة؛ يسجّلها رياض الترك، بما له من مكانة وسمعة محلية وعربية ودولية، وكنت كتبتُ له كلمة مقترحه، فاعتذر مبرّرا موقفه بقوله “دع أصحاب الثورة يديرونها”، لكنه صارحني، في لقاء خاص، بأن قيادة حزبه، حزب الشعب السوري، طلبت منه عدم الإدلاء بتصريحات تثير السلطة فتعتقلهم.
وهذا من دون أن ننسى سلوك أحزاب المعارضة في بدايات الثورة بعد ارتفاع مستوى عنف النظام ضد المتظاهرين وتنفيذه عمليات قتلٍ بدم بارد، ببدء قادتها وكوادرها مغادرة البلد إلى المهاجر البعيدة. لاحظت خلال وجودي في منظمة التحرير الفلسطينية، بين عامي 1977 و1994، مدى التقدير الذي يكنه الشعب الفلسطيني للرئيس ياسر عرفات وحركة فتح، لأنهما منخرطان في العمل السياسي والعسكري بقوة. قدمت الحركة أكثر من عشرة شهداء من أعضاء لجنتها المركزية، حتى أن قائد موقع في الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين في جنوب لبنان قال لي: “كنّا ننام في المواقع مطمئنين، لأن رجال عرفات في الجوار”.
لستُ من دعاة الانتحار السياسي. ولكن لنتصوّر ماذا كان يمكن أن يحصل لو أن قادة أحزاب المعارضة أو بعض كوادرها البارزين تصدّروا التظاهرات في المدن الرئيسة، وماذا كان سيترتّب عليها داخليا وخارجيا من نتائج؟ تتحرّك أحزاب المعارضة السورية وفق قاعدة تحقيق الحسنين: معارض ويعيش بأمان. ممارسة سياسية حللتها ثناء فؤاد عبدالله في كتابها “آليات التغيير الديمقراطي في الوطن العربي” (مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، 1997). يقوم النظام والمعارضة بتكميل بعضهما البعض، بحيث تكون ثمرته استمرار كلّ منهما في موقعه ودوره، فللنظام والمعارضة مصالح داخل النظام، الأول يحكم والثانية تعارض من دون تشكيل تحدٍّ فعلي للأول.
تبقى نقطة الخلاف الرئيسة مع الأستاذة الفاضلة رأيها بشأن سبب فشل الثورة السورية. ترى أنه “لا يعود فقط إلى غياب القيادة السياسية، أو الكيانات السياسية، الواعية والمجرّبة، والمرتبطة بشعبها، على أهمية ذلك كله، وإنما يعود، أساساً، إلى المداخلات الخارجية، وضمنها مما يسمّى معسكر “أصدقاء الثورة السورية” عربا وإقليميين ودوليين، التي قيدت مسارات الثورة وخطاباتها وتلاعبت بها، فالعامل الخارجي (مع غياب الداخلي أو ضعفه) كان هو العامل المقرّر في ذلك كله”. بينما أرى أن العامل الذاتي هو الذي دفع العامل الخارجي إلى تغيير موقفه، فانكسار الثورة بدأ في العام الثاني لانطلاقها، بعد أن عجزت عن تطوير أدائها والتحوّل إلى ثورة منظمّة تعتمد خططا وبرامج محدّدة وموحّدة؛ حيث بقيت تواجه النظام في إطار مواجهاتٍ محليةٍ من دون ارتباط بالمشهد العام، ومن دون التفات إلى ما يحصل في مواقع أخرى أو التحرّك للتنسيق والتشبيك معها؛ تحوّلت إلى ثوراتٍ مناطقية، وانخراط التنسيقيات، التي لعبت دور الداعم اللوجستي للثوار والمواطنين بالعمل على توفير احتياجاتها لتنظيم التظاهرات ومداواة الجرحى وإغاثة المشرّدين والمحتاجين، في تنافس عدمي، وتحرّك المجلس الوطني من دون ارتباط فعلي بالثورة، ومن دون تنسيق مع قادتها، كان لكاتب هذه السطور شرف التنبيه من فشل الثورة في مقالةٍ نشرت في صحيفة المستقبل اللبنانية يوم 27/5/2012 تحت عنوان “الثورة السورية على مفترق طرق”. وهذا قاد إلى تأكّد القوى الخارجية الداعمة من عدم قدرة الثورة على تحقيق هدفها إسقاط النظام وإدارة البلد بعد النصر، ودفعها إلى التحوّل إلى تبنّي تغيير سلوك النظام عبر إدارة الصراع وضبط وموازنة دعم المعارضة بدلالة هذا الخيار. عكس ما حصل في تونس ومصر مثلا، حيث أدّت القناعة بقدرة التظاهرات على إسقاط النظامين إلى تركيز الضغط على بن علي وحسني مبارك، ودفعهما نحو الخروج من المشهد، فهرب الأول إلى الخارج واستقال الثاني، فالدول تنخرط في الصراعات الساخنة، بشكلٍ مباشر أو غير مباشر، لتحقيق أحد هدفين: درء مخاطر أو تحقيق مكاسب، وما تفعله خلال انخراطها في الصراعات محكومٌ بحساباتها الخاصة وسعيها إلى تحقيق مصالحها بالدرجة الأولى. وهنا يأتي دور القوى المحلية بخططها وبرامجها وممارساتها في إقناع القوى الخارجية بقدرتها على النصر؛ وبتوافق نصرها مع بعض أو كل أهداف هذه القوى ومصالحها؛ وحجز موقع في المعادلة ومقعد على الطاولة والحصول على حصّة من النتائج لصالح مطالبها وأهدافها.
