صفحات الحوار

حسام الدين درويش: حدود الحرية جزءٌ من ماهيتها

محمد ديبو

حسام الدين درويش، باحث ومحاضر في الفلسفة والفكر العربي والإسلامي. يعمل باحثًا في مركز الدراسات الإنسانية للبحوث المتقدمة “علمانيات متعددة: ما وراء الغرب، ما وراء الحداثات” في جامعة لايبزغ، ومحاضرًا في قسم الدراسات الشرقية، في كلية الفلسفة، في جامعة كولونيا في ألمانيا. حائز على شهادة الدكتوراة من قسم الفلسفة في جامعة بوردو 3 في فرنسا، عن فلسفة بول ريكور. صدر له بالعربية كتاب “إشكالية المنهج في هيرمينوطيقا بول ريكور وعلاقتها بالعلوم الإنسانية والاجتماعية: نحو تأسيس هيرمينوطيقا للحوار” عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات- الدوحة، كما صدر له عدد من الكتب والمؤلفات باللغتين العربية والإنكليزية، منها (بالعربية) “في المفاهيم المعيارية الكثيفة/ العلمانية الإسلام السياسي تجديد الخطاب الديني”، الصادر عن الشبكة العربية للأبحاث والنشر، والذي يسلّط هذا الحوار الضوء عليه، إضافة إلى علاقته مع فلسفة بول ريكور الذي اختارها بـ”الصدفة”، كما يطلّ هذا الحوار على مواضيع أخرى، مثل الحرية، والترجمة، وغيرهما. هذا الحوار جزء من حوار كبير وموّسع، سيصدر في كتاب.

(*) قلت لي إنّ اختيارك لدراسة بول ريكور وتخصّصك في فلسفته لم يكن اختيارًا قصديًّا ونابعًا عن دراسةٍ معرفيةٍ له، بقدر ما هو أقرب للصدفة، وهذا يبدو غريبًا نوعًا ما، خاصة أنك أصدرت رسالة الدكتوراة حول ريكور بالعربية “إشكالية المنهج في هيرمينوطيقا بول ريكور وعلاقتها بالعلوم الإنسانية والاجتماعية: نحو تأسيس هيرمينوطيقا للحوار”، وخاصةً أيضًا أنك أقدمت على توسيع آفاق هيرمينوطيقا ريكور لتشمل الخطاب الشفوي (الخطاب الإذاعي والتلفزيوني)، الذي أقصاه من مجال دراسة الهرمينوطيقا.

سؤالي من شقين، الأول إلى أي حد تترك للصدفة أن تقودك في مسارك الفلسفي/ الفكري، أو إلى أي حد لعبت الصدفة دورًا في ذلك. وهنا قد يكون من المفيد تذكر أنّ موضوع الهيرمينوطيقا عند ريكور “فهم الذات لنفسها”، فكيف تفهم ذاتك هنا في اختيارها لدراسة ريكور ومتابعة دراسته، وإصدار كتابك عنه بالعربية، وأنت لم تعجب به؟!

والشق الثاني، طالما أنّ فلسفة ريكور لم تعجبك، كما تقول، كيف تمكنت، ولماذا أقدمت على توسيع مجال الهرمينوطيقا الخاص به؟ لماذا لم تصرف جهدك في مكان آخر تحبه وتجد نفسك فيه “فلسفيًا”. وضمن هذا السياق، حدثنا أيضًا عن تلك الإضافة التي قدمتها حول هيرمينوطيقا بول ريكور في ما يخص الخطاب الشفوي.

ربما كان ضروريًّا، هنا، استحضار حديث ماركس عن أنّ البشر يصنعون التاريخ في ظروفٍ وشروطٍ ليست خاضعة لاختياراتهم، واستحضار الثنائية الأهم في العلوم الاجتماعية والمتمثلة في ثنائية البنية وفاعلية الذات. يمكن لعمليتي الاستحضار المذكورتين أن تساعدانا على فهم ليس محدودية الحرية فحسب، بل على أنّ معنى الحرية يكمن في أنها محدودةٌ بالضرورة. فحريةٌ مطلقةٌ، من دون أي حدودٍ، لن تكون حريةً ولا وجودًا بوصفه صيرورةً، بل ستكون عدمًا بمعنى ما.

عندما أخبرني صديقاي أحمد اليوسف، وجلال بدلة، بإمكانية الحصول على قبولٍ جامعيٍّ في فرنسا، والسفر إلى هناك لإتمام دراسة الماجستير والدكتوراة، كنت راغبًا في الخروج من سورية، بقدر رغبتي في إتمام دراستي، وربما أكثر بكثيرٍ. وكان مطلوبًا مني تقديم مشروع بحثٍ، للحصول على ذلك القبول، خلال مدةٍ قصيرةٍ. وكان من المفترض أن يكون موضوع البحث هو (فكر) أحد الفلاسفة الفرنسيين المعاصرين، على الرغم من أنه لم يكن لديّ، حينها، اطلاعٌ كافٍ، في هذا الخصوص. وكنت قد اشتريت، حينها، كتابين مترجمين حديثًا لبول ريكور، أحدهما محاضراته في موضوع الأيديولوجيا واليوتوبيا، وثانيهما كتابه عن الهيرمينوطيقا “من النص إلى الفعل”. وقد استهواني، حينها، البعد السياسي والفلسفي في موضوع الأيديولوجيا واليوتوبيا، فكتبت مشروع بحثي عنه. وبعدما سافرت إلى فرنسا، تبيّن لي أن نصوص ريكور عن الموضوع ليست كافيةً لأن تُبنى عليها أطروحةٌ أكاديميةٌ، وفقًا لتوجهاتي المعيارية، وإمكاناتي المعرفية. ومع ازدياد اطلاعي على مبحث الهيرمينوطيقا عمومًا، وفلسفته الهيرمينوطيقية خصوصًا، تبيّن لي أنها تمثل أحد أهم إسهامات ريكور الفلسفية، فضلًا عن أنها أقرب إلى اهتمامي الكبير والدائم بنظرية المعرفة، ومسألة الحقيقة، والتوجه الريبي والنسبوي والمنظوري… إلخ. فقررت تغيير موضوع بحثي من “الأيديولوجيا واليوتوبيا” إلى “مسألة المنهج في الهيرمينوطيقا والعلوم الإنسانية والاجتماعية”. وكان ذلك موضوع أطروحتي الأولية في الماجستير، ومن ثم تمّ توسيعها وتعميقها في أطروحة الدكتوراة.

انطلاقًا مما سبق، يمكنني القول إنّ موضوع بحثي في الدكتوراة، كان مثل الفلسفة، أشبه بقدرٍ اخترته بكلّ حريةٍ وقناعةٍ، في إطار ظروفٍ لم يكن لإرادتي دورٌ في وجودها. وربما يمكننا، هنا، استحضار “حجر اسبينوزا”. فوفقًا لسبينوزا لو أنه تم إلقاء حجرٍ من مكانٍ عالٍ، ولو أنَّ ذلك الحجر كان يملك وعيًا، لظنّ أنه يتجه في مساره بإرادته وانطلاقًا من قناعاته، مع أنه محكومٌ بقوانين لا يمكنه مخالفتها ولا تقرير مصيره (بمعزلٍ عنها). هل يمكن القول بأنّ حالي، أو حال أيّ إنسان، مماثلٌ لحال ذلك الحجر؟ ربما، لكن من الضروري حينها أن يكون وعي الإنسان وحريته وأفكاره وقيمه جزءًا من الضرورات المحدّدة لمصيره، وليست مجرّد نتيجةٍ لضروراتٍ مستقلةٍ عنها. ومن الجدل بين الضروري والجائز، بين القانون والصدفة، بين الظروف الموضوعية بقوانينها وصدفها والإرادة الذاتية بأفكارها وقيمها، يكون الإنسان ويرتسم مسار حياته. ويمكن للجدل، هنا، أن يكون سلبيًّا أو إيجابيًّا، بل أرجح أنه، بالضرورة ودائمًا، إيجابيٌّ، من جانبٍ، وسلبيٌّ، من جانبٍ آخر. ويكون الجدل إيجابيًّا، عندما تنسجم الإرادة (الذاتية) مع الظروف (الموضوعية)، أو تسمح هذه الظروف بتحقيق تطلعات تلك الإرادة. في المقابل، يكون الجدل سلبيًّا، عندما تتصادم الإرادة مع الواقع، ولا يفضي ذلك الصدام إلى تحقيق ما هو مرغوب أو مرادٌ، أو إيجابيٌّ، من منظورٍ ما. وأظن أنّ الجدل بين الجدلين حاضرٌ في حياة كلّ إنسانٍ، مع تفاوت حجم البعد الإيجابي أو السلبي في ذلك الجدل الأكبر.

وفي خصوص رؤيتي لذلك الجدل في حياتي، أعتقد أنّ البعد السلبي ترك آثارًا كبيرةً في حياتي ونفسي، وأتمنى وأحاول ألا يعاني ابني أو غيره من تلك الخبرات والآثار السلبية. في المقابل، أعتقد أنني كنت محظوظًا، في أحيانٍ كثيرةٍ، بحيث سمحت لي الظروف بأن أتكيّف، أو أكيِّف معها، وأن أحقّق بعض تطلعاتي، وأجسِّد بعض أفكاري وقيمي في قولٍ أو فعلٍ ما.

تحفظاتي القوية على فلسفة بول ريكور، والتي وصلت إلى مرحلة عدم الانسجام والنفور، في بعض الأحيان، كانت نتيجةً للتباين بين توّجهاتنا المعيارية. فإضافةً إلى ما اتُّهم به بأنه لاهوتيٌّ متخفٍّ، بحقٍّ حينًا، ومن دون حقٍّ أحيانًا أخرى، كانت لديه توجهاتٌ، أو انشغالاتٌ معياريةٌ مسيحيةٌ/ بروتستانتيةٌ وأوروبيةٌ/ غربيةٌ قويةٌ. وكنت أجد في تلك التوّجهات المركزية، أو المناطقية، ما هو مضادٌّ للفلسفة، بوصفها مبحثًا في الشرط الإنساني، وما يهمُّ كلّ إنسانٍ، بوصفه إنسانًا. لكن ذلك، وغيره، لم يمنعني من محاولة التفاعل إيجابًا مع فلسفته، قدر المستطاع. ولم أقم بذلك التفاعل، نتيجةً لقناعةٍ خاصةٍ وصلت إليها بالتأمل، فقط، وإنما فعلت ذلك، أيضًا، متأثرًا بالضوابط الأكاديمية التي اقتنعت جدًّا بمعقوليتها، عمومًا. فعندما ناقشت النسخة الأولى من مشروع بحثي مع الدكتور المشرف على أطروحتي، كانت أطروحتي نقديةً، بل انتقاديةً، بامتيازٍ، لبعض مضامين فلسفة ريكور. وقد فهمت، من خلال مناقشتي مع المشرف، أنّ الأطروحة ينبغي أن تكون، بالدرجة الأولى، بنائيةً، وليست انتقاديةً، وأنه إذا لم يكن في فلسفة ريكور ما يمكنني البناء عليه، فالأفضل لي (ولريكور) أن أبحث عن موضوعٍ آخر، أو فيلسوفٍ آخر، ليكون موضوع أطروحتي. وقد كانت تلك المناقشة القصيرة ذات أثرٍ إيجابيٍّ كبيرٍ في فهمي لمعنى الأطروحة الجامعية، وبعض أهم المفاهيم المتصلة بها، مثل مفاهيم الموضوع والمشكلة والإشكالية… إلخ.

ابتعادي عن الأطروحة الانتقادية لم يمنعني من ممارسة النقد تجاه فلسفة ريكور، لكنه اتخذ صيغة النقد الداخلي، أو المحايث، وكان في إطار تقديم إضافةٍ تتأسّس على الفلسفة، أو الهيرمينوطيقا الريكورية ذاتها، بقدر ما تختلف معها. وأقصد بالنقد الداخلي، أو المحايث، ذاك النقد الذي يتأسّس على جزء من مضمون ما يقوم بنقده، أو الاختلاف معه. فانطلاقًا من مضامين هيرمينوطيقا ريكور ذاتها اقترحت إمكانية، بل وضرورة، تأسيس هيرمينوطيقا للحوار، أو الخطاب الشفهي، على الرغم من أن ريكور شدّد على أنّ لا إمكانية ولا ضرورة لوجود أو إيجاد مثل هذه الهيرمينوطيقا. ولم أناقش في أطروحتي الأسباب الأيديولوجية التي دفعت ريكور إلى تبني ذلك الموقف من قيام هيرمينوطيقا للحوار والخطاب الشفهي، بل ركزت جهودي على ما اعتبرته، حينها، أولى بالاهتمام في أيّ بحثٍ أكاديميٍّ، والمتمثل في إيجادي المسوغات والحجج المعرفية التي تدعم أطروحتي، وتأخذ في الحسبان المسوغات والحجج المعرفية المقدّمة لدعم الأطروحة، أو الأطروحات المضادة. وأودّ الإشارة، هنا، إلى أنّ انخراطي في المناقشات في المجال العام، في خصوص مسائل تنتمي إلى الشأن العام، جعلني أتخلّى جزئيًّا عن تجنبي لمناقشة البعد الأيديولوجي. ففي مفارقةٍ طريفةٍ أمارسها بقصدٍ، ووفق ما أرى أنّ الظروف تسمح بها، أركز جزءًا من مناقشاتي في السياق الأكاديمي على إبراز الأبعاد الأيديولوجية والمعيارية في المضامين المعرفية المطروحة، في حين أحاول التركيز، في المناقشات المعيارية، أو الأيديولوجية في المجال العام، على التأسيس والتحليل المعرفي للتوّجهات الأيديولوجية البارزة، أو المهيمنة فيه. والبحث في جدل العلاقة بين المعرفة والأيديولوجيا، بين فهم، أو وصف، أو تحليل، ما هو كائنٌ، والمحاجة، الضمنية أو الصريحة، في خصوص ما يجب أن يكون، هو أحد أهم المشكلات العملية والإشكاليات النظرية التي انشغلت فيها، خلال السنوات الأخيرة، والتي ظهر جزءٌ منها في أحد كتبي الصادرة مؤخرًا: “المعرفة والأيديولوجيا في الفكر السوري المعاصر”.

تضمّن بحثي في الدكتوراة قسمين أساسيين. يشمل القسم الأول الفصول الستة الأولى من البحث؛ ويتضمن دراسةً شاملةً ومفصَّلةً لتناول ريكور، الضمني أو الصريح، لإشكالية المنهج في الهيرمينوطيقا والعلوم الإنسانية والاجتماعية عمومًا، ولمسألة العلاقة بين الفهم (الهيرمينوطيقي) والتفسير (العلمي) خصوصًا، خلال مساره الفلسفي الذي امتدّ لستة عقودٍ تقريبًا. أما القسم الثاني، فيشغل الفصل السابع والأكبر من البحث، ويتضمن محاولة تقديم جديدٍ، أو أطروحةٍ خاصةٍ بي، في هذا الخصوص. وانطلاقًا من فلسفة ريكور، وعلى العكس من الموقف الذي اتخذه في هذا الخصوص، حاججت، في ذلك الفصل، بأنّ تأسيس هيرمينوطيقا للحوار، وللخطاب الشفهي عمومًا، أمرٌ ممكنٌ وضروريٌّ، من منظور غايات الهيرمينوطيقا، أو الأسباب المفترضة لوجودها. فإذا كان الغرض الأساسي من الهيرمينوطيقا يتمثل، إما في إزالة سوء الفهم أو الوصول إلى فهمٍ أفضل، كما يرى ريكور مع شلايرماخر مثلًا، أو إلى فهم الفهم والتأويل، كما يرى غادامر، مثلًا، فإنّ سوء الفهم أو الفهم السيء موجودٌ بقوةٍ في الحوار وتلقي الخطاب الشفهي. ولا يكفي الحضور المشترك لأطراف ذلك الحوار والخطاب في إزالة ذلك الفهم السيء أو تحسينه، كما حاجج ريكور. وقد ميّزت، في بحثي، بين الأسباب الذاتية (المتعلقة بالمتلقي خصوصًا) والموضوعية (المتعلقة باللغة خصوصًا) لسوء الفهم؛ لكنني اقتصرت، حينها، على التركيز على الأسباب أو العوامل الذاتية، ورأيت أنّ التحلّي بما أسميته بأخلاق الفهم، أو الحوار، يمكن أن يسهم في إزالة الفهم السيء، أو سوء الفهم، أو الحدّ منه، على الأقل، وتعميق فهمنا وتفاهمنا. وفي السنوات الأخيرة، ركزت على جزء من العوامل الموضوعية المفضية إلى حصول سوء الفهم في النقاشات الشفهية، أو الكتابية، الأكاديمية، أو غير الأكاديمية. وذلك الجزء هو ما يسمّى ﺑ”المفاهيم المعيارية الكثيفة”. فعلى العكس من ثنائية أو مثنوية “الوصف والتقييم”، “الواقعة والقيمة”، تتضمن هذه المفاهيم وصفًا وتقييمًا، في الوقت نفسه. وغالبًا ما يتم التقليل من حضور البعد المعياري، أو إنكار هذا الحضور أصلًا، مع أنه جزءٌ من المعنى السيمانطيقي/ الدلالي لتلك المفاهيم، ومن فهمنا واستخدامنا وتلقينا لها.

أهمية التطابق والتقارب بين المبنى والمعنى

(*) تقول وتتبنى أيضًا، في أحد هوامش مقدمة كتابك “إشكالية المنهج في هيرمينوطيقيا بول ريكور وعلاقتها بالعلوم الإنسانية والاجتماعية/ نحو تأسيس هيرمينوطيقا للحوار”، استخدام مفردة هيرمينوطيقا باللغة العربية بديلا للمرادفات العربية، بحجّة أنّ المترادفات العربية لا تعبّر عن المعنى الدقيق. دعني أختلف معك، لأسبابٍ عدة، منها أنه ليس من الضروري أن يتواءم المفهوم مع المفردة حرفيًّا، إذ يكفي أن يدل عليها ويُعرف بها، بمعنى، وعلى سبيل المثال مثلًا، لو اخترنا التأويلية كترجمة للهرمينوطيقا، قد لا تكون هذه المفردة (التأويلية) تدل على ما تريد أن تقوله الهيرمينوطيقا ككل، لكنها قد تتحوّل مع الزمن وكثرة الاستخدام لها، في هذا السياق، إلى مفهومٍ يدل على ذلك مع الزمن، وهذا يبقى في اعتقادي أفضل من إقحام المفردات الأجنبية الصعبة بالعربية كما هي، ليس لأنني متعصّب للعربية مطلقًا، فأنا مع إدخال أي كلمة وتعريبها وهذا ضروري، ولكن (وهذه حجتي الثانية للاختلاف معك) وجود هذا النوع من المفردات قد يصعب القراءة على القارئ، وخصوصًا القارئ غير المختص، ويعطي إيحاءً دائمًا بأن الفلسفة أمرٌ مستعصٍ وبعيدٌ كلّ البعد عن مجال فهمه، خاصة حين تأتي تلك المفردات (الأنطولوجيا، الفينومينولوجيا، الهرمينوطيقا…) في مقطعٍ واحدٍ خلف بعضها البعض (الهيرمينوطيقا الأنطولوجية، كما ورد في كتابك عن رؤية ريكور لهيرمينوطيقا هايدغر، مثالًا لا حصرًا)، وهذا أمر يحصل في نصوصك كثيرًا. فإذا كان في الإمكان تسهيل الأمر على القارئ، لماذا هذا التعقيد، خاصة أنّ الترجمة هي في الأصل محاولةٌ لبناء الجسور بين لغتين، وللتسهيل بدل التعسير، وأنت القائل أنّ الترجمة “فن أكثر مما هي علم مضبوط ومحدّد المعالم والمنهج بدقة وخاصة أيضًا (وهذا الأهم بالنسبة لي) أن هنالك مفردات كثيرة تدل على المعنى المطلوب (التأويلية، التفسيرية…). ما رأيك في ذلك؟

لدي ميلٌ قويٌّ لموافقتك والاتفاق معك، حتى حيث يبدو، أو تعلن، بوضوحٍ، أنك تختلف معي، لكن هنالك “لكن”، وهي لا تجبُّ ما قبلها. وهذه اﻟ”لكن” تضعنا أمام استعصاءٍ نظريٍّ يصعب تجاوزه، أو إقامة الجدل بين طرفيه، وحلَّه حلًّا كاملًا، أو مُرضيًا بالكامل. فمن ناحيةٍ أولى، معك حقٌّ في كلّ ما قلته في أنّ مفردات “هيرمينوطيقا” “فينومينولوجيا” و”أنطولوجيا” يمكن أن تثير حفيظة غير المعتادين عليها، أو غير المدركين، أو العارفين لمعانيها، أو غير الموافقين على ضرورة استخدامها. وليس نادرًا أن يفضي ذلك إلى نفور كثيرين من النصوص، أو من المعرفة التي تتضمن مثل تلك المفردات. وأشير، هنا، إلى أنّ تلك المفردات لا تثير حفيظة كثيرٍ من الناطقين باللغة العربية فحسب، بل إنّ ذلك يحصل، في سياقات استخدامها في اللغات التي تنتمي إليها (الإنكليزية والفرنسية والألمانية… إلخ)، في السياقات غير الأكاديمية على الأقل. وأنا أشعر بشيءٍ من الحرج، وعدم الارتياح، عندما أستخدمها، أو أجد نفسي مضطرًا إلى استخدامها. لكنني، لأسبابٍ كثيرةٍ، أميل إلى هذا الاستخدام وأمارسه، في بعض السياقات، رغم شعوري المذكور بالحرج والغصّة. السبب الأول الذي يسوِّغ استخدامها، من وجهة نظري، هو أنّ ذلك الاستخدام يمكن أن يقلّل من إمكانية سوء الفهم، أو عدم الفهم، عند متلقيها. وسأبين وجهة نظري في هذا الخصوص، من خلال شرحٍ للمفردات الثلاث أو المفاهيم المذكورة.

أبديت سابقًا اعتراضًا على ترجمة مفردة الهيرمينوطيقا، وحاججت بأفضلية تعريبها، لأنني وجدت أنّ كل الترجمات المقترحة، والممكنة من وجهة نظري ـ التأويلية، وفقًا لحسن ناظم، وعلي حاكم صالح، أو علم التفسير، وفقًا لوجيه أسعد، أو فهم الفهم، وفقًا لعادل مصطفى، أو الفسارة، وفقًا لمشير باسيل عون،… إلخ ـ تعبِّر عن جانبٍّ من المعاني التي يتضمنها المفهوم، ويمكن لتبني إحدى هذه الترجمات أن يفضي إلى سوء فهمٍ، في هذا الخصوص.

وثمة مفرداتٌ مختلفةٌ تعبّر عن وجهات نظرٍ مختلفةٍ، في هذا السياق، ويمكن لاستخدام هذه المفردة/ الترجمة، أو تلك أن ينتصر لوجهة نظرٍ ما، وأن يحجب وجهات نظرٍ مهمةً أخرى. فترجمتها ﺑ”التأويلية”، أو “فهم الفهم”، قد يعطي الانطباع بأنّ موضوعها الوحيد، أو الأهم، هو التأويل، في الحالة الأولى، والفهم في الحالة الثانية، وذلك أمرٌ غير صحيحٍ، في أحيانٍ كثيرةٍ على الأقل. أما ترجمتها ﺑ”علم التفسير” فيمكن أن تكون مضللةً جدًّا، من حيث أنّ تلك الترجمة تتضمن الزعم بأنها علمٌ. فعلى الرغم من محاولة علمنتها، أو جعلها علميةً، عند كارل أوتو أبل مثلًا، فإن بعض أهم أعلام الهيرمينوطيقا ـ غادامر وريكور مثلًا ـ يقولون بأنها غير علميةٍ، أو بأنها لا ـ علمية. كما أنّ الترجمة التي تربطها بالتفسير، حصرًا، تعطي انطباعًا غير دقيقٍ ومثيرٍ لسوء الفهم، ليس بسبب ضبابية معنى التفسير (والخلط بين التفسير العلمي والتفسير بالمعنى الديني)، فقط، بل، أيضًا، لأنّ التفسير هو أحد المواضيع التي تتناولها تلك الهيرمينوطيقا، وليس الموضوع الأهم، غالبًا. يُضاف إلى ذلك وجود رؤىً متعارضةٍ في خصوص ماهية الهيرمينوطيقا، من حيث كونها فلسفةً أم علمًا أم منهجًا. ويصعب إيجاد كلمةٍ تأخذ في الحسبان كلّ ما سبق، وتشمل كلّ أو أهم المعاني التي يتضمنها المفهوم.

هل يمكن لاستخدام إحدى هذه الترجمات أن يجعلها مألوفةً ومفهومةً، ويزيل الأسباب المذكورة لسوء الفهم؟ لا أعتقد أن ذلك ممكنٌ، في هذه الحالة. فعلى الرغم من التمييز، أو التمايز، بين المفهوم والمفردة المعبّرة عنه، أرى أنّ استخدام بعض المفردات يمكن أن يجعلها عرضةً لسوء فهمٍ مستمرٍ، لا يمكن التخلّص أو الخلاص منه، إلا من خلال استخدام مفردةٍ، أو كلمةٍ أخرى. فعلى سبيل المثال، جرت العادة أن تُترجم كلمة secularism، أو secularity ﺑ”العلمانية”. وبغض النظر عن ضرورة التمييز بين المفهومين/ المفردتين، في بعض السياقات على الأقل، فإنّ الأفغاني استخدم كلمة “الدهرية”، وهي كلمة “قرآنية” تحيل، في الفكر العربي الإسلامي ـ لدى الشهرستاني والغزالي والزمخشري وابن تيمية، على سبيل المثال ـ على “الملحدين”، أو “الكافرين”، مع العلم أنّ جورج يعقوب هوليوك قد صاغ مفردة “secularism”، في اللغة الإنكليزية، لتكون بديلًا، ذا معنًى إيجابيٍّ معياريًّا، عن مفردة “الإلحاد”، ذات الدلالات السلبية، من منظورٍ ما. وقد “زاود” طه عبد الرحمن على الأفغاني، في هذا الخصوص، واستخدم كلمة “الدهرانية”، ليعطيها طابعًا أيديولوجيًّا سلبيًّا، أو أكثر سلبيةً، لأن لاحقة “انية” يمكن أن تتضمن ذلك المعنى السلبي. الأمر ذاته يمكن قوله في خصوص استخدام كلمة “الشذوذ” محل كلمة “المثلية”، أو كلمة “الزنا” بدل كلمة “ممارسة الجنس”، أو “ممارسة الحب”.

في كلّ هذه الحالات وما يماثلها، ينبغي عدم استسهال استخدام هذه الكلمة، أو تلك، للتعبير عن معنى أو مفهومٍ ما، بل ينبغي، دائمًا، البحث عن حدٍّ أدنى من التطابق أو التقارب بين المبنى والمعنى، بين الجانبين، الوصفي والمعياري، للحقل الدلالي للكلمة والمعاني، أو المفاهيم المراد التعبير عنها بها.

وإذا أخذنا كلمة الظاهراتية، فهي تبدو ترجمةً مناسبةً لكلمة/ مفهوم “phenemonology”. لكنني أخشى من أنّ هذه الترجمة قد تثير سوء فهمٍ، بسبب المعاني المرتبطة بمفردة/ مفهوم الظاهر في اللغة/ الثقافة العربية. فالظاهر قد يحيل على ما هو مقابل للباطن، بحيث يكون ما هو ظاهر مجرّدًا من العمق، أو من القيمة المعرفية. فمن منظورٍ شائعٍ ما، تكمن الحقيقة في الباطن العميق، وليس في الظاهر السطحي. وبهذا المعنى يكون البحث في ما هو ظاهرٌ بحثٌ متنافرٌ، أو غير منسجمٍ مع البحث عن “الحقيقة”، أو المعرفة الموثوقة. لكن هذا الفهم الممكن يتناقض تمامًا مع الرؤية الظاهراتية/ الفينومينولوجية للأمور، سواء أكان ذلك عند كانط الذي يرى أنّ المجال الوحيد الممكن والمفيد للمعرفة الإنسانية هو الظواهر، أو الظاهرات، أو مع هوسرل الذي يرى أنّ المعرفة الحقيقية هي معرفةٌ بالظاهرات، أو الظواهر، كما تبدو في الخبرة الحية. أمّا تحفظي على ترجمة كلمة/ مفهوم “ontology” بعلم الوجود، أو ترجمة “ontological” بالوجودي، فسببه أنّ الترجمة الأدق قد تكون الكينوناتية للمفردة الأولى، أو الكينوناتي للمفردة الثانية؛ لأنّ المفهوم لا يحيل على الوجود المحسوس أو المتعين أو الجزئي (existence)، وإنما يحيل على ماهية ذلك الوجود أو كينونته (being). وهذا التمييز مفقودٌ في ترجمة بدوي لكتاب سارتر “الوجود والعدم”. ورغم كل ما سبق ذكره، فإنّ تحفظاتي على ترجمة بعض الكلمات المفاهيمية وتفضيلي لتعريبها، يختلف بين حالةٍ وأخرى. فمثلًا، ليس نادرًا أن أستخدم مفهوم الوجودي والظاهراتي، ترجمةً لكلمتي “ontological” و”phenonological”، في بعض السياقات.

أضيف، أخيرًا، أنه بعد نشر أحد نصوصي الأولى، باللغة العربية، قال لي أخي هيثم إنه وجد صعوبةً في فهم بعض الكلمات الموجودة فيه، وذكر لي كلمة “أيديولوجيا”، كأحد الأمثلة على تلك الكلمات. وأذكر أنني، لوهلةٍ أولى، أصبت بالدهشة، لأنني كنت أظن أنّ الكلمة متداولةٌ ومفهومةٌ من كلّ من يمكن أن يقرأ ذلك النص. وقد بيّنت لي تلك الحادثة، وحوادث أخرى كثيرةٌ مشابهةٌ، تنوّع القرّاء المحتملين والإمكانية الدائمة لاستصعابهم، أو عدم استساغتهم لهذه الكلمة، أو تلك، والضرورة الدائمة لمراجعة ظنوننا واعتقاداتنا في خصوص مدى وضوح الكلمات والمصطلحات والمفاهيم المستخدمة. في المقابل، وبوصفي قارئًا وكاتبًا، أعتقد أنه ينبغي للقارئ، في سياقاتٍ كثيرةٍ، بذل بعض الجهود للتعامل مع بعض الصعوبات التي تواجهه مع بعض النصوص والأفكار. فالحصول على المعرفة أو التحصيل المعرفي ليس أمرًا يسيرًا وسهلًا ومتاحًا للجميع، بغض النظر عن معارفهم وجهودهم في سبيل تحصيل المعرفة، بل يتطلب أن يبذل القارئ وقتًا وجهدًا ليسا بالقليلين، في بعض الأحيان على الأقل.

(*) طالما أن أخاك هيثم قد استصعب مفردة الأيديولوجيا، فليكن سؤالنا عنها هذه المرة. تجادل أن الأيديولوجيا تحتاج إلى المعرفة، وهذا أمر مفروغ منه على ما أعتقد، لأن أيّة أيديولوجيا من دون معرفة تنتج الكوارث. أما أن تكون المعرفة في حاجة إلى أيديولوجيا، أو تتضمن شيئًا منها، فهذا ما أختلف معك فيه. واختلافي هو التالي: أرى أنه من الضروري أن تكون المعرفة معرفةً، والأيديولوجيا أيديولوجيا، في مستوىً أول، أي ثمّة فصلٌ واضحٌ ومحدّدٌ (أو يجب أن يحدّد على الأقل، أو يسعى منتج المعرفة لأن يحدّده ويسعى له بوضوحٍ وحزمٍ معرفيين)، لأن التداخل (خاصة إذا كان مقصودًا) يؤثر على المعرفة ذاتها، ويؤثر على مصداقيتها. لهذا من الضروري في رأيي أن تكون المعرفة مستقلةً عن الأيديولوجيا، وهذا أمر مختلف عن مسألة سعي الأيديولوجي لاحقًا لأخذ هذه المعرفة وتوظيفها في سياق أهدافه، وهذا التوظيف يجب أن يكون واضحًا من وجهة نظري، كيلا يحصل اللبس أو يؤثر على المعرفة.

من جهة أخرى، أفهم قولك إنه مهما بلغ منتج المعرفة من الحياد، فلا بد أن تتسرّب تحيّزاته إلى هذه المعرفة. هذا أمر مفهومٌ، ولكن، يجب عليه أن يسعى لأن تكون معرفته منزّهة عن الأيديولوجيا وهو يعمل عليها. أما إلى أي حد ينجح أو يفشل، فهذا أمرٌ آخر، ويأتي أمر كشفه على من يدرس تلك المعرفة لاحقًا، أو ينتقدها. ما رأيك؟

أود أن اعترف أنني أشعر بقليلٍ من الندم على اختياري لمفردة “الأيديولوجيا”، في عنوان الكتاب المذكور، وفي نصوصه، ونصوصٍ أخرى. وأظن أن ذلك الاختيار لم يكن موفقًا كثيرًا، بسبب السمعة السيئة لتلك المفردة، أو ذلك المفهوم، والتعريفات السلبية الشائعة لها، بوصفها معرفةً زائفةً، أو معرفةً غير متسقةٍ، أو متطابقة، مع الواقع، أو مع العلم… إلخ. أحاول استخدام المفردة/ المفهوم بمعنى أكثر شموليةً، معرفيًّا، وأقل سلبيةً، معياريًّا، بحيث تدلَّ على كلّ ما هو معياريٍّ، من الأسس والقيم والتوجهات والرغبات والأحكام والتطلعات المعبّرة عمّا “ينبغي أو يجب أن يكون”، من منظورٍ ما. وبهذا المعنى، يبدو الأيديولوجي أو المعياري جزءًا محايثًا لنسيج أيّ معرفةٍ. ولا يكون السؤال المطروح هو “كيف يمكن جعل المعرفة خاليةً من الأيديولوجيا، أو من أي بعد معياريٍّ؟”، وإنما تكون الأسئلة المطروحة حينها: “ما الأبعاد المعيارية الحاضرة في تلك المعرفة؟ وما النتائج السلبية والإيجابية لذلك الحضور؟ وكيف يمكن وينبغي التعامل معها، بما يسمح بالتقليل من هذه الآثار السلبية، وتعزيز تلك الآثار الإيجابية، قدر المستطاع؟”. وهذا هو سبب اهتمامي بمبحث المفاهيم المعيارية الكثيفة بالذات؛ لأنّ هذه المفاهيم تساعد على إظهار أنّ اللغة العادية، بمفرداتها وتركيباتها، المستعملة في الحياة اليومية والعلوم الإنسانية والاجتماعية لا يمكن أن تكون، عمومًا، وصفيةً فقط، وأنها، غالبًا، على الأقل، تتضمن بعدًا أو توجهًا معياريًّا ما، بغض النظر عن مدى كوننا نعيه ونقصده.

ما سبق، وغيره، لا ينفي أهمية المعرفة الموضوعية، ولا ينكر إمكانيتها، لكنه يرى أنّ الموضوعية لا توجد إلا عبر المرور بذاتيةٍ ما، وأنها ليست نقيضًا للذاتية بالضرورة، وأنّ البعد المعياري محايثٌ، عمومًا، للوصف والتحليل المعرفيين، لدرجةٍ أو لأخرى، وأنه، بهذا المعنى، شرطٌ من شروطه، ومكوّنٌ من مكوّناته، وليس ضده أو متخارجٌ معه فقط. وفي هذا الإطار، قد يُظنُّ أن الموضوعية تتطلب الابتعاد عن الأحكام المعيارية، والتزام الحياد، والابتعاد عن التحيّز، قدر المستطاع. وهذا، أيضًا، حكمٌ غير دقيقٍ، من وجهة نظري. فعلى سبيل المثال، القول بوجود غزوٍ روسيٍّ لأوكرانيا، حاليًّا أكثر موضوعيةً، من القول بوجود صراعٍ بين روسيا وأوكرانيا، رغم أنّ البعد المعياري في القول الأول أكثر حضورًا، ويبدو أكثر انحيازًا لوجهة النظر الأوكرانية. وكذلك الحال عند الحديث عن الاحتلال الإسرائيلي لفلسطين، بدلًا من الحديث عن الصراع بين الإسرائيليين والفلسطينيين، أو الحديث عن قمع طالبان للنساء، بدلًا من الحديث عن تطبيق طالبان لسياسةٍ مختلفةٍ تجاه النساء… إلخ.

وباختصارٍ، ينبغي لنا أن نعي البعد المعياري أو الأيديولوجي الحاضر، بالضرورة، في لغتنا وتواصلنا اللغوي مع الآخرين، لدرجةٍ أو لأخرى، وأن نحاول ضبطه، بما يساعد على موضوعية المعرفة، بدلًا من أن يكون عقبةً في وجه تلك المعرفة.

مع الأخذ في الحسبان لكلّ ما سبق، أتفق معك في أهمية أن يكون لدى الباحثين والمهتمين معرفةٌ “منزّهة عن الأيديولوجيا”، قدر المستطاع. ولهذا ثمّة محاولات كثيرةٌ في العلوم الإنسانية والاجتماعية إلى عدم استخدام المفاهيم المعيارية المستخدمة في الخطاب السياسي والأيديولوجي، واستحداث واستخدام مفاهيم تحليليةٍ خاليةٍ من البعد المعياري قدر المستطاع. وهذا ما تبنيته، على سبيل المثال، في دراستي لمسألة العلمانية. فقد تبنيت التمييز بين العلمانية، بوصفها مفهومًا تحليليًّا، والعلمانوية، بوصفها مفهومًا معياريًّا/ أيديولوجيًّا. وهذا ما حاولت القيام به في خصوص مفهوم الأيديولوجيا ذاته، حيث حاولت استحداث/ استخدام مفهومٍ وصفيٍّ/ تحليليٍّ يشير إلى بعد معياريٍّ، من دون أن يصدر أي حكمٍ معياريٍّ على هذا البعد المعياري، أو على المفهوم ذاته. لكن محاولتي لم تنجح في أحيانٍ كثيرةٍ، لأنّ تلك المفردة لها تاريخ ومعانٍ سلبيةٌ شائعةٌ، وليس سهلًا تبني معنى جديد لتلك المفردة. وفي الواقع أجد أنّ فشلي هو، في الوقت نفسه، نجاحٌ جزئيٌّ لأطروحتي القائلة بصعوبة وجود لغة أو مفاهيم معياريةٍ خاليةٍ كليًّا من المعيارية.

في تناول مسألة الحريّة

(*) قلت في إحدى إجاباتك أعلاه: “حرية مطلقة من دون أي حدود لن تكون حرية ولا وجودًا بوصفه صيرورة، بل ستكون عدمًا بمعنى ما”. لكن من يحدّد هذه الحدود للحرية؟ وكيف نستطيع التفريق بين الحدّ الذي هو من طبيعة الأشياء وبنيتها فلسفيًّا، أي حدٍّ كواقع موضوعي لا يمكن القفز فوقه، وبين الحد/ الحدود الناتجة عن سلطاتٍ/ مصالح تسعى دائمًا لرفع السدود في وجه الحرية؟

في تناول مسألة الحرية، ينبغي، بدايةً، التمييز بين الحرية الميتافيزيقية والحريات السياسية والاقتصادية والفكرية في الدولة والمجتمع. فالحرية الأولى تخصّ حرية الإرادة، والسؤال الرئيس، هنا، هو: إلى أيّ حدٍّ يمكن لهذه الإرادة أن تكون (غير) متحدّدةٍ بعوامل لا سيطرة (كاملة) للإرادة عليها، وتحتِّم عليها هذا التوّجه أو ذاك؟

وعادةً ما يكون الحديث، في هذا السياق، عن العوامل الداخلية النفسية والعضوية، لكن يمكن التوّسع وإضافة عوامل التربية والبيئة الاجتماعية والأوضاع الاقتصادية والسياسية… إلخ؟ وثمّة من يرى أنّ الإنسان يشبه “حجر اسبينوزا”، وينفي بالتالي حرية الإرادة. ويمكن القول إنّ النقاش الإسلامي حول سؤال “هل الإنسان مخيَّر أم مسيَّر؟” ينضوي في إطار النقاش حول حرية الإرادة، أو الحرية الميتافيزيقية. وكما هو “متوقعٌ”، انقسم المتناقشون إلى اتجاهاتٍ مختلفة تتراوح أو تنوس بين قطب القائلين، مع معبد بن خالد الجهني، بالقدرية المثبتة لحرية الإرادة، وقطب القائلين، مع جهم بن صفوان، بالجبرية التي تشدِّد على أن لا مجال للحرية في ظلّ قضاء الله وقدره.

من الناحية المنطقية، يبدو أن لا معنى لنفيٍ مطلقٍ لحرية الإرادة. فإذا انعدم وجود إرادةٍ حرةٍ، لا معنى للتفكير في مسألة وجود، أو عدم وجود إرادةٍ حرةٍ، لأن الإجابة محدّدةٌ مسبقًا بعوامل لا دور لإرادتنا فيها. فنفي حرية الإرادة ينفي إمكانية الاختيار، من حيث المبدأ. وبالتالي، فإنّ التفكير عمومًا، ومن ضمن ذلك التفكير في هذه المسألة، يقتضي وجود حرية إرادةٍ وقدرةً على الاختيار. وهذا يعني أنّ القول بحرية الإرادة، أو وجود هذه الحرية، شرطٌ ترنسندنتاليٌّ، أي شرط مسبقٌ ومؤسِسٌ لإمكانية عملية التفكير والتخيير ذاتها. ومن ناحيةٍ أخرى، تنتفي إمكانيات الحديث عن مسؤولية الإنسان، وإمكانية محاكمته على أفعاله، إذا لم تكن لديه الحرية والقدرة على الاختيار. كما أنّ الخبرة الحيّة تبيّن لنا إمكانية أن تكون إرادتنا حرةً من حيث المبدأ، وأن يكون بإمكاننا اختيار القيام بفعلٍ ما أو الامتناع عن القيام به. كلّ ذلك وغيره لا يعني أنّ حرية إرادتنا مطلقةٌ، أو مستقلةٌ، استقلالًا كليًّا، عن أيّ محدّداتٍ مغايرةٍ لها؛ لكنه يعني أنّ وعينا وفكرنا وقيمنا من محددات توّجه هذه الإرادة، ومن العوامل المؤثرة والفاعلة فيها، إلى درجةٍ تسمح بالحديث عن مسؤولية الفرد عن أفعاله، جزئيًّا ونسبيًّا، على الأقل.

في كلّ الأحوال، لم تعد تشغلني (كثيرًا) مسألة حرية الإرادة، بالمعنى الميتافيزيقي، أو الديني المذكور. ما يشغلني ويحظى، عندي، بالأولوية النظرية والعملية، المعرفية والأخلاقية، هو الحريات الفردية السياسية، والاقتصادية، والاجتماعية أو المجتمعية، والجماعاتية… إلخ. ويبدو، لوهلةٍ أو أكثر، أنّ القول بالحرية الميتافيزيقية يفضي، بالضرورة، إلى، ويتناغم، تناغمًا كاملًا، مع القول بالحريات (الفردية) السياسية والاقتصادية والاجتماعية. فما الفائدة (الكبيرة) من التشديد على وجود الحرية الميتافيزيقية، وعلى قيمة هذه الحرية وأهميتها وضرورتها، إذا كان ذلك التشديد مترافقًا مع رفضٍ للحريات السياسية والاقتصادية والاجتماعية. فمن ناحيةٍ أولى، ثمة إسلاميون مشغولون بمسألة حرية الإرادة، أو كون الإنسان مخيَّرًا أو مسيَّرًا، لكنهم ينظرون بعين الريبة إلى أيّ حديثٍ عن ضرورة الحريات الفردية السياسية والاقتصادية عمومًا، والحريات الاجتماعية خصوصًا، وغالبًا ما يتبنون خطابًا مناهضًا لهذه الحريات، وللدعوة إليها، بحجة أنّ التمتع الكامل للأفراد بتلك الحقوق “الليبرالية” يعني نشر الرذيلة والانحلال والفسوق… إلخ. ومنهم من يتجنّب أي حديثٍ عن الحريات، مقتديًا ﺑ”السلف الصالح”. لكن إذا كان مفهومًا أنّ السياق التاريخي الذي عاش فيه السلف المذكور لم يكن يسمح عمومًا بظهور الأفكار الليبرالية المعاصرة عن الحريات الفردية، فإنّ هذا الحديث عن هذه الحريات وتبنيها، نظريًّا وعمليًّا، أصبحا أكثر من ضروريين، في السياق المعاصر. وهذا أكثر ما يفتقر إليه الاتجاه الإسلامي (المحافظ) المهيمن عمومًا. في المقابل، ثمّة من يتبنى موقفًا يبدو متناقضًا مع ذاته لأكثر من وهلةٍ، حيث ينفي، أو ينكر، وجود الحرية الميتافيزيقية وحرية الإرادة، ويدافع، في الوقت نفسه، عن الحريات السياسية، وغيرها من الحريات، في الدولة والمجتمع. وهذا هو حال اسبينوزا، من منظور كثيرين، وأنا منهم.

والحرية، عمومًا، محدودةٌ بحدودٍ إنسانية وغير إنسانيةٍ، بالضرورة. فحرية الإنسان محدودةٌ بقدراته وممكناته وبيئته الطبيعية، من جهةٍ، وبحريات الآخرين، أو وجودهم، لدرجةٍ أو لأخرى، من جهةٍ أخرى. فالقول بالحرية المطلقة، أو المفرطة، لأي إنسان، قد يقضي، من حيث المبدأ أو فعليًّا على حريات أفراد آخرين. وهذا يعني أن حدود الحرية جزءٌ من ماهيتها، ونابعةٌ من داخلها، أكثر من كونها مضادةً لها ومتخارجةً معها. وبهذا المعنى، تحديدًا أو حصرًا، تتطلب الحرية معرفةً للضرورة، أكثر مما تتطلب تحرّرًا منها. وينطبق ذلك على الحدود الطبيعية أو المادية التي (ينبغي أن) يكيِّفها الإنسان، و/ أو يتكيَّف معها، قدر المستطاع. وعلى الرغم من نجاح الإنسان، المتزايد والمتعاظم، في التكيّف مع الحدود الطبيعية وتكييفها، فإنّ تلك الحدود ما زالت وستستمر حاضرةً بقوةٍ؛ إذ لا يمكن (تخيُّل) زوالها بالمطلق. ويتخذ هذا الحضور صيغةً مأساويةً، في أحيانٍ ليست قليلةً. فالموت ليس حدًّا للحرية ولإمكانية الحرية فحسب، بل هو انتهاء كلّ الممكنات أيضًا. والموت قدرٌ إلى درجة أنّ تعريف الإنسان تراوح بين التعريف الهايدغري، “وجودٌ نحو الموت”، والتعريف الريكوري، وجودٌ إلى أن يحصل الموت، أو “وجودٌ حتى الموت”.

وربما كان مفيدًا، في هذا السياق، استحضار التمييز المهم بين المأساة والشر، أو بين الشر الطبيعي والشر الأخلاقي. فهذا التمييز يتقاطع مع التمييز بين الحدود أو الضرورات التي تدخل في ماهية الحرية وتكون مؤسّسةً لها والحدود والضرورات المضادة للحرية والمعادية لها. موت أشخاصٍ نتيجةً لعاصفةٍ مثلًا هو مأساةٌ وشرٌ طبيعي، لكنها ليس شرًّا، بالمعنى الأخلاقي الدقيق للكلمة. لكن قتل إنسانٍ لإنسانٍ آخر، (بدون مسوِّغٍ معقولٍ ومقبولٍ، كالدفاع عن النفس مثلًا)، هو شرٌّ أخلاقيٌّ. وعلى هذا الأساس، كلّ حدٍّ للحرية يستهدف الحرية ذاتها والإنسان بوصفه (يجب أن يكون) كائنًا حرًّا، قدر المستطاع، هو حدٌّ مشروعٌ، جزئيًّا ونسبيًّا، على الأقل. فأن لا نكون أحرارًا في عبور الشارع، عندما تكون إشارة المرور حمراء، أمر مسوَّغٌ وضروريٌ، وهو يستهدف ضبط الحريات وحمايتها، في الوقت نفسه. ومن وجهة نظر كثيرين، ينتمي الحدّ من بعض الحريات في “فترة الكورونا” إلى هذه الفئة من الحدود المعقولة والمشروعة. لكن الأمر إشكاليٌّ، وهنالك حججٌ مضادةٌ تبدو معقولةً أيضًا. وهنالك كثير من المسائل التي تنتمي إلى هذه “المنطقة الرمادية”، والتي ينبغي، لكلّ حالٍ على حدةٍ، أن تكون موضوع حوارٍ ونقاشٍ صريحين ومتأسِّسَين على معيار أنّ الإنسان وحرياته هما الغاية والقيمة التي يمكن وينبغي للحدّ، الانبناء عليهما بالدرجة الأولى. في المقابل، عندما لا يكون الإنسان وحرياته هما القيمة التي يتأسّس عليها الحد، والغرض الذي يسعى إلى تحقيقه، يمكن الاشتباه بأنّ ذلك الحد ليس مجرّد شرٍّ طبيعيٍّ، وإنما هو شرٌّ أخلاقيٌّ، أو لا ـ أخلاقيٌّ بالأحرى.

(*) تحدثت في إجاباتك أعلاه عن المفاهيم المعيارية والوصفية، وهي عنوان كتابك “في المفاهيم المعيارية الكثيفة/ العلمانية الإسلام السياسي تجديد الخطاب الديني”. فلنستغل هذه الفرصة ولنعرّج على بعض الأسئلة التي طرحها كتابك. وسؤالي هنا: لماذا مهم لنا أن نعرف أنّ للمفاهيم جانبًا وصفيًا، وجانبًا معياريًا (خفيف وكثيف)؟ وما أهمية هذا الأمر، أو الجدوى، (بلغتك) للبشر في الحياة اليومية، وللفكر نفسه كوننا نتحدث عن المفاهيم الفكرية؟

ليس نادرًا، في الحياة اليومية، أن يقول شخصٌ عن شخصٍّ آخر إنه “غشيم، أو فهيم”، “بخيل أو كريم”، “شجاع أو جبان”… إلخ، ويشدِّد، في الوقت نفسه، صراحةً أو ضمنًا، على أنّ ما يقوله مجرّد وصفٍ لا يتضمن أي تقييمٍ. ويتأسّس هذا التشديد على ما يبدو أنه مسلمةٌ، أو بديهيةٌ، كانت منتشرةً، حتى في أبحاث “النخبة الأكاديمية”، إلى فترةٍ ليست ببعيدةٍ، تفصل فصلًا كاملًا وحاسمًا بين الوصف والتقييم، بين الواقعة والقيمة، بين ما هو كائنٌ، وما ينبغي أو يجب أن يكون. القول بوجود مفاهيم معياريةٍ كثيفةٍ، أي مفاهيم تتضمن وصفًا وتقييمًا في آنٍ واحدٍ، أمرٌ حديثٌ نسبيًّا، ويعود إلى خمسينيات القرن العشرين، على أبعد تقديرٍ، وإلى ثمانينياته على أقرب تقديرٍ. وتكمن أهمية القول بوجود هذه المفاهيم في تنبيهنا إلى أنّ مفاهيم وأحكامًا كثيرةً نظنها وصفًا خالصًا، في حين أنها تقييميةٌ (أيضًا)، لدرجةٍ أو لأخرى. ويمكن لهذا التنبيه أن يبيِّن ضرورة الانتباه أكثر لمضامين كلامنا وكلام غيرنا، بما يسهم في امتلاك فهمٍ أكبر لأنفسنا ولغيرنا، أيضًا. وانطلاقًا من ذلك، يمكن لذلك الانتباه، وهذا الفهم، أن يساعدا على تجاوز الكثير من حالات سوء/ عدم الفهم التي تحدث في التواصل (اللغوي) بين البشر.

أما أهمية هذه المسألة، بالنسبة إلى الفكر والمعرفة عمومًا، فأجدها كبيرةً (جدًّا). فمن ناحيةٍ أولى، تساعدنا على إدراك مدى التشابك، اللغوي على الأقل، بين الوصف والتقييم في أحيانٍ ليست قليلةً. ويمكن لإدراك هذا التشابك أن يسمح لنا بوعي القيم أو التقييمات الضمنية الموجودة في ما قد نظنّه وصفًا خالصًا، ومن ثم تبنّي تلك القيم، أو التقييمات، أو اتخاذ موقفٍ نقديٍّ أو انتقاديٍّ منها. ومن ناحيةٍ ثانيةٍ، وفي ما يتعلّق خصوصًا بالخطاب “النخبوي” أو الأكاديمي الذي يُفترض أو ينبغي له أن يُنتج معرفةً من جهةٍ، و/ أو أن يكون واعيًا بالأحكام المعيارية، الضمنية أو الصريحة، التي يتضمنها خطابه، من جهةٍ أخرى، نجد أنّ ذلك الخطاب ينكر، أحيانًا، معيارية خطابه، بالمعنيين المعرفي أو النفسي للإنكار. فالإنكار قد يتأسّس على جهلٍ أو عدم إدراك لوجود تلك المعيارية، أو قد يتخذ صيغة رفض الإقرار بوجود تلك المعيارية، على الرغم من إدراكه أو وعيه لوجودها.

وانطلاقًا من تجربتي (غير) المتواضعة في الأكاديميا الغربية والعربية والفكر العربي عمومًا، أجرؤ على الزعم أنّ نصوص الأكاديميا الغربية تتضمن، غالبًا على الأقل، نتاجًا أو إنتاجًا معرفيًّا ما، لدرجةٍ أو لأخرى، من دون أن يكون هناك، في أحيانٍ كثيرةٍ، وعيٌ و/ أو اهتمامٌ و/ أو تصريحٌ بالمتضمنات أو الأسس أو الغايات المعيارية/ الأيديولوجية لتلك المعرفة. في المقابل، يهيمن التوّجه المعياري في الفكر (النخبوي) العربي، عمومًا، بما يفضي إلى ضعفٍ في إنتاجه المعرفي، من دون إدراكٍ أو إقرارٍ (واضحٍ)، غالبًا، بتلك الهيمنة وبذلك الضعف، وبالصلة الوثيقة بينهما. ومن جهةٍ أولى، يمكن فهم أو حتى تفهّم الحضور البارز للبعد المعياري في الفكر العربي النخبوي أو الأكاديمي، فحالة النفور أو الغضب مما هو كائنٌ تجعلنا ننشغل كثيرًا في البحث عما نرى أنه يجب أن يكون. في المقابل، ومن جهةٍ ثانيةٍ، يبدو مفيدًا وضروريًّا التركيز، (أيضًا)، على وصف ما هو كائنٌ وتحليله وفهمه، بتفصيلٍ ووضوحٍ شديدين، حتى إذا كان الغرض الأساسي لذلك الفكر الإسهام في تغيير ما هو كائنٌ، للوصول إلى ما يرى أنه ينبغي أن يكون.

وانطلاقًا من رؤيتي المزدوجة المذكورة للعلاقة بين المعرفي والأيديولوجي، أو الوصفي التحليلي والمعياري التقييمي، في الأكاديميا الغربية والعربية، أميل كثيرًا إلى مناقشة البعد المعياري في سياق وجودي في الأكاديميا الغربية، في حين أنني، أحيانًا، أميل أكثر إلى مناقشة البعد المعرفي وضبطه، خلال تفاعلي مع الفكر العربي النخبوي أو الأكاديمي. وأظن أنّ ذلك هو أحد الأسباب التي أفضت إلى هيمنةٍ ما للنقد في كثيرٍ من كتاباتي ومشاركاتي الشفهية، وإلى وجود بعض الصعوبات والتوترات في التفاهم أو التفاعل الفكري، في السياقين الغربي والعربي، على حدٍّ سواء.

الوصف والتقييم في المفاهيم المعيارية

(*) تقول في كتابك هذا: المفاهيم المعيارية الكثيفة تحوي وصفًا وتقييمًا في آن. لكن السؤال: هل يمكن للوصف أن يكون معاكسًا للتقييم؟ مثلًا، أنت في كتابك تستخدم مفهوم الشجاعة، كمثالٍ عن المفاهيم المعيارية الكثيفة. وهنا يمكن للوصف أن يكون إيجابيًّا، وأيضًا القيمة إيجابيةٌ. لكن ماذا لو ذهبنا نحو الأعمق، أي نحو الأمور الأكثر تشابكًا وتعقيدًا في الحياة، أي أن يكون للمفهوم وصفٌ مغايرٌ لقيمته المعيارية مثلًا، أو أكثر من وصفٍ، وأكثر من قيمةٍ، وبعضها إيجابيٌّ، وبعضها الأخر سلبيٌّ؟ مثلًا مفهوم الكرم، عدا عن اختلافه من ثقافةٍ إلى أخرى، فهو يحمل في الوقت نفسه دلالةً إيجابيةً ودلالةً سلبيةً، حين يتحوّل إلى مبالغةٍ، وهو نفسه يكون في سورية، مثلًا، له دلالةٌ إيجابيةٌ وقيميةٌ مشحونةٌ بدلالةٍ عاليةٍ، فيما يصبح هنا في ألمانيا مثلًا بفعل التأثر بالبيئة المحيطة وضغوطات العيش، له شيءٌ من الدلالة السلبية فيدل على “البعزقة، أو هدر المال”. كيف يساعدنا شرحك عن المفاهيم المعيارية الكثيفة والخفيفة والوصف على حلّ هذه الإشكاليات؟ هل عالجت المناهج الفلسفية هذا الأمر؟

لا يمكن للوصف، بوصفه وصفًا خالصًا، أن يكون معاكسًا للتقييم، لأنهما من جنسين مختلفين. التعاكس يمكن أن يحدث بين وصفٍ ووصفٍ، أو بين تقييمٍ وتقييمٍ، أو بين بعدٍ تقييميٍّ في الوصف وحكمٍ تقييميٍّ ما. ويمكن للمفاهيم ذات البعد المعياري أو للمفاهيم المعيارية الكثيفة أن يكون لها تقييماتٌ مختلفةٌ، عبر الأزمنة والأمكنة والسياقات المختلفة. وهذا هو حال، مفاهيم الديمقراطية والعلمانية والليبرالية على سبيل المثال. أما في مثالي الشجاعة والكرم، فلا أظن أنّ هنالك بعدًا أو حكمًا تقييميًّا سلبيًّا تجاههما، من حيث المبدأ، لكن من الضروري، هنا، التمييز بين الكرم والتبذير، أو “البعزقة” أو “إهدار المال”، والتمييز بين الشجاعة والتهور. ولتوضيح هذا التمييز، يبدو مفيدًا العودة إلى التعريف الأرسطي للفضيلة بوصفها، غالبًا، وسطًا (ذهبيًّا) بين طرفين متطرفين، أحدهما إفراطٌ والآخر تفريطٌ. وعلى هذا الأساس تكون الشجاعة وسطًا بين الجبن والتهور، ويكون الكرم وسطًا بين البخل أو التقتير والإسراف أو التبذير. هذه التمييزات تبيّن أنّ مفهوم الكرم غير مفهوم التبذير، ومفهوم الشجاعة غير مفهوم التهوُّر… إلخ. وعلى الهامش، ومنعًا لسوء فهمٍ محتملٍ، أشير إلى أنّ أرسطو قد أدرك أنّ الفضائل ليست وسطًا بالضرورة، بل ثمّة فضائل يمكن أن يذهب فيها المرء إلى الحد الأقصى، فتزداد فضيلة ممارسته تلك. ومن تلك الفضائل الأمانة والنزاهة، على سبيل المثال.

الإشكالية، النظرية والعملية، تقع في تحديد الماهية الدقيقة للمفهوم، أي ما الحالات التي يتجسّد فيها ذلك المفهوم. فكرم شخصٍ قد يكون، في منظار شخصٍ آخر، بخلًا، وشجاعة شخصٍ قد تبدو، في عين شخصٍ آخر، تهوّرًا أو جبنًا. وقد يكون هنالك تصوراتٌ conceptions مختلفةٌ للمفهوم concept الواحد؟ وهذا أمرٌ مرجَّحٌ، خصوصًا إذا أخذنا في الحسبان أنّ المفهوم لا يكون مفهومًا إلا إذا كان هنالك اختلافٌ حوله، أو حول معانيه (الثانوية) وتصوّراته. والقيمة الإيجابية، أو السلبية، لمفهومٍ ما تعتمد على السياق، وعلى مدى وجود تفاضلٍ أو صراعٍ بين القيم في سياقٍ ما. فمن حيث المبدأ، الصدق ذو قيمةٍ معياريةٍ إيجابيةٍ، والكذب ذو قيمةٍ معياريةٍ سلبيةٍ، لكن قد يحصل العكس ويكتسب الكذب قيمةً إيجابيةً، والصدق قيمةً سلبيةً، في بعض السياقات؛ كأن يكذب شخصٌ ما لحماية شخصٍ آخر (بريءٍ) من مجرمين يبحثون عنه لقتله. لكن هذه الممكنات السياقية لا تعني أنّ الصدق، في حدّ ذاته، أمرٌ سلبيٌّ، والكذب، بحدّ ذاته، أمرٌ إيجابيٌّ، بل تعني أنّ ثمة قيمًا أخرى قد تكون ذات أولويةٍ أكبر، ومرتبةٍ أعلى، من قيمة الصدق، بما قد يقتضي التضحية، المسوَّغة أخلاقيًّا، بتلك القيمة الأخيرة، في سبيل تحقيق القيم الأخرى المشار إليها.

