“التفكير الحر”: صعود ونزول الدرج من دون التمسك بالدرابزين/ عمر كوش
تقدم الفيلسوفة الأميركية الألمانية الأصل، حنة أرندت (1906 – 1975)، كتابها “التفكير الحر” (ترجمة مالك سلمان، دار الساقي، 2022) بالقول: “عندما تصعد وتنزل الدرج يمكنك أن تتمسّك بالدرابزين كي لا تقع، لكننا فقدنا هذا الدرابزين. أنا أفكر بهذه الطريقة، وهذا ما أحاول أن أفعله في حقيقة الأمر”، فالتفكير بدون درابزين، يعني التفكير بحرية، دون مقيدات أيديولوجية أو دينية أو سواهما، ويفضي إلى الفهم والحكم من خلال الذات، أي دون الاعتماد على التصورات والمقولات والأحكام المسبقة. وانطلاقًا من هذه الحرية المطلقة، يصبح الإنسان كائنًا مفكرًا، قادرًا على التأمل خارج القواعد الصارمة والأفكار العامة، ومتسلحًا بالبعد النقدي.
يسم التفكير الحر تجربة أرندت الذاتية، التي جسدتها في نشاط منسحب من العالم، لصالح توافقها مع الذات، وهو أشبه بصعود الدرج ونزوله، مع مداراة ذلك العبء الثقيل، الذي تحمله، بوصفه مجازًا من مجازاتها، إنه التفكير من دون درابزين. وأرادت أرندت باجتراحه القول إن فقدان المعايير المميّز للقرن العشرين المنصرم، يعبّر عن أزمة عميقة، لكنه بنفس الوقت يشكل فرصة سانحة، من أجل التفكير دون محددات أو عوائق، لتلاقي بذلك ما ذهب إليه الفيلسوف نيتشه في حثه على الشك العميق والتفكير ما وراء الخير والشر، أي من دون الارتهان إلى منظومة الأخلاق السائدة.
يطاول التفكير الحر قضايا ومسائل عديدة، من بينها قضية الحرية والسياسة، وحرية الانعتاق، والمسألة السياسية، والسلطة في القرن العشرين، والتقليد السياسي، والثورة، وسواها، حيث تقدم حنة أرندت معنى جديدًا للعلاقة بين الحرية والسياسة، وللحياة السياسية، إضافة إلى دمج مفهوم الانعتاق مع الثورة وشروطها ومعانيها، وتبيان التمايز بين النظم الاستبدادية والنظم الشمولية، والحرب الباردة، لكنها تبدأ من التفكير في كارل ماركس وموقعه في التقليد الفكري السياسي الغربي، لتسجل أن فكرته عن الحكم، التي رسم خطوطها الأولية في تصوره عن ديكتاتورية البروليتاريا، ثم عززها بفكرة المجتمع الخالي من الدولة والطبقات، قد أصبحت الهدف الرسمي لروسيا السوفياتية، وبعض الحركات السياسية في كافة أنحاء العالم، وبالتالي اكتسبت الماركسية بعد رحيل ماركس تأثيرًا مزدوجًا يتجسد في التأثير والتمثيل، لكنها أخفت تعاليم ماركس الحقيقية، وعملت على تشويهها بقدر ما عملت على نشرها وتعزيزها. وبناء عليه، واجه ماركس تحديًا كبيرًا، لأن أحد أبرز أشكال الهيمنة الشمولية يستخدم الماركسية، فضلًا عن نشوئه منها. بالتالي، فإنه لا يمكن التغاضي عن هذه التهمة الموجهة إلى ماركس بالسهولة التي يمكن التعامي فيها عن التهم الموجهة إلى نيتشه أو هيغل أو لوثر أو أفلاطون، الذين تلقوا تهمًا مع مفكرين آخرين غيرهم، بوصفهم أسلاف النازية. لكن أرندت تسارع إلى تبيان حقيقة أن نشوء النسخة النازية من الشمولية على مسارات شبيهة بالشمولية السوفياتية، واتكائها على أيديولوجيا مختلفة تمامًا، تشير إلى براءة ماركس من الأوجه الشمولية التي تميز الهيمنة البلشفية، يضاف إلى ذلك سهولة الكشف عن التأويلات التي خضعت لها تعاليمه، عبر الماركسية واللينينية، وتحويل ستالين للماركسية واللينينية إلى أيديولوجيا شمولية، لكن على الرغم من ذلك هناك ارتباط بين ماركس والبلشفية والحركات الماركسية الشمولية أقوى من أي ارتباط قائم بين النازية وأسلافها المزعومين.
وتقرّ أرندت أن أي دراسة جدية لماركس وفكره، تنطوي على مخاطرة إخضاعها لمساءلة بعض الميول في العلوم الاجتماعية التي تنتمي إلى الماركسية، وذلك العمق الذي يميز فكره. كما أنها ستتفحص المسائل والاشكاليات الحقيقية، التي يتميز بها التقليد السياسي وتعاطى معها وماركس، بمعنى أن دراسة ماركس لا يمكن أن تكون سوى استنطاق للفكر التقليدي، من حيث علاقته بالعالم الحديث الذي يمكن تقصي وجوده إلى الثورة الصناعية من جهة، وإلى الثورات السياسية في القرن الثامن عشر من جهة ثانية، إذ قدم العصر الحديث للإنسان الحديث مشكلتي “العمل” و”التاريخ”، اللتين تمسّك بهما ماركس حتى النهاية، وترك اهتمامه بهما أثرًا هائلًا في الفكر السياسي، لكن اهتمامه بالسياسة يبقى مثارًا للشك، فحقيقة تأويله للعمل، أو بالأحرى تمجيده له، في سياق تقصي سيرورة الأحداث، قَلبَ القيم السياسية الحديثة رأسًا على عقب، حيث لم يتمثل العامل الحاسم في التحرير السياسي للطبقة العاملة والمطالبة بالمساواة الكاملة، التي شملت العمال اليدويين للمرة الأولى في التاريخ، إنما في النتيجة التي تنطوي على أن العمل الإنساني، لم يعد محصورًا بفضاء الحياة الخاصة، بل صار حقيقة سياسية عامة وأساسية.
تجادل أرندت في أنه في كل حضارة يشكل العمل النشاط الذي يمكّن المجال العام من تأمين ما نقوم باستهلاكه، وذلك نظرًا لأن العمل، بصفته عملية الاستقلاب مع الطبيعة، ليس إنتاجيًا فقط، بل هو استهلاكي أيضًا، وسيحافظ على ضرورته هذه حتى لو لم يرتبط بالإنتاجية أو لم يقدم إضافة إلى الفضاء العام. وعندما موضع ماركس العمل بصفته النشاط الإنساني الأهم كان يرى من منظور التقليد أن ما يشكل إنسانية الإنسان هو الإكراه وليس الحرية. كما أنه حين أضاف أن ليس بمقدور أحد يهيمن على الآخرين أن يتمتع بالحرية، فإنه كان يكرر ما قاله هيغل بلغة أضعف في ديالكتيك السيد والعبد المشهور، حيث قال “لا يمكن للمستعبَدين بدافع الضرورة، أو للمستعبدين بدافع الضرورة إلى الهيمنة، أن يتمتعوا بالحرية”. وتريد أرندت تبيان أن ماركس لم يبد وكأنه يناقض نفسه، حين وعد الجميع بالحرية في اللحظة التي حرم الجميع منها، بل بدا وكأنه يعكس معنى الحرية في تأسسها على التحرر من ذلك الإكراه الأصلي والطبيعي، الذي تعاني منه في ظل الشرط الإنساني.
الملاحظ هو أن أرندت ترى الحرية بوصفها السبب المبرر لوجود السياسة في حياة الإنسان الاجتماعية، كونها لا تُدرك إلا من خلال التعاطي مع الآخرين، فمن غير الممكن التمتّع بالحرية إلا في عالم السياسة والفعل، كما لا يمكن اختبارها بشكل إيجابي إلا فيه، فضلًا عن عدم إمكانية الكلام على السياسة دون الحديث عن الحرية، وكذلك لا يمكن الحديث عن الحرية دون الحديث عن السياسة. وبالافتراق عن التعريفات المتعددة للحرية، فإن السياسة في المجتمعات الاستبدادية تغيب عن الفضاء العام، ذلك أن الحرية والسياسة متزامنتان في تجسّدهما الواقعي، وترتبطان ببعضهما كوجهي العملة الواحدة. لكن في العصر الحديث جرى الفصل بينهما، مقابل التركيز على مسألة الأمن من دون الحرية، وسعت الأنظمة الشمولية جاهدة إلى قمع الحريات.
لا تربط أرندت مفهوم الحرية بصفتها حرية الإرادة أو الاختيار، بالسياسة فقط، بل تربطها بالفعل أيضًا، على أن يُفهم الفعل بمعنى الممارسة القديمة في نموذج دولة المدينة اليونانية، حيث يشكل الفعل أساس النظرية السياسية لديها، وتتناوله من خلال فهمها للحرية والمشاركة والحوار، باعتبار أن الفعل والسياسة لا يمكن تصورهما دون افتراض وجود الحرية، بحيث لا نستطيع لمس أي قضية سياسية، ضمنيًا أو صراحة، من دون تلمّس قضية حرية الإنسان. ووفق ذلك يصبح الناس أحرارًا في سياق الفعل، وليس قبله أو بعده، وأن يكون الإنسان حرًا فذلك يعني أن يكون منخرطًا في الفعل. أما التمتع بالحرية السياسية، فيتجسد في القدرة على الفعل والكلام وتعبير الناس عن آرائهم ونقاشاتهم العلنية، فيما تعمل نظم الاستبداد على نفي رعاياها إلى فضاءاتهم المنزلية، وإلغاء الفضاء العام، بحيث يفقد الإنسان القدرة على الظهور والتعبير عن آرائه، ومن دون فضاء عام مضمون سياسيًا تفتقر الحرية إلى واقع دنيوي يؤمّن ظهورها، لأن الحرية لا يمكن أن تتجسّد في عالم إنساني لا يكون مسرحًا للفعل السياسي. كما أن أنظمة الهيمنة الشاملة، تعمل على القضاء على الحرية عبر التسييس الشامل للحياة، الأمر الذي يلقي ظلالًا من الشك على حقيقة ترابط الحرية والسياسة، إذ كلما انحسرت السياسة استطالت الحرية، وكلما تضاءل الفضاء السياسي تضخّم المجال المتروك للحرية، وبالتالي فإن السياسة مرتبطة بالحرية فقط، بالقدر الذي تضمن فيه التحرر الممكن من السياسة، والمجال الحرّ الذي تمنحه للأنشطة غير السياسية، الاقتصادية أو الأكاديمية أو الدينية أو الفكرية والثقافية، فالهيمنة الكاملة للأنظمة الشمولية هي بمثابة ظهور الشر الأساسي في العالم، لأن التعددية الإنسانية تشكل قانونًا كونيًا، وكل من يخرق هذا القانون يفقد حقه في العيش في ظله.
يمكن القول إن تفكير أرندت السياسي ارتبط بشكل أساسي بظروف وأحداث القرن العشرين الذي عاشته، وما حمله من أحداث كبيرة، حيث شهد نشوب حربين عالميتين، وصعود الأنظمة التوتاليتاريَّة، متمثلة في النازيَّة الألمانيَّة والستالينية السوفياتية، لذلك احتلت السلطة حيزًا كبيرًا في فلسفتها، وتناولتها من زاوية القدرة على العمل من أجل تحقيق غرض سياسي، ثم ميّزت بين السلطة والقدرة والقوة والعنف، فالسلطة تعتبر نقيض القدرة، لأنها ليست فرديَّة ولها مؤيدوها، ويجمعهم هدف سياسي مشترك. كما أن السلطة نقيض العنف، لأنها ليست مؤسسة على الإجبار والإكراه، بل على التوافق والاختيار، بمعنى أن السلطة هي قدرة الإنسان على الفعل المتناسق الجماعي، لأن الجماعة هي مصدر نشأتها، وبالتالي حين تختفي الجماعة تختفي السلطة. وفق هذا الفهم راحت أرندت تنظر في أحوال السلطة وأشكالها التاريخية، وفي الخلط القائم في الفكر السياسي بينها وبين نظم الاستبداد والشمولية، حيث ترى أن ثمة خلطًا بين السلطة والاستبداد وبين السلطة والعنف، مع أن هناك اختلافًا كبيرًا بينها، فالطاغية في نظم الاستبداد يحكم تبعًا لإرادته ومصالحه، فيما يبقى أشرس أنواع الحكم السلطوي خاضعًا لقوانين خارجية أعلى من سلطته نفسها، لأنه يستمد شرعيته منها، فيما يقوم الحاكم الشمولي بتبرير ممارساته بدافع من ضرورتها للحرية حسبما يفهمها. كما أن من يخلط بين الشمولية والسلطوية يساوي ضمنيًا بين العنف والسلطة، من جهة توظيف العنف للدلالة على استحالة قيام أي مجتمع خارج الإطار السلطوي.
تكمن أهمية كتاب أرندت، الذي بين يدي، في تأكيده على عدم الانفصال بين الفلسفة والسياسة، وأن أي نظرية سياسيَّة في حاجة إلى رؤية فلسفية، إلى جانب طريقة تناوله للأفكار والقضايا المطروحة، وكشفه لمركبات ومبان جديدة لعدد من مفاهيم الفلسفة السياسية، خاصة فيما يتعلق بمفاهيم الحرية والإرادة والسلطة والسياسية وسواها، والأهم هو أن قضية الحرية، بوصفها حرية التفكير أو الإرادة، شكلت قضيتها الأساسية التي دافعت عنها في صفحات الكتاب بكل ما تملك من إمكانيات، ذلك أن من لا يمتلك حريته يفقد في اللحظة ذاتها إنسانيته.
عنوان الكتاب: التفكير الحر المؤلف: حنة أرندت المترجم: مالك سلمان
ضفة ثالثة