متى تستعيد سورية استقلالها؟/ طارق عزيزة
أصدر أعضاء المؤتمر السوري العام، في 7 مارس/ آذار 1920 بصفتهم “الممثلين للأمة السورية في جميع أنحاء القُطر السوري”، بياناً يعلنون فيه استقلالَ سورية رسمياً، للمرّة الأولى في تاريخها، بعد نحو عامين من رحيل آخر الجنود العثمانيين عنها، وخضوعها لإدارةٍ عسكريةٍ مباشرة تابعة لجيوش الحلفاء المنتصرين في الحرب العالمية الأولى.
لم يدم ذلك “الاستقلال” سوى بضعة أشهر، إذ احتلّت فرنسا، بقيادة الجنرال غورو سوريةَ بعد معركة ميسلون الشهيرة، في يوليو/ تموز 1920، عملاً بتفاهماتها مع بريطانيا، في اتفاقية سايكس – بيكو (1916)، والمعدّلة بمقرّرات مجلس الحلفاء الأعلى في سان ريمو (1920)، لتقاسم الولايات العربية التي كانت جزءاً من السلطنة العثمانية المنهارة. وبعد عامين، حظي الاحتلال الفرنسي لسورية بغطاءٍ شرعيّ دولي، في صورة صكّ انتدابٍ صادر عن عصبة الأمم.
استمرّ الانتداب حوالي ربع قرنٍ، تخلّلته جولات متفرّقة من المقاومة المسلحة، ومسارٌ متصاعدٌ من نضال السوريين السياسي سعياً إلى الاستقلال الثاني الذي تحقّق بإتمام جلاء القوات الفرنسية عن البلاد، في 17 إبريل/ نيسان 1946، وهو التاريخ الذي اعتُمِدَ يوماً وطنياً لذكرى استقلال الجمهورية السورية، باسم “عيد الجلاء”. ولكن، لم يكد ينقضي 12 عاماً على الجلاء حتى فرّطت بعض النخب العسكرية والسياسية باستقلال البلاد، أملاً في تحقيق أحلامٍ قومية، تُخفي بين طياتها طموحاتٍ سلطوية، حيث قدّمت البلاد على طبق من ذهب للرئيس المصري جمال عبد الناصر، في فبراير/ شباط 1958، لتصبح “الإقليم الشمالي” ضمن “الجمهورية العربية المتحدة”.
خضعت سورية لحكم مصري تسلّطي، جيّر مواردها واقتصادها في خدمة مصر، فتبخّرت الأوهام الوحدوية سريعاً، وشعرت قطاعات متزايدة من السوريين، مدنيين وعسكريين، بأنّ حال بلادها أشبه ما يكون بدولةٍ تحت الاحتلال؛ فالوقائع والممارسات التي قادتهم إلى هذا الشعور كانت من الكثرة والفجاجة أشدّ من أن تطمسها الشعارات والدعاية الأيديولوجية. هكذا، لم تصمُد دولة الوحدة العتيدة طويلاً، واستعادت سورية سيادتها دولةً مستقلّة مجدّداً، في خريف 1961، ليكون هذا الحدث بمثابة استقلال آخر. ودخلت البلاد بعد استقلالها الثالث في نفق الاستبداد المديد، بدءاً من عام 1963، واستيلاء حزب البعث العربي الاشتراكي وعسكره على السلطة، ثم بدرجةٍ أكثر قمعاً وفساداً، تحت حكم نظام الأسد، منذ أواخر 1970.
واجه النظام الأسدي أزماتٍ كثيرة، شكّلت تهديداً جدّياً لسلطته، استطاع تجاوزها مرّة تلو أخرى، عبر القمع الوحشي وتعميم الرعب والفساد في الداخل، وإبرام الصفقات والتسويات المشبوهة مع القوى الخارجية، إلى أن جاء موعد التحدّي الوجودي الأكبر في تاريخه، عندما انتفض السوريون في ربيع 2011 طلباً للحرّية والكرامة، وراحت البلدات والمدن تخرُج عن سيطرته تباعاً، مع ظهور فصائل المعارضة المسلّحة.
على الرغم من زجّ النظام كامل قوّاته في مواجهة الثورة، واستخدامه كلّ ما تحويه ترسانته العسكرية حتى الأسلحة الكيميائية، وجد أنّ ميزان القوى على الأرض يميل تدريجياً في غير صالحه. وبدلاً من تلبية المطالب الشعبية، أو التجاوب مع المبادرات السياسية العربية والدولية التي حاولت إيجاد حلولٍ وسط، اختار الأسد التفريط باستقلال البلاد حفاظاً على ما تبقّى من نظامه، واضعاً مقدّراتها ومتنازلاً عن سيادتها لحماته الروس والإيرانيين، من خلال اتفاقيات عسكرية واقتصادية وتجارية طويلة الأمد، تمنحهم امتيازاتٍ وسلطاتٍ في سورية، بما يتجاوز سلطة الأسد نفسه، وفق ما ينصّ عليها دستوره.
وإذ استطاعت جهود الروس والإيرانيين العسكرية أن تمنع سقوط النظام، وباتوا أصحاب اليد الطولى في مناطق سيطرته، زادت المعارضة من رهاناتها على قوى خارجية زعمت دعم الثورة، وشيئاً فشيئاً فُتحت المناطق الخارجة عن سيطرة النظام أمام تركيا والولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا، سيما بعد اختلاط الأوراق والمشاريع وتداخلها على الأرض السورية، بإعلان حزب الاتحاد الديمقراطي، والمعروف عنه ارتباطه بحزب العمال الكردستاني، تأسيسَ “الإدارة الذاتية الديمقراطية” في مناطق سيطرته، وظهور تنظيم الدولة الإسلامية، الذي استولى على مساحاتٍ واسعة من الأراضي السورية، قبل اندحاره تحت ضربات تحالفٍ دوليٍّ تقوده الولايات المتحدة. وفيما يحتفل الأسد ببقاء نظامه، وهرولة أعداء الأمس إليه لتطبيع العلاقات معه، أصبحت سورية غابة سلاحٍ مقسّمة إلى محميات ومناطق نفوذ متنافرة، تسيطر عليها مليشيات هنا وقوات نظامية هناك، جميعها في نهاية المطاف قوى احتلال.
يقول التاريخ إنّ سورية استعادت استقلالها المفقود أكثر من مرّة، لكنّ الظروف لم تكن بالتعقيد الذي هي عليه اليوم. من الصعب الجزم بإمكانية إعادة الكرّة في المدى المنظور، غير أنّ المقدّمة الضرورية لجعل ذلك ممكناً في المستقبل هي الخلاص من الطغمة التي فرّطت بالاستقلال للبقاء في السلطة.
العربي الجديد