(*) أيضًا، في ما يتعلّق بالمفاهيم الوصفية والمعيارية، لا شك في  أننا عندما نناقش مفهومًا ما، فإننا نناقشه في لحظةٍ ما، هي الآن. ولكن هذا المفهوم، قد يكون له معنى مختلفٌ في زمنٍ سابقٍ، أو أحيانًا يكون له معنى مختلفٌ، في الزمن نفسه، لكن في مكانٍ آخر. هل أطروحتك حول المفاهيم الوصفية والمعيارية تأخذ هذا الأمر بعين الاعتبار؟ وكيف تحلّ هذه الإشكاليات، استنادًا إلى أطروحتك حول المفاهيم الوصفية والمعيارية؟

هذا النوع من الإشكاليات هو أحد أهم الأسباب التي دفعتني إلى الاهتمام بمبحث المفاهيم المعيارية الكثيف. لقد أشرت سابقًا إلى أنني ركزت اهتمامي، في رسالة الدكتوراة، على دراسة العوامل الذاتية لظاهرة سوء/ عدم الفهم في التواصل اللغوي بين الناس، وكيفية تجاوز تلك العوامل. وقد كنت مدركًا مسبقًا أنّ لمسألة سوء الفهم عوامل موضوعيةً ينبغي أخذها في الحسبان والتصدّي لها، بالبحث والنقاش والدراسة، في أيّ محاولةٍ لفهم تلك المسألة، ومحاولة تجاوزها، ومعالجتها، أو التقليل من درجة حضورها. وبدا لي أنّ المفاهيم المعيارية الكثيفة خير، أو أفضل، معبّرٍ عن ذلك العامل اللغوي الموضوعي لسوء الفهم؛ لأنّ إمكانية سوء الفهم في خصوصها أكبر (بكثيرٍ)، بسبب تضمّنها البعدين الوصفي والمعياري، في الوقت نفسه. وتزداد إمكانية سوء الفهم باختلاف الثقافات، لذا ارتأيت أن أدرس هذه المسألة في سياقٍ بين ـ ثقافيٍّ، فركزت اهتمامي على إشكاليةٍ يتم تناولها من منظوراتٍ ثقافيةٍ مختلفةٍ، وهي إشكالية مدى (عدم) إمكانية التوافق، أو التناغم بين الإسلام وما أسماه صادق جلال العظم النموذج الإنساني العلماني، أو النزعة الإنسانية العلمانية، والمتمثلة في مفاهيم الديمقراطية والعلمانية والتعددية وحقوق الإنسان… إلخ. وعلى الرغم من أنّ المفاهيم المذكورة تبدو لكثيرين ذات بعدٍ معياريٍّ إيجابيٍّ، فإنّ آخرين كثيرين ينظرون إليها بعين الريبة والرفض والانتقاد الشديد. فعلى سبيل المثال، القول عن شخص ما إنه “ليبرالي” يحمل في ذاته عمومًا، قيمةً إيجابيةً، وهو أشبه بالمديح، في السياق الألماني عمومًا، ويعني أنه منفتحٌ ومتحرّرٌ مما يجب التحرّر منه. في المقابل، تحظى سمة “ليبرالي” بسمعةٍ سيئةٍ في كثيرٍ من الأوساط العربية الإسلامية والأميركية، وتحيل على عدم الالتزام بالقيم الأخلاقية (المحافظة) التي ينبغي الالتزام بها.

تهدف دراستي لهذه المفاهيم، من منظار مبحث المفاهيم المعيارية الكثيفة، إلى إبراز الأبعاد المعيارية المختلفة لهذه المفاهيم، وفقًا للسياقات الثقافية المختلفة، ومناقشة الحجج المعرفية والأخلاقية المقدّمة، من قبل الأطراف المختلفة، لتسويغ تلك الأبعاد المعيارية. وأطروحتي الأساسية، في هذا الخصوص، هي أنّ إدراك وجود تلك الأبعاد، وفهم الحجج المقدمة لتسويغها، يمكن أن يساعدا على حصول الفهم أو التفاهم بين المنظورات المعرفية ذات الخلفيات الثقافية المختلفة. ويبقى معرفة ما إذا كان بالإمكان فصل الوصفي عن المعياري في مفاهيم مثل العلمانية والديمقراطية والليبرالية والإسلام والشريعة، وبحث في ما إذا كان الفصل يمكن أن يساعد على تعميق الفهم وتحقيق التفاهم بين المنظورات الثقافية والمعرفية والمعيارية المختلفة.

(*) تقول في الصفحة 101 من كتابك “في المفاهيم المعيارية الكثيفة”: “وفي مناقشة أسباب عدم إمكانية الحسم تبيّن لنا أن نتجنب الحسم وتفادي منطق القضايا العنادية المتمثل في صيغة  “إما…، وإما”، مفيد، بل وضروري غالبا في هذا السياق، لأنّ عدم إمكانية الحسم ليس ناتجًا عن خلل أو ضعف أو نقص معرفي، بل هو ناتجٌ بالدرجة الأولى عن “طبيعة الموضوع المبحوث” التي تمنع الركون إلى تفسير نظري واحد، وتتطلّب الاعتماد على تفسيرات ومنظورات مختلفة، تبعًا لخصوصية كلّ حالة على حدة”. ألا تخشى أن يكون هذا الكلام تبريرًا للهرب من اتخاذ موقف ما في مسائل تتطلب موقفًا حاسمًا؟

اتخاذ مواقف حاسمةٍ، أو الحسم في اتخاذ المواقف، ليس أمرًا سلبيًّا عمومًا، بل قد يكون إيجابيًّا على الأرجح، لكنه قد يكون غير ممكنٍ، أو غير مناسبٍ، في بعض الحالات والسياقات. والإصرار على الحسم، في الحالات والسياقات المذكورة، يجعلنا نقع في الخطأ، بالمعنى الديكارتي الدقيق للكلمة. فوفقًا لديكارت، يخطئ الناس، عندما تتجاوز إرادتهم معطيات عقلهم الإدراكية، أي عندما يطلقون أحكامًا ليس لديهم مسوِّغاتٌ معرفيةٌ كافيةٌ لها. وقولي المقتبس في سؤالك يشير إلى ضرورة تجنّب ارتكاب هذا النوع من الأخطاء تحديدًا. هل يمكن الاشتباه في أن يكون تنفيذ أو قول مثل هذا الكلام تبريرًا أو مجرد ذريعةٍ للهرب أو التهرُّب من اتخاذ موقفٍ ما، في مسائل تتطلب موقفًا حاسمًا؟ نعم، ويمكن أن يحصل ذلك بقصدٍ أو بدونه. لكن هذا لا يعني أنّ الامتناع عن حسم موقفنا أو إطلاق حكمٍ عامٍّ، في خصوص موضوعٍ معيَّنٍ، يعني بالضرورة أننا نسعى إلى التهرُّب من اتخاذ موقفٍ أو ما شابه. ففي بعض الأحيان والسياقات، ثمّة أسبابٌ موضوعيةٌ تحدّ من قدرتنا على إطلاق بعض الأحكام في خصوصها. وفي حال حصول الامتناع المذكور والزعم بوجود مثل تلك الأسباب، يكون النقاش الجاد والصريح إحدى أهم وسائل التثبّت من مدى (عدم) موضوعية الأسباب المذكورة، في كلّ حالةٍ على حدةٍ.

والأمر، هنا، لا يتعلق، فقط، بالإمكانية الموضوعية لإطلاق هذا الحكم، أو ذاك، على موضوعٍ معينٍ، أو في سياقٍ معينٍ، بل يتعلّق، أيضًا، وربما خصوصًا، بمنطق القضايا العنادية المتمثل في صيغة “إما…، وإما…”. ففي بعض السياقات، يتم تضييق الخناق المعرفي من خلال الاقتصار على تخييرٍ لا يتضمن إلا موقفين أو خيارين قطبيين متعاكسين. ولا يبدو ذلك أمرًا مناسبًا من المنظور المعرفي عمومًا، وقد لا يكون كذلك من المنظور السياسي والأخلاقي أيضًا. ويبدو ذلك واضحًا، على سبيل المثال، في الشعارات الأسدية “الأسد أو نحرق البلد”، “الأسد أو لا أحد”، أو في الاعتقاد بأنّ الخيارات السياسية للشعوب، في بعض أو معظم الدول العربية، تنحصر بين “استبداد العسكر”، أو “الاستبداد الديني”. وكما هو معلومٌ، كثيرون رفضوا، محقين، مثل هذه التخييرات، ورأوا أنّ الواقع أغنى وأفضل أو أقلّ سوءًا من أن يقتصر على مثل هذه الخيارات السيئة إلى درجةٍ تجعلها غير مقبولةٍ، مطلقًا، عمومًا. وانطلاقًا من الاعتقاد بشيوع منطق تلك القضايا العنادية، أو حضوره القوي، في كثيرٍ من السياقات، وبالنتائج السلبية لمثل ذلك الشيوع، أو الحضور، كانت المقاربة التفكيكية إحدى أهم الأدوات المنهجية التي أستخدمها منذ عدة سنواتٍ، في معظم نصوصي المنشورة خلال تلك الفترة. وتهدف تلك المقاربة إلى تجاوز المثنويات، أو الثنائيات القطبية، وإظهار تداخلهما وتجاوزهما. وفي حين تقتصر المقاربة التفكيكية، عند دريدا (أبو التفكيك عمومًا)، وبول دو مان (أبو التفكيك الأميركي)، على جدلٍ سلبيٍّ، على طريقة أدورنو (صاحب كتاب “الجدل السلبي”)، لا يتضمن أي تركيبٍ، على الطريقة الهيغلية، بين قطبي الجدل، فقد حاولت، في نصوصي المذكورة، أن يفضي التفكيك إلى جدلٍ إيجابيٍّ يتضمن تركيبًا ما بين قطبي الجدل من دون أي زعمٍ، أو افتراضٍ للمطلق الهيغلي.

ضفة ثالثة

Show More

Related Articles

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Back to top button