La Strada (1954)
فيلم «الطريق» لفيدريكو فلليني: رحلة اليأس في متاهة الحياة/ زيد خلدون جميل
يجمع النقاد على أن فيلم «الطريق» La Strada (1954) للمخرج الإيطالي فدريكوفيلليني، يعد أحد أهم الأفلام في تاريخ السينما العالمية، وأكثرها تأثيرا في الكثير من عمالقة المخرجين. وهو أول فيلم يفوز بجائزة أوسكار أفضل فيلم بلغة أجنبية، بالإضافة إلى خمسين جائزة سينمائية أخرى. وجعل الفيلم المخرج فدريكو فيلليني، أحد أبرز المخرجين في العالم، وبسببه قفز كل من جيولييتا ماسينا وأنتوني كوين ليصبحا نجمين عالميين.
أحداث الفيلم
يتمحور الفيلم حول «جيلسومينا» (جيولييتا ماسينا) الفتاة الطيبة التي تعاني بعض المشاكل العقلية وتعيش مع والدتها وأخوتها في فقر مدقع في ريف إيطاليا في خمسينيات القرن العشرين. وكانت شقيقتها «روزا» قد تركت العائلة للعمل كمهرجة مع رجل خشن يدعى «زامبانو» (أنتوني كوين) في ترحاله كعارض منفرد لإحدى الألعاب التي تثير المارة. يعود هذا الرجل إلى العائلة، ليبلغ الوالدة بأن ابنتها ماتت، من دون الكشف عن أسباب الوفاة. وتنهار الأم، فلن تستطيع حتى زيارة قبر ابنتها، لأنها لا تملك المال لزيارة القبر الموجود في مكان بعيد. وكان للرجل هدف آخر، وهو الطلب من الوالدة إعطاءه ابنة أخرى لتحل محل المتوفاة، مقابل عشرة آلاف ليرة إيطالية (ستة عشر دولارا). وتقبل الوالدة بسبب فقرها المدقع، ففي هذه الحالة ستستطيع تغطية بعض تكاليف عائلتها التي سيقل عدد أفرادها، وبالتالي التكلفة. واختارت الوالدة ابنتها «جيلسومينا» التي رضخت لمشيئة والدتها، وانضمت إلى الرجل، على الرغم من ندم الوالدة المتأخر. وسرعان ما تكتشف الفتاة أن الرجل ليس سوى وحش أناني لا يعرف سوى إرضاء مطامعه واستغلال كل فرصة سانحة للسرقة، من دون أن يعير أي اهتمام للآخرين، ولذلك فإنه يستغلها جنسيا ويهينها ويعلمها العمل كمهرجة أثناء تقديمه لعروضه المتجولة. ولم يخجل الرجل في كل ما يفعله حتى التحرش بالنساء أمامها، ولذلك فإن مساحيق التجميل تكسو وجهها البريء في أغلب الأحيان، ما أعطاها مظهرا طفوليا زاد من براءتها. وتشاء الصدفة أن يتعرفا على لاعب أكروباتيك مختص في عروض المشي على الحبل، وهو شاب لطيف محب للمرح. ويعلّم هذا اللاعب «جيلسومينا» عزف البوق ويحاول إقناعها بالعمل معه، إلا أنها ترفض لاقتناعها بمصيرها، ولكن هذا اللاعب يقوم بالسخرية من الرجل وإهانته أمام الجميع مثيرا حفيظته إلى درجة أنه يطارده حاملا السكين. وفي إحدى المرات يلتقيان باللاعب في منطقة نائية، فيهاجمه الرجل ويقتله عن غير قصد أمام «جيلسومينا» التي تنهار لوقع ما رأته، فيتركها أثناء نومها في منطقة غير مأهولة، تاركا لها بعض الملابس وبوقها. وتمر السنين وأثناء مرور الرجل في إحدى المدن يسمع فتاة تغني لحنا كانت «جيلسومينا» تعزفه على البوق، فيسألها عن مصدر اللحن، وأخبرته أنها تعلمته من فتاة مجهولة كان والدها قد وجدها وعطف عليها فجلبها إلى المنزل وعاشت معهم إلا أنها توفيت. ويشعر الرجل بالألم، وهو شعور غريب بالنسبة له، فيذهب إلى الحانة ويثير معركة بعد تناول بعض المشروبات الكحولية، ما يؤدي إلى طرده. وبعد ذلك يذهب إلى الساحل، حيث ينهار بسبب شعوره بالندم على طريقة حياته ووحدته القاتلة وكل الآثام التي ارتكبها.
المخرج فيديريكوفيلليني وزوجته الممثلة جيولييتا ماسينا يستلمان جائزة الأوسكار
تحليل الفيلم
ليس الفيلم سوى سمفونية رائعة وحزينة. وتتجلى عظمته في كونه صورة فنية رائعة لقصة واقعية جدا، على الرغم من كونها خيالية، فشخصيات الفيلم مشابهة لشخصيات موجودة في عالمنا. وهذا لا يعني عدم وجود بعض المبالغة في التفاصيل، فهذا جزء من العمل الفني، ووظيفته تقوية التأثير الدرامي وتجنب شعور المشاهد بالملل. ولهذا السبب يشعر المشاهد بأنه موجود مع الشخصيات في الفيلم نفسه وليس مشاهدا له. ولا يمكن تحقيق كل ذلك لولا مهارة المخرج فيلليني، وبراعة الممثلين في تفسير تفاصيل القصة وتعليمات المخرج الذي كانت طريقته في الإخراج التدقيق في التفاصيل. وتبقى مشاهد الممثلة «جيولييتا ماسينا» مترسخة في ذهن المشاهدين بمأساتها وطيبتها وتصرفاتها الطفولية، الشبيهة بحركات تشارلي تشابلن. وأصبح «زامبانو» رمزا للشخص الأناني المتوحش، الذي يكسر القوانين والأعراف، من دون تردد لتحقيق أي رغبة تنتابه.
قد يجد المشاهد صعوبة بالغة في تصديق أن الأم تبيع ابنتها لشخص متوحش ومن قاع المجتمع، كان قد أبلغها أن ابنتها التي رافقته سابقا قد توفيت، من دون أن يفسر كيفية حدوث هذا. ولكن التاريخ مليء بهذه الأمثلة المأساوية، وبأشكال مختلفة وفي جميع أنحاء العالم. ولم تكن أوروبا خالية من هذه الظاهرة، بل إن أيا من النقاد لم يبدِ دهشته، أو اعتراضه لهذا، حيث كانت إيطاليا تعاني من فقر مدقع في أغلب مناطقها بعيد نهاية الحرب العالمية الثانية أدى إلى حدوث تغييرات اجتماعية في البلاد. تتجلى براعة المخرج في نجاحه في جعل الفيلم يبدو بسيطا. وقد أخفى ذلك الجهود الكبيرة التي بذلت في إنتاجه، حتى أن المخرج أصيب بانهيار عصبي أثناء تصوير مشاهده. وإذا كان أنتوني كوين الممثل الأشهر في الفيلم، وأن الدقائق الخمس الأخيرة من الفيلم كانت له، فإن الدور الرئيسي كان في الحقيقة للممثلة الإيطالية الرائعة جيولييتا ماسينا، التي طغت عليه، وأصبح الفيلم مقرونا بها. واعتمد الفيلم على عوامل معروفة لزيادة التأثير الدرامي على المشاهد، مثل كونه بالأبيض والأسود وكون الضحية امرأة، حيث يتعاطف الجمهور أكثر مع المرأة. وزاد التأثير لكون المرأة تتصرف كطفلة، ومما زاد من ذلك أيضا أن وجه الممثلة كان في أغلب المشاهد مغطى بمساحيق التجميل التي يضعها المهرجون، ما جعلها تبدو كالطفلة. وكانت لتلك المساحيق ميزة أخرى، إذ أخفت عمر الممثلة التي كانت في الثالثة والثلاثين من عمرها آنذاك، بينما كان من الواضح أن الدور لفتاة أصغر سنا بكثير.
ذكر المخرج فيلليني أن شخصية «زامبانو» التي مثلها أنتوني كوين، كانت في الحقيقة مأخوذة من شخصيته هو، أي المخرج. ودراسة متعمقة عن المخرج تؤيد هذا الظن، حتى أن الممثلة اتهمته بالقسوة معها أثناء تصوير مشاهد الفيلم، ودعم الممثل أنتوني كوين بشكل غير مباشر هذا الظن، عندما وصف المخرج بأنه يسيطر على ممثليه تماما ويرهقهم في العمل، ولكن هناك جوانب أخرى من شخصية المخرج جعلته قريبا من شخصية «زامبانو»، وهي علاقاته النسائية العلنية، على الرغم من كونه متزوجا من الممثلة. ولكن «زامبانو» لم يكن تماما شبيها بشخصية المخرج، لأن أمثاله موجودين في مختلف طبقات المجتمع، إلا أن وجودهم أكثر وضوحا في العالم السفلي الذي تناوله الفيلم. وهو عالم يتسم بالقسوة البالغة، ومنه نبعت عصابات المافيا والدعارة في إيطاليا، ولا تعني حياة الإنسان فيه شيئا. ويبين الفيلم كذلك كيف تحول الظروف القاسية الإنسان إلى حيوان متوحش، مستعد أن يفعل أي شيء من أجل الحصول على مراده مهما كانت تفاهة ذلك المراد. وقد عرف المخرج ذلك العالم جيدا، إذ اختلط منذ شبابه بأشخاص مثله وبعالم السيرك والفنانين المتجولين، الذين يقدمون عروضا في الشوارع، حتى أن أول أفلامه كمخرج كان عن الفنانين المتجولين عام 1950. ومع ذلك، فإن واقع تلك الشريحة الأجتماعية، ربما أكثر قسوة وبؤسا مما ظهر في هذا الفيلم الذي امتاز بشعور مستمر باليأس، فـ»زامبانو» في الحياة الواقعية قد لا يترك الفتاة، بل يقتلها نظرا لكونها الشاهد الوحيد على جريمة القتل التي ارتكبها.
أفلام الواقع
كانت جميع أفلام فيلليني مقتبسة من أوساط يعرفها جيدا أو قصص حقيقية، فأحد أشهر أفلامه «الحياة الحلوة» La Dolca Vita (1960) الذي أثار ضجة في الأوساط الاجتماعية والسياسية في إيطاليا، ونال شهرة نافست شهرة فيلم «الطريق»، كان مقتبسا من فضيحة شهيرة سببتها فتاة قامت بالتعري في أحد ملاهي روما. لم يكن فيلليني جديدا في عالم السينما عندما أخرج هذا الفيلم، فقد سبق له أن أخرج عدة أفلام معروفة قبل ذلك. وكان قد بدأ مسيرته السينمائية ككاتب للسيناريو، وترشح لجائزة الأوسكار عام 1947 عندما كان في السابعة والعشرين من عمره. ولم يكن الفيلم سوى أول فيلم شهير له حيث تبعته عدة أفلام خالدة، قد يكون أشهرها «الحياة الحلوة». وقد حازت أربعة من أفلامه جائزة الأوسكار لأفضل فيلم، كما حاز المخرج نفسه جائزة أوسكار تكريمية، ويعد هذا إنجازا نادرا في تاريخ السينما العالمية، ما جعله يعد أحد أعظم المخرجين في تاريخ السينما العالمية. وقد أثرت أفلامه في العديد من المخرجين العالميين مثل، مارتن سكورسيزي وجورج لوكاس وستانلي كوبريك. وكان الفيلم علامة فارقة في مسيرة المشاركين الرئيسيين فيه مثل، أنتوني كوين، الذي أصبح أحد أشهر ممثلي السينما العالمية، وأصبحت جيولييتا ماسينا، إحدى أشهر ممثلات السينما الإيطالية، وكذلك مؤلف موسيقى الفيلم نينوروتا، الذي يعرفه الجمهور كمؤلف موسيقى فيلم «العراب». ومن الغريب أن الفيلم كان سببا لمشاجرة شهيرة في مهرجان البندقية السينمائي، فعندما أعلن منح الجائزة للفيلم في حفل كبير، قام مساعد مخرج فيلم منافس بالاعتراض بشكل غير مؤدب، وسرعان ما تبادل اللكمات مع أحد القائمين على فيلم «الطريق». ولم يكن ذلك المساعد سوى فرانكو زفيرللي الذي أصبح مخرجا شهيرا بعد ذلك.
يعتبر الفيلم من أبرز علامات موجة الواقعية الجديدة الإيطالية، على الرغم من عدم استيفائها لجميع معاييرها، وقد ظهرت هذه الموجة مع نهاية الحرب العالمية الثانية، حيث كانت ستوديوهات السينما في إيطاليا قد تضررت بسبب الحرب، فاضطر المخرجون الإيطاليون إلى تصوير مشاهد أفلامهم في موقع الحدث، واستعمال ممثلين هواة لتقليل التكاليف، كما اقتصرت مواضيعهم على قصص الطبقات الكادحة. وكانت تلك القصص مناسبة، حيث اكتسحت إيطاليا موجة من الفقر، ما جعلها مصدر الكثير من القصص في السينما والأدب الإيطاليين. وبدأ انحسار تلك الموجة في بداية الخمسينيات مع تحسن الأوضاع الاقتصادية، وظهور الطبقة الوسطى وتأثر ذوق المشاهدين بالسينما الأمريكية، التي اعتمدت على قصص الطبقة الوسطى والغنية، وامتازت بكثير من المرح والأمل في أفلامها.
إن أكثر الأفلام والمسرحيات والروايات شهرة في التاريخ، تتناول مواضيع حزينة، ويدل هذا إلى أن الحزن يؤثر في الطبيعة البشرية أكثر من المرح. وكان هذا دائما مثيرا للتساؤل في أوساط علماء النفس. وقد أظهرت بعض الدراسات أن المخ ينتج مادة كيميائية تسبب بعض الارتياح لدى الإنسان عند مشاهدته فيلما حزينا، أو قراءته رواية تراجيدية. ويقترح علماء آخرون أن المواضيع الحزينة أقرب إلى الواقع، ما يجعل المشاهد يشعر بها بسهولة. وهناك اعتقاد آخر، وهو ان المشاهد والقصص الحزينة تنبيه لا إرادي للإنسان كي يكون أكثر حذرا في حياته، كما أنها تذكره بالتجارب المثيرة للحزن، التي مرّ بها في حياته.
باحث ومؤرخ من العراق
لمزيد من المعلومات عن الفيلم والممثلين والمخرج اتبع الرابط التالي
لمشاهدة الفيلم اتبع الرابط التالي