لم تنجح قوى المعارضة في تسويق ذاتها وتعزيز دورها من خلال ممارساتها ومواقفها وإبراز تقاطع مصالحها وأهدافها مع “أصدقاء الشعب السوري”، بل على العكس أثارت شكوك القوى الخارجية وارتيابها، من خلال شعارات ومواقف متباينة وغير مدروسة. نذكر هنا موقف رئيس المجلس الوطني السوري، برهان غليون، من الثورة في ليبيا، حيث اعتبرها صنيعة حلف الناتو، وتصريحات أعضاء في المجلس الوطني وقادة الفصائل المسلحة عن جبهة النصرة، وعن الدور الأميركي، التي أوحت بأن المعارضة، السياسية والعسكرية، تريد الدعم لخدمة أهدافها في الوصول إلى السلطة، من دون أن توحي باعتراف أو استعداد للتعاون لتحقيق أهداف مشتركة. وقد زاد افتراق مصالح دول “أصدقاء الشعب السوري” الموقف تعقيدا وقاد إلى انفجار التنافس بينها وتبنّي كل منها جهة سياسية أو عسكرية من أجل تحقيق مصالحها وأهدافها الخاصة، فقد رأت دول الخليج في نجاح الثورة في تونس ومصر ونجاح حركة النهضة في الأولى والإخوان المسلمين في الثانية في الانتخابات البرلمانية والرئاسية تعبيرا عن تحالفٍ أميركي مع أعدائها في الحركات الإسلامية. وعليه، قادت الإمارات والسعودية حملة مضادّة ضد الربيع العربي وزجت إمكانات مالية ولوجستية وعسكرية كبيرة لإفشال ثوراته، ونجحت في عكس اتجاه الأحداث في مصر وليبيا وتونس. وزاد الموقف تعقيدا قرار الرئيس الأميركي، باراك أوباما، تخفيف دور الولايات المتحدة في الشرق الأوسط والتركيز على شرق آسيا لمواجهة الصين؛ وعمله على إبعاد روسيا عن الأخيرة، ما حاول تحقيقه عبر إعطاء روسيا مكاسب في ملفات إقليمية ودولية، تجلّى ذلك في ردّ فعله الفاتر على احتلال روسيا شبه جزيرة القرم عام 2014، وإعطائها ضوءا أخضر للتدخل في سورية عام 2015، بشرط عدم إنزال قواتٍ على الأرض. فتحوّل الصراع في سورية إلى حربٍ بالوكالة، لا يمكن اعتبارها جزءا من الثورة أو امتدادا لها، ولا هدفها تحقيق مطالبها. فكانت النتيجة ما نشاهده الآن.
العربي الجديد
————————————–
للتوضيح وليس ردّاً على علي العبدالله/ سميرة المسالمة
تستحقّ أي حركة سياسية النقد، وكذلك أية ثورة، بوصفها فعلا بشريا. وهذا إن كان يصحّ جداً على حراك المعارضة السورية قبل 2011، فهو يصحّ كثيرا على الثورة السورية ومجرياتها، وهو ما يفعله الكاتب السياسي علي العبدالله، ومنها مقاله في “العربي الجديد” وعنوانه “في حاجة المعارضة السورية للعقل السياسي” (24 /5 /2023)، وهو ما يحاوله كثر من الأصدقاء، في كتاباتٍ فردية، ومنها مقالات كاتبة صاحبة هذه السطور على صفحات الصحيفة نفسها. ومنها ما هو عمل جماعي على شكل نداءات سياسية صدرت قبل نحو سبع سنوات، سبقت خروجي من الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة السورية، مع مجموعة من الأصدقاء والزملاء، ومنهم ميشيل كيلو رحمه الله. وقبل ذلك مقالتي بعنوان “اعتراف واعتذار إلى الشعب السوري”، نشر على صفحات “العربي الجديد” (16 /12 /2016)، ضمّنته انتقاداتي وقطيعتي مع “الائتلاف”، ومع الارتهانات الخاطئة التي اشتغلت عليها الكيانات السياسية والعسكرية التي تحكّمت بمسارات الثورة السورية. بيد أن المقال المذكور دفعني إلى كتابة هذه المساهمة، للتوضيح، في نقاط، أهمها:
أولا، يكتب العبدالله عن “تسلّم حزب البعث السلطة، وإغلاقه المجال العام وفرض رؤيته السياسية دينا للدولة عبر كمّ الأفواه والملاحقات والبطش بالمعارضة باسم القومية والتقدّمية”، وأن الأحزاب في سورية عملت “على تعزيز مواقفها وتقوية حضورها وتثبيته وزيادة وزنها في المعادلة الداخلية بإقامة تحالفاتٍ سياسية، “التجمع الوطني الديمقراطي” و”إعلان دمشق للتغيير الوطني الديمقراطي”. لكن حاصل نضالها بقي متواضعا، وتأثيره في الواقع ضعيف”. وهو محق في ذلك، وأعلم أنه أحد أعلامها، لأن النظام ببعده السلطوي احتكر السياسة، وحرمها على شعبه من غير البعثيين إن صحّ أنه سمح لهم بذلك. ولكن، على كل حال، تبيّن لنا نحن الذين كنّا نسير في عباءة النظام أن الواقع السوري يفتقد إلى مكانة “المواطنة”، أو حقوق المواطن التي نعيشها في واقعنا الاغترابي الأوروبي، لاجئين أو مواطنين غير أصليين.
ولكن ما رسم الدهشة لديّ أن الكاتب في فقرة تالية يذهب إلى حالة تفاؤل، تنطوي على مبالغة، بقوله: “فتحت ثورة الحرية والكرامة أمام هذه الأحزاب فسحةً واسعةً للعمل السياسي عبر مساحة الحرية التي أتاحتها، بتحدّيها القيود والمحدّدات السلطوية وكسرها حاجز الخوف وفتحها المجال العام … والصدع بالآراء والمشاركة بالأفعال، الفردية والجماعية، ومنحتها فرصة كبيرة لأخذ موقع في عملية التغيير السياسي الذي بشّرت به طويلا”، ثم تأخذه تلك المبالغة إلى نتيجة مُحبطة إذ يكتب: “كشفت التجربة العملية واقع هذه الأحزاب، وما يكتنفه من نقاط ضعف وفقر نظري وعجز عملي … بل وأظهرت أيضا عمق الفجوة بينها وبين قاع الهرم الاجتماعي…”. وأعتقد هنا أن النتيجة لا يمكن أن تكون حاصل مسار طبيعي لمقدّمة المقال، إذ لم تعرف سورية حياة سياسية حقيقية، وحتى المجموعات التي تشكّلت كأحزاب تم استئصالها، بخاصة منذ مطلع الثمانينيات، وينطبق هذا على الحزب الشيوعي المكتب السياسي” ومنظمة العمل الشيوعي والإخوان المسلمين. وعليه، انطلقت الثورة السورية بشكل عفوي، ولم تكن ثمّة قوى سياسية تستطيع أخذ زمام المبادرة، والتحكّم بمسارات ذلك الانفجار، وبخاصة أنها لحقت بالثورة وجاء بعضها متأخراً إليها.
ثانيا، يكتب علي العبدالله: “وحدها الجماعات الإسلامية، الإخوانية والسلفية والمشيخية، اخترقت هذه الفئات الاجتماعية بنسبٍ متفاوتة، ما أتاح لها التأثير على مجريات الثورة وتوجيه قطاعاتٍ من قواها نحو رؤاها وأهدافها الخاصة”. وأعتقد أن التيارات الإسلامية أكثر قدرة على التعاطي مع القطاعات الشعبية، لكن ذلك لا يفسّر وحده هيمنة الإسلام السياسي بتنويعاته على الثورة السورية، فذلك يعود إلى ضعف التيارات اليسارية والقومية والعلمانية والليبرالية، بسبب السياسات التي انتهجها النظام، بما فيها تدعيم تيارات إسلامية وظيفية، متنوعة، موالية ومعارضة له، أو تخليقها. وإلى مداخلات ما يعرف بـ “أصدقاء سوريا”، من الداعمين الخارجيين، الذين صبّوا جهودهم على تشكيل فصائل عسكرية جلّها بصبغة إسلامية، بل هؤلاء الداعمون هم الذين تحكّموا بتشكيل المجلس الوطني، وبعده الائتلاف الوطني.
ثالثا، يكتب العبدالله “برّر قادة الأحزاب السياسية ضعف أحزابهم وقلة خبرة كوادرهم بالقمع الوحشي الذي تعرّضوا له طوال عقود من حكم “البعث”، ما قاد إلى انعدام فرص اكتساب الخبرات والوعي السياسي. قول وجيه، لكنه غير كاف…”. لكنني، وبحكم عملي في الإعلام السوري سابقاً، أعتقد أن هذا القول جانب الصواب أو على الأقل بالغ في وصف ما كان بالأحزاب والقيادات لها، إذ لم يعرف الشعب السوري أحزابا بمعنى الكلمة، وهذه نقطة خلاف أساسية مع العبدالله، وتشكّل منطلق مقاله، إذ توجد مجموعات سياسية محدودة، وممنوعة، وفقط، من دون عمل سياسي سرّي أو علني، منذ نصف قرن. وقد تعرّض الكاتب علي العبدالله نفسه مع ولديه للسجن بسبب نشاط من هذا النوع، بسبب انتهاج النظام السوري سياسة استئصالية باستخدام أقصى القمع كما يصفها زملاؤنا المعارضون.
واعتبر الكاتب أن قادة تلك الأحزاب المفترضة “برّروا فشلهم في التحوّل إلى قوة رئيسة في الثورة والنجاح في تحقيق أهدافها في الحرية والكرامة بالعسكرة والأسلمة. كلام تبريري أكثر منه تقديرا واقعيا، فالعسكرة بدأت ممارسة محلية ومحدودة تحت شعار حماية التظاهرات من قوات النظام والشبّيحة قبل أن تتحوّل إلى الجهد الرئيس في الصراع… الأحزاب إما غضّت الطرف خوفا من ردّ فعل المتظاهرين، وحرصا على صورتها، طرفا في الثورة أو طرفا داعما لخياراتها وتوجّهاتها، أو أيدت العسكرة باعتبارها وسيلةً مناسبةً لحسم الصراع مع النظام في زمن قصير. وهذا يجعلها مسؤولةً عن تنامي العسكرة وهيمنتها على المشهد”. يصحّ هذا الكلام عندي جزئيا، لكنه ليس أساسيا، فهو لا يلحظ الفرق في التحوّل نحو العمل المسلح، بين ظاهرة عفوية وشعبية، بدأت من المنشقين عن الجيش، الرافضين إطلاق النار على شعبهم، ومع من يريد أن يدافع عن أهله وقريته وحارته، وظاهرة أخرى تمثّلت في تشكيل دول عربية وإقليمية (أو بدعم تشكيل) فصائل عسكرية، ذات صبغة إسلامية، الأمر الذي طبع الثورة بطابعها وأيضا جعلها رهينة للداعمين الخارجيين على تنوعهم، أميركي – غربي – عربي (وضمنهم تركيا).
