سياسة

ما معنى “وحدة وسلامة سوريا”؟ / عمر قدور

ما من بيان متعلق بالشأن السوري، منذ اندلاع الثورة حتى الآن، إلا وأشار إلى الحفاظ على وحدة وسلامة سوريا، بالألفاظ ذاتها أو بما يماثلها. كل البيانات الدولية والثنائية اتفق أصحابها على هذا المبدأ، والولايات المتحدة وتركيا تؤكدان في كل مناسبة على احترامه، وعلى أن أيّاً منهما لا تطمع في الأراضي السورية. أكثر من ذلك، تربط واشنطن وجودها بالحرب على داعش، وتربط أنقرة وجودها بالحرب على حزب العمال الكردستاني وفرعه السوري، وبقاؤهما غير مشروط إطلاقاً بإيجاد حل للصراع السوري نفسه؛ على الأقل هذا ما تعلنانه. وحتى إذا كان وجودهما متوقفاً على إيجاد حل نهائي في سوريا، فتأكيدهما على الانسحاب في النهاية لا يفقد صدقيته.

خلال السنوات ذاتها من مواظبة الخارج على التمسك بوحدة وسلامة سوريا، لم يُظهر السوريون غيرةً مشابهة على وحدة وسلامة سوريا، ففي الميدان تصرفت الأطراف كلها على مبدأ السيطرة على أكبر قدر ممكن من الكعكة، من دون أن يكون لأي طرف مشروع توحيدي حقيقي. نتحدث خاصة عن السنوات التي شهدت حرب استنزاف، اضُطر فيها بشار الأسد إلى إعلان عجزه عن استعادة السيطرة على كافة الأراضي السورية، وأنه سيكتفي تالياً بالدفاع عما يمكنه الاحتفاظ به. بينما سيطرت فصائل معارِضة مختلفة “ومتصارعة بشدة أحياناً” على مناطق موزعة ومشتتة في سوريا، لا يسعى من خلالها أي فصيل إلى تجاوز مؤثر لحدود سيطرته، ولا يمتلك أصلاً الإمكانية العسكرية ولا الغطاء الفكري السياسي.

بعد اثنين وأربعين يوماً من بدء التدخل العسكري الروسي المباشر، أُعلن في مدينة الحسكة عن إنشاء قوات سوريا الديموقراطية “قسد”، التي بقيت كتلتها الأساسية الفاعلة مشكّلة من وحدات حماية الشعب ووحدات حماية المرأة الكرديتين بعد ضم مكوّنات غير كردية وغير فاعلة. كانت القوات الكردية قد شقت لنفسها “طريقاً ثالثاً”، بمعزل عن الصراع بين الأسد والمعارضة، وبحيث تكسب من الطرفين كلما أتيح ذلك، من دون استراتيجية تخص مستقبل سوريا، بل طوال أكثر من سنة سبقت استقوت وحدات الحماية بالتدخل الأمريكي ضد داعش، وراحت طموحات مناصريها على الأقل تكبر على أمل تكرار السيناريو العراقي.

يمكن المجادلة بأن الطرف الكردي “المسيطر ميدانياً” لم يقدّم في أي يوم خطاباً رسمياً تقسيمياً أو انفصالياً، مثلما يمكن المجادلة بأن هيئات المعارضة حاولت على الدوام تقديم خطاب سوري وطني. لكن الطرفين قدّما ويقدّمان الخطاب التقسيمي، قسد بإشارتها إلى المعارضة بوصفها مرتزقة وعملاء، والمعارضة بإشارتها إلى قسد كتنظيم إرهابي انفصالي. من جهته، كان الأسد أكثر وضوحاً بالتعبير عن ارتياحه إلى مقتل وتهجير ملايين السوريين من أماكن سيطرته ليحظى بـ”مجتمع متجانس” وفق تعبيره. أما بعض مناصريه ومؤيديه فقد سبق أن طالب بتسوية المناطق الثائرة بالأرض، وباستخدام أسلحة الدمار الشامل ضد أهاليها.

عموماً، لا يدعم المناخ الفكري السائد “وحدة وسلامة سوريا”، وقد شهد السوريون وشارك بعضهم بفعالية في إنكار سوريا، حتى أن الحديث عن سوريا صار يؤخذ باستخفاف أو سخرية. هو حديث يُنظر إليه على أنه تأدية للواجب تُقال بإنشائية مملة إذا أتى من طرف سياسي، أما إذا أتى من خارج أهل السياسة فهو “دقّة قديمة” من الكلام، أو إفراط في الوهم من بعض الحالمين.

من زاوية الإنكار هذه، سوريا الحالية هي اختراع فرنسي، ولم يصمد بعد رحيل الفرنسيين، فاخترقته الانقلابات العسكرية مرات عديدة، والوحدة مع مصر التي أتى بها ما يشبه الانقلاب، وصولاً إلى انقلاب البعث ثم انقلاب الأسد الذي أبقى عليها قسراً بقبضته المخابراتية والعسكرية. يُضاف إلى ما سبق الفهمُ العامّي الشائع للعبة الأسد الطائفية، وهو فهم يجعل منه حكماً طائفياً في المقام الأول، ويجعل من سوريا خلال عقود حكمه نسخة مخفَّفة من نظام الأبارتيد.

يُستخلص من مجموع الروايات السورية المتضاربة عن زمن الاستقلال، الذي مرّت ذكراه أمس، أن السوريين “كمجموعات طائفية أو عرقية” عانوا من هذا الكيان المفروض عليهم، وفشلوا فشلاً تاماً وذريعاً في تحقيق أي قدر من الاجتماع الوطني. والفشل، وفق هذا التصور، بنيوي إلى حد كبير ولا يمكن الفكاك منه؛ إنه راسخ في تلازم أمرين، تعدد وتنوع السوريين، وعدم قدرتهم على إدارة تعددهم وتنوعهم في إطار حر وديموقراطي. أبعد من ذلك، يُستنتج أن سوريا بعدَ كونها اختراعاً فرنسياً لم تشهد الاستقرار إلا أثناء حكم الأسد، وهو استقرار قسري مصطنع بفعل القبضة العسكرية والمخابراتية، ومصيره الزوال متى ارتخت أو انهارت هذه القبضة.

لسنا بصدد الإجابة عمّا إذا كانت العقود التالية على الاستقلال قد حققت قدراً من الاجتماع السوري، على الأقل من زاوية أن وجود مجموعة بشرية تحت الظروف ذاتها خلال هذه العقود من المرجّح أن يخلق فيما بينهم بعض المشتركات. الأهم أن وعيَ ما هو مشترك بين السوريين مفقودٌ، أو يكاد يتلاشى أمام وعي الاختلاف والانقسام، حيث يصبح الاختلاف مرادفاً للانقسام والتقسيم.

نحن حقاً أمام مفارقة تتضمن رغبة الخارج في الإبقاء على سوريا موحدة، بينما هذه الرغبة مفقودة لدى السوريين باستثناء ما يظهر منها في البيانات والتمنيات الطيبة، وفي أحسن الأحوال تُقابَل تلك البيانات والتمنيات باليأس. وإذا جمعنا رغبة الخارج ويأس السوريين فسيكون من الصعب التوفيق بينهما، إلا إذا أُخضِع السوريون مرة أخرى إلى الاستبداد الذي يفرض عليهم العيش المشترك. وعندما يكون الحل هو الاستبداد، يتقدّم الأسد كوصفة مجرَّبة على القيام به، وحتى إذا كان قبل سنوات مهدَّداً بالسقوط فهو صاحب البنية المخابراتية-العسكرية الأشدّ تماسكاً وتنظيماً إلى الآن، لا تنافسه تنظيمياً سوى وحدات الحماية الكردية وهذه ليست مرشَّحة للانتقال إلى دمشق.

ما سبق لا يعني شيطنة الخارج كأنه يداور ويناور للوصول إلى النتيجة إياها؛ التطبيع مع بقاء الأسد. فالخارج أكّد بحزم على وحدة وسلامة سوريا، وسبق له منعُ تقسيم العراق رغم سهولته بالمقارنة مع سوريا. هذا يعني أن السوريين أمام خيارين، إما العمل لمقاومة مشيئة الخارج، وقتاله فضلاً عن الاقتتال في ما بينهم حتى النهاية، أو “تجرّع سمّ العيش المشترك”، والاعتراف الحقيقي والفعلي بأنه الخيار الوحيد المتاح، ما ينطوي على العمل من أجل تحسين شروطه بلا تكاذب. نشير أخيراً إلى أن التكاذب يتضمن إنكار هذا السؤال ورمي مسؤوليته على الخارج، وكأن معظم الذين ينكرونه لا ينكرون سوريا نفسها قولاً أو فعلاً.

المدن

Show More

Related Articles

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Back to top button