الناس

ادعاء المظلوميّة… تهمة جديدة تُرمى على السوريين!/ كارمن كريم

لكل شخصٍ حرية التعامل مع الظلم الذي عاشه بالشكل الذي يريده، لكن الأكيد أنني لم أجعل ادعاء المظلومية نمط حياتي، بل كان الظلم والوقوف في وجهه أرضية لرؤيتي المستقبلية وعملي الصحافي، وطريقة لفهم ألم الآخر وردات فعله.

المظلومية إحساس إنساني بوقوع الظلم على مجموعة ما، سواء بانتهاك حقوقها أو عدم الاعتراف بها، نتيجة قرار سياسي أو قضائي أو دستوري، تتحوّل إلى حالة سياسية تشكو في خطابها من مظلوميتها، وقد يدفع ذلك أصحابها إلى تطرف سلوكي أو إعلامي، تجاه من ظلمهم ومن سكت عن مناصرتهم، لكن ليس كل من اشتكى أو أبدى امتعاضه في حياته الشخصية يُرشق بتهمة ادعاء المظلومية السياسية.

شاهدتُ مرة كاريكاتوراً لرجلٍ يقف أمام الله في لحظة الحساب، حيث يقول له الله: “أنت رايح ع جهنم بس رح اخصم مدة حياتك بسوريا”، على رغم سخرية الكاريكاتور، إلّا أنه يذكّرنا بحجم الظلم الذي وقع على السوريين حتى بات جزءاً من حياتهم.

 الظلم السياسي الذي تعرض له السوريون خلال العقد الماضي كان كارثياً على كل المستويات، بخاصة النفسية، ينظر البعض إلى السوري بشفقة، ويعتبر البعض انزعاج السوري من أي موقف تخيلاً للمظلومية، ويكاد السوريون الذين قابلتهم أو أعرفهم تعرضوا في غالبيتهم لأحد أشكال الاتهام بتخيّل المظلومية.

في سياق حديث عادي مع صديقتي، قالت لي: “كفّي عن الشعور بالمظلومية”، لم أفكر سابقاً بمصطلح المظلومية، وكان الحديث لا يحتمل كلمة كبيرة كهذه، ليست المرة الأولى على كل حال، إذ فُسّرت ردات فعلي أو رفضي لتصرفات بحقي في مناسبات عدة بادعاء المظلومية، حتى اعتبر البعض دفاعي عن حقي أو رفضي لوضعٍ ما تخيلاً للمظلومية، فيما تفسَّر ردات فعل الآخرين من غير السوريين على أنها نتيجة طبيعتهم العصبية أو لأن موقفهم محقّ.

 رُبطت ردات فعلي دائماً بسوريتي والظلم الذي اختبرته “هناك”، لذلك وجدت نفسي أبحث عن السبب الذي يدفع البعض الى تفسير ردات فعل طبيعية بهذه الطريقة المجحفة، ولماذا حين أتجادل في مشكلة يفسّر البعض ردات فعلي بحساسيتي الزائدة وشعوري بالظلم مما عانيته في سوريا ومن ظروفي الاجتماعية وعدم استقراري وانفصالي عن عائلتي، وكأن الانفصال عن عائلتي لم يكن خياري وأنا سعيدة وراضية به؟!

لم يرعبني رأي الآخرين بي، بل أن يكون نظام الأسد أثّر في شخصيتي الى هذا الحد، وهكذا سيكون واقع بلادي أثر في حياتي وشخصيتي بطريقة لم أتخيلها، في النهاية لم أكن وحدي من اتُّهِمت بادعاء المظلومية، فالكثير من السوريين تعرضوا لمواقف مشابهة. هل تؤثر المظلومية السياسية التي عشناها كسوريين على هويتنا النفسية؟ ووجدتني أسأل الأصدقاء المقربين: “هل تجدونني أتعامل بمظلومية مع الأحداث اليومية؟”.

حاول السوريون نقل معاناتهم، ليس للتباهي بها بل لإظهار حجم الظلم الذي تعرضوا له، وفي سبيل ذلك سجلوا وبثوا صوراً وفيديوات أثناء إطلاق النار عليهم أو قصف منازلهم. قد يكون السوريون من الشعوب القليلة التي صورت موتها بهذه الدقة والوضوح، والمظلومية السياسية التي تعرضوا لها كانت أكبر من فهم العالم لها، لسبب بسيط، وهو أن نوع هذا الظلم ليس منتشراً أو على الأقل لم نشاهد مثله مصوراً ومنقولاً من بلد الديكتاتورية، فكان على السوريين إثبات هذا الظلم، ولذلك شكلت الصورة التي نقلها المحتجّون صدمة للآخر، عكس الصور التي أتتنا من ثورات بلدان أخرى.

هذا ليس تقليلاً من الظلم الواقع على أي شعب، بل محاولة لتشريح المظلومية السياسية في سوريا. وبينما يحاول السوريون إثبات مظلوميتهم السياسة، وأن الأسد ليس رئيساً cute كما يظهر، وأنهم يُقتلون بطرق وحشية، بات يُنظر إلى هذه الحالة على أنها تضخيم وادعاء، لا وسيلة لتأكيد ألمهم.

