ميشال كيلو روائي الغرائبية القائمة على أمثولة بشرية/ أنطوان أبو زيد
“مزار الدب” رواية اكتشفت بعد رحيله تستعيد “طبائع الاستبداد” للكواكبي
إنها لصدفة باهرة أن تكتشف شذا كيلو، ابنة السياسي والمفكر السوري ميشال كيلو (1940-2021) مخطوطة رواية كان الراحل قد أضاعها خلال تنقلاته وأسفاره المتلاحقة في البلاد وخارجها، ضيقاً بالاستبداد، وكان عنوان الرواية “مزار الدب”. وها هو العمل الأدبي الرمزي يجد سبيله إلى النشر (2023) عن دار الجديد.
تبدأ الرواية باستذكار الراوي قرية وسط إطار طبيعي ساحر، كان ملعب صباه وفتوته، في ما كان يسمى “مزار الدب”. ومن ثم لا تلبث حكاية، بل خرافة هذا المكان الساحر والمخيف أن تتظهر، وتتكشف شيئاً فشيئاً لتصير عالماً كاملاً، تحييه شخوص يبدون حقيقيين، ولكن في إطار مكاني وزماني غير محددين، ويحملون في ذواتهم وأفعالهم ما يرمز إلى غيرهم في الواقع المرجعي.
حبكة تبدأ بسيطة
ومبدأ الرواية هذه حكاية بسيطة، إنه كان ذات يوم، في تلك البقاع الموصوفة التي يصفها الراوي بأنها جنة أو شبيهة بالجنة، ضبعة قوية كانت تهاجم كل من يقرب من “مزار الدب” في إحدى القرى المتخيلة، وقيل إن هذه الضبعة هي متحولة من امرأة، كانت عروساً حلوة، قتل عريسها بعيد زفافهما، وإن جماعة من ذوي العدوانية اختطفوه وقتلوه، فما كان من زهرة، المتحولة ضبعة أن تنقض على كل من سولت له نفسه الاعتداء على المزار. ولم تمض أشهر حتى وضعت زهرة الضبعة طفلاً (طفلة) من زواجها القصير أمام بيت أحدهم، ويدعى أيوب الناعس، وزوجته العاقر، ليربيا الطفلة التي أسمياها كلثوم، ويقومان بذلك عن طيب خاطر.
ولما كبرت الفتاة كلثوم، وصارت فتنة القرية بناسها وشجرها وينبوعها، يلهجون بها ويتوقون ليمتعوا نظرهم بجمالها الخلاب ولمستها السحرية، طرأ أمر غير معروف في حينه أدى الى اختفائها، وقد تبين لاحقاً أن شخصاً هو ابن ظافر الهادي، أي حمدان الأبرص، كان قد عثر على الفتاة “كلثوم” في الغابة، بزعمه، في حين اتضح أنه هو الذي اختطفها واحتجزها لديه لإجبارها لاحقاً على الزواج به، وهذا ما حصل لها.
توالي النكبات
وفي دليل على غضب الطبيعة والعناصر من الخذلان الذي حل بكلثوم، على حد ما كشفه نايف المفزلك، أخذت تتوالى على قرية “مزار الدب”، إذ تسللت أول الأمر حيات من كل الأنواع إلى شوارع القرية، وبيوت الناس فيها وخزائنهم وأسرتهم حتى ضاقوا بها، ولم تكد تتوارى الحيات حتى انهالت الحجارة بكل الأحجام على منازل القرية وهشمت جدراناً وروعت سكانها، ولم يلبث أن أعقب هاتين الموجتين هجوم قطيع من الذئاب، وبعده فصيل من الثعالب لم تبق ولم تذر من الدجاج والطيور الأليفة ما يقي نساءها وعجائز القرية من الجوع والفاقة، وزيادة الطين بلة، يظهر عمود أسود ضخم يمتد من الأرض حتى السماء، وقد راح يخرج ناراً مهلكة تصيب الأخضر واليابس مما سلم من القرية، وعندئذ، يتصدى الشيخ حمدان الأبرص لهذا العمود ويفلح في حرف مساره ليصيب قرية مجاورة.
انقسام القرية
وبينما كانت الحوادث الغريبة تتوالى في القرية، يتبين للقارىْ من الوقائع والحوارات المنقولة بصيغة الغائب عن ألسنة الشخصيات في الرواية، أن ثمة انقساماً حصل بين فئتين من السكان، الفئة الأولى، من مثل عبلا الهبلا “التي تعرف سر ما حدث ومن كان وراءه” (ص: 29)، وكلثوم العروس ومربياها، وعفاف، وأخت حسان الأشهب، وغيرهم، ممن يلقون باللائمة على ظافر الهادي لكونه أطلق كل ما لديه من أرواح شريرة راحت تعبث بمصالح القرية (مزار الدب) وتبث الرعب في صفوف الغالبية العظمى من سكانها.
وفي المقابل، أمكن لظافر وابنه وجماعته، أن يؤلبوا الرأي العام في القرية ضد عبلا وأبيها ومن ناصرهما، ونجحوا في إبعادهما وعزلهما تمهيداً للقضاء على عبلا الناطقة بالحقيقة، حقيقة أن الأخير راح يبني سلطته حيناً بتسليطه قوى الشر على القرية، وحيناً آخر بابتداعه خطاباً أشبه بالديني، يقنع الناس به أنه صاحب مقام، وأن على أتباعه أن ينصاعوا لإرادته. وبالفعل، حالما تم لظافر أن يتخلص من عبلا، ويمعن في التمثيل بجثتها من دون أن ينجح في ذلك، ربما لطهارة الجثمان وتجذره في تراب القرية الأصيل، حتى مضى يشيع في القرية أنه صاحب السلطة الوحيد، وأنه الآمر الناهي فيها، وباسم الوكالة شبه الدينية المعطاة له.
بيد أن الأهم في الرواية التي تنساب وقائعها ذات الطابع الغرائبي والدلالة الرمزية، هو حصول التحول المنتظر في خطاب زعيم القرية الأوحد، الهادي والمستبد، من دعوة الناس إلى التسليم به، إلى حثهم على التخلي عن أملاكهم لصالحه، في مقابل تخليه عن أملاكه لهم، إذ يقول لمن عارضه في الدعوة، أو خالجه تساؤل في معقولية هذا المطلب.
ومن أجل أن يضمن سلطانه على القرية وأملاكها، عمد الهادي الأبرص إلى قسمة الناس فريقين، فريق يؤازره فيحصل على كل المغانم والأرزاق، وفريق آخر معارض له فيحرم من كل شيء.
فلسفة الاستبداد
ولكن أين تكمن فرادة النظام الاستبدادي أو الشمولي (التوتاليتاري) الذي يرمز اليه الكاتب ميشال كيلو، في روايته هذه، وإن شاءها متركزة في قرية نائية دعاها “مزار الدب”؟ للإجابة نقول، وفقاً لمجريات الرواية، إن من أخطر العوامل المساعدة على استدامة سيطرة المستبد أو الطاغية تعميم الروح الجماعية في الرعية، بل إزالة أي أثر للأنا، للفرد، من كيان الجماعة، بحيث تنعدم أي خصوصية لهذا الكائن، فلا يعود يهدد وحدة هذه الجماعة وسلطان حاكمها الأوحد.
وفي السياق عينه، يحمل الناس على نسيان ذواتهم وأسمائهم وهوياتهم التي وهبت لهم منذ ولادتهم، واستبدالها بهويات وأسماء هي كفيلة بالدلالة على انتمائهم، بل تبعيتهم لذاك الحاكم بأمره تعالى أو بما يدعيه كذلك، تطبيقاً لمبدأ “إنس نفسك”، بديلاً من مبدأ سقراط الشهير “اعرف نفسك”.
ومن الطبيعي والحال هذه، أن يفضي هذا الإكراه على النسيان العام المراد تحقيقه كرمى لعيون المستبد الهادي، ولسلطته القامعة (الناطور) المتمتعين وحدهما بذاكرتهما وباسميهما، إلى إرباكات بين الناس: “صحيح أن الرجال لم يسألوا نساءهم وأولادهم من يكونون، وأن هؤلاء لم يسألوا بعضهم بدورهم سؤال الصباح المتواتر، إلا أن الاستغراب كان سيد الموقف، إذ استغرب كل إنسان وجود الآخرين إلى جانبه ومعه واستغرب وجوده حيث هو، هل نسي المزاريون حقاً كل شيء؟” (ص:148)
بيد أن ذروة ما تطمح إليه سلطة الاستبداد، على نحو ما يمثله نهج الحاكم الظافر الهادي والمهدي، هو أن تصادر مستقبل الناس، بعد أن أفلحت أو كادت تفلح في محو ماضي الناس والسيطرة على حاضرهم، وذلك في منع المزاريين من الحلم، وفي أضعف الحالات مراقبة أحلامهم وتقييمها وقمع غير المناسب منها. ومن ثم أنشئت بقرار من الحاكم المستبد “جمعية رعاية الأحلام” في قرية “مزار الدب”، وهاهنا تتقاطع الرواية مع رواية أجنبية للكاتب الألباني إسماعيل كاداريه بعنوان “قصر الأحلام”، وفيها يعمد الحاكم إلى تخصيص أحد المباني في مملكته لغاية تحليل أحلام رعاياه التي ترد إليه من المقاطعات البعيدة والقريبة.
أياً يكن الأمر، فإن الكاتب الراحل ميشال كيلو ترك للقراء العرب تحفة في الأدب ذي الرمزية قريبة المتناول، بدلالات سياسية واجتماعية وأنثروبولوجية وإنسانية ولغوية وفيرة “مزار الدب”، سوف يتملون منها ويقارنون ويستخلصون ما يشاءون على أن يبقوا أحراراً في الجهة التي ينقلبون إليها غير ظالمين ولا مظلومين.
للكاتب السوري ميشال كيلو رواية “دير الجسور”، وكتب في السياسة، مثل “الاستخبارات في الحرب العالمية الثانية”، و”الديمقراطية الاشتراكية”، و”برلين-كابول- موسكو”، و”من هيغل إلى نيتشه”، و”من الأمة إلى الطائفة”، وغيرها.
العلويون النّصيْريون … كتاب يتقصّى في إشكالية النشأة واللاهوت/ حسين عبد العزيز
يختلف كتاب يارون فريدمان “العلويون النُّصيريون: الهوية والمعتقدات مدخل في تاريخ أقلية رائدة” (دار سطور للنشر والتوزيع، بغداد، 2023) عن غيره من الكتب التي تناولت الطائفة وانقسمت بين تيارين: تسفيهي يشنّع بالطائفة على مستوى عقائدها، وتقديسي يمجّد الطائفة في تاريخها وهويتها ومعتقداتها. وفي الحالتين، اتسمت غالبية الكتب عن العلويين بضعف الموضوعية، وهذا ما دفع مؤلف الكتاب إلى تفحّص المصادر الباطنية والخارجية للطائفة، والتاريخية والحديثة على السواء، ما جعل الكتاب، في مواضع كثيرة، مملاً للقارئ المتعجّل، وشائقاً للقارئ المختص.
تاريخ النُّصيريين
سُمِّيت فرقة النُّصيرية نسبةً إلى مؤسسها أبي شُعيب، محمد بن نُصير العِبدي البِكري النُّميري، المنحدر من قبائل بني نُمير العربية الشمالية التابعة لمجموعة قبائل عامر بن صعصعة (ابن بكر)، الذين سكنوا على طول ضفاف نهر الفرات، وهم حلفاء رئيسيون لبني تغلب (الحمدانيين في القرن العاشر). وبهذا، يرفض المؤلف إرجاع أصل بن نُصير إلى الفرس، بناءً على بعض المصادر، فهي محاولة لإقامة علاقة وهمية بين الرجل وإيران. ومن خلال المصادر المتاحة بين يدي المؤلف، يظهر بن نُصير ضمن شخصيتين متناقضتين، تعتبره الأولى قائداً فذاً يتمتع بقدرات خارقة، والثانية تعدّه دجّالاً زنديقاً.
ويشير تاريخ هذا الرجل إلى هذا التناقض في شخصيته. فالمصادر الشيعية تقول إنه لُعن وطُرد مرّتين، الأولى عندما زعم أنه رسول مرسل من الإمام الهادي، الذي نسب إليه الألوهية، وروّج مذهب التقمص وتناسخ الأرواح. والمرّة الثانية كانت عندما زعم أنه باب الإمام، أي رسوله المقرّب، وأنه ممثل الإمام الغائب.
يستنتج فريدمان من هذه الرواية ومن مصادر أخرى أن الرجل عاصر الإمامين العاشر علي الهادي والحادي عشر حسن العسكري في القرن التاسع ميلادي، وقد أشارت بعض المصادر (مجموع الأعياد لـ الميمون بن قاسم الطبراني، الباكورة السليمانية لـ سليمان الأذني وغيرهما) إلى حدوث لقاء بين بن نُصير والإمام العسكري في سامراء، حيث كان لدى الأول حلقة تدريس يتزعمها تلميذه يحيى بن معين السامرائي. لكن طبيعة العلاقة بين ابن نُصير والإمامين تختلف بين المصادر الشيعية والعلوية، فالأولى تعتبره زنديقاً، والثانية تؤكّد العلاقة الوثيقة بالإمامين، وفقاً للطبراني وكتاب محمد بن نُصير نفسه “الأكوار والأدوار النورانية”.
تروي المصادر النُّصيرية المبكرة أن بن نُصير شرع بممارسة طقس النداء، وهو مصطلح نُصيري يعني إعلاناً صريحاً أمام الملأ بألوهية الإمام. وبحسب المصادر النُّصيرية، كان هذا الطقس في المراحل المبكرة يمارسه غلاة آمنوا بأنهم كانوا أبواباً للأئمة، ونجم عن ذلك طرد الشيعة ابن نُصير، ثم طردت فرقته بعد وفاته.
عاش النُّصيريون تحت غطاء التقية بسبب الأوضاع الخطرة التي فرضتها عليهم الخلافة العباسية، لكنهم تلقّوا دعماً من عائلاتٍ شيعيةٍ محلية في العراق، ما مكّنهم من البقاء، ونذكر خصوصاً عائلة بن حمدان التي خرج منها أحد أهم دعاة المذهب النُّصيري: الحسين بن حمدان الخصيبي الذي ولد في مدينة جنبلاء بين الكوفة وواسط في النصف الثاني من القرن التاسع، وكانت عائلته على علاقة وطيدة بالإمام الشيعي.
بعد أن أكمل تعليمه الباطني، قاد الخصيبي الفرقة النُّصيرية، لكنه سرعان ما شرع بأداء طقس النداء كما فعل ابن نصير سابقاً، وقد أدّى فعل هذا إلى سجن العباسيين له قبل نجاحه في الفرار، وهنا بدأت عملية هجرة الفرقة (51 فرداً) من العراق إلى سورية في الربع الثاني من القرن العاشر. وانقسمت آراء المراجع الشيعية في تقييم الخصيبي، ففيما يُذكر اسمه في الأدب الشيعي وأنه من أهم رواة الحديث وناقلي الأخبار، اعتبر النجشي (ت 1058) الخصيبي ناقلاً غير موثوق، وقد شاركه في هذا الرأي ميرزا أحمد الآسترآبادي نهاية القرن السادس عشر حين وصف الخصيبي بالكاذب وصاحب مقال ملعون.
مع سيطرة البويهيين على بغداد، سمحت السلطة الجديدة للخصيبي بالعودة إلى العراق، وسرعان ما توطّدت العلاقة بين السلطة البويهية والنصيرية عبر الخصيبي، وهو تقارب أرجعه فريدمان إلى أسباب دينية ـ اقتصادية. وفي سنواته الأخيرة، عاد الخصيبي إلى سورية، واتخذ من حلب مقراً له بسبب قربه من العائلة الحمدانية. وبما أن الوسط السُّني في سورية كان معادياً لأيٍّ من أشكال التشييع، عمل النُّصيريون على نشر رسالتهم في المناطق غير السُّنية، واختاروا جند الأردن بالشام، وخصوصا مدينة طبرية، واختاروا أيضاً المناطق الساحلية من سورية.
بعد وفاة الخصيبي، تولى زمام الطائفة أبو الحسن محمد بن علي الجلي، ثم ميمون بن قاسم الطبراني بداية القرن الحادي عشر، الذي تصفه المصادر النُّصيرية بالشاب الثقة، ويعتبر كتابه “مجموع الأعياد” من أهم المصادر النُّصيرية بخصوص أعياد الفرقة ومناسباتها.
في عهد الطبراني، سقطت العائلة الحمدانية لصالح السلالة المرداسية في الربع الثاني من القرن الحادي عشر، ما دفع الطائفة إلى العمل بالتقية وخروج جزءٍ منها من حلب. ولا تذكر المصادر التاريخية مدينة اللاذقية آنذاك. ولهذا يشكّك فريدمان في أن هجرة الطائفة إلى هذه المدينة حصلت في القرن الحادي عشر، فيما ذُكرت طرابلس بكثرة في ذاك الوقت.
بعد مرحلة الطبراني، دخلت الفرقة في مرحلة الانقسام والتشرذم بسبب كثرة الجدالات اللاهوتية وغياب قائد قوي. وفي هذا قال زعيم النُّصيريين في حلب، الجزري، إن المشيخة انتقلت بعد الطبراني من أرباب العلم إلى أرباب المناصب والحصون، ويقصد بذلك، ما سمّيت العصابة الخصيبية (عصمة الدولة، حَلَفَهُ صِدق، الأمير علي علم الدولة). وفي عهد هؤلاء، كانت الفرقة تتلقى الدعم من ثلاث عائلات محلية: بنو محرز، بنو الأحمر، بنو العريض، وهي عائلات تمتلك حصوناً في الجبل، فكان بنو الأحمر يملكون حصن بلاطنس (قلعة المهالبة) في ريف مدينة اللاذقية، وبنو محرز مالكين لقلعة المرقب جنوب طرابلس.
ولكن، مع سيطرة البيزنطيين على هذه القلاع وغيرها خلال مجرى القرن الحادي عشر، فقدت الطائفة الدعم الذي كانت تتلقاه من العائلات المحلية. وفي القرن الثاني عشر، ظهر زعيم نُصيري بارز اسمه المكزون السنجاري (من سنجار شمال غربيّ العراق)، أنقذ الطائفة من أعدائها وقضى على مناوئيها.
يُهمل فريدمان كتاب “تاريخ العلويين” لمحمد أمين غالب الطويل، ويركز على كتاب “تاريخ المكزون” الذي ألفه يونس حسن رمضان، الأكثر تفصيلاً ودقة من كتاب الطويل. وقد تسلّم المكزون إمارة سنجار بعد وفاة والده عام 1205، وفي عهده انطلقت أول موجة هجرة من سنجار نحو قلاع اللاذقية وحصونها، بقيادة الفيلسوف الشيخ أحمد بن جابر بن أبي العريض (زعيم بني العريض). وفي عام 1218 استنجد النصيريون في اللاذقية وبانياس به لمواجهة الحملة العدوانية التي قام بها الكرد الأيوبيون والإسماعيليون ضد الطائفة. وفعلاً، ترأس المكزون حملة عسكرية مكونة من خمسين ألف مقاتل، فسيطر على حصون منطقة حماة (أبو قبيس) وطبرية (المرقب، عليقة).
بعد طرده الكرد والإسماعيليين من المنطقة، بقيت مهمة أخيرة للمكزون، فعمل على تنظيم مناظرة لاهوتية مع الطائفة الإسحاقية التي انشقّت عن النُّصيرية قبل نحو قرن ونصف قرن، وفي ختام المناظرة، ذبحهم المكزون وحرق كتبهم.
استفاد المكزون في تلك المرحلة من الأوضاع السائدة في سورية: حالة الحرب الدائمة بين الأيوبيين والصليبيين، والخوف المتزايد من الإسماعيليين النزاريين، ومع ضعف هؤلاء الثلاثة، استغل المكزون لإقامة ما يشبه الحكم الذاتي للطائفة في سورية.
اختلف الأمر في القرن الثالث عشر مع سيطرة المماليك على سورية وتصدّيهم للغزو المغولي في معركة عين جالوت عام 1260، ثم وضع الظاهر بيبرس حدّاً للوجود الإسماعيلي ـ النزاري في سورية.
ويعتمد فريدمان على مصادر عديدة في تتبع العلاقة بين المماليك والطائفة النُّصيرية، فعلى الرغم من الاضطهاد الذي عانته الطائفة، إلا أن المماليك لم يذهبوا إلى اجتثاث الطائفة كما فعلوا مع الإسماعيليين ـ النزاريين، فاكتفوا بفرض ضرائب باهظة عليهم، ومنع خطبهم الدينية وطقوسهم علناً. ويتساءل فريدمان: لماذا لم يُقدم بيبرس على اجتثاث الطائفة، وهو قادر على ذلك، واكتفى بهدايتهم؟ لكنه لم يعط جواباً واضحاً.
العقيدة النصيرية
لم يكتف فريدمان بكتب الطائفة النصيرية وحدها، لكون سلسلة التراث العلوي مجمعة بطريقة عشوائية، بل لجأ إلى الدراسات الغربية، خصوصاً الصادرة خلال العقدين الأخيرين عن مؤلفين غير عرب: الإسرائيليان بار ـ آشر وكوفسكي، والبريطاني صموئيل لايد والفرنسي رينيه دوسو. لكن التحوّل الأهم في دراسة الطائفة كان مع لويس ماسينيون في كتابه “الموسوعة الإسلامية”، إذ لم يعتمد على الشهادة الشفهية كما فعل أسلافه، وبذلك تجنّب الوقوع في فخ تضليل أفراد الفرقة المتعمّد. وفيما يتفق فريدمان مع ماسينيون في أن النزعة التوفيقية النُّصيرية كانت نتيجة تطوّر طرأ من داخل الفكر الشيعي، فهو يفترق عنه في أخذ البعد الوثني (الزرادشتية، المزدكية) بالاعتبار في العملية التوفيقية للاهوت النُّصيري، وهو ما استبعده ماسينيون.
مفهوم اللاهوت النُّصيري ما هو إلا انعكاس لصورة الفكر الأفلاطوني المُحدث، كما هو الحال مع اللاهوت الإسماعيلي، حيث الإله هنا إله مجرّد فاضت عنه المخلوقات كافة. وبما أن الفيوضات الأولى التي فاضت عن الخالق كانت قريبة من مصدر الخلق، فهي من أسمى المخلوقات الروحانية، إذ أوكلت إليها مهمة خلق كيانات أخرى، واختبار إيمان المخلوقات. الفيضان الأول والثاني اللذان فاضا عن اللاهوت لم يكونا بكمال مصدر الخلق، لكنهما احتفظا بنقائهما ومجردان بما يكفي لاعتبارهما عنصرين أساسيين من اللاهوت نفسه. أما الفيوضات الثانية التي فاضت عن الأولى، فكانت أكثر بعداً عن مصدر الخلق، إلا أنها احتفظت بقدرتها الخَلقية التي انتقلت إليها من مصدر الخلق عبر النور الإلهي، لكنها أدنى من الفيوضات/ الأقانيم الثلاثة السابقة.
لم تتحدث المصادر الباطنية العرفانية السابقة عن ثالوثٍ من أي نوع. ولهذا يفترض فريدمان أن فكرة الثالوث نشأت مع النُّصيرية في وقت لاحق على نشوء الطائفة، وهذا ما بيّنته المصادر الأقدم التي وضعها غلاة خلال القرنين الثامن والتاسع، فلم تذكر هذه المصادر سوى عنصرين هما، الإله المجرد المفارق، والفيض الأول. لكنّ النُّصيريين أضافوا إلى هذين العنصرين للاهوت عنصراً ثالثاً هو الباب. ويذهب فريدمان إلى أن سبب إضافة العنصر الثالث كان بمنزلة ردة فعل تجاه إنكار الإسماعيلية الدور الباطني الذي يلعبه الباب (أقرب تلاميذ الإمام الشيعي) عن الشيعة الإمامية. كذلك لا يستبعد فريدمان دور البعد الاجتماعي ـ الجغرافي في إضافة أقنوم ثالث، ويقصد بذلك انتقال الفرقة من وسط عراقي ـ فارسي إلى وسط سوري ـ مسيحي، أي لا يمكن استبعاد التأثير المسيحي. ويضع سبباً ثالثاً، وهو التأثر بجماعات وفرقة شيعية وجدت سابقاً تدين بمذهب العناصر الثلاثة في اللاهوت العرفاني الشيعي: العين، الميم، السين/ علي، محمد، سلمان. لكن الفرق بين هذه الفرق العرفانية والفرقة النُّصيرية أن الفرق العرفانية السابقة كانت تعتنق أقنوماً واحداً من الأقانيم الثلاثة: العينية، الميمية، السينية، ولم تحدث أية عملية جمع لهذه العناصر الثلاثة قبل القرن العاشر.