رابعا، يرى العبدالله محقّا أن “التحدّي الأساسي الذي يواجه الأحزاب والمؤسّسات السياسية السورية المعارضة … وضْع تصوّر واضح لمسيرة الصراع ونهايته، ما يتيح معرفة الأدوات والوسائل المناسبة … فقد ركّزت على العموميات، مثل الحرية والمواطنة والديمقراطية … من دون امتلاك تصورات لطرق تحقيقها أو خبرات للتخطيط والحشد والتنفيذ، وخاضت الصراع على قاعدة ردّ الفعل على قرارات النظام ومواقفه، لا على تصوّر مدروس وخطط عملية. وعندما اكتشفت عدم جدوى سرديّتها وأدواتها في مواجهة التطورات لم تنحَز إلى المراجعة والتقويم وإعادة النظر…”. واعتراضي هنا يتمحور في قوله: “لو أدركت هذه الأحزاب الحاجة إلى تجديد سردياتها أو تعديلها أو تغييرها وانخرطت في الثورة مباشرة، واشتغلت على التخطيط للمسار وأدواته … من موقع الشريك الفاعل، وقدّمت لها بدائل أكثر جدوى، لكانت شدّت انتباه المجتمع، وأقنعته بقدرة الثورة على النصر، ما سيدفعه إلى الالتحاق بها وتشكيل كتلة حرجة تجعل حسم الصراع في المتناول …”. وهذه عودة إلى حديث عن أحزابٍ مفترضة، أو متخيّلة، أكثر مما هو حديث عن أحزابٍ متعيّنة، ومتمثلة في كتل اجتماعية من الشعب السوري، وهذه نقطة خلافية غاية في الأهمية مع التفهم والتقدير لمقاصد الكاتب، فالخلاف ليس مع ما يقوله من توصيفات، وإنما من تحميل ذلك على الواقع السياسي السوري المبعثر.
باختصار، ألفت الانتباه هنا إلى مسألة غاية في الأهمية، أن فشل الثورة السورية لا يعود فقط إلى غياب القيادة السياسية، أو الكيانات السياسية، الواعية والمجربة، والمرتبطة بشعبها، على أهمية ذلك كله، وإنما يعود، أساساً، إلى المداخلات الخارجية، وضمنها مما يسمّى معسكر “أصدقاء الثورة السورية” عربا وإقليميين ودوليين، التي قيدت مسارات الثورة وخطاباتها وتلاعبت بها، فالعامل الخارجي (مع غياب الداخلي أو ضعفه) كان هو العامل المقرّر في ذلك كله، فواضح أن النظام الدولي والعربي هو الذي تساهل مع قتل النظام الملايين من شعبه وتشريدهم، وهو الذي سمح وسهّل لإيران ومليشياتها ولروسيا دخول سورية شركاء للنظام، وهذا بالتأكيد ليس بعيداً عن رقابة و”كونترول” كل من الولايات المتحدة وإسرائيل.
القصد أنه حتى مع وجود قوى ثورية فاعلة ووازنة في سورية، ما كان يمكن السماح بتغيير سياسي، وهو ما لم يتم السماح به، ليس في سورية فقط، وإنما في مصر وتونس واليمن والسودان والجزائر وليبيا والعراق ولبنان، أيضاً. فقط ربما كان في الوسع تجنيب الشعب السوري مخاطر العمل المسلح، وتمزيق المجتمع السوري باسم الأسلمة، أو الفصائل التي تتغطّى بالإسلام السياسي، وكان يمكن الحفاظ على الشعب السوري على أرضه، وتجنيبه مآلات اللجوء والتشريد، وهي أحد تداعيات انفجار الصراع المسلح في سورية، الذي لم نستطع التحكّم به، بسبب سياسات النظام العنفية، وبسبب الظرف العربي والإقليمي والدولي، وأيضا بسبب افتقادنا قوى سياسية فاعلة ومجرّبة، ومنها الأحزاب المعارضة التي يشير لها المقال.
شكرا للكاتب علي العبدالله الذي دفعني إلى كتابة هذا التوضيح، مع كل التقدير لشخصه ولما يكتبه.
العربي الجديد
—————————–
في حاجة المعارضة السورية للعقل السياسي/ علي العبدالله
شهدت الحياة السياسية السورية ولادة أحزاب إسلامية وقومية وشيوعية خاضت تجارب نضالية مريرة وقاسية، حيث واجهت القمع والمعتقلات والسجون، ودفعت أثمانا باهظة لمواقفها السياسية، خصوصا بعد انقلاب 8 آذار (1963)، وتسلّم حزب البعث السلطة، وإغلاقه المجال العام وفرض رؤيته السياسية دينا للدولة عبر كمّ الأفواه والملاحقات والبطش بالمعارضة باسم القومية والتقدّمية. وقد عملت هذه الأحزاب على تعزيز مواقفها وتقوية حضورها وتثبيته وزيادة وزنها في المعادلة الداخلية بإقامة تحالفاتٍ سياسية، التجمع الوطني الديمقراطي وإعلان دمشق للتغيير الوطني الديمقراطي. لكن حاصل نضالها بقي متواضعا وتأثيره في الواقع ضعيفا.
