ثقافة مُعتقلة في زنزانة: صور من المقاومة الإبداعية في المعتقلات السوريّة/ محمد ديبو
ماذا تفعلون لو وجدت أنفسكم فجأة محجوزين داخل غرفة معتمة أو على جزيرة بعيدة عن كلّ اتصال مع العالم؟ كيف تخترعون أدوات الحياة الأولى؟ ثيابكم؟ القلم؟ الكتابة؟ الحكي؟… هل يبدو هذا خيالاً يفوق التصوّر؟ ماذا لو عرفتم أنّ هناك من فعل ذلك، في الواقع، لا في الخيال أو في السينما؟ لا، ليس في غرفة معتمة، أو في جزيرة جميلة، بل في ظروف أقسى بما لا يقاس، في معتقلات وسجون لا تصلها أشعة الشمس. من فعل هذا؟ وكيف؟
“الداخل مفقود والخارج مولود”، “امش الحيط الحيط ويارب السترة”، “الحيطان لها أذان”…. عبارات وكلمات ومفردات هي غيض من فيض ما يحفظه المواطن السوري منذ ولادته، وربما حرص الآباء والأمهات على تلقينه إياها قبل تعليمه أسس النطق والكتابة، كي يتفادوا مصائراً يعرفها السوريون جيداً، ويعرفها منهم تحديداً، كلّ من خبر أقبية التعذيب في السجون السورية، بدءًا من سجن المزة إلى سجن تدمر، فسجن صيدنايا، إلى معتقلات الأفرع الأمنية، فعشرات المعتقلات السرّية في البلاد المحكومة بالصمت والحديد منذ ما يزيد عن نصف قرن.
نظراً لحجم العنف وقسوة القمع الذي حوّل سوريا إلى “مملكة الصمت” وفق تعبير المعارض السوري، رياض الترك، كان على السوريين أن ينتظروا زمناً أخر كي يدركوا ما يحصل داخل معتقلات بلادهم، أي إلى حين خروج أولى طلائع المعتقلين والمناضلين من قبر الزنازين إلى ضوء الحرية، ليكتبوا تجاربهم عمّا عاشوا وشاهدوا في تلك الأقبية المعتمة.
لن نتحدث عن طبيعة المعتقلات السورية، ولا عن أساليب التعذيب المتبعة وقسوتها، نظراً لوجود العديد من الكتب والتقارير التي تحدثت عن ذلك، مع الانتباه أنه حصل تزايد كبير في هذا الأمر بعد عام 2011، حيث زادت كمية المنشور حول ذلك، وهذا عائد لثلاثة أسباب بتقديرنا، وهي:
أولاً، توّفر وسائل الاتصال الحديثة وانتشار الانترنت ووسائل التواصل الاجتماعي، مما حدّ من قدرة السلطات على الرقابة من جهة، وسهّل آليات النشر من جهة ثانية، وأوصلها إلى عدد أكبر من القراء من جهة ثالثة.
ثانياً، هو تصاعد حجم القمع وشدّته ضد السوريين بعد ثورة آذار 2011، ما أدى إلى ولادة مناضلين جدد عرفتهم أقبية السجون، وخرج قسم كبير منهم ليكتب عن تجربته المضافة لتجارب الجيل القديم.
ثالثاً، هو تشجّع قسم كبير من السجناء السياسيين القدامى للكتابة عن تجاربهم بعد ثورة عام 2011، ما يعكس لنا حجم الخوف الذي كان سائداً قبل ذلك العام وانكساره مع انطلاق الثورة، وما يعكس أيضاً (وهذا ما تقوله التجارب والكتب والشهادات والتقارير الموثقة من منظمات حقوقية) حجم وقسوة ما يحصل داخل هذه السجون والمعتقلات، حدّ أنّ السجين السياسي اللبناني، علي أبو دهن، وثّق تجربته في سجن تدمر في كتاب حمل عنوان “عائد من جهنم”، فيما عنونت منظمة العفو الدولية تقريرها عن سجن صيدنايا بـ”المسلخ البشري”.
تأكيدنا على قسوة هذه السجون، يأتي للإشارة إلى حجم القمع وفضح الاستبداد إنصافا للضحايا وتجاربهم من جهة، وإشارة إلى حجم البطولة التي سطرّها السوريون في سعيهم الطويل نحو الحرية، حين تمكنوا من احتمال قسوة هذه السجون وفظاعتها، بل مقاومتها والخروج منها أحياء من جهة ثانية، وإلى الإشارة إلى أنه وسط هذا العماء والشرط اللا إنساني، كان ثمّة مقاومة من نوع أخر، مقاومة مارسها السجناء والمعتقلون في شروط قاسية وصعبة، بل وشبه مستحيلة أيضاً، مقاومة نمت كما تنمو عشبة بين الصخور أو في يباس الصحارى، متحدّية الشروط البيئية حولها، ونعني بتلك المقاومة أشكال وأنواع من الكتابة والصحافة والتمثيل والمسرح والقراءة، اكتشفها واخترعها المعتقلون ومارسوها داخل المعتقلات، خالقين بقوة إرادتهم، شرط حياتهم ومعناها.
في البدء كان الحكي
للتغلّب على شرط المعتقلات الصعب، وفي ظلّ وجود عدد كبير من المعتقلين في زنزانة لا تتسع لهم إلا وقوفاً، أو في مهاجع تغيب عنها أبسط مقوّمات الحياة، كان يتوّجب على المعتقلين، البحث عن أساليب تعينهم على تحمّل هذا الواقع القاسي، فكانت العودة إلى أزمنة الطفولة حين كانوا يستمعون، وهم أطفالا إلى حكايا الجدات والأمهات، وسيلتهم الوحيدة لمقاومة هذا الطغيان الذي يوّد محاصرة وعيهم وبتره، لتبدأ (وبسبب من غياب الكتب ومنعها في المرحلة الأولى من الاعتقال) حلقات قراءة من نوع مختلف، حيث يقوم كلّ منهم بتذكّر كلّ ما قرأ من كتب وروايات قبل المعتقل ليرويها على المعتقلين الآخرين.
عن هذه التجربة، يقول المترجم والسجين السياسي السابق، ثائر ديب: “في المهجع التاسع من قبو فرع للمخابرات -حيث اجتمعنا 55 معتقلًا في غرفة لا يتعدّى كلٌّ من طولها وعرضها الأمتار الأربعة، نُصغي لروايات كما يتذكرها رفاق قرأوها. وقد بلغت الحرفة ببعضهم حدّ أنه كان يقصّ رواية واحدة على مدى أيام، مثل حكواتي حديث، يشوّقنا بحكايات حديثة كتبها تولستوي أو غارثيا ماركيز أو تشيخوف أو وليام فوكنر أو سواهم”.
يقول أيضاً، الكاتب السوري والسجين السياسي السابق، غسان جباعي: “أول طلب لنا هو الكتب (كان ذلك في سجن تدمر) ولما رُفض طلبنا اعتمدنا على أنفسنا، وراح كل منا يفرغ ما في جعبته من معرفة وذكريات وحكايات! كان بيننا كتاب وصحافيون وأطباء ومحامون وعمال وفلاحون وضباط ومهندسو مدن وبواخر وكهرباء وأساتذة جامعات واقتصاديون ومبدعون في المسرح والسينما والأدب والرسم والنحت.. كنا نجتمع كل ليلة بعد العشاء مثل كومة من الثياب حول واحد منا، كي نستمع إليه وهو يحدثنا في اختصاصه ومغامراته، أو يستعيد شفوياً كتاباً جميلاً أو رواية قرأها ذات يوم. ما أكثر الروايات والقصص التي اخترعناها وأعدنا تأليفها من جديد. روايات عربية وعالمية ارتجلناها بشكل جماعي، فاختلط فيها الخيال بالحقيقة وتبدلت شخوصها وأحداثها حتى أصبحت روايات من الأدب الغرائبي. ثم اقتربنا أكثر فأكثر من عواطفنا وذكرياتنا الخاصة الحميمية، وبدأنا نتحدث عن تجاربنا مع المرأة والحب والأمكنة… هناك كان الحديث ممنوعاً بعد الثامنة مساء، وكنا مضطرين للتحدث همسًا تقريباً…”.
بعد حوالي عشرين عاماً من تجارب السجناء السياسيين هذه، سأختبر تجربة مماثلة لهذا الأمر، ففي فترة اعتقالي في معتقل المخابرات الجوية في المزة في آذار/ نيسان 2011، كنّا حوالي عشرة معتقلين في زنزانة بالكاد تتسع لأربعة أشخاص. في أحد المرّات، طلب مني أحد المعتقلين أن أحكي لهم شيئاً من الروايات التي قرأتها، حاولت استعادة أحد روايات إيزابيل الليندي التي أحبّ، ولكن بعد دقائق توقفت عاجزاً عن المتابعة، واكتشفت وقتها أنّ الروي مهنة صعبة وموهبة لا يحسنها الكثيرون. حينذاك، وأنا في الزنزانة، تذكرت رفاقي ممن اعتقلوا وسجنوا في زمن أسبق، ولمدد طويلة وتساءلت: كيف تمكنوا من فعل ذلك؟ أقول هذا للإشارة إلى مدى صعوبة الأمر ومدى القوة والمهارة التي يحتاجها المرء للقيام بذلك. ولحسن حظي، أني كنت أحفظ الكثير من قصائد الشعر، فعوضتهم عن روي الحكايات بقراءة الشعر.
لم يكتف المعتقلون بتذكّر ما قرؤوه خارج المعتقلات لإعادة قراءته مجدّدا، بل تطوّر هذا الفعل إلى “مسابقات إيماء يُطلب من المشاركين فيها معرفة عنوان الرواية التي يومئ إليها. ثم تعقّد الأمر بعد ذلك وصار الإيماء ينال شخصيات روائية وتاريخية… إلى جانب الإيماء، استعدنا لعبة أخرى كانت تحتاج استحضار معارفنا وقراءاتنا ودقة أسئلتنا. كان الواحد منا يُضمر في ذهنه شخصية عامة معينة ليُسأل عنها عشر أسئلة فحسب لا يجيب عن أيّ منها إلا بنعم أو لا. وكان علينا بعد ذلك أن نحزر من هي الشخصية. ثم حوّلنا اللعبة إلى ثنائيات مثل لوريل وهاردي والزوجين ويب في الحركة الاشتراكية الفابيّة الإنجليزية، وريّا وسكينة، ودريد ونهاد، انتقلنا بعدها إلى عناوين الكتب على اختلافها. وكان مضاء أسئلتنا يزداد بمرور الوقت، وكذا دقة إجاباتنا وسرعتها”.
اختراع الكتابة
كما كان اختراع الكتابة، واحداً من أهم الاختراعات التي غيّرت تاريخ البشرية، كذلك فعلت في حياة المعتقلين السياسيين، فما قبل الكتابة ليس كما بعدها في عالم المعتقل، إذ أصبح بإمكانهم كتابة قصائدهم وأفكارهم ورسائلهم على علب وأوراق السجائر.
يقول ثائر ديب، عن تلك المرحلة: “كان عيدًا يوم اكتشفنا طريقة بسيطة للكتابة! لم نكتشفها في الحقيقة، بل كان بيننا من عرفها في اعتقال سابق، وكدنا نقتله على صمته عنها كلّ هذا الوقت. لكنه برّر ذلك بأننا لم نحتجها إلا في تلك اللحظة، حين رحنا نؤدي تمثيليات بالغة القصر ومضحكة وصار من الأفضل تدوينها. رحنا نتفرّس متحلّقين حول رفيقنا وهو يفرد ورق علبة التبغ ويمسّد ثنياته، ثم يُبعد الغلاف الخارجي عن غلاف الألمنيوم الداخلي ويطوي هذا الأخير طيّة بعد طيّة، حتى يأخذ شكل مثلث بزاوية مدبّبة مثل رأس القلم، ثم يفركه بشعره على نحوٍ متكررٍ قبل أن يكتب به بضع كلمات فاهية على بياض الغلاف الأول. هكذا صار بمقدورنا أن نكتب قصيدة قصيرة، أو خاطرة، أو مشهداً تمثيلياً، وربما أغنية، أو فكرة نريد لها أن تحضر في ندوات المساء ومناقشاته”.
وعن تجربة مماثلة، يقول الكاتب والسجين السياسي السابق، وائل السواح: “لم يكن عندي قلم، فاخترعت واحداً. في يوم سابق أحضروا لنا عنقوداً من العنب فيه عشر حبات، فالتهمتها وأبقيت على عودة العنقود أتسلى بها. وتجلّت العبقرية حين مزجت رماد سيجارة بنقطة من الماء فصار حبراً ثم استخدمت العودة كالريشة ورحت أحل بها الكلمات المتقاطعة والكلمة المفقودة وبعض التسليات الأخرى. كان ذلك اختراعي الوحيد. وهو، على أيّة حال، لا يقارن بإنجازات الرفاق، لاحقاً، الذين اخترعوا مكتبات لوضع الكتب التي تأتينا من الزيارات وورقاً للعب وشطرنجاً وطاولة للزهر وطاولات صغيرة للقراءة والكتابة، وكل ذلك من بقايا الخبز المعجون بالماء والسكر ليغدو غراء ومن أوراق الجرائد وأغلفة عبوات السجائر. وهو لا يقارن قطعا باختراع القلم، الذي كان لا يقل أهمية عن اختراع الكتابة قبل أربعة آلاف سنة. وقلمنا اخترعناه من ورق الألمنيوم الذي يغلف السجائر داخل كل علبة. أما الورق فكان الأغلفة الخارجية المشمعة لعلب السجائر. على هذا الورق كتبت قصائد وقصصاً ومشاريع روايات ومداخلات سياسية ورسائل عشق وصلوات وأدعية ورغبات محرَّمة. وعلى هذا الورق كتبت قصصا جمعتها في مجموعتين لم أنشرهما حتى الآن، ولا أحسب أنني سوف أفعل”.
كذلك فعل الكثير من السجناء السياسيين الذين كتبوا قصائدهم وقصصهم ورواياتهم ورسائلهم إلى أهلهم وأحبتهم، ليتم لاحقاً تهريبها إلى خارج المعتقل. وحين كانت تعوزهم الأدوات، لم يستسلموا، بل ابتدعوا أساليب جديدة، كما فعل الشاعر والسجين السياسي فرج بيرقدار، حيث كان يفرض على كل زميل له في الزنزانة حفظ بعضاً من قصائده في ذاكرته، كي يحميها من نسيان الذاكرة وعتم السجن الطويل، في نوع مقاومة يكاد يعادل “فعل حياة”، كما يقول غسان جباعي: “كانت الكتابة مكلفة جداً. لم نكن نملك الأدوات اللازمة لذلك. لا حبر ولا أقلام ولا أوراق ولا حتى مسامير. اخترعنا أدواتها! حولنا العظام إلى أقلام وأوراق السجائر إلى دفاتر، وهذا بحد ذاته عمل إبداعي. كانت القضية قضية موت أو حياة! ولذلك هي فعل حياة. إن الكلمات القليلة المحفورة على جدران الزنازين بالحجارة والمسامير (وبعضها المكتوب بأصابع ملوثة بالدم) ترقى إلى مستوى الأعمال الإنسانية. ثم إنّ الكتابة كانت صلة الوصل الوحيدة بين الداخل والخارج. عن طريقها كنّا نغادر الزنزانة إلى الضوء عندما نشاء؛ نتسلّل عبر شقوق الأبواب، نتسكع عبر الأثير في شوارع المدينة وزواريبها، نلقي التحية على الناس والأشجار، ثم نعود”.
إذا كانت المرحلة التي تحدثنا عنها أعلاه، هي مرحلة ما قبل وجود القلم الطبيعي في الزنزانة، فإنّ الأمر سيختلف كليا بعد تحسّن شروط الاعتقال وحصولهم على أقلام، حيث يقول ثائر ديب: “في المهجع الكبير الذي اجتمعنا فيه مع رفاق آخرين حتى بلغ مجملنا نحو 85 معتقلاً ومعنا عددٌ قليل من الفلسطينيين، اختلف الأمر كثيراً. حصلنا هناك على قلم رصاص وعلى عدد قديم من مجلة «العربي» الكويتية. كتبتُ بقلم الرصاص على أوراق علب التبغ مسرحيتين كاملتين استعدتهما من الذاكرة لكاتب روسي اسمه غريغوري غورين. أولاهما «انسوا هيروسترات!»، عن واحد من دهماء الإغريق أراد أن يصبح شهيرًا بحرق واحدٍ من أروع معابد اليونان هو دلفي، والثانية بعنوان «البيت الذي شيّده سويفت»، عن الهجّاء الإنجليزي العظيم جوناثان سويفت وشخصيات أعماله الشهيرة، كنت قد ترجمتها عن الإنجليزية قبل الاعتقال مباشرة وأرسلتها إلى سلسلة «من المسرح العالمي» الكويتية. وسوف أعلم لاحقًا، وأنا بعد في السجن، أنها كانت ستصدر في الشهر الذي احتل فيه صدام حسين الكويت. وسوف يتأجل صدورها إلى ما بعد تحرير الجيوش الأمريكية وحلفائها ذلك البلد”.
وحينها بدأت مرحلة جديدة من حياة المعتقلين السياسيين، حيث أصبح بإمكانهم الحصول على بعض الأوراق والكتب والأقلام، فبدؤوا كتابة مقالاتهم وكتبهم ورواياتهم وقصصهم وترجماتهم وقصائدهم ومسرحياتهم وحفظها أو تهريبها إلى الخارج، بل وصل الأمر بهم حدّ كتابة المرافعات ضد سجانيهم، كما فعل الشاعر فرج بيرقدار، حين كتب مرافعته وتلاها أمام قاضي التحقيق، في شهادة أصبحت أحد الوثائق الكبرى التي تدين الاستبداد في سوريا، نظراً لموقع هذه المرافعة في تاريخ الاعتقال السوري (إن صح التعبير). وعن هذه المرافعة، يقول صديق فرج، الكاتب وائل السواح: “اعتقل فرج لسبع سنوات من دون محاكمة، وحين ارتكب النظام خطأ محاكمته، كان السجين هو من يحاسب السجّان. قدّم أجمل وأصدق مرافعة ضدّ النظام، لم يدافع عن نفسه، ولكن عن سوريا. “باسم الحرية المغدورة في وطني منذ أكثر من ثلاثين عاماً، باسم المحرومين منها مادياً ومعنوياً، جسداً أو فكراً أو روحاً، باسم ابنتي التي لا تستطيع أن تخون طفولتها، وتصدق الشعارات التي يرغمونها، على تردادها في المدرسة كل صباح، أعلن بوصفي إنساناً وشاعراً وسياسياً، أن الحرية هي القيمة الأسمى في فلسفة التاريخ البشري، وأني ضد من يقف ضد الحرية”، هكذا كتب في مرافعته في المحكمة، عام 1993.
أيضاً، أقدم عدد منهم على إقامة مسرح داخل السجن، حيث يقول ثائر ديب: “أدّينا المسرحيتين الطويلتين خفيةً عن أعين السجّان، وبكل ما أوتينا من قدرة على الإتقان. وسوف تُعاد تأديتهما من جديد في سجن صيدنايا في ظروف أفضل نسبياً. وحين أعدتُ طبع ترجمة «البيت الذي شيّده سويفت» بعد خروجي من المعتقل، كتبتُ في الإهداء ” إلى تلك الفرقة التي أدّت هذه المسرحية على خشبة مستحيلة”. في حين يقول وائل السواح: في السجن، استرجعت “الممثلون يتراشقون الحجارة” وأخرجتها، في مهجع مساحته 24 متراً مربعاً، يقبع فيه أربعون رفيقاً. ويومها أخرجنا فرحان (المقصود الكاتب فرحان بلبل) من الزنزانة إلى عالم من نور وبهجة”.
مرحلة القراءة المنظمة
تحسّن شروط الاعتقال وفّر للمعتقلين الكتب التي كانوا بحاجة ماسة إليها، فبدأت عملية بناء المكتبة وتنظيم القراءة، كما أصبحت الكتب تنتقل من مهجع إلى مهجع، وعقدت حلقات نقاشية، وتطوّر الأمر إلى التعليم، فكلّ من يمتلك معرفة يعطيها للآخرين، خاصة في مجال تعلّم اللغات.
يقول غسان جباعي: “في سجن صيدنايا العسكري الأول، الذي كان لنا شرف تدشينه سنة 1987، على ما أذكر. فكان -بالقياس إلى سجن تدمر- بمثابة إخلاء سبيل. هنا تحول السجن إلى مركز ثقافي، حيث جمعنا من خلال الزيارات، عدداً كبيراً جداً من أهم المؤلفات، وحوّلنا أحد المهاجع إلى مكتبة عامة. هنا ترجمنا الكتب، وكتبنا الأشعار والقصص والروايات، وأقمنا الأمسيات والمحاضرات… وهنا تعرفت على عدد كبير من الشعراء والفنانين والروائيين”.
يقول الكاتب والسجين السياسي لمدة ستة عشر عاماً في السجون السورية، ياسين الحاج صالح: “أدركت وأنا في السجن، بين عامي 1980 و1996، أنّ عليّ أن أحاول تعويض هذا الاعتقال المديد، قياساً إلى عمري وقت اعتقالي وإلى «الجريمة» التي ارتكبت، بشيء في مجال الثقافة. عليّ أن أكون كفؤا لحبسي، أن أستحقه. لا شيء يُعوَّض بالطبع. وما من إنجاز ثقافي هو قطعة غيار صالحة للسنة الحادية والعشرين من العمر أو الرابعة والعشرين أو الثلاثين. لكن الخيار كان بين تعلّم شيء ما في السجن، أو عدم تعلّم أي شيء في السجن أيضاً. ليس غير الثقافة تنقذ السجين (وليس غير الثقافة تنقذ غير السجناء أيضاً). بالنتيجة أضحى السجن، المكان الذي تدربت فيه على الكتابة التي أتفرّغ لها وأعيش منها اليوم، المرحلة الأكثر عضوية في حياتي”.
السجن بمثابة جامعة
إذا كان الإنسان الذي يعيش حياة طبيعية، يدخل إلى أروقة الجامعات بعد الانتهاء من المرحلة المدرسية، مختارا تخصّصه ومهنة عمله المستقبلية، ليتعلم في الجامعة المهارات والخبرات التي تؤهله لهذا العمل لاحقاً، فإنّ المعتقلات السورية، لعبت في جانب منها، هذا الدور، وإن كان في شروط قاسية وصعبة وشبه مستحيلة، وهذا لا يعود إلى “جودة” الاستبداد أو حسن صورته كما يتوّقع البعض، بل على العكس يعود إلى قبحه وشدّته وصعوبته، وذلك حين حرم المعتقلين من أبسط حقوقهم، فحفّز فيهم المقاومة والإبداع لاختراع الشروط المناسبة لنجاحهم، فحوّلوا السجون إلى جامعة تعلموا وتأهلوا فيها واستفادوا بعد خروجهم من كمّ المعارف التي كوّنوها وحازوها في ذلك الظرف الصعب، وهكذا أضحى قسم كبير منهم بعد تخرجهم من السجن مثقفين بارزين ومعروفين، كلّ في مجاله، الأمر الذي أدى إلى ولادة ما يسميه ياسين الحاج صالح مثقفي السجن، حين يقول: “مثقفو السجن، إذن، هم من «تخرجوا» من السجن مثقفين، قبله كانوا أعضاء فحسب في أحزابهم، وهم بعده مستقلون في الغالب، لكن بعضهم حزبيون”، شارحاً شروط ولادة هذا النوع من المثقفين بالقول: “لعله يتعين «شكر» كل من نظام الرئيس حافظ الأسد وتداعي الشيوعية على ولادة عدد من المثقفين السوريين من سجون بلادهم. لقد التقت ثلاثة ظروف لتثمر هذه الظاهرة اللافتة. أولها إنّ ما يقارب ألفاً من المعارضين اليساريين، معظمهم من الشبان، قضوا سنوات طوالاً في السجن، ومئات منهم حول عشر سنوات للواحد. ثانيها إنه تسنت لكثيرين بينهم في السجون ظروف تتيح “ترويض السجن” بقراءة الكتب وتعلم لغات أجنبية. وثالثها إن الإيديولوجية التي سندت نضالهم ضد النظام، الشيوعية، تداعت وهم في السجن، الأمر الذي ربما كان حافزا لبعضهم على التفكير المستقل”، ما ساهم في نهاية المطاف في خروج جيل محترف وعالي الثقافة، سرعان ما شكّلوا بعد خروجهم جزءاً من المشهد الثقافي السوري، ونذكر منهم، على سبيل المثال لا الحصر: ياسين الحاج صالح (كاتب سياسي بارز)، راتب شعبو (روائي وكاتب سياسي)، ثائر ديب (مترجم)، مصطفى خليفة (روائي)، حسيبة عبد الرحمن (روائية)، غسان جباعي (مسرحي وروائي)، عبد الحكيم قطيفان (ممثل)…
المعتقلون اليوم
الحديث عن المعتقلين السابقين أعلاه، لا يعني بأي حال غياب هذا الفعل النضالي عن السجناء السياسيين بعد عام 2011 حتى اليوم، بل لهؤلاء حضورهم أيضاً، حيث صدر بالفعل الكثير من الشهادات والكتابات التي تروي بعضاً مما حصل داخل هذه السجون، ولكن أغلبها شهادات كتبت بعد الخروج من المعتقل، ولا نعرف حتى الآن إلا القليل مما حصل ويحصل داخل المعتقلات اليوم من أشكال الكتابة والمقاومة الإبداعية، وهذا أمر مفهوم نظراً لحجم القمع، ونظرا لأنّ الكثيرين من المعتقلين لا زالوا داخل هذه الزنازين يقاومون شرطهم الصعب، وسط عزلة تامة وغياب لأبسط الحقوق الإنسانية، إضافة إلى عدم القدرة على نشر كل ما يمكن أن يحصل عليه المرء من معلومات في هذا السياق، لأنه قد ينعكس سلباً على المعتقلين داخل السجون، لذا يتم الاحتفاظ بهذه المعلومات بانتظار ظرف أفضل، أو ربما إلى خروج المعتقلين من السجون ليرووا بأنفسهم أشكال وأنواع مقاومتهم التي تشكلت داخل هذه السجون.
لكن مع ذلك، ثمّة ما يمكن نشره عن بعض هذه التجارب، حيث قامت مجموعة “صوت المعتقلين”، وهي مجموعة تشكلت من مجموعة معتقلين سابقين، رفضوا الاستسلام، فقرّروا أن يكونوا صوت من بقي داخل المعتقل، عبر إيجاد آلية لنقل رسائل من بقي في المعتقل إلى العالم الخارجي، ثم إعادة تقديم تلك الرسائل بطريقة إبداعية لأجل إبقاء قضية المعتقلين حاضرة على الدوام. ومن نشاطات هذه المجموعة ذات الصلة بالصحافة الاعتقالية، مشروع صامدون “وهو عبارة عن حلقات صوتية لرسائل حقيقية من المعتقلين”. ولم تكن الرسائل أو الكتابة هي نشاط المعتقلين الوحيد، ففي 31 أب 2015 تم تنظيم فعالية “سوريا خارج الإطار” ضمن معرض في مدينة فينيس في إيطاليا، شارك فيه عدد من المعتقلين الذين تمكنوا من تهريب قصائد قصيرة ولوحات صغيرة بحجم الكف من داخل سجن عدرا في سوريا، لتجد طريقها إلى المعرض في إيطاليا، وتمثّل صوت المعتقلين السوريين في الخارج، وقد كنت شاهداً ومشاركاً في هذا الأمر من ناحيتين، المشاركة في نقل الأعمال وبعض التنظيم، والمشاركة في المعرض بقصيدة، حيث قام الفنانون والخطاطون بكتابة القصائد على شكل لوحات.
باحث وشاعر سوري. آخر أعماله: كمن يشهد موته (بيت المواطن، ٢٠١٤)، خطأ انتخابي (دار الساقي، ٢٠٠٨). له أبحاث في الاقتصاد والطائفية وغيرها، يعمل محرّرا في صحيفة العربي الجديد.
حكاية ما انحكت