ومن هنا، يحاجج فريدمان، بأنه جرت صياغة الثالوث المقدس النُّصيري، وليس الثالوث المقدّس المسيحي، من داخل المذهب النُّصيري العلوي، وتسمّي المصادر النُّصيرية جميعها العناصر الثلاثة للاهوت: المعنى، الاسم/ الحجاب، الباب.
المعنى، هو ذات الله، ومصدر جميع الفيوضات، إنه الجزء الأكثر تجريداً في الثالوث. أما الاسم، فهو أول كيان فاض عن اللاهوت، والباب هو الموجود الثاني الذي فاض عن المعنى بعد الاسم.
يتألف العالم النُّصيري من العالم السماوي النوراني المثالي والعالم المادي المتغير الناقص، ولهذا، فالنُّصيريون -بخلاف أغلب غلاة الشيعة- يرفضون مذهب الحلول. لكن اللاهوت في المذهب النُّصيري ظهر بصورة بشرية، لا على شكل كائن بشري، لذا حلّ مبدأ الظهور محل مبدأ الحلول الذي كان مكوناً محورياً عند الكنائس الغنوصية خلال القرنين الأول والثاني. وبما أن الفرق الغنوصية اندثرت في القرن الثاني، يبدو أن النُّصيرية قد أخذت هذا المبدأ من فرق عرفانية، إذ لم يُحفظ مبدأ الظهور في أي سجلّ، إلا في الديانة المانوية الفارسية التي ظهرت في القرن الثالث، وانتشرت في العراق وسورية ومصر. وهناك منطقة أخرى قد تكون موطناً لإحدى الفرق الغنوصية القريبة من المانوية، تأسّست تقريباً في الفترة نفسها، وهي الديانة المندائية، وقد هاجر الخصيبي إلى مدينة حران، ما يجعل صابئة هذه المدينة مصدراً محتملاً للوحي.
وفقاً لمبدأ الظهور، فالأئمة الاثنا عشر جميعهم كانوا تجسيداً للإله. ولذلك هم لم يقتلوا، بل شُبِّه لهم، فالحُسين -على سبيل المثال- لم يقتل في كربلاء، بل استبدل بأحد أتباعه، هو حنظلة الشيباني.
وتتضح عملية الظهور أكثر من خلال الأيتام الخمسة، وهم خمسة فيوضات فاضت عن الثالوث المقدس، وهم خالقان ثانويان للعالم. ويبدو، والكلام لفريدمان، أن مؤسّس الفرقة نسي السبب الحقيقي وراء هذا اللقب، لكن أغلب الظن أنه جاء بتأثير من الفرقة المخمّسة الشيعية التي ألهت آل البيت (محمد، علي، فاطمة، الحسن، الحسين). وفي مقابل الظهور، يعتقد النُّصيريون بالتناسخ الذي هو نقيض للمعرفة الباطنية، وتعتبر رسالة الخصيبي “الرستباشية” مصدراً مهماً حول هذا المبدأ.
تناسخ الروح عند النُّصيرية مختلف عن غيره من الفرق، ولا سيما الدروز. مفهوم التناسخ عند الدروز يحمل طابعاً إيجابياً حيث تُمنح روح الإنسان فرصة أخرى للتكفير عن ذنوبها وتطهير نفسها، فيما ينظر النُّصيريون إلى التناسخ كنوع من العقاب. والسبب خلف هذا الفارق الجوهري يكمن في أن الدروز يركّزون على جانب العدالة الإلهية، فيما يركز النُّصيريون على مفهوم القضاء والقدر.
العربي الجديد