فتحت ثورة الحرية والكرامة أمام هذه الأحزاب فسحةً واسعةً للعمل السياسي عبر مساحة الحرية التي أتاحتها، بتحدّيها القيود والمحدّدات السلطوية وكسرها حاجز الخوف وفتحها المجال العام للتحرّك المباشر والصدع بالآراء والمشاركة بالأفعال، الفردية والجماعية، ومنحتها فرصة كبيرة لأخذ موقع في عملية التغيير السياسي الذي بشّرت به طويلا؛ وسعت إلى تحقيقه؛ واضعة قادة هذه الأحزاب وكوادرها أمام ساعة الحقيقة والكشف عن جدّيتها واستعداداتها للتضحية عبر خوض غمار التجربة والانخراط في العمل المباشر؛ وأمام اختبار قدراتها وخبراتها العملية في التخطيط والتنفيذ. وقد كشفت التجربة العملية واقع هذه الأحزاب، وما يكتنفه من نقاط ضعف وفقر نظري وعجز عملي، إن في إدارة الصراع وتحديد سبل مواجهة التحدّيات واختراق التوازنات وكسر المعادلات القائمة وفرض الحلول التي تلبّي المطالب الشعبية أو في فهم الواقع الإقليمي والدولي وإدراكه، كما تجلى بوضوح في تعاطيها مع العنصر الجديد في المشهد: الثورة، بمزيج من الدهشة والارتباك والانتهازية.
لم تظهر التجربة العملية فقر هذه الأحزاب النظري وعجزها العملي فقط، بل وأظهرت أيضا عمق الفجوة بينها وبين قاع الهرم الاجتماعي، وهو الجزء الأكبر فيه، وتحاشيها الخوض في قضاياه ومشكلاته الكبيرة والمكلفة. وقد ترتب على نخبويّتها فشلها في التواصل مع المتظاهرين الذين جاء معظمهم من الأحياء الشعبية وسكان الأحياء العشوائية والمخالفات والمهمّشين والأرياف الفقيرة والمهملة، فالنخبوية والابتعاد عن المواطنين العاديين، سيما في بلدٍ يخضع فيه الإعلام لسيطرة النظام المطلقة؛ بحيث يجعل إجراء نقاش مفتوح مستحيلا، وصفةً للانتحار السياسي. وحدها الجماعات الإسلامية، الإخوانية والسلفية والمشيخية، اخترقت هذه الفئات الاجتماعية بنسبٍ متفاوتة، ما أتاح لها التأثير على مجريات الثورة وتوجيه قطاعاتٍ من قواها نحو رؤاها وأهدافها الخاصة. وقد زاد الطين بلة سعي هذه الأحزاب إلى ركوب موجة الثورة وتوجيهها من دون الانخراط المباشر في فعالياتها، في انتهازية موصوفة، عبر تشكيل كياناتٍ وأطر سياسية تتحدّث باسم الثورة الشعبية، في محاولة عرّتها التنسيقيات الشبابية بتعاطيها العملي مع احتياجات الحراك الثوري وتقديم دعم مباشر له بتوفير لوازم التظاهرات من لافتاتٍ ومكبّرات صوت وأدوية ومشاف ميدانية وتغطية إعلامية شاملة، ما عمّق ارتباك الأحزاب وأثار حفيظتها ودفعها إلى التحرّك على محورين؛ التشهير بالتنسيقيات، اعتبرها قائد تاريخي لحزب سياسي ظواهر فيسبوكية، والسعي إلى اختراقها واستتباعها.
لم يكن انفصال الأحزاب المعارضة، القومية والشيوعية، عن قاع الهرم الاجتماعي السبب الرئيس والوحيد وراء عجزها عن التعاطي المباشر مع المتظاهرين والانخراط في فعاليات الثورة، بل هناك ايضا سرديّاتها القديمة وعدم إدراكها ضرورة الخروج من إسارها والبحث عن سرديةٍ جديدة تنسجم وتتناغم مع التطوّر العاصف الذي اجتاح الساحة وفرض مسارا بديلا لما كانت تبشّر به وتروّجه. لم تكتف بالاحتفاظ بسرديّتها القديمة بل زادت، على الضدّ من المنطق السليم والعقل السياسي الناضج، بادّعاء أن هذه السرديات خلفية الثورة ومفجرتها.
إذا كان وجود سردية موجّهة ضرورة إلى العمل السياسي والاجتماعي، فإن المرونة وإعادة النظر في أسسها ومحتواها في ضوء التطورات السياسية والاجتماعية لا يقلان أهمية عن هذا الوجود، فالعمل السياسي والاجتماعي يحتاج إلى تصوّرات وخطط منطقية وقابلة للتبرير والبرهنة والتنفيذ على أرض الواقع، أي يحتاج إلى الجمع بين المعقولية والعملية. لقد ظهرت الفكرة/ التصوّر وسيلة لابد منها لتحرّك الأفراد والجماعات، وقامت الكفاءات الفكرية والاجتماعية، على خلفية ضرورة التحرك الجماعي لمواجهة المشكلات الاجتماعية والتحديات الخارجية، بتوسيع الفكرة وتحويلها إلى رؤيةٍ شاملةٍ ومتكاملة، نظريات، ودفعت نحو تحوّلها إلى عقيدة جماعية عبر الترويج والتسويق والتنظيم، وتوظيفها في توحيد المواقف وحشد القوى وتجميع الإمكانات. وهذا يتعارض، بنسبةٍ أو أخرى، مع الاستخفاف والتسرّع، من جهة، ومع التصوّرات المجرّدة والعقائد الجامدة، من جهة ثانية. وهذا جزء خطير مما واجهته ثورة الحرية والكرامة مع ممارسات الأحزاب ومثقفيها. ونموذجا على الاستخفاف بالعقول، رد المرحوم ميشيل كيلو على سؤال وجهته له صحيفة النهار اللبنانية عن زيارة المعارض كمال اللبواني إسرائيل بالقول إن الأخير زارها كسويدي. والرجل معارض سوري لاجئ في السويد ويحمل جواز سفر سويديا. كما يتعارض التحرك السياسي مع عقلية المناكفات الشخصية والحزبية التي تعدّ من أكثر الظواهر تبديدا للجهود والطاقات وتدميرا للصدقية والثقة، وهو ما كان يحصل، للأسف الشديد، بين قادة الأحزاب والكتل السياسية داخل مؤسّسات المعارضة، وشهده الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة السورية مرارا. ولعل أكثر المناكفات التي حصلت فيه فجاجة تهديد معارض على رأس تكتل ديمقراطي قيادة “الائتلاف” أنه في حال عدم قبول تكتّله في الائتلاف خلال عملية التوسعة وبعدد مقاعد محدّد فإنه سيفضحها بالكشف عن فسادها. الطرافة هنا انه لم يكتف بطلب الدخول في مؤسّسة يعرف أنها بؤرة فساد بل ويهدد بفضحها ما لم تقبل به؟.
برّر قادة الأحزاب السياسية ضعف أحزابهم وقلة خبرة كوادرهم بالقمع الوحشي الذي تعرّضوا له طوال عقود من حكم “البعث”، ما قاد إلى انعدام فرص اكتساب الخبرات والوعي السياسي. قول وجيه، لكنه غير كاف لتفسير مدى ضعف هذه الأحزاب وترهّلها وتآكل قدراتها، فقمع النظام جزءٌ من الصراع السياسي الذي يجب أخذه بالحسبان واحتواء مفاعيله وآثاره، والقمع مهما بلغ لا يلغى فرص تطوّر الكوادر واكتسابهم خبرات فردية بجهود ذاتية في أسوأ الأحوال. كما برّروا فشلهم في التحوّل إلى قوة رئيسة في الثورة والنجاح في تحقيق أهدافها في الحرية والكرامة بالعسكرة والأسلمة. كلام تبريري أكثر منه تقديرا واقعيا، فالعسكرة بدأت ممارسة محلية ومحدودة تحت شعار حماية التظاهرات من قوات النظام والشبّيحة قبل أن تتحوّل إلى الجهد الرئيس في الصراع. وما حصل أن الأحزاب إما غضّت الطرف خوفا من ردّ فعل المتظاهرين، وحرصا على صورتها طرفا في الثورة أو طرفا داعما لخياراتها وتوجّهاتها، أو أيدت العسكرة باعتبارها وسيلةً مناسبةً لحسم الصراع مع النظام في زمن قصير. وهذا يجعلها مسؤولةً عن تنامي العسكرة وهيمنتها على المشهد. والأسلمة هي الأخرى ذريعة؛ لأن تشكيل الجماعات الإسلامية الفصائل المسلّحة وهيمنتها على الساحة تم بعد انكسار الثورة الذي حصل في النصف الأول من عام 2012، بعد اكتفاء الأحزاب المعارضة بدعم الثورة من خارجها، ومن دون الانخراط في فعالياتها، ما كان سيضعها، لو انخرطت، في موقع الشريك ويمنحها فرص التفاعل والتوجيه والتأثير؛ وفشل المؤسّسات السياسية التي شكّلتها لتمثيل الثورة وقيادتها، في تطوير الثورة ونقلها من العفوية إلى الفعل الجماعي المنظم والمدروس والقرار السياسي والميداني الموحّد. وقاد هذا إلى سيطرة النزعات المحلية، وحوّل الثورة إلى جزر متباعدة وخيارات متعدّدة وخطط متعارضة.
التحدّي الأساسي الذي يواجه الأحزاب والمؤسّسات السياسية السورية المعارضة قدرتها على وضع تصوّر واضح لمسيرة الصراع ونهايته، ما يتيح معرفة الأدوات والوسائل المناسبة. وهذا كان خارج تصوّر الأحزاب أو خارج قدراتها، فقد ركّزت على العموميات، مثل الحرية والمواطنة والديمقراطية، تبنّت مطالب من دون امتلاك تصورات لطرق تحقيقها أو خبرات للتخطيط والحشد والتنفيذ، وخاضت الصراع على قاعدة ردّ الفعل على قرارات النظام ومواقفه، لا على تصوّر مدروس وخطط عملية. وعندما اكتشفت عدم جدوى سرديّتها وأدواتها في مواجهة التطورات لم تنحَز إلى المراجعة والتقويم وإعادة النظر، بل ذهبت بعيدا في الدفاع عن سرديّتها، فالعقيدة السياسية تمنح أصحابها قدرةً على تقديم تصوّرات وقراءات متناسقة ومتماسكة نظريا، وهذا وجهها الإيجابي، لكنها، وهذا وجهها السلبي، تُلزمهم، في الوقت نفسه، بمواقف مسبقة تحوّلهم إلى أشخاصٍ مغلقين وجامدين.
لو أدركت هذه الأحزاب الحاجة إلى تجديد سردياتها أو تعديلها أو تغييرها وانخرطت في الثورة مباشرة، واشتغلت على التخطيط للمسار وأدواته وطرق مقاربتها من موقع الشريك الفاعل، وقدّمت لها بدائل أكثر جدوى، لكانت شدّت انتباه المجتمع، وأقنعته بقدرة الثورة على النصر، ما سيدفعه إلى الالتحاق بها وتشكيل كتلة حرجة تجعل حسم الصراع في المتناول.
تحتاج الأحزاب من أجل الخروج من المستنقع إلى عمل جاد ودائب لكسر حالة الضعف والترهّل. وهذا يحتاج مواجهة واقعها وبنيتها وسرديّتها وتجديد ثقافتها السياسية والانتقال نحو رؤى منفتحة والتركيز على مناهج التوقّع والاستشراف وحساب اليوم التالي، فالبحث عن النجاح اليوم بأدواتٍ فشلت بالأمس وصفة كارثية، ما يستدعي تجاوز عقدة الثبات على المبادئ، حرصا على الصورة الذهنية، وتحتاج إلى بذل جهود كبيرة إضافية لإخراج المجتمع عامة، وحواضن الثورة خاصة، من الإحباط واليأس، عبر العمل على إعداد رموز مجتمعية جديدة بعيدا عن السياسة، وتصديرها المشهد، بحيث تجذب الانتباه فتتحوّل إلى قدوة ومبعث للأمل ومدخل لصحوة مجتمعية. وهذا يستدعي وقفة صريحة وجادّة مع الذات ومراجعة تجاربها وتقويم سردياتها وممارساتها بموضوعية ونزاهة وعمق من دون تلبيس أو مخاتلة. فمن دون خروجها من الجمود والانغلاق واعتماد المنطق السياسي السليم وتجديد الثقافة السياسية، ستُواجه أخطارا محدقة؛ فاللحظة السياسية تشي باقتراب النهاية وخروجها من المشهد ما لم تضع خريطة طريق محدّدة بدقّة لإرساء سيادة العقل السياسي والفعل المدروس، حيث لا يمكنها المضي دون ذلك.
العربي الجديد
——————————
اعتراف واعتذار إلى الشعب السوري/ سميرة المسالمة
أتقدّم بهذا الاعتراف إلى الشعب السوري العظيم الذي أفتخر بالانتماء إليه، والذي دفع أثماناً باهظةً من عمره وعمرانه، عذاباتٍ وتضحياتٍ وتشرّداً، لإسقاط نظام الفساد والاستبداد، وفي سبيل نيل حريته، واستعادة كرامته في دولة مدنية وديمقراطية، دولة مواطنين أحرار ومتساوين.
هذا مقال أعتذر فيه لهذا الشعب الأبيّ عدم استطاعتي القيام بما توجبه عليّ مسؤوليتي نائباً لرئيس الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة، أو بوصفي مشاركةً في هذا الكيان السياسي للمعارضة، وذلك لأسباب خارجة عن إرادتي وإرادة السوريين الأحرار الموجود بعضهم داخل هذا الكيان.
أودّ، هنا، أن أصارحكم بأوجه القصور التي تكتنف عملنا في المعارضة، لاعتقادي أن هذا حق لكم، ولإيماني بضرورة إخضاع كياناتنا وخطاباتنا وأشكال عملنا للمراقبة والنقد والمحاسبة. وأيضاً لإيماني بخطأ إحالة أوجه القصور إلى الظروف الموضوعية أو الخارجية وحدها، لأن ذلك ينطوي على التبرير والتلاعب والتخليّ عن المسؤولية السياسية والأخلاقية أمام شعبٍ يعيش المآسي، ويسطّر التضحيات، ويقدّم مدينة إثر أخرى، قرباناً لهذه الحرية التي خرج من أجلها. وإذا كنا اليوم أمام مشهد حلب الدامي، فقد سبقته مشاهد مدن وقرى، من درعا مدينتي مهد الثورة إلى حمص وإلى ريف دمشق وإدلب.
لا أتوخّى من إعلان هذا الإقرار على الرأي العام مكسباً ذاتياً، أو تحقيق مكانةٍ خاصة، إذ من واجبي السياسي والأخلاقي وضع شعبنا في صورة ما يجري، ووضع نفسي تحت طائلة المحاسبة، وأعتقد أن هذا يُلزم كل زملائي في المعارضة بأن نواجه أنفسنا بهذه الأسئلة: لماذا عجز “الائتلاف” عن تعزيز مكانته في مجتمعات السوريين في الداخل والخارج؟ لماذا لم يستطع استيعاب كل المكونات السياسية للسوريين؟ هل تعبّر تشكيلته حقاً عن واقع الثورة السورية؟ وهل يلبّي حاجةً ما لهذه الثورة في وضعه، أو تركيبته الراهنة؟ ثم ما الذي أضفناه أو فعلناه أو أثّرنا به أفراداً أو هيئةً فيه؟ لماذا بقي غير قادر على إيجاد موطئ قدم له في “المناطق المحرّرة”؟ ولماذا ظلت علاقاته مع الفصائل العسكرية محدودةً أو لا تعني شيئاً؟ وما الذي جنيناه من الارتهان لإرادة هذه الدولة أو تلك؟
أعرف أن هذه أسئلة صعبة ومعقدة، وأعرف أن الظروف الدولية والإقليمية والعربية ضاغطةٌ
“آن لهذه الطبقة السياسية في المعارضة السورية أن تعتذر لشعبها وأن تتنحّى”
علينا، ولكنني أعرف أنه كان في وسعنا لو توفرت الإرادة الصادقة، والعزيمة القوية، والرؤية الموضوعية والمخلصة، أن تكون أوضاعنا أحسن حالاً، وأن تكون إجابتنا على تلك الأسئلة والتحديات أفضل بكثيرٍ مما نحن عليه.
لأجل ذلك كله، لأجل الشهداء والجرحى والمصابين، ولأجل المحاصرين والمشردين، أعتقد أن واجبنا في “الائتلاف” أن نجري مراجعةً نقديةً شجاعةً ومسؤولةً لمسيرتنا، وأن نضع هذا الكيان تحت طائلة النقد والمساءلة والمحاسبة، فلا أحد معصومٌ من الخطأ، فالحركات السياسية الحيّة والمسؤولة، والواثقة من ذاتها، هي التي تحاسب نفسها أمام شعبها. أقصد مراجعةً صادقةً وجادةً ومجديةً، وليس كما جرى في اجتماع الهيئة العامة للائتلاف، في دورةٍ سميت باسم حلب، أهم حاضراتنا التاريخية والاقتصادية، ثم خرجنا بخفيْ حنين، حتى عجزنا عن استصدار بيانٍ نحدّد فيه موقعنا من جبهة فتح الشام (جبهة النصرة سابقاً).
أبدأ حديثي، أولاً، عن واقع “الائتلاف” الذي هو نتاج ورهن المكونات التي وُجدت فيه، بمعزل عن تمثيله مجمل قوى المعارضة، أو حجمها في المجتمع، وهي مكوناتٌ ضعيفة الفاعلية، ومحدودة التمثيل، وتفتقر للتجربة، والسبب معروفٌ، وهو أن النظام حرّم الحياة الحزبية، ومنع السياسة. أيضاً، هذه المكونات شكّلت هيئةً ناخبة من حوالي مائة شخص، حصرت تمثيل الشعب فيها، محوّلة بذلك “الائتلاف” إلى كيان مغلق، ما يتنافى مع أبجديات السياسة، وضرورات تشكيل أوسع كيان تمثيلي معارض، وحيازة أوسع قاعدة شعبية. وقد شهدنا أن هذا الوضع أضرّ بالثورة، ولم يفد المعارضة، وجعل “الائتلاف” كياناً جامداً لا روح له، ويفتقد المبادرة والكفاءات والمصداقية أمام شعبه، وأمام الرأي العام العالمي، فضلا عن تحول بعضه إلى جهاز موظفين تابعين لهذه الدولة أو تلك، أو هذا المكون أو ذاك.
ثانياً، لم أشهد خلال عملي في “الائتلاف” أننا نشتغل كفريق، فنحن، في الحقيقة، بمثابة موظفين نفتقد للروح المؤسّسية. ولا تتناسب اللوائح الداخلية مع كوننا حركةً ثورية، كما أننا نفتقد أبجديات العمل السياسي، وفهم معنى أن “الائتلاف” بمثابة قيادة لثورة شعبٍ هدفها إسقاط نظام استبدادي. وهذا كله يفسر كيف أننا لم نستطع أن نبني كياناً بديلاً، ولا كياناً قابلاً للتطور، فنحن أيضاً نعاني التفرّد في القرارات، وبات عملنا في أغلبيته يقتصر على إصدار البيانات العقيمة، والإدانات الأخلاقية.
ثالثا، ما زالت خطاباتنا تقوم على ردود الفعل، بل إننا لم نسهم في تشكيل الخطاب السياسي
“ما تقدّم ليس اعتذاراً فحسب، بل هو دعوة جادة لنا جميعاً، لنتراجع حيث يجب أن يتقدّم الأفضل والأكثر قدرةً على العمل”
للثورة، ونجامل في الخطابات التي تصدرها بعض الفصائل العسكرية، بدلاً من بذل الجهود لمحاورتها، وجذبها إلى خطابٍ يتأسس على إقامة دولة مواطنين ديمقراطية، تراعي التنوّع والتعدّدية في مجتمعنا السوري، بعيداً عن الرؤى الضيقة، والحسابات الفصائلية والطائفية. الأخطر من ذلك أن “الائتلاف” لم يقم بواجبه بكشف جبهة النصرة، أي كشف فكرها التكفيري، ونهجها الإرهابي، بما في ذلك تسلطها على مجتمعات السوريين التي تحرّرت من سيطرة النظام، واعتداءاتها على الجيش الحر وفصائل المعارضة الأخرى، وتنكيله بالنشطاء الأحرار، وهو، في ذلك كله، أضرّ نفسه، وأضرّ صدقية الثورية السورية.
رابعاً، لا بد من كلمةٍ عن الإجحاف الواقع في حق المرأة في هيئات المعارضة، وعن النظرة القاصرة لمكانتها ودورها، على الرغم مما قدمته من تضحيات وبطولات، تشهد لها مسارات الثورة، لاسيما أشهرها الأولى، وهذا أمر ينبغي تداركه.
خامساً، للأسف، لم نستطع في “الائتلاف” أن نقدّم مقاربةً مناسبةً للقضية الكردية، تستوعب حقوقهم، ليس الفردية فحسب، وإنما حقوقهم كجماعة قومية أيضا، هذا أضعف من قدرتنا على استقطاب الكرد جميعهم، من دون أن يعفي بعض الفصائل الكردية من مسؤوليتها على ذلك.
سادساً، لم ينجح “الائتلاف” في استقطاب المثقفين والفنانين والمبدعين السوريين الذين يشكلون رافعةً صلبةً للثورة، وتشكيل هويتها ورموزها ومفاهيمها، بحكم ضعف إدراكه أهمية هذه الفئات، وأهمية تأثيرها في المجتمع. بل ولأن بعض المشاركين به ينظرون بعين الريبة تجاه خطاب المثقفين، لأنه كاشفٌ جهلهم.
باختصار، عجزنا عن ترسيخ “الائتلاف” كياناً للثورة السورية، وكياناً جامعاً للسوريين. فشلنا على مختلف الأصعدة، على صعيد التمثيل، والدور الثوري، وعلى صعيد تقديم النموذج. لذا، آن لهذه الطبقة السياسية في المعارضة أن تعتذر لشعبها، وأن تتنحّى، وأن تتيح المجال لغيرها، ليقوم بما يفترض أن يقوم به.
ما تقدّم ليس اعتذاراً فحسب، بل هو دعوة جادة لنا جميعاً، لنتراجع حيث يجب أن يتقدّم الأفضل والأكثر قدرةً على العمل، حسب معايير الشعب السوري، وليس حسب معايير لجان داخل هذه الكيانات، ومنهم الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة، الذي عجز حتى عن تمثيل اسمه.
العربي الجديد
————————-
===========================