صفحات الثقافة

سياسة ملابس السباحة: لماذا لا يحترم العرب «الحريات الشخصية»؟/ محمد سامي الكيال

يؤدي كل «تريند» جديد، متعلّق بالحريات الشخصية، إلى جدال بات مألوفا إلى درجة الإملال، سواء في العالم العربي أو خارجه، ويمكن القول إن معظمه مرتبط بحريّات النساء، والمثليين بدرجة أقل، ويوصل في النهاية إلى الحديث عن وجود كتلة اجتماعية ضخمة، ربما تكون أغلبية ساحقة في الحالة العربية، لم تتفهّم بعد بديهية سيادة الإنسان على جسده، وحقة في إظهار ذاته بالطريقة التي يراها مناسبة. إلا أن النقاش غالباً ما يتطرّق، ربما بشكل أكثر «بديهية»، إلى منظومات أكبر وأبعد بكثير من جسد الإنسان الفرد، وعلى رأسها القانون والسياسة والدين؛ ووقائع شديدة الصلابة: طوائف وتنظيمات وميليشيات ودول.

عندما نتكلّم عن التدخّل بخيارات سيدة، ارتدت ملابس السباحة على شواطئ صيدا اللبنانية، لا يمكن تجاوز الحديث عن لبنان والمنطقة كلها، بكل طوائفها وتعقيداتها؛ الدين الإسلامي ومذاهبه؛ التدوين القانوني العربي، ومصادره والسلطات المخوّلة بتنفيذه؛ وكذلك البنى الاجتماعية القائمة، بكل ما تعرّضت له من تغييرات وتحوّلات، في ما يبدو اختزال المسألة بحريات شخصية، لا يفهمها الذكور، تبسيطيّاً، لدرجة فقدانه أي معنى. وكأن كل تلك المنظومات والوقائع نتيجة ميكانيكية للشر الأصيل في جوهر الذات الذكورية.

كانت الملابس دوماً، وما زالت، قضية سياسية شائكة في كل أنحاء العالم، لما تحمله من دلالة سيمولوجية، تشير إلى مفاهيم واضحة عن الأمة والثقافة والتنظيم الاجتماعي والأخلاقي السائد، ولم تصبح قضية فردية إلا بعد تطوّر منظومات دستورية، جمعيّة تعريفاً، أمّنت الغطاء للفردانية وحرياتها، عبر مفهوم «الذات القانونية»، المتمتعة بحرية المعتقد والضمير وتقرير المصير الفردي. ذلك المفهوم منجز تاريخي لـ»رجال بيض بورجوازيين»، إذا استعملنا البلاغة السائدة اليوم، وربما كان تاريخ النضال لأجل الحريات والحقوق المدنية بأكمله محاولةً لمد المفهوم الأصلي ليشمل الجميع فعلاً، العمال والنساء و»الملونين» والشعوب المستعمرة والمثليين. ليس المهم على أي حال هوية منتجي المفهوم، أو المناضلين لتوسيعه، فالأمر الأساسي في هذا السياق هو أن الحريات الشخصية ليست «شخصية»، للدرجة التي يتصورها البعض، ولا تنبع بشكل بديهي من وجود الذات الفردية في العالم، فهذا منظور فلسفي يصعب الدفاع عنه، فما بالك باعتبار «الحق» مرتبطاً بهوية تلك الذات، لذلك فإن ما يمكن تسميته «عصبية التريند»، في الدفاع عن الحريات الشخصية، لن يوصل غالباً لمكان بعيد. ولكنّ السؤال قد يكون عن سبب الانتشار الكبير لتلك العصبية، إلى حد تبدو معه الوسيلة الوحيدة للدفاع عن الحقوق، هل هذا فقط بسبب عجز أنصار الحريات، في محيط عربي معادٍ لمبادئهم؟ أم أنها بدورها منظومة أيديولوجية مكتفية بذاتها؟

شخصنة وتطييف

قد يكون من غير الواقعي، بالنسبة لأنصار الحريات الشخصية، الدخول في مواجهة مباشرة مع القانون والدين، وما يُعتبر عرفاً اجتماعياً، تم تأطيره على يد سلطات متعددة، من الدولة وأجهزتها إلى الميليشيات بأنواعها، الصغيرة والأكبر من الدول، كما في الحالة اللبنانية. وبالتالي فإن الحلم بيومٍ، يمكن فيه للنساء نيل حرياتهن الأساسية، يبدو بعيد المنال، والحل يغدو فردياً، وربما طائفياً: إما الهرب إلى بلدان تعترف بالحريات؛ أو الاحتماء ببيئات اجتماعية (غير إسلامية غالباً) تبدو أكثر تحرراً من الناحية الشكلية، ويمكنها، بسبب «خصوصيتها»، التهرّب من «الآداب العامة». وهذا يوقع مناصري الحريات في إشكالية كبيرة، إذ يجعل مطالبهم على صورة هذا «الشرق» ومثاله: حساسية أقلوية أخرى في مواجهة حساسية «الأغلبية». لا يبدو أن هنالك مهرباً من «المنظومة» السائدة.

يصعب الاعتراف بمثل هذه النتيجة، وربما لهذا تقدّم «عصبية التريند»، الأقرب لآليات عمل «الناشطية» عالمياً، حلّاً أيديولوجياً سهلاً، وهو وضع الذات الفردية افتراضياً في مواجهة أخلاقية مع المجتمع، الموسوم بالتعصّب والجهل. ويمكن القول إن شخصنة الحريات وتطييفها في هذا الشكل ليسا خاصية عربية فقط، فحول العالم يصعب إيجاد مشروع اجتماعي، قائم على الفردانية، يطمح لأبعد من تكوين تجمّعات محدودة communitys من المشتركين بخصائص معيّنة، والمطالبين بـ»الاعتراف». الفرق فقط أن تلك التجمعات لها مكان في المدن الغربية الكوزموبوليتية، برعاية وحماية الدولة، وأنظمتها القانونية والأمنية، فيما تضيق بها المدن العربية، التي فقدت كثيراً من عناصر اجتماعها المديني.

ربما يكون هذا عكساً غير متوقع لغايات شعار «الشخصي سياسي»، الذي ألهم الحركات التحررية في العقود الأخيرة من القرن الماضي. كان المقصود بالشعار جعل ما هو شخصي وفردي عاماً، أي طرحه في قلب كل مشروع تغييري جمعي، لأنه في الأصل نتيجة لسياسات وأنظمة اجتماعية شديدة التعقيد؛ أما اليوم فتتم شخصنة كل ما هو سياسي، أي جعل قضايا الحيّز العام مجرد «حساسية» للذات الفردية، يجب على المجتمع وكل ما هو عمومي احترامها، وبما أن الفرد أضعف من الجماعة حتماً، فلا بد من منظومة تحمي كل أولئك الأفراد الحساسين. سينشئ هذا بالتأكيد طوائف متكاثرة، برعاية سلطة، تستمد جانباً من شرعيتها من قدرتها على حماية ذلك النوع من الطوائف. وهذا يُذكّر، من ناحية الشكل، بالإمبراطوريات القروسطية، التي اعتبرت رعاياها مللاً مغلقة، محميّة بذمّة وعهد صاحب السيادة، ولم تكن تنظيماتها تسمح بنشوء حيّز عام.

لا يمكن بالطبع مماثلة الدول الحالية بتلك الإمبراطوريات، إلا أن شخصنة وتطييف مسألة الحريات في عصرنا يساهمان بعرقلة أي تغيير جدي للأوضاع القائمة، ويسبغان الشرعية على كثير من الأوضاع والسياسات غير الديمقراطية. وإذا كان هذا في الغرب يؤدي إلى تصاعد الجدل بين «الاجتماعيين» و»الهوياتيين»، حول إشكاليات النسخة الحالية من الأيديولوجيا الليبرالية، فإنه في العالم العربي لا يشكّل أكثر من هامش، قد يكون ضرره الأكبر أسرُ تفكير وأفق الفاعلين الاجتماعيين، الأكثر «تقدمية»، بأيديولوجيا محدودة الفعالية، ومعدومة الأفق السياسي، ولكن هل يعني هذا أن على الفرد أن يكون «مناضلاً» اجتماعياً كي يحقّ له ارتداء ما يشاء على شاطئ البحر؟ الإجابة قد تكون «نعم» للأسف، هكذا انتُزعت الحريات في ما مضى.

نسيان الحرية

ينتقد كثير من المفكرين والكتّاب الغربيين، ممن تجاوزوا سن الكهولة، ما يسمى بـ»أجيال ما بعد طفرة المواليد»، لأن أبناءها اعتبروا الحريات معطىً بديهياً. ليس فقط بمعنى أنهم لم يخوضوا معارك اجتماعية جديّة لانتزاع حرياتهم والحفاظ عليها، بل أيضاً لعدم بذلهم الجهد الفكري الكافي لتعريف الحرية، ومن ثمّ مناقشة أساليب وأنظمة تجسيدها في السياق الاجتماعي القائم.

لا ينبع «نسيان الحرية» هذا من ظروف رفاهية غير مسبوقة، تعيشها الأجيال الجديدة، بل ربما كان العكس هو الصحيح، فكثير من أبناء هذه الأجيال أقل حظاً من أمهاتهم وآبائهم، على مستوى الدخل وحقوق العمل والاستقرار الاجتماعي والنفسي، إلا أنهم لم يجرّبوا فعلاً المؤسسات الانضباطية الكلاسيكية، وعلى رأسها المعمل، والمدرسة بأساليبها التربوية القديمة، والتنظيمات الكنسية المتزمّتة. إنها أجيال «مجتمع التحكّم» وليس «الانضباط»، التي تخترق الهيمنة السلطوية حياتها في كل مكان، وفي أدق التفاصيل، دون الحاجة لأدوات شديدة الصلابة. قد تكون الشخصنة والتطييف نتيجة لنمط من التحكّم، يجعل الحريات أقرب للإفرازات الجسدية، إذ يعتبر «الحق» محقوناً في أعضاء المرء، ولون بشرته، وميوله العاطفية والجنسية، بل ربما مزاجه الفردي، ومن ثمّ يصعب عليه التفكير بما هو أبعد من حدود جسده. في ما مضى كان لـ»ضحايا» المؤسسات الانضباطية أحلام أكبر، عن عالم شديد الاتساع خارج أسوار المؤسسة. ولكن لماذا تتماثل آفاق ناشطين عرب، عرفوا في حياتهم ما هو أسوأ من المؤسسات الانضباطية الغربية، مع ذلك المنظور المنسوب لأجيال «ما بعد الطفرة» في الغرب؟

بحثاً عن أفق

يمكن تقديم كثير من الإجابات عن السؤال السابق، هنالك مثلاً تأثير العولمة، وعمل «المنظمات غير الحكومية»، وتراجع معظم الأيديولوجيات القديمة. إلا أن هذه العوامل وحدها غير كافية للتفسير، ربما كان الجواب الفعلي هو انعدام أفق التغيير في العالم العربي، خاصة بعد فشل ثورات ما عُرف بـ»الربيع العربي»؛ وكذلك الخراب الاجتماعي والثقافي الواسع، الذي ضرب معظم الدول، بأي تغيير قانوني أو وضعية سياسية أو حقوق طبقية سيطالب البشر، في بلدان مهددة بالفوضى والحروب الأهلية وفقدان أبسط مقومات العيش؟ «عصبية التريند»، واستنساخ خطاب الناشطية الغربية، قد يكونان آخر منافذ التنفيس عن الكبت والقهر، إلا أن «التنفيس» لا يمكن أن يكون أسلوباً للتعامل مع المشاكل الواقعية، كما أن الشخصنة والتطييف يساهمان بترسّخ الوضع القائم، ولا ينفعان إلا بإضافة طائفة عربية جديدة، هي طائفة الناشطين. ربما لن يكون البحث عن أفق فكري وسياسي جديد، وسط كل هذا، أكثر من محاولة نظرية، إلا أنها شديدة الأهمية، على الأقل كي لا ندخل الاضطرابات الاجتماعية المقبلة، أو الانتفاضات المستقبلية المحتملة، بعقلية «ناشطية».

كاتب سوري

القدس العربي

Show More

Related Articles

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Back to top button