ما يدفع السوريين الى التكلّم بشكل دائم عن الظلم الذي وقع عليهم، هو الفشل في تحقيق العدالة لجميع الضحايا، وفي مقاضاة المجرمين وبناء السلم الأهلي المستدام، لا بل تم تجاهل السعي الى تحقيق العدالة ورفضه بذريعة بناء السلام وإنهاء النزاع، وهكذا يُجبر السوريون اليوم على قبول تواطؤ العالم مع قاتلهم.

تتقاطع المظلومية السياسية مع حياة السوري، فهي لا تتعلق بـ12 عاماً من القتل بل بـ50 سنة من حكم ديكتاتوري، ولذلك من الطبيعي أن تغدو جزءاً منه، لكن هذا لا يعني تحوُّل المظلومية الى طريقة للتعامل مع الأصدقاء أو الزملاء في العمل، على العكس زادت المظلومية التي تعرضتُ لها كسوريّة وتعرض لها محيطي القريب، من حساسيتي تجاه آلام الآخرين.

 المظلومية ليست عيباً في الإنسان، ويبدو مجحفاً اتهام الآخر بادعاء المظلومية في حياته اليومية بناء على الظلم السياسيّ الذي تعرض له، فالإحساس بالظلم ليس تهمة، بل واقع يجبر ملايين السوريين على اختباره والتعامل معه، ابتداء من التمييز بين البنت والصبي داخل العائلة وصولاً إلى التعذيب في معتقلات الأسد، كلها مظلوميات، لكن لا يعني خضوع الشخص لأحد أشكال الظلم أنه سيستمر معه وسيشكّل هويته الاجتماعية والسياسية.

لا أعتقد أننا كسوريين سنشعر بالمظلومية لو أن أحداً أخذ دورنا في طابور الانتظار، أو أن أحدهم أخبرنا أمراً ثم كذّبنا نافياً ما قاله، المظلومية أكبر من هذه الأحداث، وهذا ما يدركه السوريون. فحين تختبر العيش تحت مظلة نظام الأسد، حين تخاف من كل خطوة تخطوها في بلادك، سترتفع لديك عتبة المظلومية، تماماً كالألم.

هناك عتبات للألم، أعلاها يتسبب بإغماء الشخص كردة فعل للجسم، وعتبة المظلومية مرتفعة جداً لدى السوري، تتمثل بالقصف والتعذيب والاعتقال التعسفي والتضييق على الحريات، بعد هذا كله من سيصدّق أن رد السوري على شخص قال له “اصمت”، هو لشعوره بالمظلومية المرتبطة بواقعه السياسي فحسب؟ إنه ببساطة رد فعل إنساني يثبت أن هذا الشخص لم تدهسه كل المظلوميات التي عانى منها. إذاً، حصر ردات فعلنا كسوريين بمفهوم المظلومية في حياتنا الشخصية هو تأطير لشكل حريتنا في التعبير عن أنفسنا.

من جهة أخرى، تسبّب القمع في سوريا بأشكاله ومسمياته كافة، بمعاناة عميقة لمن اختبروه، لكن إحدى الأزمات وقعت بين المضطهدين أنفسهم، تتمثل بمحاولة تقرير ما إذا كان هناك اضطهاد أسوأ من غيره، إذ حاول البعض طرح المأساة السورية كواحدة من أشد مآسي العصر، مقللاً من مآسي الآخرين في بعض الأحيان، وبإمكان من يتابع الأزمة السورية فهم هذه الحالة إلى حد كبير، إذ لا نتحدث عن حرب أو قصف وحسب، إنما عن أشكال من الموت المرعبة، بدءاً من السلاح الكيماوي، مروراً بتجويع الناس واضطرارهم إلى تناول ورق الشجر في الغوطة، وصولاً الى التهام مقاتل في “داعش” قلب جندي سوري.

 المأساة ليست في الموت إنما في طرقه. ليس هذا وحسب، بل هناك أنواع من الاضطهاد التقاطعي، وقد صاغ الباحث القانوني كيمبرلي كرينشو المصطلح في ثمانينات القرن الماضي، على سبيل المثال تعرضت النساء للاعتقال والتعذيب، لكنهن أيضاً اضطُهدن من مجتمعاتهن ووُصمن لأنهن نساء وحسب، وهذا يعني تعرّض بعض الفئات لمعاناة إضافية لأنهم ينتمون إلى مجموعات اجتماعية مضطهدة بشكل متنوع، وهذا ما يُدعى بالاضطهاد التقاطعي.

لا شك في أن المظلومية التي تعرض لها السوريون ستؤثر فيهم وتلاحقهم طوال حياتهم، فليس بإمكان طفل أن ينسى خروجه من تحت الأنقاض أو قصف منزله، وليس باستطاعة شخص نسيان اختناقه بالكيماوي أو تعذيبه في أحد المعتقلات، لكن ما يجب إدراكه أن حياتنا لا يجب أن تُبنى على أشكال أنظمة بلداننا، ولا يجب إرجاع اعتراضنا على وضع اجتماعي حالي الى مظلومية عشناها قبل سنوات.

لكل شخصٍ حرية التعامل مع الظلم الذي عاشه بالشكل الذي يريده، لكن الأكيد أنني لم أجعل ادعاء المظلومية نمط حياتي، بل كان الظلم والوقوف في وجهه  أرضية لرؤيتي المستقبلية وعملي الصحافي، وطريقة لفهم ألم الآخر وردات فعله.

درج

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى