صفحات الثقافة

عبد الفتاح كيليطو… كُل قارئ مُتهم وإن نسي/ عمّار المأمون

يفتح كيليطو كقارئ الباب أمامنا لتتبعه في متاهة هو نفسه قد يضيع فيها، “يستطرد” إن أردنا استخدام اسم التقنيّة السرديّة.

يدلل من يقرأ أعمال الناقد المغربي عبد الفتاح كيليطو (1945-الآن)، نظريّةً عن مجمل أعماله، مفادها أن صاحب “لسان آدم” و”العين والإبرة” و”الكتابة والتناسخ” لم يقرأ سوى بضع الكتب، والتي يمكن عدها على الأصابع العشرة منها، “ألف ليلة وليلة”، “مقامات الحريري”، “أدب الكاتب”، وبعض المؤلفات الفرنسيّة.

يُعيدُ كيليطو الكتابة عن هذه الكتب مراراً، ينظر في مقدماتها، ورواتها ومؤلفيها وهوامشها، ليكتشف مثلاً مع إعادة القراءة، أو التذكّر، أن دُنيازاد، أخت شهرزاد، في “ألف ليلة وليلة”، كانت تختبئ تحت سرير شهريار، تستمع لحكايات الليالي الألف، كقارئ  دون أي سلطة سوى الاستماع والصمت ثم النوم.

اعتزال الكتابة شأن متكرر لدى الكتّاب، أما اعتزال القراءة فشأن نادر، وإن حدث، فهو أمر جلل.

أولّ الافتراء

قراءة كتاب كيليطو “والله إن هذه الحكاية لحكايتي” بهذا العنوان المريب تزيد من حدة الافتراء. إذ كيف يُقسم أحد في عنوان كتابه، أن حكايةً ما هي حكايته، ونحن ما زلنا في جدل حول  موت المؤلف  من عام (1967)، وحياته وما نشره، وما رافق ذلك من موجة نقديّة شهدها القرن العشرين، شُيّع فيها الناقد عام (2007) والتراجيديا عام (1961) والأدب عام (1971).

فرضية الكتب المعدودة ليست غريبة عن عالم الأدب، فدون كيخوتة نفسه بطل أول رواية في تاريخ الأدب بحسب البعض، قرأ “فقط” روايات الفروسيّة، وصدقها وقرر تقليدها. هناك أيضاً قرّاء “ضد بورخيس” إن صحّت تسميتهم بذلك، قرأوا بضع كتب وأعادوا قراءتها حتى النفس الأخير في أفواههم. لا سعي لديهم إلى القراءة الموسوعيّة، فضولهم عموديّ نوعاً ما، كالكثير من طلاب الدكتوراه، الذين يقرأون ما يمسّ موضوعهم حصراً.

هناك نوع آخر من القرّاء من ذوي الإجابات الساخرة، كـالشاعر السوريّ أدونيس الذي سئل في أحد اللقاءات عمّا يقرأ، فقال الشعر فقط. أي أنه لا يقرأ الرواية، علماً أن كتبه النقدية تكشف قراءاته المتعددة، التي وهنا ارتجل، لا تحوي إحالات إلى روايات.

الفرضية السابقة، الساخرة، الهذيانيّة، المتحذلقة، والأهم المُرتابة تدفعنا إلى “اتهام” كيليطو بأنه صانع أفخاخ، يُورطُ القارئ الفضولي بالبحث عن رسائل دكتوراه وهميّة، وكتب مُلفقة غير موجودة سوى في مخيّلته، كحالة “الأرق عند شهريار”،  الكتاب أو أطروحة الدكتوراه التي لا أثر لها سوى في مخيلته، فكرة راودته في إحدى جولات القراءة، اقترحها وتركها للقرّاء المتحذلقين ليبحثوا فيها.

الريبة من الكتاب الجديد

صدر كتاب كيليطو الجديد عن دار المتوسط بعنوان “التخلي عن الأدب”، تداولت صفحات وسائل التواصل الاجتماعي صورة غلاف الكتاب لأشهر، وفي كل مرة تقع العين عليه، يُطرح سؤال، هل سيعتزل صاحب “لسان آدم”؟ هل نحن أمام أسلوب متأخر من نوع ما؟ أو يأتي ذلك استكمالاً لـ”في جو من الندم الفكريّ”؟

اعتزال الكتابة شأن متكرر لدى الكتّاب، أما اعتزال القراءة فشأن نادر، وإن حدث، فهو أمر جلل. أن تعتزل القراءة، يعني أن يعود الواحد منا كدون كيخوتة، بعد سنين من المغامرات الفاشلة، يقرر ترك روايات الفروسيّة، لكن متى؟ يتم التخلي عادةً على فراش الموت. التخلي عن القراءة أشبه بانقطاع النفس.

كل ما سبق من تهيؤات غير مهم، إذ اختفت بمجرد صدور الكتاب، الذي يبدأه كيليطو بحديث عن دعوة وجهت له إلى ندوة بعنوان  “بورخيس والمغرب” في السفارة الأرجنيتيّة في الرباط عام 2021. يبدأ بعدها بمساءلة الموضوع ومحاولات التنصل منه، فهو بحسب قوله، لم يطّلع على الأثر الذي تركه بورخيس في الكتاب المغاربة، علماً أن أحد الأخبار التي تتناول الندوة وصفت كيليطو بـ”قارئ بورخيس الكبير”،  كما أن كيليطو اقترح ليسهل مقاربة الموضوع تغيير اسم الندوة إلى “المغرب وبورخيس”.

ينتقل بعدها كيليطو للحديث عن الترجمة والمقامات ودون كيخوتة، ومستعرضاً ذات الذخيرة المتكررة من الكتب المعدودة، وبعض الدراسات التي أشكّ بوجودها. ناهيك بأن كيليطو يكتب مثلاً “أنه ليس مطلعاً على ابن رشد بما فيه الكفاية”. كيف هذا وهو صاحب “شرفة ابن رشد”، والمتهكم من مصير الأخير التراجيديّ، وسوء ترجمته لـ”فن الشعر”، و”القوموضيا” و”الطراغوديا” اللتين اختارهما لترجمة كلمتي الكوميديا والتراجيديا.

تعود نظريّة الكتب المعدودة للظهور بعد الانتهاء من الكتاب، ربما كيليطو لم “يقرأ” كما نظن، لكن هذا أيضاً غير منطقي، أولاً اسمه نفسه يعني “الذي قرأ كل شيء- Qui lit tout”، هذا ما يشير إليه أيوب مزين في مقال له بعنوان “عبد الفتاح كيليطو… هل يقرأ فعلاً كل شيء؟”. كما أن مؤلفاته تحوي إحالات واقتباسات لكتب واضح أنه قرأها، وحذلقات متعددة تدل على اطّلاعه.

القراءة والاتهام

التخلي عن الأدب لحظة من لحظات المواجهة، اكتشاف ورطةٍ مفادها أن “الكتاب” عتبة نحو حياة ما، وهنا الاختلاف بين “التخلي” و”النسيان”. الأول فعل إراديّ، نختاره ونطبقه بوعي. أما النسيان، ذاك الذي يمارسه كيليطو، فخاضع لأحكام العمر، والذاكرة. والأهم، الالتباس، كوننا لا ننسى كليّاً، وإن نسينا و”ألفنا” تسلل المنسيّ، إلى المكتوب والمؤتَلف وكأنه “جديد”، وهنا يمكن القول ببساطة إن من يتخلى يموت، ومن ينس، يبعث ما كتبه حيّاً.

يفتح كيليطو كقارئ الباب أمامنا لتتبعه في متاهة هو نفسه قد يضيع فيها، “يستطرد” إن أردنا استخدام اسم التقنيّة السرديّة. يرمي بصنارة في بحر الكُتب، تاركاً القارئ كي يجمع الصيد، ربما وجد كنزاً، أو حذاء مهترئاً، أو كتاباً خرافياً غير موجود إلا في عقل القارئ نفسه.

ما ينجو من النسيان هو تلك الكتب القليلة، التي يُسميها باسمها، تلك التي لا ينساها، أو لا يصح “اتهامه” بنسيانها، بل يغفل عن بعض تفاصيلها كي تعود له لاحقاً، كاكتشافه أنه وصف في كتاب سابق له، أبي زيد السروجي، بطل المقامات، بـ”دون كيخوتة فَرِح”. 

يُطرح إثر هذا الاكتشاف سؤال، كيف ظهر دون كيخوتة حينها في نصه؟ الجواب هنا ترجل، ربما النسيان أسلوب حديث النصوص مع بعضها البعض عبر القارئ/ الكاتب النسّاء، فعل لا واع تمارسه شخصيات الأدب على القارئ/ الكاتب كي تتحاور، والأهم،  النسيان براءة  الكاتب من الاتهام، فالذي ينسى، لا حرج عليه.

في حنكة الالتباس

 ما يلفت النظر في “التخلي عن الأدب”، هو بعض التفاصيل الصغيرة التي تمر في الكتاب من دون تعليق، مثلاً، يشير كيليطو إلى ديوان بودلير الشهير les fleurs du mal، مسميّاً إياه “أزهار الألم”، علماً أن الترجمات العربية تسميّه “أزهار الشر”.

بحث صغير يكشف أن عنوان الديوان يُمكن أن يترجم أيضاً بأزهار الإثم أو الخطيئة. كأن كيليطو ينصب هنا فخاً، وإحالةً ربما إلى تمهيد الصادق مزيغ لترجمة مصطفى القصيري للديوان، أو ببساطة “نسي”، وارتجل الاسم هكذا، فهل خانته ذاكرته اللغويّة ؟ لا نعلم.

هذه الألاعيب الخاصة بالترجمة وأفخاخها تمتد أكثر في الكتاب، مثلاً  حين يقتبس كيليطو من دون كيخوتة، يشير إلى أنه اعتمد ترجمة عبد الرحمن بدوي، المترجم المصري الشهير، الذي نقل كتاب ثيرفانتس عن الإسبانيّة. لكن المعروف أيضاً، أن ترجمات بدوي ليست الأفضل، وهناك الكثير من الانتقادات الموجهة لها على أقل تقدير، وهنا السؤال، لمَ يقرأ كيليطو دون كيخوتة مُترجماً للعربيّة، ولمْ يقرأه بالفرنسيّة مثلاً، اللغة التي ألف فيها رسالة دكتوراه عن مقامات الحريري؟

تتشتت موضوعة هجران الأدب في الكتاب، لكن كيليطو يستطرد دوماً، “ناسياً” بورخيس، موضوع الندوة التي دعي إليها في السفارة الأرجنتينيّة، وهنا السؤال، ما الذي قاله كيليطو في المحاضرة عن بورخيس، هل هجره متفادياً الحديث عنه، ليكتب ما “يتخيله” عن قرّاء كبورخيس يدللون الكتب التي يحب. أليست هذه التقنية التي اعتمدها المعري في “رسالة الغفران”، الذي ورّط ابن القارح برحلة طويلة قبل أن يردّ على تساؤلاته؟

الريبة كتقنية للقراءة تلائم التهام كتاب كيليطو، كونه أيضاً يراهن عليها، ألم يشِر في كتابه “الأدب والارتياب” إلى اقتباس مفاده أن الريبة والخطر موجودان في الكاتب نفسه، ما يترك القارئ مُتهماً أو مُتَهِماً. تفيد جذور العربية لفعل “اتهم” في التلاعب اللغويّ، فالكاتب بحسب كيليطو يشير إلى ما لا يراه غيره، لكن هذه الإشارة قد تشمل ما ألفه، لذا يحاول الكاتب النجاة، بأن ينتحل، أو يسيء الترجمة، أو على أقل تقدير ينسى.

القارئ المُتَهَم أو المُتَهِم لا يمتلك سوى حجة “سوء القراءة”، أو الافتراء على ما يقرأ. التهمة ذات العواقب الوخيمة كما نقرأ في رواية “مستعمرة العقاب” لفرانز كافكا، والتي وقع فيها قرّاء كافكا أنفسهم، الذين “افتروا” على روايته “التحوّل”، ناسين أنها “نكتة”.

 تجنب ما سبق، أي الاتهام والافتراء على الذات والكاتب، يتم  بقرار أشد راديكالية من النسيان، أن يتخلى القارئ عن الكتب، لا كلّها، بل تلك التي أضلّته وراء طواحين الهواء، مُعلناً هزيمته، لكن هل من كتاب لا يقود إلى “ضلال”؟، هل من كتاب الرهان عليه قادر على أن ينجي القارئ من الاتهام؟

 درج

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى