تمرد فاغنر في روسيا وتطورات الحرب الروسية الأوكرانية
تحديث 30 تموز 2023
————————–
لماذا تركيا حريصة على علاقاتها بروسيا؟/ محمود علوش
خلقت الصفقة التي أبرمها الرئيس التركي رجب طيب أردوغان ورئيس الوزراء السويدي بخصوص ملف عضوية السويد في الناتو انطباعاً بدخول العلاقات التركية الغربية حقبة جديدة. وما عزّز هذا الانطباع أن مضمون الصفقة لم يقتصر فحسب على مسألة مكافحة الإرهاب، بل تضمنت أيضاً خريطة طريق لإصلاح العلاقات التركية الغربية. مقابل وعد من أردوغان بعرض بروتوكول عضوية السويد في الناتو على البرلمان التركي من أجل التصديق عليه، تعهد الاتحاد الأوروبي بتحريك الجمود في مفاوضات انضمام تركيا إلى الاتحاد والعمل على تحديث اتفاقية الاتحاد الجمركي وتحرير التأشيرة. كما تعهّدت واشنطن من بين أمور أخرى، بالعمل على إتمام بيع مقاتلات إف ستة عشر إلى تركيا. مع أنه من السابق لأوانه الجزم بإمكانية نجاح هذه الصفقة وحدوث تحول حقيقي في مسار العلاقات بين أنقرة والغرب، إلآّ أنّها كشفت عموماً أن الطرفين لديهما رغبة جدية في إعادة تشكيل العلاقات.
أحد الأسئلة الكبيرة التي تُصاحب بوادر الانفراجة في العلاقات بين أنقرة والغرب يتمحور حول تأثيرها المحتمل على العلاقات التركية الروسية. على الرغم من أن جانباً أساسياً من هذه العلاقات يقوم على مصالح أنقرة وموسكو المتداخلة في كثير من القضايا المحيطة بهما، من آسيا الوسطى إلى جنوب القوقاز مروراً بالبحر الأسود وسوريا، فضلاً عن تجارة الطاقة التي تبدو محورية في هذه الشراكة، إلآّ أن هناك قاعدة عامة تتحكم في مسار علاقات تركيا مع كل من روسيا والغرب. عندما تكون العلاقات التركية الروسية جيدة فإن العلاقات التركية الغربية تتوتر والعكس صحيح. للحد من تأثير هذه القاعدة على صياغة سياستها الخارجية، لجأت أنقرة إلى مفهوم التوازن الذي برز بشكل أوضح بعد الحرب الروسية الأوكرانية من أجل الموازنة بين هويتها الجيوسياسية كجزء من حلف الناتو وبين مصالحها الحيوية مع روسيا. يُمكن القول إن هذه الاستراتيجية نجحت في إثبات فوائدها على تركيا وساعدتها بشكل مقبول في الحد من تداعيات الحرب على علاقاتها مع روسيا والغرب.
مع ذلك، فإن عملية التوازن التي تقع في صلب عقيدة السياسة الخارجية لأردوغان، تواجه الكثير من التحديات. هناك عاملان أساسيان ينبغي توفّرهما لإحداث توازن حقيقي في السياسة الخارجية التركية بين روسيا والغرب. الأول إقامة علاقات مستقرة مع الطرفين، والثاني توظيف هذه العلاقات لتقوية موقف أنقرة مع الطرفين. بدا أن هذين العاملين لم يتحققا بشكل واضح. في وقت تبدو فيه العلاقات التركية الروسية مستقرة وقوية بالفعل، فإن العلاقة مع الغرب ليست كذلك. كما أن سوء العلاقة مع الغرب دفع تركيا إلى زيادة اعتمادها على روسيا في الكثير من المجالات الحيوية وهو ما جعلها أكثر عُرضة للضغط الروسي. يُمكن ملاحظة ذلك بوضوح في سوريا حيث إن توتر العلاقات بين أنقرة وواشنطن بسبب علاقة الأخيرة بوحدات حماية الشعب الكردية دفع تركيا منذ منتصف العقد الماضي إلى رفع رهاناتها على الشراكة مع روسيا لتعزيز مصالحها في سوريا، لكنّه فرض عليها في المقابل تبني سياسات لم تكن تُحبّذها مثل الانفتاح على الحوار مع النظام السوري.
علاوة على ذلك، عمقت الشراكة التركية الروسية المتزايدة من مأزق علاقات تركيا مع الغرب وخصوصاً الولايات المتحدة. كانت واشنطن ستبقى متسامحة مع هذه الشراكة لولا أنها لم تصل إلى مجالات حساسة مثل التعاون العسكري وشراء تركيا منظومة إس أربعمئة الروسية. في الواقع، وجدت أنقرة نفسها مُجبرة على تطوير الشراكة مع موسكو إلى مجالات دفاعية، لأن واشنطن رفضت مشاركتها تكنولوجيا منظومة باتريوت الصاروخية. مع ذلك كان ثمن شراء منظومة إس أربعمئة على تركيا كبيراً من حيث إخراجها من مشروع إنتاج مقاتلات إف خمسة وثلاثين مع الولايات المتحدة وفرض عقوبات على صناعاتها الدفاعية. لعل ذلك ما يُفسر كيف أن تركيا تسعى الآن لشراء مقاتلات إف ستة عشر من واشنطن وتحديث أسطولها الجوي. مع ذلك، فإنه حتى لو قررت الولايات المتحدة منح تركيا ما تُريده وحتى لو وافق الأوروبيون على تحديث اتفاقية الاتحاد الجمركي وتحرير التأشيرة للمواطنين الأتراك، فإن الشراكة مع روسيا ستبقى حيوية لأنقرة ومن غير المرجح أن تتخلى عنها.
في تجارة الطاقة على سبيل المثال، فإنها ستبقى حيوية لتركيا وطموحاتها لتعزيز أمن الطاقة لديها والتحول إلى مركز عالمي لعبور الطاقة. مع إتمام مشاريع ضخمة في هذا المجال مثل إنشاء محطة أقويو النووية لتوليد الطاقة الكهربائية في تركيا، والدور الكبير الذي حظيت به تركيا في تجارة الطاقة العالمية خصوصاً بين روسيا والاتحاد الأوروبي. يعمل البلدان أيضاً على مشروع ضخم آخر في مجال الطاقة وهو إنشاء مركز لبيع الغاز في تركيا. علاوة على ذلك، فإنه بالنظر إلى أن تركيا لا تزال تعتمد بشكل أساسي على استيراد الغاز من روسيا، فضلاً عن الخدمات التي تُقدمها موسكو لأنقرة مثل تأجيل مدفوعات الغاز لتخفيف الأعباء المالية على الخزانة التركية، فإن أردوغان حريص بشكل أساسي على عدم تضرر علاقات الطاقة مع روسيا.
في غضون ذلك، ستبقى تركيا تنظر إلى شراكتها مع روسيا في جنوب القوقاز وسوريا لتحقيق مصالحها الجيوسياسية. بالنظر إلى أن دور الغرب في هذه المناطق محدود للغاية، فإن تحسينا محتملاً للعلاقات بين تركيا والغرب لن يعود بالفوائد الكبيرة على مصالح تركيا في هذه المناطق في حال أضرت بشراكتها مع موسكو. كما أن الثقة في الشراكة التركية الروسية تبدو أكثر متانة مقارنة بما هو الحال عليه في العلاقات بين تركيا والغرب. وحتى لو افترضنا أن مرحلة جديدة في العلاقات بين تركيا والغرب ستحصل، فإنها لن تؤدي بطبيعة الحال إلى ترميم عامل الثقة بين أنقرة والغرب بشكل كامل. ستبقى القضايا الخلافية الرئيسية بين الطرفين قائمة مثل العلاقات الأميركية بوحدات حماية الشعب الكردية والتوترات التركية اليونانية والقضية القبرصية المزمنة. وفق هذا المنظور، فإن الفوائد المحتملة التي يُمكن أن تجنيها تركيا من وراء تحسين علاقاتها مع الغرب ستبقى محدودة في أطر ضيقة مثل الاقتصاد والتجارة وجزئياً التعاون الدفاعي، لكنها لن تؤدي إلى إعادة تشكيل العلاقات من منظور جيوسياسي أوسع.
تسعى تركيا بشكل أساسي من وراء تحسين علاقاتها بالغرب إلى جني المنافع الاقتصادية أولاً وإلى إحداث توازن في علاقاتها بين موسكو والغرب بما يُساعد من تقليل اعتمادها بشكل جزئي على روسيا في تأمين بعض مصالحها الحيوية. لهذا السبب، من غير الواقعي الافتراض بأن مساعي تركيا لتحسين علاقاتها مع الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة تعكس رغبة لديها بإنهاء شراكتها مع روسيا. على وجه الخصوص لا تزال هذه الشراكة مُهمة لتعزيز نهج تركيا المحايد في الحرب الروسية الأوكرانية ولعب دور الوسيط بين الطرفين وتعزيز مكانتها الجيوسياسية لكل من روسيا والغرب. وفي سوريا أيضاً، أضحت هذه الشراكة إحدى الوسائل التركية للتقليل من تأثير العلاقات بين واشنطن ووحدات حماية الشعب الكردية على مصالح تركيا الأمنية.
————————————-
العلاقات التركية الروسية بعد قمة فيلنيوس؟/ سمير صالحة
معادلة “اهدأ وتماسك أعصابك، ستسوى الأمور” التي يرددها مغني البوب الفرنسي نهير، صعبة التطبيق على الحالة النفسية للرئيس الروسي فلاديمير بوتين بعد الآن. خصوصا أن نظيره الأميركي جو بايدن يقول له إنه خسر الحرب في أوكرانيا قبل أن تبدأ.
هدد وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف باتخاذ إجراءات استباقية ردا على احتمال انضمام السويد إلى حلف شمال الأطلسي، وقال “إن المواجهة المسلحة في أوكرانيا ستستمر إلى أن يتخلى الغرب عن خططه للسيطرة على موسكو وهزيمتها”. ما الذي قاد لافروف لإطلاق مثل هذه التصريحات النارية وما هي حصة تركيا فيها؟
تتفهم موسكو “القرار التركي بالنظر إلى متطلبات عضويتها في الحلف” كما قال المتحدث باسم الكرملين بيسكوف تعليقاً على المفاجأة التركية. وهو قد يكون محقا عندما يردد “لا أحد في أوروبا يريد رؤية تركيا في الاتحاد الأوروبي. وهنا يجب ألا يضع شركاؤنا الأتراك نظارات وردية أيضاً”. لكن التصعيد الروسي الذي يعكس حالة الانفعال والقلق حمله رئيس لجنة الدفاع والأمن في مجلس الاتحاد الروسي فيكتور بونداريف، بقوله، إن تركيا “تتحول إلى دولة غير صديقة بعد اتخاذها سلسلة من القرارات الاستفزازية.. مثل هذا السلوك لا يمكن وصفه بأي شيء سوى طعنة في الظهر”.
قدمت موسكو أكثر من خدمة للقيادات التركية في أصعب الظروف التي عاشتها وتعيشها تركيا. رد الجميل التركي لم يتأخر في أكثر من مكان ومجال. توج المسار الجديد في العلاقات برفض أردوغان الانضمام إلى العقوبات الغربية المفروضة على روسيا بسبب غزو أوكرانيا. والذي قابله علاقات سياحية وتجارية وصلت إلى 26 مليار دولار في العام المنصرم، وتعهدات روسية بدعم تركيا في الوصول إلى ما تريده في ملفات الطاقة الإقليمية، وتسريع إنجاز بناء محطة الطاقة النووية في مرسين. كما أنها وافقت على إرجاء تسديد تركيا لديونها لها بقيمة 4 مليارات دولار من فاتورة استيراد الغاز.
تمكن الرئيس رجب طيب أردوغان خلال أعمال قمة حلف الأطلسي الأخيرة في ليتوانيا، من تذكير القيادات والعواصم الغربية مرة أخرى بالموقع والدور التركي في لعبة التوازنات الإقليمية والدولية. لكن موسكو ترى في ذلك محاولات مقايضة على حسابها لذلك هي غاضبة ولأكثر من سبب يتقدمه:
– سماح القيادات التركية لمجموعة من ضباط كتيبة «آزوف» القومية الأوكرانية الذين تستضيفهم تركيا في إطار عملية تبادل أسرى روسية أوكرانية، بالعودة إلى بلدهم مع الرئيس زيلينسكي الذي زار أنقرة الأسبوع المنصرم.
– حديث الرئيس التركي عن استعداد بلاده لدعم عضوية أوكرانيا في الناتو عندما يحين الوقت.
– إعلان أردوغان أن بلاده متمسكة بخياراتها الغربية سواء تحت مظلة حلف الأطلسي أو في مسألة الالتحاق بعضوية الاتحاد الأوروبي وهو ما يبدد حلم روسيا أن تركيا بدأت تتوجه شرقا وتقترب أكثر من البريكس الروسي الصيني الإيراني.
– قبول أنقرة لتليين مواقفها في موضوع عضوية السويد الأطلسية والإعلان عن قرار نقل الموضوع إلى البرلمان التركي في دورته الجديدة بعد شهرين.
هي من المرّات النادرة التي تُصدر موسكو موقفاً ينتقد بشدّة سلوك أنقرة بعد مصالحة وتطبيع وتنسيق بدأ قبل 8 سنوات. فبعد ساعات على تصريحات الناطق باسم الكرملين كان الوزير لافروف ونظيره التركي هاكان فيدان يناقشان اتفاق الحبوب، الذي لم توافق موسكو على تمديده حتى الآن، من دون الحصول على ضمانات بتسهيل صادراتها هي أيضا. ثم جاء الفيتو الروسي في مجلس الأمن في مواجهة الرغبة الغربية بمواصلة عمليات إدخال المساعدات إلى سوريا بالطريقة المعتمدة. والإعلان عن عدم وجود أي تنسيق روسي تركي حول زيارة مرتقبة لبوتين لأنقرة في الشهر المقبل على عكس ما يقال في تركيا. وهو ما يعني أن الكرملين قد يعرقل رغبة الأتراك في أن تكون أنقرة مكاناً لحوار دبلوماسي جديد بين موسكو وكييف، على غرار ما كان يجري في الأشهر التي تلت الهجوم الروسي على أوكرانيا.
كان رئيس جهاز الاستخبارت التركي الحالي إبراهيم كالين يتحدث قبل أشهر عن الدول الغربية التي “تمارس ضغوطا لا تصدق علينا، يأتون ويطالبون بفرض عقوبات، ويسألون لماذا نتعاون مع روسيا، واحتفلنا بمراسم تسليم أول شحنة وقود إلى محطة أكويو للطاقة النووية، لكننا لم نسمع أيا منهم يسألنا لماذا تسير العلاقات التركية الروسية على هذا النحو”. أما اليوم فأنقرة وكما يبدو تستعد لإغضاب موسكو أكثر في المرحلة القادمة بسبب جملة من الملفات الأساسية التي تقلق الأخيرة: الموافقة على انضمام السويد إلى الناتو، وبالتالي منح واشنطن ما تريد لناحية عضوية السويد في الأطلسي ولاحقا عضوية أوكرانيا وهو ما يعني هزيمة روسيا استراتيجيا في الحرب الأوكرانية حتى ولو كانت تنتصر عسكريا على الجبهات. إلى جانب احتمال التراجع عن خطوة تطبيع العلاقات مع دمشق بعد محادثات أردوغان – بايدن حول موضوع شرق الفرات. فهل تذهب الأمور بالنسبة لتركيا في اتجاه استكمال حلقات المصالحة الإقليمية، أم تذهب في اتجاه التصعيد وإشعال جبهات الشمال السوري مجدّداً على حساب روسيا والنظام وإيران مما يعني توتر العلاقات معهما من جديد؟
لم تتخذ قيادات الناتو قرار دعوة أوكرانيا للحلف لأن موسكو سترى فيه قمّة الاستفزاز. لكنها حققت الخطوة الاستراتيجية التي لا تقل قيمة عنها وهي إقناع تركيا بالتخلي عن معارضتها لانضمام السويد إلى الحلف. الرئيس الأميركي بايدن يريد أكثر من ذلك. أن تكون القمة الأطلسية فرصة تقود إلى تحول استراتيجي في مسار الحرب الروسية ضد أوكرانيا. ويريدها أيضا أن تكون وسيلة لتصفية الحسابات مع موسكو في سوريا والبحر الأسود وجنوب القوقاز. القادر على فعل ذلك هو الموقع والدور التركي وهذا ما يقلق الرئيس الروسي أكثر من غيره. فلِمَ لا تكون المقايضة التركية الأميركية تتم في صفقة أف – 16 وموضوع قسد في شرق سوريا؟
قد يترك الرئيس التركي نظيره الروسي بوتين أمام معضلة صعبة ومعقدة، هدفها عدم إطالة الحرب في أوكرانيا أكثر من ذلك ويلزمه مجددا بالتوجه نحو طاولة الحل السياسي إذا ما كان يريد موازنة العروض الأميركية المقدمة لأردوغان. موسكو لا تريد منح أنقرة فرصة من هذا النوع حتى ولو لم يحسم الوضع الميداني لصالحها. هي لا تريد أن تجلس أمام طاولة معادلة لا غالب ولا مغلوب، ثم تتحمل لاحقا أعباء وارتدادات الحرب السياسية والاقتصادية في الداخل الروسي وفي الخارج.
الرد الروسي على أية تفاهمات تركية أميركية تظهر إلى العلن على حساب موسكو، قد لا يتأخر وهو سيكون أبعد وأهم من إلغاء بوتين لزيارته التي يتحدث عنها الأتراك. الرد سيكون أولا باتجاه تغيير أرقام دراسة لمصرف “توتشكا” الروسي تظهر أن تركيا شغلت في النصف الأول من عام 2023 المركز الثاني في توريد البضائع إلى روسيا، متجاوزة بيلاروسيا بنسبة 13٪ من جميع البضائع المستوردة من الخارج. والحؤول دون لعب أنقرة للورقة الروسية في المقايضات مع الغرب. لكن التحرك الروسي الحقيقي قد يكون في مناطق تداخل نفوذ استراتيجي أكبر وأهم في جنوب القوقاز وشمال سوريا.
تجنب الرئيس التركي “الاحتكاك” بروسيا خلال مؤتمره الصحفي في أعقاب القمة الأطلسية. تجاهل أسئلة “استفزازية” كثيرة وحاول قدر المستطاع اختصار واختزال الردود حول العلاقات التركية الأوكرانية وسياسة روسيا في القوقاز. لكن مشكلة أردوغان تبقى في استحالة المناورة في مساحة تضيق جغرافيا واستراتيجيا يوما بعد يوم لناحية مستقبل العلاقات التركية مع الغرب وروسيا. كلما تعمقت الخلافات الغربية الروسية تراجعت حظوظ أنقرة في اللعب على حبال المناورة بين الشرق والغرب وكما فعلت لعقود. قرار دعم عضوية السويد والتفاهم مع واشنطن من جديد وتذكير القيادات الأوروبية بالعضوية التركية في الاتحاد تؤكد ذلك.
تلفزيون سوريا
————————————-
تركيا تتوازن مجدداً.. كيف ينعكس ذلك على سوريا؟/ إياد الجعفري
قد يكون توصيف المسؤول الروسي رفيع المستوى، لإجراءات تركيا الأخيرة المتضامنة مع أوكرانيا، بأنها “طعنة في الظهر”، مبالغ فيه، على غرار معظم تصريحات المسؤولين الروس، التي لا تخلو من “دراماتيكية” في توصيف أحداث ومواقف سياسية تشكّل تحدياً للمصالح الروسية.
لكن في الوقت نفسه، يمكن اعتبار إحدى الخطوات التركية الثلاث الأخيرة، المعدّة للتقارب مع الغرب، أشبه بـ “صفعة”، على وجه الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين. ومن بين الخطوات التركية الثلاث: السماح بإعادة قادة كتيبة “آزوف” إلى أوكرانيا برفقة الرئيس فلوديمير زيلينسكي، وتأييد انضمام أوكرانيا لحلف شمال الأطلسي (الناتو)، والقبول المبدئي بانضمام السويد للحلف ذاته.. تبدو الخطوة الأخيرة تحديداً، هي الأكثر إيلاماً لـ روسيا، والأكثر مردوديةً للمصالح التركية.
وفيما يُستبعد أن ينجم عن الخطوة الأولى (إعادة قادة كتيبة آزوف)، أي تغييرات نوعية في ميدان المعركة بأوكرانيا، كما أنه لا قيمة حقيقية للخطوة الثانية (دعم تركيا لانضمام أوكرانيا للناتو) في ظل رفض الولايات المتحدة ومعظم الدول الأوروبية لذلك، كي لا تتحول الحرب في أوكرانيا، إلى حرب مباشرة للناتو مع روسيا.. تأتي الخطوة الثالثة (التأييد المبدئي لانضمام السويد إلى الناتو)، بوصفها تعزيزاً لقوة الحلف، وانتكاسة لهدف روسيا الاستراتيجي، من حربها ضد أوكرانيا، وهو الحد من توسع “الناتو” قرب حدودها.
لكن، كيف يمكن أن يؤثر ذلك على مستقبل العلاقة التركية – الروسية؟ بطبيعة الحال، هذه ليست المرة الأولى التي تبادل فيها بوتين وأردوغان، “الصفعات”. ويمكن أن نذكر أنه في بداية الحرب الروسية على أوكرانيا، تعرضت القوات الروسية لخسائر كبيرة، من جراء استخدام كييف الفعّال لطائرات “بيرقدار” المسيّرة التُركية. قبل أن تتراجع فعاليتها في ميدان المعركة هناك، بعد أن طوّرت الدفاعات الإلكترونية والجوية الروسية قدراتها على تعطيل وإسقاط هذه المسيّرات. وفي نيسان/أبريل الفائت فقط، صوّت البرلمان التركي بالموافقة على انضمام فنلندا للناتو، الأمر الذي مثّل أكبر انتكاسة استراتيجية لمصالح روسيا، بهذا الصدد. إذ تضاعفت الحدود المشتركة بين الناتو وروسيا، نحو ثلاثة أضعاف. وازدادت القدرة العسكرية للحلف، مع انضمام واحدة من أضخم الترسانات المدفعية الأوروبية، إلى صفوفه.
وبخلاف فنلندا، عجزت السويد عن معالجة مخاوف تركيا حيال دعم حزب العمال الكردستاني، انطلاقاً من أراضيها، من خلال نشاطات التجنيد والتمويل. وراهنت ستوكهولم، على خسارة محتملة لحزب العدالة والتنمية في انتخابات أيار/مايو الفائت. وهو ما لم يحدث. فأصبحت السويد مضطرة لتقديم التنازلات المطلوبة لإرضاء الطرف التركي، الذي سيقوده أردوغان، خمس سنوات أخرى.
وما ينطبق على السويد، ينطبق على دول أوروبية أخرى، وعلى الولايات المتحدة الأميركية، أيضاً. فهذه الأطراف، راهنت، وإن بشكل غير معلن رسمياً، على خسارة أردوغان وحزبه في الانتخابات الأخيرة. وبعد فوزه بنسب تتيح له حكماً مريحاً لتركيا في السنوات التالية، أصبح لدى دول الغرب استعداد أكبر لجذب تركيا. وهو ما تلقفته القيادة التركية، التي هي بدورها، بحاجة ملحة للتقارب مع الغرب، بصورة تتيح لها تصويب وضعها التوازني بين قوى الشرق والغرب، بعد أن انزاح قليلاً بصورة أقرب لروسيا، في السنة الأخيرة تحديداً. وبصورة تسمح لها أيضاً، بالاستفادة اقتصادياً، في وقتٍ تعاني فيه من أزمة عملة عصيبة. وهو ما حصلت عليه القيادة التركية بالفعل، عبر مواقف الدول الأوروبية المنفتحة حيال تجديد مفاوضات الانضمام التركي إلى الاتحاد الأوروبي، والعمل على توسيع اتفاق التجارة الحرة بين الطرفين، وهي إشارة ستفهمها وكالات التصنيف الائتماني الدولية، بصورة إيجابية، بالنسبة للاقتصاد التركي، مما سيشجع مستثمرين دوليين على الاستثمار في تركيا مجدداً.
ما سبق لا يعني أن تركيا تنقلب على روسيا. بل هي تبتعد عنها خطوة، باتجاه الغرب، بغية إعادة التوازن، الذي تريد القيادة التركية أن يكون بوصلة سياستها الخارجية. وهو ما أوضحه الرئيس التركي الذي قال إنه سيجتمع مع بوتين في آب/أغسطس المقبل، وسيناقش معه أموراً من بينها قضية إعادة قادة “آزوف”، التي أثارت استياء الروس.
كيف سينعكس ما سبق على المشهد السوري؟ قد تكون الإجابة عصيبة نسبياً. فللمشهد السوري تعقيداته الخاصة، على صعيد العلاقة الروسية – التركية. لكن يمكن القول، إن المعادلة التي حكمت عاماً انصرم، منذ منتصف صيف 2022، حينما كان أردوغان متلهفاً إلى تحقيق إنجاز نوعي على صعيد العلاقة مع نظام الأسد، لغايات انتخابية، قد أصبحت وراءنا. فـأردوغان الآن يشعر بثقة أعلى، بعد تجاوز منعطف الانتخابات، وإعادة تصويب العلاقة مع الغرب، بحيث ما عاد بحاجة ملحة لتقديم تنازلات قاسية لصالح الأسد.
وهكذا فإن المعادلات التي حكمت العلاقة الروسية – التركية، في المشهد السوري، قبل صيف 2022، ستعود للتأثير مجدداً، في المشهد السوري. معادلات تضطر الطرفين (الروسي والتركي)، إلى البقاء في وضعية: لا تفاهمات كاملة، ولا صراع كامل. سيبقيان في المنتصف، حيث يضطر كل طرف منهما للآخر، وفق ذات توازنات القوى التي حكمت المشهد السوري منذ آخر صراع مسلح واسع النطاق بينهما (بالوكالة) في شمال غربي سوريا، في ربيع العام 2020.
تلفزيون سوريا
————————–
طيّب إردوغان بوصفه بريغوجين التركي/ حازم صاغية
ما إن تمرّد يفغيني بريغوجين في الداخل الروسيّ، حتّى ظهر يفغيني بريغوجين آخر يتمرّد في الخارج. الأخير اسمه رجب طيّب إردوغان، رئيس تركيّا الذي جُدّد انتخابه قبل أقلّ من شهرين.
وتمرّد إردوغان إنّما جاء، وفق مراقبين كثر، ضمن سياق أعرض عنوانه تردّي هيبة الرئيس الروسيّ فلاديمير بوتين الذي انكشفت محدوديّة قدرته على سحق أوكرانيا. هكذا ظهر عدد من البريغوجينات الصغار في أمكنة كثيرة من العالم ممّن راحوا يتجرّأون على سيّد الكرملين الذي انقلب بين يوم وآخر من «قويّ» إلى «ضعيف» بعد أن كانَ «داهية».
بعض الذين كانوا متحمّسين له صاروا مؤيّدين فاترين، وبعض المؤيّدين صاروا حياديّين، فيما صار بعض الحياديّين شكّاكين وأحياناً مناهضين. أمّا الذين بحثوا عن مزيد من الدلائل فوجدوها في إزاحة الجنرال إيفان بوبوف، قائد الجيش الـ58، من موقعه في أوكرانيا، عقاباً على مصارحته القيادة العسكريّة بالأحوال البائسة لحرب موسكو.
لكنّ إردوغان ذهب أبعد من الجميع، فاتّخذ مواقف بالغة التجرّؤ، يبدو أنّ الروس ما زالوا مصدومين بها. وهذا ما قد يفسّر بروز صوتين، واحدهما يعكس طبع بوتين، والآخر ينطق بلسان التطبّع الذي يترجم إهاضة جناحه.
الصوت الأوّل خرج من فم فيكتور بونداريف، رئيس لجنة الدفاع والأمن في مجلس الاتّحاد الروسيّ، الذي اعتبر أنّ تركيّا «تتحوّل إلى دولة غير صديقة بعد اتخاذها سلسلة من القرارات الاستفزازيّة»، وأنّ «سلوكاً كهذا لا يمكن وصفه بأيّ شيء سوى طعنة في الظهر».
الصوت الثاني كان للناطق بلسان الكرملين، ديميتري بيسكوف، حيث إنّ موقف تركيّا «يجب ألّا يفاجئ أحداً». ذاك أنّها «بلد أطلسيّ عليه التزامات بموجب هذه العضويّة. وهذا ليس سرّاً، ونحن كنّا نعرف ذلك ولم نضع يوماً على عيوننا نظّارات ورديّة».
والحال أنّ ما فعله إردوغان في زمن قصير جدّاً كثير جدّاً. فإبّان استقباله الرئيس الأوكرانيّ فولوديمير زيلنسكي، أعلن أنّ أوكرانيا «تستحقّ» أن تنضمّ إلى الناتو، وهو موقف لم يبلغه الحلف والولايات المتّحدة نفسهما، كما أطلق سراح قادة الكتيبة الأوكرانيّة الخمسة الذين دافعوا عن مجمّع «آزوفستال» للصلب، بمدينة ماريوبول، قبل سيطرة القوّات الروسيّة عليها. هذا وكان المتّفق عليه، وفق صيغة تبادل الأسرى، إبقاءهم في تركيّا حتى نهاية الحرب.
ما لا يقلّ إيلاماً للجار الشماليّ كان موافقة إردوغان على عضويّة السويد في الناتو. ولم تكتف قمّة فيلنيوس بتكريس هذا الجديد التركيّ – السويديّ، إذ افتتحت كذلك ما وصفه إردوغان بـ «مرحلة جديدة كلّيّاً» في العلاقة مع الولايات المتّحدة. وعلى الهامش، ظهرت انفراجة تركيّة – يونانيّة أيضاً.
لقد أُشيرَ إلى عوامل شجّعت الرئيس التركيّ على سلوك طريقه هذا، في عدادها ثقته بنفسه بعد الانتخابات العامّة والمفصليّة الأخيرة، وإحاطته بثلاثيّ معروف بهواه الأوروبيّ، أي وزير المال محمد شيمشيك، ووزير الخارجيّة حاقان فيدان، ورئيس الاستخبارات إبراهيم قالين.
لكنّ أحوال بوتين الزريّة تبقى العامل الأقدر على تفسير ما جرى وما يجري. وكي نقدّر حجم الاستدارة علينا بأرشيف السنوات السبع التي تفصلنا عن المحاولة الانقلابيّة ضدّ إردوغان، حيث أطلق على الغرب الأميركيّ والأوروبيّ نعوتاً لا تستثني «الصليبيّة» و«النازيّة»، وأكّد عدم التزامه قراراتِ المحكمة الأوروبيّة لحقوق الإنسان، بل أعلن استعداده لصرف النظر عن الانضمام إلى الاتّحاد الأوروبيّ، كما لم يبقَ زعيم غربيّ، بمن فيهم جو بايدن، إلاّ أخضعه للشتائم والتشهير.
والحقّ أنّ بوتين لا يملك الكثير في وجه هذه الاندفاعة العدوانيّة. فهو لا يتحمّل خسارة تركيّا بوصفها الملاذ الآمن للأوليغارشيّين الروس المنبوذين في الغرب، كما لا يسعه أن يخسرها كقاعدة للغاز تُستخدم بديلاً عن خطّ نورد ستريم المدمّر، ومنها يتمّ التصدير إلى السوق الأوروبيّة. وهناك سوابق ثلاث، على الأقلّ، توحي بالقابليّة الروسيّة لتلقّي الصفعات التركيّة، إحداها لقاء حاقان فيدان بالقائد التتاريّ المنفيّ مصطفى كريموغلو، والذي تصرّف الكرملين حياله كأنّه حدث لم يحدث، والثانية عدم انسحاب موسكو من «مبادرة البحر الأسود لنقل الحبوب» تنفيذاً لما هدّدت به، أمّا الثالثة فتزويدها كييفَ مسيّراتٍ مقاتلة وأنظمة إطلاق صواريخ وعربات مصفّحة، وإعلان شركة بيرقدار التركيّة للمسيّرات، التي يملكها صهر إردوغان، خطّتها لبناء مصنع لإنتاج المسيّرات في أوكرانيا.
وإذ يُتوقّع، رغم هذا كلّه، أن يلبّي بوتين دعوة أردوغان لزيارة تركيّا الشهر المقبل، يُتوقّع أيضاً أن يبدأ الأخير حملته لحصد العائدات. فهناك لائحة طويلة من المطالب التي قد يُلبّى بعضها القليل فيما يُستعمل بعضها الأكبر لإقناع الرأي العام التركيّ بأنّ الرئيس لم يقدّم تنازلات مجّانيّة. وأغلب الظنّ، في هذا السياق، أن تتحسّن أوضاع تركيّا الاقتصاديّة وأن تتسلّم أنقرة طائرات «إف – 16» الأميركيّة. لكنْ يُخشى أن يتأدّى عن المصالحة تعزيز «مكافحة الإرهاب»، كوظيفة من وظائف الحلف، على حساب وظائف أخرى لا يستسيغها إردوغان.
ولسوف يكون من المشوّق، كائناً ما كان، مراقبة أحوال تركيّا، بل أحوال العالم، في ظلّ التداعي الروسيّ الذي تعصف به البريغوجينيّة من كلّ الجهات.
الشرق الأوسط
——————————
مسيرة التفاهمات الروسية التركية على الأرض السورية ومستقبلها/ منهل باريش
لا تزال الخروقات مستمرة لاتفاق وقف إطلاق النار في مناطق «خفض التصعيد» في إدلب، والمتفق عليها في مسار «أستانة» السياسي الذي ترعاه كل من روسيا وتركيا وبحضور إيراني، وكان آخرها قصف قوات النظام بلدة البارة في جبل الزاوية، ما أسفر عن مقتل شخص وإصابة ثلاثة أطفال بجراح.
إن اتفاق «خفض التصعيد» المدعم بمذكرة تفاهم بين أنقرة وموسكو، لتعزيز وقف إطلاق النار ابرمت في أيلول (سبتمبر) 2018 والتي جاءت بعد سلسلة اجتماعات لأطراف أستانة في عام 2017 تتعرض في الآونة الأخيرة لتهديد من الممكن أن يفتح بابا جديدا للصراع بين قوات النظام المنتشرة في جنوب وجنوب شرق محافظة إدلب، وبين هيئة تحرير الشام التي تسيطر على المناطق «المحررة» من المحافظة، والممتدة من جبل الزاوية جنوبا وجسر الشغور غربا حتى الحدود السورية-التركية شمالاً.
وعلى الرغم من اتفاق لاحق بين روسيا وتركيا في آذار (مارس) 2020 لوقف إطلاق النار والمعروفة باسم «اتفاقية موسكو» إلا أن خطوط التماس بين الطرفين تشهد منذ 20 حزيران (يونيو) الماضي، والذي تزامن مع انعقاد قمة «أستانة 20» تصعيداً في عمليات القصف المتبادل بين قوات النظام من جهة، و«غرفة عمليات الفتح المبين» التي تقودها هيئة «تحرير الشام» من جهة أخرى. الأمر الذي يرجعه كثيرون لمحاولة أطراف «أستانة» إبراز نقاط تحكمهم على الأرض، ومدى تأثيرهم على الاتفاق، إلا أن عمق الصراع بين الأطراف الميدانية من جهة، والإقليمية والدولية من جهة أخرى، هو ما يعكسه التصعيد الأخير، والذي يمكن ان يحول منطقة «خفض التصعيد» الرابعة في إدلب وجوارها لساحة تنافس وإبراز نقاط القوة بين كل من روسيا وتركيا، وبشكلٍ خاص التغيرات في طبيعة العلاقات بين الطرفين بعد الانتخابات التركية، بالإضافة لتأثير شراكة كل من أنقرة وموسكو في صياغة الوضع الراهن في إدلب ويضاف إليها الاستفادة من الهزة الكبيرة التي حصلت في روسيا بعد انفجار التوتر بين فاغنر والرئيس فلاديمير بوتين.
وبالعودة للاتفاقات المبرمة بين كل من تركيا وروسيا منذ اتفاق وقف إطلاق النار الذي رسمه مسار أستانة عام 2017 وما نتج عنه من تفاهمات تتعلق بتبريد خطوط القتال في المنطقة الواقعة بين سكة قطار حلب -دمشق وطريق الترانزيت بين المدينتين/M5 و«اتفاق سوتشي» أيلول (سبتمبر) 2018 وملحقاتها من مذكرات وخرائط وتقسيم المناطق إلى نقاط خفض تصعيد في أربع مناطق من درعا إلى إدلب وما بينهما في ريف دمشق وحمص، وانتشار نقاط المراقبة التركية والإيرانية في منطقة إدلب وانتهت التفاهمات العريضة لذلك المسار بعد التوافق بين الرئيسين اردوغان وبوتين بالتوقيع على اتفقا موسكو في 5 آذار (مارس) 2020 لكنها لم تنفذ وحاولت موسكو عدم استفزاز أنقرة مجددا وفرض ما جرى التوافق عليه.
وتستمر حالة الجمود في مساحات السيطرة منذ ثلاث سنوات وشهور قليلة، تستثمر موسكو خلال ذلك في المسار السياسي مع تركيا خارج مسار الأمم المتحدة العريض، وتتمثل النظرة التركية للاتفاقات بتعهدات موسكو إبعاد ما تصنفها أنقرة بتنظيمات «إرهابية» عن شريطها الحدودي، مقابل ضمان تركيا للنشاط التجاري على الطريق الدولي (M4) وإنشاء منطقة أمنية على عمق 6 كم من جانبي الطريق، بينما تبنت موسكو مؤخرًا رؤية جديدة لم تحتويها اتفاقات أستانة وسوتشي السابقة من خلال إنجاز خطوات فعلية في مسار ترعاه للتطبيع بين أنقرة ونظام الأسد، وتحقيق إجراءات فعلية كافتتاح السفارات بين دمشق وأنقرة، وربما عقد لقاء على مستوى القمة بين الرئيس التركي رجب طيب اردوغان، ورئيس النظام السوري بشار الأسد.
وفي هذا السياق، أكد سفير النظام السابق في أنقرة، نضال قبلان، لوسائل إعلام روسية أن تطبيق تركيا لشروط النظام السوري، وأبرزها خروج القوات التركية من الأراضي السورية، هي المحدد لعملية التطبيع والمصالحة بين الجانبين، مشيرًا إلى أن أي لقاء بين الأسد واردوغان لن يتم إلا بموافقة الأخير على الشروط التي وضعها النظام على طاولة مسار التطبيع الذي ترعاه روسيا، وانضمت له لاحقًا إيران، ومن ضمنها مطالبات النظام بوقف أنقرة دعمها لفصائل المعارضة السورية، وإعادة فتح المعابر الحدودية بين الطرفين.
وأكد قبلان، أن الطرح الروسي لمسار التطبيع يمكن اعتماده كـ «أساس نظري» في خريطة طريق المصالحة، نافيًا ان يكون هناك أي «خرق» مستجد في العملية، متفائلاً في التغييرات الحكومية التي أجراها اردوغان، وبشكل خاص تعيين هاكان فيدان وزيرًا للخارجية، وبدور الدبلوماسية التركية الجديدة في القرارات المستقبلية المتعلقة بالعلاقات والمصالحة بين أنقرة ونظام الأسد.
الجدير بالذكر أن روسيا تبنت في كانون الأول (ديسمبر) 2022 عملية التطبيع بين النظام السوري وتركيا، حيث ضم لقاء جمع وزراء الدفاع التركي ونظيريه الروسي والسوري لأول مرة بعد قطيعة استمرت لأكثر من عقد من الزمن، إلا أن المسار لم يحقق ما طمحت له موسكو، بسبب طريقة تعاطي الجانب التركي مع الأمر من رؤية مرحلية حكمتها الانتخابات التركية من جهة، وتراكمات في النقاط الخلافية بين الطرفين من جهة أخرى.
وبالتوازي مع ذلك، لا يمكن تهميش التغيرات في طبيعة العلاقة بين روسيا وتركيا في ملفات أخرى من العالم، وما ستعكسه هذه التغيرات على سوريا بشكل عام، وعلى منطقة خفض التصعيد في إدلب بشكل خاص، ومن أبرزها لقاء الرئيس اردوغان مع نظيره الأوكراني فولوديمير زيلينسكي في أنقرة، وتسليمه خمسة قادة من لواء أزوفستال ممن استسلموا للقوات الروسية ونقلوا إلى تركيا بعد وساطة الأخيرة، مقابل بقاءهم في إسطنبول حتى نهاية الحرب الروسية الأوكرانية، بالإضافة لما أكده اردوغان من دعمه لانضمام أوكرانيا لحلف شمال الأطلسي «الناتو» وموافقة تركيا على ضم فنلندا للحلف وموافقتها المبدئية على ضم السويد، كما أن من جملة التغيرات النظرة الروسية لتوسع نفوذ تركيا في أوروبا الشرقية والبلقان، وجاءت ردود الفعل الروسية بشكل مباشر، حيث ألغى الكرملين زيارة متوقعة للرئيس الروسي فلاديمير بوتين إلى تركيا الشهر المقبل، كما لم تخفي تصريحات المسؤولين الروس انزعاجهم من السياسة الجديدة لاردوغان، ومن هذه التصريحات ما جاء على لسان رئيس لجنة الدفاع والأمن في مجلس الاتحاد الروسي فيكتور بونداريف قوله إن تركيا «تتحول إلى دولة غير صديقة بعد اتخاذها سلسلة من القرارات الاستفزازية» وهذا ما يفتح باباً من التكهنات حول انعكاسات السياسات التركية مع روسيا في سوريا وفي إدلب بشكل خاص، بعد علاقات من الشراكة بين البلدين انطلقت عام 2016 وعلى حساب علاقات تركيا مع أوروبا وأمريكا، الأمر الذي تسعى السياسة التركية الجديدة إلى موازنته والتعامل معه بشكل براغماتي يقوم على أساس تحصيل الفائدة من كافة الأطراف.
وفي سياق منعكسات العلاقات الروسية-التركية على شمال غرب سوريا، تنكشف ملامح صراع عسكري جديد بين قوات سوريا الديمقراطية «قسد» المدعومة من وزارة الدفاع الأمريكية «البنتاغون» وقوات نظام الأسد المدعومة من روسيا، والميليشيا الإيرانية، ما يجعل السياسة الروسية في حالة من الارتباك والتشتت في طريقة تعاطيها مع أطراف الصراع في شمال غرب وشمال شرق سوريا، في الوقت الذي تشغل فيه الحرب الروسية-الأوكرانية أولى اهتمامات إدارة بوتين، ففي الميدان شهدت مناطق شمال شرق سوريا الممتدة بين التنف في الجنوب الشرقي من البادية السورية، والقامشلي في أقصى الشمال الشرقي تحشيدا عسكريا من كافة الأطراف، حيث استقدم نظام الأسد الفرقة «الرابعة» المدعومة من روسيا إلى جانب ميليشيا «اسود العشائر» التي يقودها زعيم قبيلة البكارة نواف البشير إلى بلدات خشام والطابية والحسينية شمال شرق محافظة دير الزور، كما استبدلت نقاط كانت تسيطر عليها «الفرقة الرابعة» في المنطقة ذاتها بقوات من «الفيلق الخامس» المدعوم بشكل أكبر من روسيا. وتعتبر هذه القرى خطوط تماس بين قوات النظام والميليشيات الإيرانية، وقوات التحالف الدولي وقوات «قسد» التي استقدمت المزيد من قواتها من نقاط تتمركز بها جنوب مدينة الحسكة إلى ريف دير الزور، لتستقر في منطقة المعامل ودوار المدينة الصناعية، والمحلج ومطحنة دير الزور شرق المدينة، فيما استقرت التعزيزات الأكبر قرب حقل «كونيكو» للغاز، حيث توجد القاعدة الأمريكية في سوريا.
من جانبها دفعت القوات الأمريكية صباح الأحد الفائت بأكثر من 50 آلية عسكرية من شمال محافظة الرقة ومدينة منبج إلى مناطق خطوط التماس مع قوات نظام الأسد شرق نهر الفرات في ريف دير الزور، وأفادت مصادر محلية لـ «القدس العربي» بإزالة «قسد» للألغام على طول خط الجبهة الفاصل بينها وبين قوات النظام من بلدة الطابية وحتى محيط «دوار واقع» شمال مدينة دير الزور.
وتشهد المنطقة النفطية مزيدا من التحشيد العسكري وسعت روسيا عبر شركة فاغنر إلى السيطرة على حقل العمر النفطي الواقع على شرق نهر الفرات عام 2018 ما عرضها إلى خسارة فادحة لعشرات المقاتلين الأجانب إضافة إلى آخرين من المتعاقدين السوريين.
ولا يمكن تفسير التحشيدات إلا بان تكون سببًا في رغبة الروس وقوات النظام في استعادة السيطرة على المنطقة، إلا ان انتشار قوات التحالف الدولي ضمنها من أبرز العوائق في ذلك، كما أن الخروقات المتكررة خلال الشهر الجاري لـ «بروتكول منع التصادم» بين روسيا وأمريكا، يمكن ان يحمل إشارات تنبئ عن تطورات لاحقة ستنكشف خلال الفترة المقبلة.
وفي ظل هذه التطورات الميدانية شمال شرق سوريا، والسياسة المتمثلة بطبيعة التنسيق التركي-الروسي في سوريا، تبرز عوامل من شأنها أن تكون بواعث لتغيرات مستقبلية في خريطة السيطرة والنفوذ للأطراف الفاعلة في سوريا. إلا أن انعطافة اردوغان الأخيرة تشكل التحدي الأبرز في المرحلة المقبلة وتكرس مفهوم أمننة السياسة أكثر من أي مرحلة خلت بالنسبة لطريقة إدارة أنقرة لعلاقاتها الدولية.
القدس العربي
————————————
سيدي الرئيس… لسنا محطة بنزين أو “أمازون”/ إبراهيم حميدي
ضجة كبيرة، أثيرت بعد تصريح وزير الدفاع البريطاني بن والاس، من أن المملكة المتحدة وحلفاءها ليسوا خدمة “أمازون” لتوصيل الأسلحة إلى أوكرانيا، وإنه من الحكمة أن تُظهر كييف “بعض الامتنان”.
المشكلة في هذه الكلمات وما تبعها، أنها قيلت علنا. عادة ما ترمى هذه العبارات في الغرف المغلقة لتبقى حبيسة التاريخ وخزائن الأسرار. لا تقال بين الأعداء، بل بين الحلفاء؛ حيث يعتقد كل طرف أنه “ضرورة استراتيجية” للآخر في الحسابات الجيوسياسية.
لا بأس من الإشارة إلى مثال حيّ يتجدد عبر العقود والسنوات بطرق ومستويات مختلفة: العلاقة بين دمشق وطهران. تفيد المعلومات الحارة، أن طهران قررت “معاقبة” حليفها في دمشق. توقفت عن إرسال إمدادات النفط الحيوية للمدنيين والعسكر، إلى الساحل السوري. شحنات النفط التي كانت تتدفق عبر الأزمان والحقبات بملايين الأطنان، قررت الحكومة الإيرانية وقف إرسالها. تدخل الرئيس السوري بشار الأسد لدى “المرشد” علي خامنئي. تدخل وزير الخارجية فيصل المقداد مع نظيره حسين أمير عبداللهيان. تدخل السفير السوري في طهران لدى أصحاب القرار. كانت طهران تمطر ممثلي دمشق بالوعود، لكن ناقلات النفط لا تصل إلى الموانئ السورية. الكلمات المعسولة تمطر الاجتماعات. الذهب الأسود لا يعبر البحار.
بين الأحرف والأسطر، هناك مطالب إيرانية واضحة من سوريا: السلطات الإيرانية وقفت عسكريا وسياسيا وأمنيا وماليا إلى جانب حليفها في دمشق منذ 2011. ساهمت في “إنقاذ النظام”. المطلوب الآن، أولا، أن لا تضحي دمشق بعلاقاتها مع إيران لصالح دول عربية تريد التطبيع مع دمشق، وأن لا تنحاز دمشق إلى موسكو، وأن تقدم الحكومة السورية تنازلات سيادية تعويضا عن “التضحيات” الكبيرة في سوريا.
إيران التي زار رئيسها إبراهيم رئيسي دمشق، تعرف خلفيات المبادرات العربية نحو دمشق. تعرف قناعة المسؤولين السوريين، أن سوريا مهمة استراتيجيا لإيران كما الأخيرة مهمة للأولى، ومهمة استراتيجيا لموسكو كما الأخيرة مهمة لدمشق. باختصار: مصالح متبادلة.
لكن ماذا تريد إيران؟ من المؤكد، أن طهران لم تكن مرتاحة لقرار دمشق بتوقيع اتفاق مع شركة عربية لإدارة واستثمار مطار دمشق وميناء اللاذقية. الأول والثاني، كانا بوابتين لتدفق السلاح والذخيرة إلى وكلاء إيران وتنظيماتها في سوريا ولبنان، خصوصا إذا كان الهدف الحقيقي لهذه المشاريع تقديم “بديل عربي” للنفوذ الإيراني.
عمليا، تشترط طهران- كي ترسل ناقلات النفط إلى المياه الدافئة في البحر المتوسط- اتفاقات ومذكرات تفاهم، تتضمن تنازلات سيادية طويلة الأمد، بينها معاملة الإيرانيين معاملة السوريين فيما يتعلق بالملكية والدراسة والصحة، وأن تحصل على “ميناء صغير” على الساحل السوري في البحر المتوسط، وبعض المشاريع الاستراتيجية في النفط والغاز والزراعة والصناعة، واتفاقات عسكرية تضع الجيش السوري في مرمى النفوذ الإيراني.
ما أشبه اليوم بالبارحة. بالفعل التاريخ يعيد إنتاج نفسه بطرق مختلفة. تشير وثائق سرية بين دمشق وطهران، اطلعت عليها، أنه في خضم الحرب العراقية– الإيرانية بين 1980 و1988، طلب مسؤولون إيرانيون من الرئيس السوري حافظ الأسد، الذي لم يقف ضد طهران في المواجهة، تقديم صواريخ لدعمهم في الحرب ضد العراق.
وقتذاك، اتخذ الأسد قرارا وسطيا. لم يستطع تحمل عبء تقديم صواريخه “السوفياتية” إلى طهران، واقترح أن يتم ذلك عبر الرئيس معمر القذافي، الأمر الذي يحتاج موافقة البلد المصدر، أي الاتحاد السوفياتي.
كي تضغط طهران على دمشق لإيصال الصواريخ من ليبيا أو تشيكوسلوفاكيا (قبل انقسامها مخمليا) أوقفت إيران شحنات النفط إلى سوريا التي لم يكن نفطها مكتشفا ومستثمرا وقتذاك. وجاء في محضر سري للقاء السفير السوري في طهران مع محسن رفيق دوست وزير “حرس الثورة” في 19 أكتوبر/تشرين الأول 1985: “لقد وعد السيد الرئيس (حافظ الأسد) والسيد عبدالحليم خدام (نائب الرئيس) حجة الإسلام (علي) رفسنجاني بتقديم المساعدات إلى الحرس الثوري، لكن المسؤولين لديكم لم ينفذوا وعودهم. لو كانت سوريا وليبيا تنفذان ما وعدنا به لم تكن هناك مشكلة تصدير النفط قائمة ولم تكن هناك أي صعوبة على الإطلاق”. وزاد: “الحرب (مع العراق) دخلت مرحلة الحسم. ما نفع الصواريخ إذا بقيت في المستودعات. اتفقنا مع تشيكوسلوفاكيا على شراء مئة صاروخ أرض–أرض من طريق سوريا، هل بحث السيد الرئيس حافظ الأسد هذا الموضوع المهم جدا والمصيري مع المسؤولين التشيك؟ لماذا لم يبلغنا إخواننا السوريون عن نتائج هذا الموضوع؟”.
رد السفير السوري: “ما يعد به السيد الرئيس يتحقق… علمنا أنكم طلبتم أسلحة من بلغاريا وأن بلغاريا وتشيكوسلوفاكيا أرسلتا طلبا إلى موسكو للموافقة”، فعلق وزير “حرس الثورة” بالقول: “تستطيعون الضغط على الاتحاد السوفياتي لأنه في حاجة إليكم ولا يستطيع الإستغناء عنكم وعن علاقات عمرها 20 سنة… إلا إذا كان بعض المسؤولين عندكم لا يريدون مساعدتنا ويتباطأون في تنفيذ قرارات السيد الرئيس. نحن نعرف كل شيء عن سوريا”. يختم الوزير الإيراني: “إذا أمنتم للحرس ما طلبناه، أستطيع متابعة موضوع (إرسال شحنات) النفط”.
بالفعل، التفاوض الصعب لا يخص الخصوم فقط. حافة الهاوية لا يصل إليها المتحاربون فقط. إدارة العلاقات مع الحلفاء لا تقل تعقيدا عما هي بين الأعداء. تتطلب الكثير من المقايضات والحسابات. بين الظروف والحاجات المحلية والحسابات الجيوسياسية والشعور المتبادل بين أهمية كل منهما للآخر.
دعك من البيانات. دعك من الكلمات المنمّقة. هذا ما يقال في الغرف المغلقة بين الحلفاء في سوريا وأوكرانيا… والكثير من الملفات.
المجلة
——————————–
إلى متى ستستمر الحرب الأوكرانية في وقت لم يعد المخزون العسكري الغربي متجر أمازون؟/ حسين مجدوبي
خاطب وزير الدفاع البريطاني بن ولاس الأوكرانيين في قمة منظمة شمال الحلف الأطلسي في ليتوانيا خلال بداية الأسبوع الجاري بأن «الحلف ليس متجر أمازون للحصول على الأسلحة» وذلك في إشارة إلى مطالب كييف الكثيرة دون الأخذ بعين الاعتبار انشغالات الحرب. هذا التصريح يبرز بدء تراجع المخزون العسكري للغرب، واستمرار الغرب في الإعلان عن تقديم أسلحة جديدة وكأنها الفاصل لإنهاء المواجهة لصالح أوكرانيا.
يحجم غالبية القادة العسكريين في الغرب وخاصة الولايات المتحدة الانخراط في النقاشات العسكرية حول أوكرانيا ولاسيما الذين يوجدون في التقاعد أو الاحتياط، علما أن الإعلام الأمريكي يزخر بمداخلات هؤلاء الخبراء في الحروب السابقة. ومرد هذا إلى رغبة هؤلاء عدم تقديم قراءات تتناقض والواقع الميداني للحرب وكذلك لا يريدون وضع الحلف الأطلسي في موقف حرج.
ورغم الحديث عن المساعدات العسكرية، فقد ركز الغرب على عامل رئيسي لإنهاك روسيا وهو العقوبات الاقتصادية بدل المواجهة العسكرية. في هذا الصدد، ثم الرهان على العقوبات الاقتصادية والحصار الدبلوماسي، ما سيؤدي إلى وقف الحرب بل وربما إنهاء مرحلة فلاديمير بوتين، بحكم أن الغرب يعتقد في دفع الرئيس نحو الحرب وليس مسألة قضية قومية تتعلق بمستقبل روسيا التي ترفض وجود الحلف الأطلسي على حدودها، في حالة انضمام أوكرانيا إلى هذا التكتل العسكري.
في الوقت ذاته، انعكست الحرب الدبلوماسية على الغرب بحكم تسريعها ببزوغ نجم الصين كقوة رائدة يترقب العالم ريادتها بدل الولايات المتحدة، ثم تعزيز صفوف البريكس. ويكفي تأمل هذه النتيجة: بعد الحرب الروسية-الأوكرانية دول مثل السعودية والإمارات، شريكة تاريخية للغرب، تطلب الانضمام إلى مجموعة البريكس، علما أن البريكس هي من ضمن الدعامات التي تستند عليها موسكو في الحرب ضد الغرب.
وكان الرهان الرئيسي هو ضرب الاستقرار الاقتصادي الروسي أكثر بكثير من الرهان على السلاح، وخلال الثلاثة أشهر الأولى، كانت معظم تصريحات المسؤولين الغربيين ووسائل الإعلام الكبرى تتحدث عما وصفته «الأزمة الكبرى» التي ستضرب الاقتصاد الروسي جراء العقوبات. واتخذ الغرب منذ بداية الحرب عقوبات اقتصادية كبيرة ومتسلسلة، غير أن النتيجة كانت عكسية، فقد استفادت روسيا من ارتفاع أسعار الغاز والنفط، وقامت بإجراءات ذكية لحماية عملتها الروبل، وجعلت من أسواق الصين والهند ودول أخرى أسواقا رئيسية بدل الأسواق الغربية.
وعلاقة بالحرب العسكرية، يمتلك الغرب معطيات دقيقة عن العتاد العسكري الروسي. ويكفي أن ما يستعمله الجيش الروسي في يوم ونصف يوم من القذائف في أوكرانيا يعادل ما تنتجه مصانع الصناعة العسكرية الأوروبية في شهر كامل. تنتج هذه المصانع شهريا 48 ألف قذيفة من مختلف الأحجام والقوة النارية، بينما يحدث أن الجيش الروسي يستعمل في يوم واحد ما بين 15 ألف إلى 40 ألف قذيفة ضد القوات الأوكرانية.
وكشفت هذه الحرب كيف انتقلت روسيا إلى مضاعفة صناعة السلاح مرتين ونصف مقارنة مع سنة 2021 بينما لم يضاعف الغرب الإنتاج. وهذا المعطى الذي كشف عنه الرئيس فلاديمير بوتين خلال الأيام الأخيرة، يبرز من سيعاني من الاستنزاف هل روسيا أم الغرب؟ وهنا يمكن فهم تصريحات وزير الدفاع البريطاني بأن بريطانيا ليست متجر أمازون.
لقد تجلت خطة الغرب في الحرب ضد روسيا عبر أوكرانيا في إبطاء إيقاع التقدم العسكري من خلال الرهان على تدمير أكبر نسبة من المدرعات والدبابات والمروحيات الروسية، وكان هذا في الثلاثة أشهر الأولى من الحرب. وعندما تأكد الغرب من استراتيجية موسكو وهي ضم أراضي الدونباس إلى روسيا، بدأت عملية الاستنزاف بشن هجمات ضد تمركز القوات الروسية التي تحمي هذه الأراضي. ولهذا، لا تتقدم القوات الروسية الآن نحو العمق الأوكراني بل تكتفي بالدفاع.
وتوجد مقاييس معينة لمعرفة من يعاني من الاستنزاف ومن يحقق نتائج معينة في هذه الحرب الدائرة منذ شباط/فبراير 2022 وذلك من خلال طرح الأسئلة التالية: هل استعادت أوكرانيا ما فقدته من أرض؟ هل دمرت أوكرانيا البنيات العسكرية سواء في دونباس أو روسيا؟ يكشف الواقع كيف ضمت روسيا أكثر من مئة ألف كم مربع من الأراضي الأوكرانية، وقد يكون إلى الأبد.
ويبقى المثير هو التغليط الإعلامي الذي يمارسه الغرب في هذه الحرب، إذ أصبح قادة في الغرب يعتبرون كل سلاح جديد يجري تقديمه إلى أوكرانيا هو السلاح الذي سيفصل هذه الحرب. وهكذا، جرى تضخيم أسلحة من نوع هيمارس، ثم باتريوت، ثم دبابات ليوبارد الألمانية والمقاتلات الأمريكية إف 16 التي يرتقب تسليمها وبعض أنواع الصواريخ الأخرى الفرنسية سكالب والبريطانية ستورم شادوو وأخيرا القنابل العنقودية التي تسبب في خسائر بشرية كبيرة.
توجد خسائر بشرية كبيرة في هذا الطرف وذاك وخاصة في صفوف الجيش الأوكراني بحكم التقدم العسكري الروسي، غير أن الميدان العسكري لم يسجل حتى الآن أي تقدم أوكراني لاستعادة أراضي دونباس، وتلاشى الحديث عن الهجوم الأوكراني المضاد في وقت كان يجري الترويج له عسكريا أنه المنعطف في هذه الحرب.
ويبقى التساؤل: إلى متى ستستمر هذه الحرب في وقت لم يعد المخزون العسكري الغربي متجر أمازون؟
———————————–
بوتين عبئاً على حلفائه/ جمانة فرحات
وضع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، الثلاثاء الماضي، حدّاً للتكهنات بشأن مشاركته حضورياً في قمة بريكس في جنوب أفريقيا أواخر الشهر المقبل (أغسطس/ آب)، عبر تسوية “تحفظ ماء وجه” جميع الأطراف، أي موسكو وبريتوريا تحديداً، بسبب مذكّرة التوقيف الصادرة بحقه من المحكمة الجنائية الدولية على خلفية الجرائم المرتكبة في أوكرانيا.
الأكيد أن جنوب أفريقيا، ورغم عضويتها في المحكمة الجنائية الدولية، لم تكن لتعتقل بوتين. لخّص رئيسها سيريل رامافوزا الوضع بالقول إن خطوة كهذه تعني “إعلان حرب”، مع العلم أن هذه ليست المرّة الأولى التي تجد فيها بريتوريا نفسها في هذا الموقف. ففي عام 2015، قرّر الرئيس السوداني في حينه، عمر البشير، المشاركة في قمّة الاتحاد الأفريقي في جوهانسبورغ، وهو ما تحقق له من دون أن يتعرّض للاعتقال، وأدّى ذلك إلى نقاشاتٍ عدّة داخل البلاد. وكذلك أصدرت المحكمة الجنائية الدولية بعد عامين حكماً اتهمت فيه جنوب أفريقيا بمخالفة التزاماتها تجاه المحكمة عبر تقاعسها عن اعتقال البشير، لكنها اختارت، في الوقت نفسه، عدم إحالة ملفها إلى مجلس الأمن.
وبقدر ما تقود هذه الواقعة إلى التوقّف عند أوجه شبه عديدة بين البشير وبوتين، وما إذا كان الأخير سيؤول إلى مصير الأول، ليس فقط قانونياً، بل سياسياً أيضاً، فإنها تظهر مدى الخناق الذي يضيّق على بوتين، بعدما بات سفره إلى الخارج لا يحتاج فقط إلى ترتيباتٍ لحمايته، بل أيضاً لحسابات عدّة، منها قياس مدى الضرر السياسي الذي قد يلحق بدولٍ لا تزال تقف إلى جانبه بطرق شتى.
إذاً عملياً، كان يمكن لبوتين أن يحضر قمة “بريكس”، وهو يعرف جيداً أن جنوب أفريقيا لن تلجأ إلى اعتقاله، لكنه سيكتفي بالمشاركة افتراضياً ويخسر فرصة الوجود إلى جانب زعماء الصين والبرازيل وجنوب أفريقيا والهند مقابل مراعاة حساسية موقف جنوب أفريقيا في ظل العلاقات المتنامية معها والغضب الأميركي عليها بسبب ذلك.
دقّت علاقات بريتوريا وموسكو ناقوس الخطر في واشنطن أكثر من مرّة، لكن الولايات المتحدة تبدو في الآونة الأخيرة أكثر استعجالاً لإعادة ضبط علاقتها مع جنوب أفريقيا ومحاولة إبعادها عن روسيا على الأقل بحسب ما تكشفه التسريبات في الإعلام الأميركي في الأيام الأخيرة. يدور الحديث عن تخطيط مسؤولين أميركيين، بينهم مسؤول في إدارة جو بايدن ومشرّعون، للسفر إلى جنوب أفريقيا للضغط من أجل إصلاح العلاقات معها وإعادة تقييم الروابط التي تقيمها مع موسكو، من دون أن تكون نتائج الحراك المنتظر محسومةً لأسباب عدة.
تتبّع مواقف أميركا تجاه جنوب أفريقيا يظهر كيف أنها انتقلت تدريجياً من التحذيرات إلى الاتهامات. وكان أوضحها على لسان السفير الأميركي روبين بريغيتي، في مايو/ أيار الماضي، عندما اتهم بريتوريا بتقديم دعم عسكري لروسيا ليأتيه الردّ يومها سريعاً، بعدما ندّدت جنوب أفريقيا بتصريحاته، واتهمته بتقويض الشراكة بين البلدين، قبل أن يتم استدعاؤه إلى وزارة الخارجية والاحتجاج رسمياً. مع ذلك، لا يبدو أن جنوب أفريقيا على استعدادٍ للسماح بوصول العلاقات مع الولايات المتحدة إلى الحضيض، بسبب روسيا، وهو ما يفسّر زيارة وفد من كبار المسؤولين فيها إلى واشنطن أخيراً. وبحسب ما سرّبه موقع “فورين بوليسي”، فإن ما سمعه الوفد لم يكن كلاماً معسولاً عمّا تمر به العلاقات بين البلدين، وحضرت فيه تعابير من قبيل “تهديد مصالح الأمن القومي الأميركي”.
تشير أجواء كهذه إلى أن مسار العلاقات بين البلدين في الفترة المقبلة لن يكون محسوماً، وإن كان الأكيد أنه لن يصل إلى مرحلة الانهيار المطلق. كما أن هذه الأجواء تعكس أيضاً كيف يتحوّل بوتين إلى عبء على حلفائه.
———————————
بوتين يحيي”فاغنر”ودورها الافريقي/ بسام مقداد
لم يفاجئ أحداً ظهور يفغيني بريغوجين أمس الخميس في قمة روسيا ـــ إفريقيا في بطرسبورغ. فالرجل مع أركان مرتزقته “فاغنر” سبق أن إجتمع مع بوتين في الكرملين بعد أيام من تمرده الشهير، ومنذ أيام سجل شركته الخاصة في بيلوروسيا، حسب موقع RBK الروسي في 22 الجاري. وإنتقال بريغوجين ومرتزقته إلى بيلوروسيا يثير قلق أوروبا، وخاصة بولونيا. وكان الرئيس البيلوروسي إشتكى لبوتين في 23 الجاري من أن مقاتلي “فاغنر” يطلبون منه السماح لهم القيام ب”نزهة” في الغرب. ورد وزير خارجية بولونيا في 27 الجاري على طلب “فاغنر” هذا بالتأكيد أن لدى الإتحاد الأوروبي خططاً جاهزة لعزل بيلوروسيا كلياً، في حال رأى أن مجموعة المرتزقة تشكل تهديداً، كما نقل موقع Regnum الإخباري الروسي الذي أشار إلى أن عدد هؤلاء المرتزقة في بيلوروسيا حوالي 5 آلاف مقاتل.
بعد تمرده ضد قيادة وزارة الدفاع الروسية الشهر المنصرم ومسيرته مع مرتزقته إلى موسكو، أصبح مجرد ظهور بريغوجين العلني في مكان ما حدثاً في عناوين وسائل الإعلام. وفي هذه المرة أيضاً توقفت معظم مواقع الإعلام الروسية والخدمات الروسية في الإعلام الغربي عند ظهوره في قمة “روسيا إفريقيا” في بطرسبورغ خلال الأيام الماضية.
صحيفة MK الروسية المخضرمة عنونت نصها عن المنتدى “بريغوجين يعقد لقاءات في قمة روسيا ــــ إفريقيا في سانت بطرسبورغ”. واشارت الصحيفة إلى أن بريغوجين عقد لقاءاً مع ممثل جمورية أفريقيا الوسطى، ومع مدير قناة التلفزة في الكاميرون Afrique media. المتعاقدة مع عملاق البروباغندا الروسية RT. ونقلت عن تلغرام قنال تابع لبريغوجين قولها بأنه يشاع أن نصف الوفود الإفريقية جاءت إلى المنتدى لبحث شروط التعاون مع بريغوجين. وأشارت الصحيفة إلى أن بريغوجين، وفي مقابلة مع موقع إعلام إفريقي، نفى الشائعات بأن مجموعة “فاغنر” سوف تغادر إفريقيا، وجمهورية إفريقيا بالتحديد. وأكد أن جميع التعهدات التي قطعت للدول الإفريقية التي إلتزمت “فاغنر” بالدفاع عنها سوف تنفذ بالكامل. وأشارت الصحيفة إلى أن بوتين قدم طائرة مروحية رئاسية من طراز Mi-38 هدية لرئيس زيمبابوي.
موقع الخدمة الروسية في دويتشه فيله DW نشر في 27 الجاري نصين، خص الأول بمجموعة صور من القمة وبالتساؤل ما إن كانت زيارة القادة الإفريقيين ستجعل بوتين ينسى بأنه لم يسافر إلى جمهورية إفريقيا الجنوبية بسبب مذكرة محكمة الجنايات الدولية بتوقيفه.
في النص الثاني قال الموقع بأن موسكو التي حاصرت تصدير الحبوب الأوكرانية، تحاول تقديم نفسها كصديق لإفريقيا. لكن الخروج من “صفقة الحبوب” هو “طعنة في الظهر” برأي بعض القادة الإفريقيين. ورأى أن وقف العمل بالصفقة يهدد بأزمة غذاء في القارة. ونقل عن سفير المهمات الخاصة في الخارجية الروسة أوليغ أوزيروف قوله بأن القمة ستبحث في إمكانية إنشاء ممرات لوجيستية لتصدير السماد والحبوب الروسية إلى إفريقيا.
ونقل الموقع عن مساعد الرئيس الروسي يوري اوشاكوف تأكيده حضور 49 وفداً إفريقياً. وعلى العكس من القمة الروسية الإفريقية الأولى في سوتشي العام 2019 حيث حضر 45 زعيماً إفريقياً، لم يحضر القمة الحالية سوى 17 زعيماً. وسبق للكرملين أن اشتكى قبل القمة من ضغط الغرب على الزعماء الأفارقة لكي يقاطعوا القمة.
معظم الزعماء الأفارقة قرر السكوت عن خروج روسيا من “صفقة الحبوب”، لكن البعض منهم عبر عن إستيائه من ذلك. ووصف وزير خارجية كينيا كورير سينجوي هذا الخروج بأنه “طعنة في ظهر الأمن الغذائي العالمي”. ويقول الموقع بأن العديد من الخبراء يفترض أن بوتين سوف يعلن في القمة عن إستئناف إمدادات الحبوب ليقدم نفسه “منقذاً” للصفقة.
ينقل الموقع عن المتخصص بالشؤون الإفريقية ألكسي تسيبونوف تحذيره من أن مثل هذه الخطوة من جانب روسيا لن تضمن إستقرار أسعار المواد الغذائية في السوق العالمية. وأكد أن الأسواق لا تعمل بهذه الطريقة، حيث لا يمكن عزل أوكرانيا واستبدال حبوبها بالروسية. فالصفقة نفسها، وليس حجم الحبوب المعدة للشحن، هي التي حافظت على إنخفاض مستوى الأسعار.
موقع الخدمة الروسية في “الحرة” الأميركية قال في 27 الجاري أن مدير “البيت الروسي” في جمهورية إفريقيا الوسطى دمتري سيتي نشر صورة بريغوجين مع ممثل تلك الجمهورية، وأكد بأنها التقطت على هامش القمة في بطرسبورغ. ونقل عن موقع Fontanka الروسي الذي يصدر في بطرسبورغ أن الصورة التقطت في فندق بالمدينة تملكه اسرة بريغوجين. ونقل عن بوتين وعده في كلمته بالقمة بتقديم 25ــــ 50 ألف طن من الحبوب لأفريقيا في غضون 3 ــــ 4 أشهر قادمة. وسبق أن ذكرت “المدن” نقلاً عن تاس أن روسيا بعد خروجها من “صفقة الحبوب” تبرعت بمبلغ 10 ملايين دولار، توزع بالتساوي عبر صندوق الغذاء في الأمم المتحدة على خمس دول إفريقية.
موقع istori.media الروسي المعارض الصادر في البلطيق نشر في 27 الجاري نصاً بعنوان “بوتين أعلن في قمة “روسيا ـــ إفريقيا” عن خطط توسع روسيا في القارة، وبريغوجين يعقد بحرية لقاءات مع المشاركين”. قال الموقع بأن يفغيني بريغوجين سيد “فاغنر”، وبعد التمرد المسلح، مجدداً وصل بحرية إلى بطرسبورغ، ويلتقي مع المشاركين في قمة “روسيا ــــ إفريقيا”. وصورة زعيم المرتزقة مع ممثل جمهورية إفريقيا الوسطى لم تلتقط حيث تعقد القمة، بل في فندق بريغوجين الذي حجزت كل غرفه لأيام القمة الثلاثة 26 ـــ 28 الحالي.
قال الموقع أن بوتين، وبعد خروج روسيا من “صفقة الحبوب”، أعلن في القمة عن إستعداد روسيا لتقديم 25 ـــ 50 طن من الحبوب مجاناً لأربع دول إفريقية. لكن سبق أن نشرت صحيفة Financial Times أن ثمن هذه الكمية من الحبوب سوف تدفعه قطر. وبعض محدثي الصحيفة البريطانية يتخوفون من أن تكون كمية الحبوب هذه من الحبوب الأوكرانية المسروقة.
يرى الموقع أن بوتين عرض في القمة برنامجاً واسعاً لانعطافة روسيا “نحو الجنوب”. فهي تعد لحوالي 30 مشروع طاقة في إفريقيا، وتخطط لإدخال تكنولوجيات “لا مثيل لها” إلى القارة لاستخدام الذرة في غير مجال الطاقة. كما تريد روسيا إطلاق منطقة صناعية في منطقة قناة السويس في مصر، تمهيداً لتصدير المنتجات إلى سائر بلدان القارة. كما تعد روسيا للتوسع في أفريقيا في حقل التعليم أيضاً، حيث يريد بوتين إفتتاح فروع لمؤسسات التعليم العالي هناك، وتدريب معلمي المدارس وتعزيز تعليم اللغة الروسية.
ويضيف الموقع بأن روسيا ستعمل على زيادة إلتحاق الأفارقة بالمعاهد التربوية. ويريد بوتين أيضًا إنشاء حقل معلومات واحد بين روسيا وإفريقيا ـــ فتح فروع لوسائل الإعلام الرسمية الروسية مثل وكالة تاس و RT في القارة. وكالعادة، دعا الدول الأفريقية إلى التحول إلى الروبل في المعاملات وربط المؤسسات المالية في القارة بنظام الدفع الروسي. بالإضافة إلى ذلك، يريد بوتين أن ينقل تجربة “الاندماج” إلى إفريقيا، كما فعلت روسيا مع بيلاروسيا.
يشير الموقع إلى أن الكرملين دعا جميع زعماء الدول الإفريقية لحضور القمة، لكنه لم يلب الدعوة سوى 17 منهم، و10 بلدان تمثلت برؤساء الوزراء. أما بقية البلدان فقد تمثلت بنواب رؤساء الوزراء وبوزراء وسفراء. ورفضت 5 بلدان إفريقية حضور القمة.
المدن
————————-
نهاية الحرب الأوكرانية: بين الضعف الروسي والمساعدات لكييف/ كون كوخلين
بالنظر إلى الانتكاسات العديدة التي عانت منها روسيا خلال عام ونصف العام منذ أن شنت ما يسمى “عمليتها العسكرية الخاصة” ضد أوكرانيا، يسود توقع بأن تعاني القوات الروسية من صعوبات في مواجهة هجوم أوكرانيا الصيفي المضاد والذي خُطط له منذ أمد بعيد.
وبعد فقدان روسيا لأكثر من نصف ما كانت عليه قوتها العسكرية قبل الحرب، وتعرضها لخسائر تجاوزت أكثر من 200 ألف قتيل سقطوا في ساحة المعركة، يقال إن المعنويات في صفوف القوات الروسية المتمركزة في أوكرانيا تُعاني من وهن شديد إلى الحد الذي لن تكون معه في وضع يمكنها من مقاومة التكنولوجيا العسكرية الغربية المتفوقة التي تلقتها القوات الأوكرانية من حلفائها في حلف شمال الأطلسي.
وفي واقع الأمر، تنبأ عدد من الضباط العسكريين الغربيين رفيعي المستوى، والذين زاروا المواقع الأوكرانية في غضون الأسابيع الأخيرة، بأن أوكرانيا ستلحق “هزيمة كارثية” بالغزاة الروس بسهولة.
وحقيقة الأمر أن الوحدة الروسية الوحيدة التي حققت بالفعل نجاحا يُذكر في ساحة المعركة في أوكرانيا كانت وحدة المرتزقة والمُدانين السابقين الذين يقاتلون في صفوف مجموعة فاغنر التابعة لـيفغيني بريغوجين، والتي حققت قدرا ضئيلا من النجاح في وقت سابق من الربيع، عندما زعمت أنها استولت على مدينة باخموت الشرقية، ويُنظر إلى هذه الوحدة على أنها تفضح الضعف الهيكلي الذي تعاني منه القوات الروسية النظامية.
لقد انسحبت قوة مرتزقة بريغوجين من أوكرانيا، بعد أن أقدمَ زعيم فاغنر، الشهير بسمعته السيئة بالقتال، على انقلاب فاشل ضد القيادة العسكرية الروسية، وقد شكل هذا الانسحاب ضربة أخرى موجعة للقوة العسكرية الروسية في أوكرانيا، إذ إن ذلك ترك موسكو من دون قوة عسكرية واحدة أثبتت قدرتها على هزيمة خصومها الأوكرانيين.
ومع ذلك، وعلى الرغم من كل هذه النكسات التي واجهها الروس، فإنهم لا يزالون على ما يبدو محتفظين بمواقع دفاعية واسعة كانوا قد أقاموها في مناطق تقع في شرق وجنوب أوكرانيا، وهي المناطق التي احتلوها منذ بداية الصراع، وهو الأمر الذي يثير تساؤلات جدية حول قدرة الهجوم المضاد الأوكراني على تحقيق هدفه المعلن المتمثل في تحرير كامل الأراضي التي احتلتها روسيا، بما في ذلك شبه جزيرة القرم الحيوية.
وفي نهاية الأسبوع، جاء أحدث تأكيد على أن الهجوم المضاد الأوكراني لا يسير على ما يرام بما يناقض التوقعات السابقة، وذلك عندما اعترف مستشار الأمن القومي الأميركي جيك سوليفان بأن المعركة لا تزال “شاقة” بالنسبة للأوكرانيين.
وقد قال سوليفان في مقابلة أجراها معه جورج ستيفانوبولوس مذيع برنامج “هذا الأسبوع” على قناة “ABC”: “قلنا قبل أن يبدأ هذا الهجوم المضاد بأنه سيكون صعبا، وفي حقيقة الأمر كان صعبا بالفعل”. هذه هي حال الحرب، ولكن الأوكرانيين يواصلون التقدم إلى الأمام.
وأضاف قائلا: “نحن مستمرون في تزويدهم بالأسلحة والقدرات الضرورية التي تُمكنهم من القيام بهجومهم المضاد، وسيواصلون محاولة استعادة الأراضي التي احتلتها روسيا على نحو غير قانوني”.
وانتقد سوليفان أيضا المعارضة الجمهورية المتزايدة لإدارة بايدن وبخاصة فيما يتعلق بتقديم الإدارة لـ”شيك على بياض” من أجل دعم أوكرانيا.
وكان حاكم فلوريدا، رون ديسانتيس، المرشح لبطاقة الحزب الجمهوري في انتخابات الرئاسة القادمة، قد صرح الأسبوعَ الماضي: “إنني أعتقد أن لديكم الآن شيكا مفتوحا على بياض، دون أن يكون لديكم هدف واضح للنصر، وهذا ضرب من استمرار الحرب وإطالة أمدها”. وقد رفض سوليفان هذه الانتقادات، مؤكدا أن “الشعب الأميركي صمد هناك ودَعَمَ الشعب الأوكراني”.
ورغم ذلك، فإن أحد الأسباب الرئيسة لتعثر الهجوم الأوكراني هو الافتقار إلى الأسلحة، ولا سيما الطائرات الحربية المتطورة كمقاتلات “أف 16” الأميركية؛ إذ أكد الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلنسكي على الدوام أن الافتقار إلى الطائرات الحربية يُعيق قدرة قواته على التقدم في عمق الأراضي التي تسيطر عليها روسيا. كما حذر زيلنسكي في يونيو/حزيران الماضي من أنه من دون غطاء جوي فعال ضد الروس، “سيموت عدد كبير من الجنود”.
وعلى الرغم من وعد الولايات المتحدة وحلفائها بتزويد أوكرانيا بطائرات ” اف 16″، فمن غير المرجح أن تصل الطائرات قبل نهاية العام، وهو الوقت الذي قد يكون الصراع فيه قد انتهى بالفعل.
وقد تبنت القوات الأوكرانية، مدفوعة برغبتها في تقليص الخسائر في الأرواح الأوكرانية ومخاوفها من نقص المعدات العسكرية، وخاصة المركبات المدرعة، نهجا حذرا، لا سيما في الجنوب حيث التضاريس أرض زراعية مفتوحة والتقدم دون حماية مناسبة يمثل تحديا كبيرا.
ووفقا للاستخبارات العسكرية الغربية، على الرغم من الانتكاسات التي منيت بها، تمكنت روسيا من بناء شبكة فعالة للغاية من الخطوط الدفاعية باستخدام فخاخ الدبابات والأسلاك الشائكة، وحقول الألغام، والمخابئ والخنادق. ووفق مسؤولين في وزارة الدفاع البريطانية، فإن هذه التحصينات الروسية من أكثر الأعمال الدفاعية شمولا على مستوى العالم.
وأدت الصعوبة التي تواجهها أوكرانيا في اختراق الخطوط الروسية إلى قيام الولايات المتحدة بتزويد كييف بالقنابل العنقودية للمساعدة في التغلب على التفوق العسكري لروسيا، ولكن استخدام القنابل العنقودية مثير للجدل بسبب تأثيرها المدمر على ساحة المعركة، ومع ذلك تعتقد الولايات المتحدة أنها ضرورية لمساعدة القوات الأوكرانية في التعامل مع الدفاعات الروسية.
يثير عدم إحراز تقدم من قبل القوات الأوكرانية قلق الرئيس زيلنسكي، لأن الفشل في تحقيق هزيمة كبيرة ضد روسيا قد يؤدي إلى انخفاض الدعم من القادة الغربيين لجهود الحرب في أوكرانيا.
في المقابل، يتوق كثير من القادة الغربيين، بمن فيهم الرئيس الأميركي جو بايدن، إلى إنهاء الحرب بسرعة ويعتقدون أنه إذا فشل الهجوم المضاد الأوكراني في إحراز تقدم ملموس، فسيصبح التوصل إلى حل تفاوضي للصراع أمرا لا مفر منه. واتخذت إدارة بايدن بالفعل خطوات نحو صفقة محتملة مع موسكو، حيث اجتمع دبلوماسيون أمريكيون سابقون رفيعو المستوى مع وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف في أبريل/نيسان لمناقشة إنهاء الحرب.
ولكن الأوكرانيين لا يزالون يأملون في أنه من خلال هزيمة الروس في ساحة المعركة، سيكونون في وضع أقوى لإملاء الشروط خلال محادثات السلام المستقبلية، سوى أنهم إذا فشلوا في تحقيق أهدافهم، فقد يجدون أنفسهم مرة أخرى تحت سيطرة المحتلين الروس.
المجلة
—————————–
أنفا بوتين والأسد الطويلان/ علي سفر
يتذكر متابعو الأخبار كيف لجأت السلطات الأوكرانية في الأيام الأولى للعدوان الروسي ضد أراضيها إلى تضخيم أعداد القتلى الروس نحو أرقام غير منطقية، أثارت حفيظة وسائل الإعلام العالمية، التي كان مراسلوها على الأرض يخبرون الجمهور بالتقدم السريع للقوات المهاجمة في غير منطقة أوكرانية!
من المفهوم أن يمارس الإعلام الحربي للدولة التي تتعرض للاعتداء مثل هذه الممارسات في ظل الواقع المضطرب لمجريات المعارك، ومن المتوقع أيضاً ألا نصدق أخباره وتقاريره حتى وإن كنا نتعاطف مع بلاده، وفي لحظة ما يصبح من الواجب نفي المبالغات الفاقعة، ومطالبة الصحافة الالتزام بالقواعد المهنية، والتي تأتي المصداقية على رأسها.
ولكن، لماذا لا نشعر بضرورة أن نطبق القواعد ذاتها في المقابل على الإعلام الحربي الروسي؟
هنا يجب أن نحيّد مشاعرنا، ونحن نفكر بالأسباب التي تجعلنا نلغي من مسارات تفكيرنا الجانب الآخر، ففي المسائل المهنية لا مجال للتعاطف أو التحامل، لكن ماذا نفعل إن كانت الصورة السائدة عن الصحفيين الروس الذين يؤدون واجبهم في المؤسسات الرسمية تميل إلى وصمهم جميعاً بالكذب والتفنن بصناعة البروباغاندا؟
شهدنا في سوريا ومنذ بداية الثورة السورية أفانين للصحافة الروسية التي جاءت لتنقل أخبار ما يجري في البداية، لكنها صارت ظهيراً إضافياً لإعلام النظام والممانعة، وفي مرحلة لاحقة بدأت مع التدخل العسكري الروسي رسمياً تطابقت الأدوات الإعلامية للجهتين حتى صارتا كتلة واحدة لا يفرق بينهما أي شيء.
وكالة سانا التابعة للنظام على سبيل المثال، باتت تنسخ أخبار وكالة سبوتنيك، وكأنها أخبارها! لا بل إنها تزيد فيها وتطنب! وعلى سبيل المثال، يمكن للقارئ أن يرى الصور المرفقة والتي تم جمعها خلال الفترة الماضية من سياق العواجل التي تبثها الوكالة للجمهور السوري، والتي تبلغه بأن الجيش الأوكراني يتكبد مئات القتلى يومياً!
هل سيقوم أحد ما من الجمهور بجمع الأعداد التي تذكرها وكالة سانا في مزاوداتها ليعرف محصلة حجم الخسائر البشرية التي تتحدث عنها لدى الأوكرانيين؟!
يمكن فعل ذلك من باب الطرافة لا أقل ولا أكثر، لكن ماذا سنفعل إذا كان الرئيس الروسي فلاديمير بوتين يقوم بالعمليات الحسابية كالجمع والطرح ليخرج بعد ذلك إلى الجمهور الروسي بأخبار ينقلها بنفسه، كما فعل قبل أيام في المؤتمر الصحفي المشترك بينه وبين عميله الرئيس البيلاروسي لوكاشينكو في سان بطرسبوغ حيث ادعى بأن الأوكرانيين فقدوا في هجومهم المضاد 26 ألف قتيل؟!
تبعاً لهذا، يمكن استدعاء صورة كوميدية للرئيس الروسي بأنف طويل، استطال مع تراكم أخباره الكاذبة حتى بات من الصعب جداً استعادة هيئته الأولى.
عميل بوتين السوري أي بشار الأسد لديه أنف طويل أيضاً تعرّف عليه السوريون قبل ثورتهم ضده، وصار مع تتالي الكوارث وصولاً إلى يومنا هذا أشد غلظة وقباحة، يكتب عنه الصحفيون السوريون والعرب دائماً.
ولعل ما يشترك به الرئيسان في الحقيقة أكبر من امتلاكهما أنف الكذب، إذ يمكن دون تردد إضافة سماكة الجلد، وقلة الحياء، حيث لا يمكن لخصلة الكذب أن تتوفر لدى أحد ما دون أن ترافقها هذه المزايا!
جاءت قصة الأنف الطويل من شخصية “بينوكيو” في القصة التي كتبها الإيطالي كارلو كولدي عام 1883، تحت نفس الاسم، وترجمت إلى أغلب اللغات الحية تقريباً، لجاذبيتها، ولتأثيرها الكبير على القراء صغاراً كانوا أم بالغين، سيما وأن الشخصية الرئيسة فيها أي اللعبة الخشبية ذات أنف غريب، فهو يطول كلما قام صاحبه بالكذب المتعمد!
وقد كتب الكثير عن هذه الحكاية وجرى نقلها مراراً إلى الدراما والسينما والمسرح، لكن حضورها الأهم جاء من خلال اعتماد النقاد على ثيمتها للتعبير عن الكذب الذي يمارسه أحد، أو جهة، أو دولة!
ومن خلال التعمق في الواقع يرصد البشر شخصيات كثيرة تسد بأنوفها الطويلة الطريق أمامها، ليكتشف هؤلاء أن حبل الكذب ليس قصيراً كما يقول المثل العربي، بل إن أنف الكذب طويل طويل!
أنموذج بوتين/ الأسد لا يتوقف عند هاتين الشخصيتين، بل هو قابل للتعميم عند جحفل الممانعين العرب والإيرانيين ومن يشبههم على المستوى العالمي، لكن السخرية منهما يجب ألا تنسينا أنهما مجرمان، يقومان بالترويج لانتصاراتهما الحربية وكأنها مجرد لعبة إلكترونية يربحان فيها النقاط والنجوم الذهبية.
لقد تسبب هذا النموذج بموت مئات الآلاف من البشر في المناطق التي حكمها أو وصلت سلطته إليها، ولهذا يكون من الواجب رؤية الشخصية الطفلية المحببة في مثل هذه الحالة بطريقة مختلفة، حتى وإن كانت تجعلنا نضحك أولاً قبل أن نتذكر مآسيها ونبكي.
—————————–
خدمات مرتزقة «فاغنر» لا تزال مطلوبة في أفريقيا وغيرها
موقع معارض للكرملين يكشف أن بريغوجين في بطرسبرغ «ويدير الأمور» منها
أفاد تقييم استخباراتي صادر عن وزارة الدفاع البريطانية بشأن التطورات في أوكرانيا، بأن الأجهزة الأمنية الروسية «دخلت فترة من الارتباك والمفاوضات»، بعد تمرد مجموعة «فاغنر» في 24 يونيو (حزيران) الماضي، وأن ثمة «ترتيبات مؤقتة» لمستقبلها بدأت تتشكل في الأيام الأخيرة.
وذكر التقييم المنشور على «تويتر»، أنه من المحتمل، بناءً على التصريحات الأخيرة للمسؤولين الروس، أن تكون الدولة مستعدة لقبول تطلعات «فاغنر» للحفاظ على وجودها الواسع في أفريقيا.
وبعد التمرد على القيادة العسكرية الروسية الذي عدّه العالم شبه انقلاب عسكري، كاد وجود مرتزقة «فاغنر» يوشك على الانتهاء. ورغم ذلك لا يزال جيش الملياردير يفغيني بريغوجين على قيد الحياة؛ فبعد أيام قليلة من التمرد، استقبل الرئيس فلاديمير بوتين «صديقه المقرب السابق» بريغوجين وقادته في الكرملين، وتحدثوا على ما يبدو بشأن مستقبل جيش المرتزقة النشط في الحرب في أوكرانيا وسوريا وأفريقيا.
وحالياً يتصرف أفراد «فاغنر»، الذين وصفهم بوتين بـ«الخونة» خلال تمرد 24 يونيو، بحصانة كأن شيئاً لم يحدث… ينتشرون الآن رسمياً في بيلاروسيا على هيئة مدربين عسكريين لدى حاكم البلاد المقرب من بوتين، ألكسندر لوكاشينكو. وفي روسيا يريد رئيس الكرملين ضمان النظام في ضوء نشوء 40 وحدة قتالية طوعية. ومن المنتظر أن يضع لها البرلمان الروسي أساساً قانونياً، وهي محاولة باءت بالفشل في الماضي، ورفضها بريغوجين دائماً.
وعرضت وسائل إعلام حكومية روسية، مشاهد مداهمات ضد شركات بريغوجين في سانت بطرسبرغ، وسلطت الضوء على مقتنيات بداخلها مثل، سبائك ذهب وحزم أموال وأوسمة من روسيا، ومن عمليات «فاغنر» في أفريقيا… وعلى مدى أيام بدا الأمر كما لو أن بريغوجين وإمبراطورية شركات «كونكورد» سيصبحان شيئاً من التاريخ قريباً، لكنه مستمر في نشاطه. وهو الذي كسب المليارات عبر إمداد الجيش بالمؤن، واستثمر باستمرار، جزءاً من الأرباح في مهامه في أفريقيا، على سبيل المثال.
وفي الأسابيع الماضية، تتبع صحافيون استقصائيون، منصة التسريبات الروسية «دوسير سنتر» التابعة لخصم بوتين، ميخائيل خودوركوفسكي، والذي يديرها من منفاه في لندن، والتي عرضت كيف تقوم طائرة بريغوجين بجولات بين أفريقيا وروسيا وبيلاروسيا.
تستند المنصة في تقاريرها إلى مخبرين خاصين بها في صفوف «فاغنر». ووفق بياناتهم، يوجد بريغوجين في سانت بطرسبرغ، «ويدير الأمور من هناك».
منح بريغوجين (62 عاماً) نفسه ومرتزقة «فاغنر» قسطاً من الراحة حتى بداية شهر أغسطس (آب) المقبل. لكن بعد التمرد مباشرة قال وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف، أيضاً إن موسكو «لن تتخلى عن مصالحها في أفريقيا». ووفق تحليلات منصة «دوسير سنتر»، فإنه من المرجح أن تتولى وزارة الدفاع الروسية السيطرة بالكامل على إدارة المصالح في سوريا، بينما سيواصل بريغوجين إدارة أعمال الكرملين في أفريقيا.
ووفقاً للمنصة، فإن «الوجود العسكري في الدول الأفريقية، يظل في المصلحة الجيوسياسية للكرملين». وأشارت في أحد تحليلاتها إلى أن بريغوجين يمكنه بذلك في النهاية، تصوير نفسه «بوصفه المنتصر الذي لم ينقذ حياته فحسب، بل أيضاً جوهر جيشه من المرتزقة»، وأضافت المنصة: «علامة (فاغنر) التي أسسها ستستمر في الوقت الحالي».
وتتسع إمبراطورية بريغوجين بشكل خاص في القارة الأفريقية: ليبيا ومالي وجمهورية أفريقيا الوسطى وموزمبيق ومدغشقر والسودان من بين البلدان التي زودتها «فاغنر» بمرتزقة أو خبراء نشر معلومات مضللة على سبيل المثال، وذلك مقابل الحصول على مواد خام، بما في ذلك الذهب والألماس. ويُرجح أيضاً أن روسيا استخدمت هذا لملء خزائنها الحربية.
وتعتمد جمهورية أفريقيا الوسطى ومالي على «فاغنر» بشكل خاص، حيث يُرجح انتشار أكثر من ألف فرد من المرتزقة هناك. وتراهن الحكومتان في الدولتين على الروس، حتى لو كان ذلك يعني الانفصال عن شركاء غربيين أو حتى الأمم المتحدة. ويوجد في عاصمة أفريقيا الوسطى، بانجي، نصب تذكاري للمرتزقة الذين اتُهموا مراراً بارتكاب جرائم حرب.
ويعد استمرار هذا الوضع أمراً حيوياً بالنسبة لهذه الحكومات التي لا تهتم بتفاصيل الأمور في هذا الإطار. فقد قال مستشار رئاسي لجمهورية أفريقيا الوسطى في تصريحات لصحيفة «نيويورك تايمز»: «لقد أعطتنا روسيا (فاغنر)، والباقي ليس من شأننا». كما ذكر ممثل رفيع المستوى لـ«فاغنر» في أفريقيا الوسطى في بيان، «أن دعمه لهذا البلد لن ينتهي».
ويقول الخبير في شؤون غرب أفريقيا لدى شركة الاستشارات الأمنية «فيريسك مابلكروفت»، مجاهد دورماز: «مع خفوت الفترة المضطربة عبر المحادثات بين بوتين وبريغوجين، من المرجح أن تستمر عمليات (فاغنر) في أفريقيا من دون تغييرات كبيرة… حتى في حالة حل (فاغنر)، وهو أمر غير مرجح، ستكون روسيا قادرة على تقديم شركات عسكرية خاصة بديلة لعملائها من الدول».
ويرى دورماز، أن الحكومات خاطرت بأن تصبح شديدة الاعتماد على المرتزقة، حيث إن «الصراع على السلطة» في موسكو قد تكون له تأثيرات أيضاً على الدعم الاستراتيجي لروسيا في أفريقيا، وقال: «سيؤدي التمرد أيضاً إلى تقويض صورة بوتين كرجل قوي كاريزمي، التي روجتها روسيا بقوة خلال انخراطها في القارة».
وأثار تمرد بريغوجين ردود فعل مباشرة في سوريا، حيث قال نشطاء في «المرصد السوري لحقوق الإنسان»، إنه جرى تحذير قوات «فاغنر» في سوريا من أن «أنشتطها هناك ستتبعها غارات جوية للجيش السوري والروسي». وأوضح النشطاء أنه جرى إعطاء المرتزقة خيار الانضمام إلى القوات الروسية أو مغادرة البلاد.
وقال المحلل السياسي مهند حاج علي من مركز «كارنيغي» للشرق الأوسط في تصريحات لوكالة الأنباء الألمانية إن دور مرتزقة «فاغنر» في سوريا «محدود إلى حد ما… قوتهم فيها تكمن بالدرجة الأولى، في القرب المفترض من الدولة الروسية، لكن انفصالهم عنها سيؤثر بالتأكيد على دورهم».
الشرق الأوسط
————————–
رغم الانتهاكات.. لماذا لا يصنف الغرب مجموعة “فاغنر” كـ”منظمة إرهابية”؟
من إفريقيا إلى سورية إلى أوكرانيا، اتُهمت جماعة “فاغنر” المدعومة من الكرملين، بتعذيب وقتل مدنيين، ما استدعى وجود تحركات في الكونغرس الأمريكي من أجل تصنيف الجماعة كـ”منظمة إرهابية أجنبية”، ووضعها على قدم المساواة مع تنظيم “الدولة الإسلامية”.
إلا أن اتخاذ الإدارة الأمريكية مثل هذا القرار ليس بالأمر السهل، بحسب تقرير لصحيفة “فورين بوليسي”، أمس الأربعاء، لما قد ينجم عنه من تداعيات على الدبلوماسية الأمريكية، حسب مسؤولين في البلاد.
“واشنطن لا تريد هذا التصنيف”
نقلت الصحيفة عن مسؤولين في الكونغرس ومسؤولين حكوميين سابقين، إلى أن القلق من تصنيف “فاغنر” كـ”إرهابية” يتمثل بعرقلة التواصل الأمريكي مع عدد من الدول الإفريقية “غير المستقرة”.
وخص المسؤولون بالذكر مالي وجمهورية إفريقيا الوسطى، التي يمكن أن تتحول إلى “حالة فوضى” إذا لاحقت إدارة بايدن “فاغنر” بشدة.
وبحسب التقرير فإن هذه المجموعة لعبت دوراً أساسياً في غزو أوكرانيا، وانخرطت بأنشطة “غير قانونية” في إفريقيا.
بما في ذلك الأمن وتعدين الذهب والحملات السياسية والنشاطات العسكرية.
ويواجه عناصر “فاغنر” اتهامات بارتكاب “فظائع ضد المدنيين، بما في ذلك الاغتصاب والتعذيب والقتل خارج نطاق القضاء”.
وتدعي “فاغنر” أنها موجودة في إفريقيا لمحاربة “الجهاديين” والجماعات المتمردة، وبالتالي فإن واشنطن لا ترغب بتصنيفها كـ”إرهابية” خوفاً من انتشار تلك الجماعات.
وترى نائبة مدير برنامج إفريقيا في مجموعة الأزمات الدولية، بولين باكس، أن المغادرة السريعة للجماعات التي تحارب الإرهابيين، مهما كانت “وحشية”، يمكن أن يسهم بانحدار سريع في بلد يتصارع مع الجماعات المتمردة لأكثر من عقد من الزمن.
وقالت لـ “فورين بوليسي”، “لا أحد يريد أن تحاصر الجماعات الجهادية باماكو. لا الغرب ولا المنطقة”.
واعتبرت أن الجهد المبذول لتصنيف الجماعة كمنظمة إرهابية، “يعتمد إلى حد كبير على ما يحدث في أوكرانيا، وهو أقل اعتماداً على ما يحدث في إفريقيا”.
وكان مجموعة من أعضاء مجلس الشيوخ قدموا تشريعاً، في وقت سابق من هذا العام، لإجبار إدارة بايدن على تصنيف “فاغنر” كمنظمة إرهابية أجنبية.
وهو تصنيف حكومي رسمي يسعى لعزل الجماعة، ويمنع الأمريكيين من تزويدها بالدعم المالي أو المادي.
ويرى منتقدو هذه الخطوة أن تصنيف الإرهاب يمكن أن يعيق قدرة وكالات الإغاثة على الوصول البري أو الجوي إلى مناطق في بلد ما تحت سيطرة “فاغنر”.
وسبق أن وصفت وزارة الخزانة الأمريكية هذه المجموعة، التي يقودها حليف بوتين، يفغيني بريغوزين، بأنها “منظمة إجرامية عابرة للحدود” في يناير الماضي.
لكن لم يتم تصنيفها على أنها “إرهابية”، حتى اليوم.
“حرب باردة” جديدة
من جانبه، علّق كاميرون هدسون، الذي شغل منصب مدير الشؤون الإفريقية في مجلس الأمن القومي خلال إدارة جورج بوش الابن، على هذه الخطوة.
وقال إن وصف الجماعة بأنها إرهابية “سيزيد من مخاطر السمعة بدرجة أكبر على تلك البلدان التي تفكر في علاقة مع فاغنر”.
إذ إن وضع مجموعة “فاغنر” على قدم المساواة مع تنظيم “الدولة الإسلامية” و”القاعدة” من شأنه أن يعرض دولاً لإدانة قوية.
ووفق تقرير “فورين بوليسي” فإن إدارة بايدن “لديها مجموعة من خيارات العقوبات المتاحة لكبح قدرة الجماعة على العمل”.
لكن “تصنيف الإرهاب يمكن أن يكون له تداعيات واسعة النطاق على الدول الإفريقية”.
وأشار إلى أن مسؤولي الإدارة الأمريكية حذرين لتجنب تكرار حقبة “الحرب الباردة”، عندما تنافست الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي على النفوذ في القارة الإفريقية.
وقالت النائبة الديمقراطية سارة جاكوبس، في جلسة استماع لمجلس النواب الأمريكي هذا الشهر: “لا يرغب القادة الأفارقة في اتخاذ قرارات محصلتها صفر بين الغرب وروسيا بسبب بعض هذه الدروس والحساسيات العميقة بشأن السيادة والموروثات العنيفة للاستعمار”.
———————————————
==========================
تحديث 15 تموز 2023
————————
قمة الناتو أغضبت روسيا وخذلت أوكرانيا/ بسام مقداد
قمة الناتو الأخيرة في ليتوانيا، قمة الحرب الروسية على أوكرانيا، أثارت قراراتها موجة واسعة من النقاش المستمر حتى الساعة، لكن ليس في منطقتنا. مواقع الإعلام الكبرى الناطقة بالعربية غطت تفاصيل القمة. لكن هذه التغطية بقيت بعيدة عن هموم المواطن في المنطقة الغارقة في متابعة بطولات الفلسطينيين ومأساة السودانيين وانهيار دوله ومعيشته في ظل أنظمة الفساد والقتل والسجون.
الإسرائيليون المنهمكون في توسيع رقعة إحتلال الأرض الفلسطينية وقمع حركات إعتراض الفلسطينيين، غطى إعلامهم، بلا شك، أخبار قمة الناتو. لكن موقع zahav الإسرائيلي الناطق بالروسية ( من بين مواقع إسرائيلية عديدة أخرى ناطقة بالروسية)، والمتخصص بعرض نصوص المواقع الناطقة بالروسية المهمة برأيه عن الحدث المعني، ومن بين فيض ما كتب عن قمة الناتو،إختار للحديث عن القمة نص موقع The Insider الإلكتروني الروسي المعارض “… الولايات المتحدة تبحث في أن تعرض على زيلينسكي “الموديل الإسرائيلي” للتعاون من دون الإنضمام إلى الناتو”.
إستعرض The Insider البدائل التي يطرحها الغرب على أوكرانيا كبديل للإنضمام إلى الناتو. عدد الموقع بنصه في 11 الجاري ما يبحثه الأوربيون عن ما يقدمه الإنضمام إلى الإتحاد الأوروبي لأوكرانيا من إمكانيات. لكن الإنضمام إلى هذا الإتحاد قد تطول مدته أكثر من المدة التي يتطلبها الإنضمام إلى الناتو. كما أن تسريع عملية الإنضمام هذه تصطدم بعدم موافقة جميع الدول الأوروبية عليها، عدا بولونيا ودول البلطيق. أضف إلى ذلك، وبدون الولايات المتحدة، ليس لدى الإتحاد الأوروبي ما يكفي من موارد لدعم أوكرانيا في صد جيش بوتين.
البديل الآخر الذي يستعرضه الموقع عدا عضوية الإتحاد الأوروبي ــــ معاهدة رسمية للدفاع المشترك. ومثل هذه المعاهدات موجودة بين الولايات المتحدة وكل من فنلندا، كوريا الجنوبية واليابان. تنص المعاهدات على أنه في حال تعرض أحد الجانبين لعدوان دولة ثالثة، على الطرف الآخر مد يد العون له. لكن في الحالة الأوكرانية، مثل هذه المعاهدة ترفع خطر بداية حرب بين الولايات المتحدة وروسيا. ولذا لا ترغب واشنطن في عقد معاهدة دفاع مشترك مع أوكرانيا.
وسيلة التعاون الأخرى التي يشير إليها الموقع ــــ نموذج دعم الولايات المتحدة لتايوان، والمستند إلى “القانون بشأن العلاقات مع تايوان” الذي أقرته الولايات المتحدة بعد إعترافها العام 1979 بجمهورية الصين الشعبية.
يشير الموقع إلى أن الولايات المتحدة تبحث في إمكانية أن تطرح على زيلينسكي “الموديل الإسرائيلي” للتعاون من دون الإنضمام إلى الناتو. وأوكرانيا نفسها مهتمة بهذا الشكل من التعاون. ويعدد المرات والتواريخ التي صرح فيها المسؤولون ومراكز البحث الأوكرانية عن إهتمامهم بالموديل الإسرائيلي للتعاون مع الولايات المتحدة.
يقول الموقع أنه لا توجد معاهدة رسمية للدفاع بين الولايات المتحدة وإسرائيل تنص على الدعم المالي والعسكري الأميركي الكبير الذي تلقته إسرائيل منذ حرب يوم الغفران العام 1973. لكن إلتزامات الولايات المتحدة ينظمها القانون. وتتلقى إسرائيل حوالي 60% من مجموع برامج المساعدة العسكرية الأميركية للبلدان الأجنبية. وتحظى المساعدات لإسرائيل بدعم الحزبين الديموقراطي والجمهوري، ويعاد النظر كل عشر سنوات بشروطها في القانون الأميركي، مما يحميها من تقلبات سياسات الإدارات الأميركية المتوالية على السلطة. وعلى الرغم من أن المساعدات لأوكرانيا تحظى أيضاً بدعم الديموقراطيين والجمهوريين بشكل عام، إلا أن من الأفضل لو يتم تثبيت هذا التعاون قانونيا لمدة طويلة.
ينقل الموقع عن “بعض الخبراء” مقارنتهم بين حرب تأسيس إسرائيل 1948 والحرب الروسية الأوكرانية. ويرى أن ثمة بالفعل ميزات مشتركة، حيث في الحالتين صدق الجميع بإنتصار الجانب الأقوى والكثير العدد. لكن العكس هو الذي حدث في الحربين. والإتحاد العسكري مع الولايات المتحدة كان بوسعه دعم أوكرانيا قبل إنضمامها إلى الناتو والإتحاد الأوروبي، وهما بدورهما كان بوسعهما تأمين دفاع أوكرانيا، وفي الوقت عينه التصدي لأوجه القصور الملازمة للمجتمعات المفرطة في العسكرة مثل إسرائيل.
موقع الخارجية الروسية الرسمي، وفي نص مطول بالنسبة لمؤسسة دبلوماسية (حوالي 800 كلمة)، أعلن في 12 الجاري بأن نتائج قمة الناتو تبين أن المنظمة عادت نهائيا إلى ترسيمات الحرب الباردة. لكنها عادت الآن لحماية مليار من البشر من باقي البشرية على أساس أيديولوجية تقسيم العالم إلى “ديموقراطي وتسلطي”. “الغرب الجماعي” بقيادة الولايات المتحدة ليس مستعداً لتحمل تشكيل عالم متعدد الأقطاب. وينوي الدفاع عن هيمنته بكل الوسائل المتاحة، بما في ذلك الوسائل العسكرية. إن محاولات الناتو التغطية على تطلعاته وأفعاله العدوانية بميثاق الأمم المتحدة لا تصمد أمام أي نقد.
ورأت أن وثائق القمة أكدت من جديد عجز التحالف عن التأقلم مع الوضع الجيوسياسي الجديد في العالم والمتطلبات الواقعية في حقل الأمن. وإذ تضخم الولايات المتحدة التهديد الوهمي من الشرق، هي عازمة مع أتباعها على إستخدام الناتو أداة رئيسية لزعامتها في الشؤون الدولية واحتواء المراكز الأخرى الناشئة للنظام العامي متعدد الأقطاب. وهدف السياسة “البحث عن الأعداء”، مصوّب نحو روسيا.
الصحيفة الروسية الموالية المخضرمة kp قالت في عنوان نص في 12 الجاري “بما إنتهت إليه قمة الناتو: تخلوا عن أوكرانيا، سدوا فم زيلينسكي وأهانوا الصين”. تميز نص الصحيفة بلهجة متشفية لعدم تحقق هدف أوكرانيا بدعوة القمة للإنضمام إلى الحلف. قالت بأن اليوم الثاني لانعقاد القمة بدأ بتهدئة خاطر زيلينسكي الذي خيب آماله القادة الغربيون في اليوم الأول برفض دعوة أوكرانيا على الفور للإنضمام إلى الحلف.
تقول الصحيفة أن زيلينسكي، وبابتسامة متصنعة، صرح في مؤتمر صحافي مشترك مع الأمين العام للحلف ينس ستولتنبرغ بأنه مرتاح لنتائج القمة، “بالرغم من كل شيء”. وكان بالأمس نعَت بالعبثي ميل أعضاء الحلف فرض شروط معينة على أوكرانيا للإنضمام إليه من دون تعيين مواعيد محددة. أما ستولتنبرغ فقد كرر”كلمة بكلمة” ما جاء في بيان القمة من أن قبول اوكرانيا في الناتو لا يمكن أن يطرح للبحث إلا بعد إنتهاء الحرب التي يجب أن تنتصر فيها اوكرانيا.
وترى الصحيفة أنه لجعل الطعم مقبولاً، وافق أعضاء مجموعة G7 على هامش القمة على مبادئ عامة لتقديم ضمانات لأمن أوكرانيا. وهي تتضمن إمدادات تقنيات عسكرية حديثة على الأرض وفي الجو والبحر، وكذلك تدريب القوات الأوكرانية وتبادل المعلومات الإستخبارية والمساعدة في حقل الدفاع السيبراني. وبالمقابل على كييف إجراء إصلاحات، بما في ذلك النظام القضائي والمراقبة المدنية على القوات المسلحة.
لكن الصحيفة تعتبر أن هذه الضمانات لا تؤمن لأوكرانيا الإنضمام السريع للناتو، حيث يجب أن يوافق على ذلك جميع أعضاء الحلف. ومن بين هؤلاء يوجد الآن من يشكك في صحة توجه الحلف لضم أوكرانيا. فقد توجه رئيس وزراء هنغاريا من تلفزة مدينة فيلنيوس إلى مواطنيه بالقول أنه، وبدلاً من إرسال السلاح إلى أوكرانيا، “علينا التوصل إلى السلام”.
موقع الخدمة الروسية في دويتشه فيله DW نشر في 13 الجاري نصاً بعنوان “”المعجزة لم تحصل”. كيف قيّمت أوكرانيا نتائج قمة الناتو”. قال الموقع بأن عدم تشريع الناتو أبوابه لأوكرانيا أصاب بالخيبة أوكران كثيرين. ويخشى الخبراء من أن تستمر الحرب لفترة طويلة. وفي الوقت عينه ترى السلطات الأوكرانية في الأنباء من فيلنيوس أساساً للطريق إلى الحلف.
المدن
————————-
روسيا… من راسبوتين إلى بوتين/ عبد الرحمن شلقم
روسيا الدولة الأسطورة التي رافقت وجودها الحروب الطويلة التي لا تغيب. كل ما فيها من البشر والأرض والثروات والمياه، تغطيها وتغوص في أعماقها، هزَّت التاريخ بكل ما فيه من ألوان. الحروب التي لا تغيب إلا لكي تعود بقوة ودموية وشراسة أكبر وأخطر. منذ أكثر من خمسمائة يوم تخوض روسيا حرباً مع شقيقتها في الأرض والتاريخ والعقيدة، جمهورية أوكرانيا. للحرب بدايات وليس بداية واحدة. لقد كانت أوكرانيا عبر التاريخ الطويل، يداً في جسم الإمبراطورية الروسية. روسيا الأوروبية الآسيوية التي تمتد فوق أكبر رقعة جغرافية على وجه الأرض، كانت مسكونة بالقوة والعظمة والأساطير، ولكنها كانت الغنيمة المبتغاة من كل الأقوياء في الغرب والشرق.
الحرب التي تدور اليوم بين من كانا جارين شقيقين، لهما جذور ضاربة في الماضي القديم والقريب. التحالف الغربي الداعم لأوكرانيا بالمال والسلاح في حربها مع روسيا، ليس مجرد تدافع قوى تتحرك بحسابات استراتيجية، بل هي مواجهة بين تكويني وضع التاريخ والجغرافيا، بينهما خنادق حفرها الناس والزمن قبل أن تحفرها الجيوش والساسة.
قصر الكرملين الذي شهد حشداً من الزعماء الذين قادوا روسيا، يُعِبر عن مسام تكوين القوة وعضلاتها وأنفاسها. قلاع وأبراج وقاعات ولوحات وسلالم وممرات، تنطق بالعظمة وتومض بالقوة. في الكثير من عواصم الدول، تعلن قصور السلطة عن قوة الدولة وتعالي الحاكم. لكن في قصر الكرملين، حواس تكاد تلامسك.
الأسطورة والمؤامرة والعنف والعدو، لا تغيب عن الإمبراطورية الروسية. الشخصية الغريبة العجيبة التي ظهرت في روسيا في مطلع القرن العشرين (راسبوتين). في البداية عرف بين الناس، بأنه شخصية لها قدرات روحية خارقة، تتمكن من أن تشفي المرضى، وكذلك لها القدر على التنبؤ بالمستقبل. في ذلك الوقت كان يحكم روسيا القيصر نيكولاي رومانوف الثاني. طاف راسبوتين في أماكن مختلفة بالبلاد، كان من القريبين لرجال الدين المسيحي الأرثوذكسي. مارس كل الرذائل، ولم يتردد عن فعلها أين ما حل، لكنه امتلك قوة التلون وتقديم نفسه على أنه من أهل الخوارق السحرية. كان للقيصر ابن ذكر واحد، وهو أمله الأكبر في خلافته، إذ كانت ذريته كلها من البنات. أصيب الابن الأمير ألكسي بمرض سيولة الدم، وعجز كل الأطباء عن علاجه. نُصح القيصر بإحضار راسبوتين لعلاج ابنه الأمير ألكسي. وفعلاً نجح في ذلك. صار هذا الراسبوتين العجيب القوة الحاكمة الحقيقية في القصر، حيث سيطر على أم الأمير الصغير، القيصرة ألكساندرا. اتسعت حلقة قوته، وصار المشارك في كل القرارات، إن لم يكن قد تفرد باتخاذها. جرت محاولات من طرف أقرباء القيصر وحاشيته لاغتيال راسبوتين، لكنها فشلت.
عمُّ القيصر نصح ابن أخيه القيصر نيكولاي بالهجوم على اليابان لضمها إلى إمبراطوريته. القاعدة في روسيا القيصرية كانت تقوم على أن القيصر الذي لا يتوسع في أراضي غيره، ويضمها إلى ملكه، فلن يعد من القياصرة العظماء. راسبوتين حذر القيصر من الهجوم على اليابان، لأنه سيخسر الحرب، وفعلاً ذاك ما حدث. نبوءة أخرى ساقها راسبوتين للقيصر، وهو أنه وأسرته سيقتلون جميعاً، وفعلاً ذاك ما حدث بعد الثورة البلشفية.
الأساطير، حكايات تروى وتضاف إلى تضاريس وحفر الماضي المضطرب، لكنها تحرك تراب ما كان، وتكشف ما تحته من تراكمات عاشها الناس شهداً وصاباً.
هكذا كانت روسيا الكبيرة. نابليون بونابرت، اعتقد جازماً أن ما بشرت به الثورة الفرنسية من أفكار، لن يعم الدنيا ما لم يضم روسيا إلى إمبراطوريته الأوروبية الواسعة. اندفع نابليون نحو روسيا بجيشه الجرار، وصل إلى أبواب موسكو، لكن مقاومة الروس وإخلاص الثلج ردَّاه مهزوماً. وفي النصف الأول من القرن الماضي، حرك أدولف هتلر جيشه الأقوى آنذاك في العالم نحو روسيا، وبسرعة جنونية توغل في أراضيها، حتى لاحت له أبراج الكرملين. لكنه تجرع هزيمة النهاية، واندفع الجيش السوفياتي إلى عقر حفرته في برلين. روسيا لا تخلو من راسبوتين الأسطورة، سواء لبس بدلة مدنية أو عسكرية تعلوها النجوم والأوسمة.
جوزيف ستالين الذي قاد الاتحاد السوفياتي بعد رحيل لينين، هو أسطورة أخرى، حكم البلاد بدم الخوف. قتل أقرب الناس له في الحزب والجيش، وأبعد المثقفين والعلماء إلى جليد سيبيريا، وفرض سياسة تقشف أدت إلى موت الملايين جوعاً ومرضاً، لكنه حقق نصراً على ألمانيا النازية التي دمرت روسيا.
بعد ستالين تابع العالم أسطورة من طراز آخر تربعت في الكرملين، نيكيتا خرتشوف، الفلاح المندفع الذي لا يقيده بروتوكول، ولا يعتد بضوابط الدبلوماسية، أو حتى اللباقة القيادية، لكنه خاض الحرب الباردة مع الغرب في كوبا وشرق أوروبا. ليونيد بريجنيف الزعيم الذي يحمل القوة الصلبة واللين السياسي المراوغ، كان الرجل والزعيم المضاف إلى حبات مسبحة الأساطير السياسية الروسية. راوغ وهدد وحارب، لكن حفرة أفغانستان كانت خندق الدم الذي حذر منه راسبوتين قيصره نيكولاي رومانوف الثاني. شاخ الكيان الروسي الشيوعي الكبير، الذي ساد يوماً على جمهوريات في آسيا، وألحق به دولاً في شرق أوروبا، وأقام له درعاً عسكرية ضاربة في حلف وارسو، وأدَّب من حاول النشوز من دولها. بعد رحيل ليونيد بريجينيف الأوكراني عن الكرملين، صعد العجائز من بقايا القيادات التاريخية للحزب الشيوعي، إلى أمانة الحزب، وغاصت البلاد في وحل الشيخوخة وحلّ الضعف. قادم يعد شاباً بمقاييس سن القيادة في روسيا الشيوعية غورباتشوف، جاء متحمساً لتطوير امبراطورية ورثها عن حزبيين متآمرين عجائز، فسقط وأسقطها.
الزعيم الروسي فلاديمير بوتين. دخل إلى دنيا الأسطورة والعظمة والقوة «الكرملين»، وفي رأسه حمولة زمن، وأساطير مغلفة بنواقيس الماضي بكل ما فيها من انكسارات وانتصارات. لا يقبل أن يكون غورباتشوف الثاني أو يلتسين الثاني. طباخه بريغوجين الذي رفعه إلى رتبة القائد العسكري المقاتل على حدود الوطن وفي القارات البعيدة، هل يكون هو راسبوتين الأسطورة السحرية الجديدة، أم فقاعة صنعها بوتين على عينه، لتنفجر في كف يده؟
فلاديمير بوتين، رجل الأمن والسياسة المسكون بتكوين روسيا، وتاريخ عظمتها، سيرافق السنوات المقبلة وترافقه، والعالم كله سيكتم أنفاسه ليرى ويسمع، بل ليعيش ماذا سيكتب في الصفحة الأخيرة من رحلة «راس بوتين» القرن الواحد والعشرين.
الشرق الأوسط
—————————-
=========================
تحديث 14 تموز 2023
—————————-
هل تكون تركيا الرابح من “التوازن المنضبط” بين روسيا وأوكرانيا؟/ ميتات جيليكبالا
تحديات جديدة تواجه أردوغان للاستمرار في نهجه بين بوتين وزيلينسكي
كانت “العملية الخاصة” التي أطلقتها روسيا في أوكرانيا يوم 24 فبراير/شباط 2022 دون شك أهمّ تطور غيّر أولويات العالم خلال العامين الماضيين، فقد تسبّب ما جرى منذ ذلك الحين في إجراء تغيير جذري في هيكل الأمن العالمي، وأثر بشدة على العلاقات الاقتصادية والتجارية الدولية.
وكان رد الفعل الأولي لأنقرة على “العملية الخاصة” الروسية هو الرفض القاطع للاعتراف بالضمّ غير المشروع لمناطق شرق أوكرانيا، واتخذت موقف الدفاع عن وحدة أراضي أوكرانيا بحدودها المعترف بها عام 1991، واكتسب رد الفعل هذا زخما من كونها عضوا بارزا ورئيسا في حلف شمال الأطلسي وشريكا وثيقا لروسيا في الوقت عينه.
وفعّلت أنقرة المادة 19 من اتفاقية مونترو بعد أسبوع تقريبا من رد الفعل الدبلوماسي هذا، حين أغلقت المضيق التركي أمام السفن الحربية “المتحاربة” من كلّ من روسيا وأوكرانيا. وكانت تركيا بذلك أول من ذكّر بأن هذه الحرب ستؤثر على كل الدول المطلة على البحر الأسود، فكان لهذا القرار تأثير إضافي يتمثل في منع روسيا من نشر سفن حربية إضافية في البحر الأسود، مما قد يغير ميزان القوى. كما أصدرت تركيا تحذيرا لجميع الدول الأخرى، الساحلية وغير الساحلية، بالامتناع عن إرسال سفن حربية عبر المضيق، مما يؤدي إلى إغلاق البحر الأسود فعليا.
وسوى ذلك، فإن أنقرة، التي تأثرت بشكل مباشر بالحرب بين الجارتين على البحر الأسود بجميع أبعادها، اتبعت سياسة “الحياد النشط” التي تعطي الأولوية للحل السلمي بين روسيا وأوكرانيا وتحاول تحقيق التوازن بين دوري الميسّر والوسيط. وعلى الرغم من أن هذا النهج يتوافق مع عملية صنع السياسة الخارجية المتوازنة التقليدية في تركيا عموما، إلا أنه يعاني هنا حساسية وضعفا ويقف على حد السكين.
هذا النهج، الذي يهدف إلى الحفاظ على التوازن بين البلدين المتحاربين وضمان استمرارية العلاقات معهما، يشير أيضا إلى الموقف الدقيق والصعب بين سلوك روسيا وتوقعات ومساعي الحلفاء الغربيين. وقد تتجاوز التطورات، على المدى المتوسط والطويل، علاقات تركيا الثنائية مع أوكرانيا وروسيا، لأنها ستؤثر على سياسات وأمن أنقرة في البحر الأسود على المستوى الإقليمي، وأيضا على علاقات أنقرة مع الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي على المستوى العالمي، ولا سيما فيما يخص عضوية فنلندا والسويد في الناتو.
لقد أدى الموقف الهجومي لروسيا، الذي نشأ أساسا عن نظرتها المهيمنة تجاه جميع الدول الساحلية تقريبا، إلى القضاء على إمكانية التعاون الإقليمي وسبل إرساء الأمن المشترك السلمي، وهو ما يضع حدا للرؤية الشاملة للأمن والتعاون الإقليميين التي كانت أنقرة تنميها بإصرار وصبر لسنوات عديدة في منطقة البحر الأسود، والتي كانت مستقرة نسبيا وخالية من الحروب منذ نهاية الحرب العالمية الثانية تقريبا. والآن، من الأهمية بمكان، في هذه المنطقة المتأثرة بالحرب، أن تحدد تركيا مصالحها بطريقة عملية وتحميها مع الحفاظ في الوقت نفسه على العلاقات مع الحلفاء الغربيين وتعزيزها، كما أنه من المهم بالدرجة نفسها إيجاد توازن في التعامل مع روسيا، دون عزلها، مع دعم الفاعلين المحليين في المنطقة، وهي مهمة معقدة تتطلب اتباع سياسات عقلانية وقابلة للتكيف.
قدم في كل معسكر
ويرى البعض أن نهج تركيا الحالي، التي تضع قدما في كلا المعسكرين، يقوم على التعاون مع الحلفاء الغربيين ودعم أوكرانيا في وقت واحد، ولكنّ آخرين يرون أنه موقف داعم إلى حد ما، ولكنه غير واضح المعالم.
ومع تضاؤل قوة روسيا، تجد تركيا نفسها في منعطف حرج حيث يتعين عليها إظهار قيادتها الإقليمية وإعادة التعامل مع الغرب، ففشلها في القيام بذلك قد يؤدي إلى ضياع الفرص.
وعندما تنتهي الحرب في نهاية المطاف، قد تستفيد تركيا ويُنظر إليها على أنها منتصرة. ولكن البعض يتساءل عن دوافع تركيا، معتبرا أن موقفها في واقع الأمر موقف انتهازي، يركز فقط على حماية مصالحها الوطنية. لذلك ترى أن تركيا تسير بحذر في مسار ضيق بين التزاماتها تجاه تحالفاتها وعلاقتها مع روسيا؛ فمن خلال إغلاق المضائق التركية ودعم استراتيجيات الناتو وتقديم المساعدة العسكرية لأوكرانيا مثل الطائرات القتالية دون طيار وغيرها من الموارد، فإن تركيا تنتهج سياسة موالية لأوكرانيا أو غربية، ولكن بنهج منضبط.
من ناحية أخرى، من خلال عدم انضمامها إلى العقوبات المفروضة على روسيا وزيادة حجم تجارتها مع روسيا مؤخرا إلى الضعف تقريبا، تستقطب تركيا الانتباه والنقد لعدم انضمامها إلى العقوبات، بل تعميقها علاقاتها الاقتصادية والتجارية مع روسيا بدلا من ذلك. وهكذا، ثمة من ينظر إلى أنقرة على أنها المستفيد الرئيس من الوضع الحالي، حيث استفادت من العمل كـ”منصة تجارية” بين العالم وروسيا التي تضررت من العقوبات، ويخضع دور أنقرة إلى التدقيق فيما يتعلق بموقفها ودوافعها.
وقد تشكلت سياسات أنقرة منذ بداية الحرب، وربما حتى منذ غزو القرم، من خلال إقامة علاقات اقتصادية وسياسية وعسكرية مع جميع الأطراف وتحقيق التوازن مع روسيا بإبقائها في النظام دون تهميشها. اليوم، تتمتع تركيا وروسيا بعلاقات اقتصادية متينة، حيث كان الهدف التجاري الذي حدده أردوغان وبوتين قبل الحرب هو الوصول إلى حجم تداول قدره 100 مليار دولار، ووصل هذا الهدف الذي يصعب تحقيقه في ظل الظروف العادية، إلى مستوى مختلف من العلاقات التي أقيمت مع روسيا في ظل العقوبات؛ إذ لم تنضم تركيا إلى العقوبات المفروضة على روسيا بسبب هشاشة اقتصادها واعتمادها على الطاقة، واستطاعت أنقرة أن تتغلب على هذا في الوقت الحالي بالقول إنها لن تشارك إلا في العقوبات التي وافقت عليها الأمم المتحدة.
وقد جعل دورها كوسيط بين روسيا وأوكرانيا الجهات الغربية تقبل هذا الموقف، على الأقل لفترة من الوقت. وتضاعف حجم التجارة مع روسيا، الذي بلغ 34 مليار دولار عام 2021، فوصل إلى 68 مليار دولار عام 2022. وشهدت الواردات من روسيا زيادة كبيرة، مرتفعة من 29 مليار دولار عام 2021 إلى 59 مليار دولار عام 2022. وارتفعت حصة تركيا من الصادرات الروسية من 2 إلى 7 في المئة، مما يجعل روسيا الشريك التجاري الأكبر لتركيا، متجاوزة بذلك أكبر شريكين لتركيا: الصين وألمانيا.
وكما هو متوقع، حقق النفط أعلى زيادة في واردات تركيا من روسيا، التي تواجه صعوبات في تسويق النفط الخام الذي تنتجه بعد فرض العقوبات الغربية، فمنحت حسومات خاصة لكل من الصين والهند وتركيا، مقدمة عقودا مربحة للجانبين. ووفقا للتقارير الإخبارية الواردة في وسائل الإعلام التركية، فقد اشترت تركيا نفط الأورال، الذي سبق تداوله بسعر 60.12 دولار أميركي للبرميل في وقت بدء الغزو، بسعر 37.80 دولار. وهكذا تضاعفت واردات تركيا من النفط الخام من روسيا عام 2022، وارتفعت حصة النفط الروسي في واردات تركيا، التي كانت 26.6 في المئة في أكتوبر/تشرين الأول 2021، إلى 51.7 في المئة في أكتوبر 2022.
ولا يجب أن ننسى الغاز الطبيعي الذي يلعب دورا محوريا في المعادلة التجارية بين تركيا وروسيا، إذ تتلقى أنقرة إمدادات الغاز المباشرة من روسيا عبر خطوط أنابيب مثل “توركستريم” (TurkStream) و”بلوستريم” (BlueStream) ، وقد قوبل اعتراف بوتين بتركيا كمركز محتمل لروسيا للوصول إلى الأسواق الغربية بترحيب كبير في أنقرة، التي ترى في الحسومات الخاصة والمدفوعات المؤجلة التي قدمتها موسكو شكلا من أشكال الدعم لإدارة أردوغان، ولا سيما في الفترة التي سبقت الانتخابات. وفوق ذلك، يمتد التعاون بين البلدين إلى مجال الطاقة النووية. لذلك، حين ننظر في هذه العوامل جميعها، يتضح لنا أن التعاون الاقتصادي بين البلدين يزداد يوما بعد يوم، حتى في مواجهة المخاوف الأمنية المتصورة.
عقوبات والتفاف
ومع ذلك، لا يمكن إغفال أن الدول التي تخرق العقوبات أو تساعد روسيا في الالتفاف عليها يمكن أن تعرّض نفسها هي أيضا للعقوبات، في البيئة السياسية المتوترة الحالية. ولا يستبعد في حال تصعيد الحرب أن يوسع نطاق العقوبات والضغط على الدول التي لا تشارك هي نفسها في العقوبات. وفي هذه الحالة، يبدو من المستحيل على تركيا الحفاظ على وضعها الحالي. وواقع الحال أن تركيا أوقفت بالفعل، منذ أبريل/نيسان إلى مايو/أيار 2023، وبشكل مفاجئ عبور البضائع الخاضعة للعقوبات إلى روسيا حين ضغط الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة على الحلفاء لدعم الإجراءات المفروضة لمواجهة غزو روسيا لأوكرانيا.
من ناحية أخرى، يسّرت أنقرة اتفاقات صفقة الحبوب، التي هدفت إلى الجمع بين أوكرانيا وروسيا لإجراء محادثات سلام، ومعالجة القضايا الإنسانية والتصدي للاضطرابات في سلسلة التوريد العالمية. ويؤكد هذا في واقع الحال الأهمية المستمرة لدور تركيا في المنطقة. ولا يزال الاتفاق الموقع تحت مظلة الأمم المتحدة في 22 يوليو/تموز 2022 ساري المفعول مع التمديد. وقد جرى وفق الاتفاق حتى الآن تصدير أكثر من 30 مليون طن من الحبوب، مما ساهم- في خضم أزمة تكلفة المعيشة الكبيرة- في استقرار الأسواق العالمية وتقليل التقلبات، بل وأدى إلى انخفاض أسعار الغذاء العالمية بنسبة 20 في المئة. وقد أشاد المجتمع الدولي، بما في ذلك الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، بدور تركيا في هذا الاتفاق، وبذلك استطاعت أنقرة أن تحقق فائدة سياسية من هذا الاتفاق، باعتبارها جهة فاعلة ولكن غير ملتزمة بالعقوبات، وغدت أكبر مشتر للحبوب بين “البلدان ذات الدخل بين المتوسط والعالي”. ولعب هذا الاتفاق أيضا دورا في التخفيف من الأزمة الاقتصادية في تركيا من خلال استعادة الثقة النسبية في السوق المحلية.
وفي النهاية، يتعين على أنقرة أن تحقق توازنا يأخذ في الاعتبار متطلبات إعادة تشكيل هيكل الأمن العالمي، حيث تحتل تركيا موقعا حاسما على الجانبين الشرقي والجنوبي للمحيط الأمني الأوروبي الأطلسي، وقد أصبحت واحدة من الجهات الفاعلة الرئيسة في الهندسة الأمنية الناشئة التي تشمل منطقة البحر الأسود. بالنظر إلى مشاركة تركيا في قرارات الناتو ونية الحلف تعزيز قواتها البرية والبحرية والجوية في مواجهة روسيا، تحتاج أنقرة إلى إنشاء خطاب جديد يربط بشكل فعال التزاماتها ومصالحها ومخاوفها الأمنية. وليس هذا بالأمر السهل، إذ يشكل تحديا في الحفاظ على التوازن الاقتصادي والسياسي والعسكري الذي يبقي روسيا داخل النظام الإقليمي دون تهميشها. وبالنسبة لأنقرة، يكمن المفتاح في إنشاء لغة مشتركة تضم روسيا قدر الإمكان. وقد يكون من الصعب على المدى القصير جمع الأطراف المعنية لإجراء مناقشات حول الأمن والتعاون الإقليميين، ومع ذلك، يجب على أنقرة أن تسعى جاهدة لاستمرارية علاقاتها وضمان بقائها جزءا من المعادلة الأوسع.
المجلة
——————————-
بريغوجين في موسكو… حاجة لبقاء النظام/ حسام عيتاني
لم يجد الكرملين مبررا لتوضيح خلفيات اجتماع الرئيس فلاديمير بوتين بممول شركة “فاغنر” للمرتزقة يفغيني بريغوجين. المتحدث باسم الرئاسة الروسية ديميتري بيسكوف قال أن بريغوجين و35 من قادة “فاغنر” لبوا دعوة بوتين إلى “لقاء حول مائدة” مستديرة في موسكو، وأعلن بريغوجين ولاءه الكامل ومرتزقته للرئيس الروسي.
الإعلان عن اللقاء يزيد الغموض حول ما جرى يوم الرابع والعشرين من يونيو/حزيران الماضي عندما وصلت طلائع عناصر “فاغنر” إلى نحو 200 كيلومتر من العاصمة الروسية، حيث كان من المتوقع أن يصفي بريغوجين حساباته مع وزارة الدفاع الروسية التي اتهمها قبل يوم واحد بقصف معسكرات عناصره في أوكرانيا بعدما منعت عنهم الذخائر على الرغم من إحراز المرتزقة مكاسب ميدانية عجز عنها الجيش الروسي تمثلت خصوصا في انتزاع مدينة باخموت من القوات الأوكرانية بعد ثمانية أشهر من المعارك الضارية.
وفي كلمة بثها التلفزيون الروسي في ذلك اليوم الدراماتيكي، اتهم بوتين زعيم “فاغنر” بالخيانة وبتوجيه طعنة إلى ظهر الجيش الروسي. وبعد ساعات قليلة، أعلن بريغوجين من روستوف التي تتخذها القوات المسلحة الروسية مقرا لإدارة عملياتها في أوكرانيا، انتهاء الزحف إلى موسكو مقابل إسقاط الملاحقات القضائية ضده.
والحال أن الغموض ليس أمرا جديدا على كل ما يتعلق بـ”فاغنر” منذ نشأتها والبلدان التي تنتشر فيها والأدوار التي تؤديها هناك، ولا بشخصية ممولها وخلفيته وتاريخه الشخصي، وصولا إلى طبيعة خلافه مع المؤسسة العسكرية الروسية وأسبابه. لكن إذا وضعنا حجم التمرد الذي قاده بريغوجين واتساع رقعته من أوكرانيا إلى العمق الروسي وما انطوى عليه من خطر اندلاع حرب أهلية وإلحاق الدمار بالعاصمة وإهانة لا يمكن إنكارها لمكانة الدولة الروسية ومؤسساتها العسكرية والأمنية، ناهيك عن إضعاف موقع الرئيس بوتين، بدا أن دعوة بريغوجين وقيادات شركته إلى اجتماع “مائدة مستديرة” يثير العجب.
فعناصر “فاغنر” أسقطوا مروحيتين وطائرة تحكم وقيادة من طراز “إيل-22” في طريقهم إلى موسكو، ويقدر عدد العسكريين الروس الذين لقوا حتفهم في هذه الصدامات باثني عشر جنديا وضابطا. وقد غادر بريغوجين في اليوم ذاته إلى بيلاروسيا لكن مواقع رصد حركة الطائرات أعلنت عودة طائرته الخاصة إلى العاصمة الروسية بعد ساعات. وليس مفهوما كيف تقبل أية دولة أن تتعرض قواتها المسلحة لإطلاق نار وخسائر من الصنف المذكور من دون أن تسعى إلى الاقتصاص من الفاعلين لما في ذلك من تجاوز فاضح للقوانين وللنظام العام وامتهان لكرامة الجيش. ثم تأتي الدعوة إلى الحوار مع قادة المجموعة التي تسببت في مقتل الطيارين من دون أي احتساب للمسائل القانونية.
أما الرئيس البيلاروسي ألكسندر لوكاشينكو الذي يقال إنه تولى الوساطة بين بوتين وبريغوجين وأثنى الأول عن عزمه “سحق بريغوجين كالحشرة”، وتكفل بالتوصل إلى مخرج سلمي للموقف، فنفى وجود ممول “فاغنر” في بلاده، لكنه لم يكشف مصيره ولا إلى أين توجه بعد خروجه من روستوف مساء 24 يونيو/حزيران.
إضفاء بعض المنطق على سلسلة الأحداث التي تفتقر إلى الترابط والدوافع والمبررات المفهومة يستدعي التذكير بالبنية التي يتألف منها الحكم في روسيا والذي يغيب عن البال عند تناول الوضع الروسي عموما. ذاك أن السلطة الحالية تتكون من مجموعة من مراكز القوى والهيئات التي تدير كل منها جانبا من السلطة وتعمل على التعايش مع بعضها أو خوض صراعات مع من يحاول مصادرة بعض أوجه نفوذها.
وعليه، يشير اللقاء في العاصمة الروسية إلى أن “فاغنر” لم تنته بعد وأن منظومة السلطة الروسية، بمراكز القوى المختلة التي تسيّرها، لا تزال في حاجة إلى مرتزقة بريغوجين وإلى شبكاتهم في الداخل الروسي وفي الخارج، حيث أدت الشركة خدمات لا تنكر كثر الحديث عنها في تمدد النفوذ الروسي في أفريقيا والشرق الأوسط. يضاف إلى ذلك، أن تضاؤل دور “فاغنر” في الحرب الأوكرانية، قد تعوض عنه زيادة مهماتها في بيلاروسيا التي يبدو أن دورها يزداد أهمية في المواجهة بين روسيا وحلف شمال الأطلسي حيث تتشارك بيلاروسيا حدودا طويلة مع بولندا التي تعتبر من أشرس خصوم موسكو في “الناتو” والشريان الحيوي لمرور الإمدادات العسكرية الغربية إلى أوكرانيا.
يعزز من هذا الاعتقاد دفع موسكو عددا من الصواريخ النووية التكتيكية إلى أراضي بيلاروسيا، في خطوة قيل إنها لحمل الغرب على التخفيف من اندفاعه في تقديم أسلحة نوعية وطويلة المدى إلى كييف.
من جهة ثانية، يشير اجتماع بوتين– بريغوجين إلى طبيعة العلاقات في الدوائر الأعلى من السلطة الروسية. فمقابل عدم مبالاة الكرملين الكبيرة بمحاسبة من خرج عليه متمردا وأسقط طائراته وقتل ضباطه، وعدم تفسير كيف يمكن دعوة “خائن” وشركائه إلى اجتماع في العاصمة، تبدو الحاجة إلى توظيف كافة العناصر المتاحة في المجهود الحربي غاية في الأهمية، سواء مباشرة أو من خلال استغلال خبرات بريغوجين في تلبية مصالح التحالف الحاكم في روسيا.
ولم يخف أي من المسؤولين الروس الطابع المصيري للحرب في أوكرانيا. وربما يكون بعضهم قد بالغ في ربط مستقبل روسيا وشعوبها بما ستسفر عنه تلك الحرب. لكن الواضح أن النظام– وبوتين على رأسه- سيعاني معاناة قاسية في حال لم يجر تثبيت الإنجازات الروسية في أوكرانيا ومنع وقوع هزيمة واضحة ستنتقل آثارها حكما إلى الداخل الروسي.
المجلة
——————————
روسيا وتركيا بعد “تمرّد فاغنر”/ مروان قبلان
للوهلة الأولى، يبدو للمراقب البعيد وكأن العلاقات التركية – الروسية تمرّ بأزمة صامتة، بعد أن برزت أخيرا مؤشّرات تدفع بهذا الاتجاه؛ أولها، موافقة الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، على السماح بعودة قادة “جماعة آزوف” القومية الأوكرانية إلى بلادهم، صحبة الرئيس فلوديمير زيلنسكي الذي كان يزور تركيا الأسبوع الماضي. وكانت موسكو أعربت عن امتعاضها مما اعتبرته “خرق” أنقرة الاتفاق الذي توسّطت فيه قبل أكثر من عام لإنهاء حصار معمل الصلب “آزوفستال” في مدينة ماريوبول، وينص على نقل قادة الجماعة، التي قاومت الروس أسابيع طويلة، إلى تركيا وعدم عودتهم إلى أوكرانيا حتى انتهاء الحرب. برز المؤشّر الثاني أيضا خلال زيارة زيلينسكي أنقرة، حيث أعرب الرئيس أردوغان في أثنائها عن دعمه محاولات أوكرانيا الانضمام إلى حلف شمال الأطلسي، ما أثار انزعاج موسكو التي دخلت الحرب أصلًا لمنع تحوّل أوكرانيا الى دولة أطلسية على حدودها الغربية. أما الإشارة الثالثة فقد تمثلت بموافقة الرئيس أردوغان قبل ساعات فقط من قمّة الحلف في ليتوانيا على انضمام السويد إلى الحلف؛ وهي خطوة تعارضها موسكو أيضا.
واقع الحال أن المؤشّرات السالفة لا تكفي وحدها لتوقع تغييرات كبيرة، وشيكة، في العلاقات التركية – الروسية، خصوصا وأن الرئيس أردوغان كان أول من اتصل بنظيره الروسي، ليعرب عن دعمه له عقب التمرّد الذي قامت به جماعة فاغنر الشهر الماضي؛ وكأنه بذلك يردّ له “التحية” على فعله الشيء نفسه عندما تعرّض أردوغان لمحاولة انقلابية فاشلة صيف 2016. يمكن القول، كذلك، إن كل الخطوات السالفة التي اتّخذها أردوغان لا تحمل قيمة فعلية؛ فقرار إطلاق سراح قادة آزوف، رغم أهميته الرمزية، لا يقدّم ولا يؤخّر في نتيجة المعارك على الأرض، مقارنة بالدعم العسكري الذي قدّمته تركيا لأوكرانيا في بداية الحرب، عندما كانت طائراتها المسيّرة من طراز بيرقدار (TB2) تفعل فعلها في ميدان المعركة. أما موقف تركيا الداعم لأوكرانيا بشأن عضوية “الناتو” فهو مجّاني لا يترتّب عليه شيء، لأن الجميع يعرف أن أوكرانيا لن تصبح، في أي وقت قريب، عضوا في “الناتو” بسبب معارضة واشنطن وبرلين خصوصا، لأن ذلك يعني عمليا أن “الأطلسي” صار في حالة حربٍ مع روسيا. أما بخصوص موافقة تركيا على انضمام السويد الى الحلف، فهي تحصيل حاصل، بعد أن استخدمها الرئيس أردوغان ببراعةٍ للحصول على أقصى تنازلاتٍ ممكنةٍ من الغرب، وهو يدرك أنه إذا ذهب أبعد من ذلك فقد يأتي بنتائج عكسية، خصوصا بعد أن ربطت الولايات المتحدة موافقتها على بيع تركيا طائرات إف 16 بموافقة أنقرة على انضمام السويد الى “الناتو”. لم يشأ أردوغان أن يخسر صفقة الـ إف 16 بعد أن خسر صفقة الـ إف 35 نتيجة إبرامه صفقة صواريخ الـ إس 400 مع روسيا، كما أنه لم يشأ إغضاب واشنطن في وقت تمرّ فيها بلاده بأزمة اقتصادية صعبة، خصوصا وأنه لم ينس بعد تداعيات أزمة القس برونسون عام 2018، والتي أدّت إلى انهيار سعر صرف الليرة وهروب استثمارات أجنبية كبيرة من البلاد؛ بسبب التوتّر مع إدارة ترامب التي أصرّت على إطلاق سراح القسّ الذي اتهمته تركيا بالتورّط في المحاولة الانقلابية الفاشلة عام 2016.
لا يمنع ذلك كله أن أردوغان قد يحاول استغلال ضعف الرئيس بوتين نتيجة التمرّد الذي تعرّض له الشهر الماضي، وهزّ صورته داخل روسيا وخارجها؛ وتذكيره أن في وسع تركيا أن تجعل حياته أصعب كثيرًا إذا هو لم يأخذ مصالحها بالاعتبار في ساحات أخرى عديدة تتقاطع فيها مصالح البلدين وتتعارض؛ ويشمل ذلك رغبة تركيا في تمديد اتفاقية تصدير الحبوب من أوكرانيا؛ ووقف التصعيد في شمال غرب سورية.
باختصار شديد؛ لا توحي مواقف أردوغان أخيرا أنه في وارد التخلّي عن سياسة التوازن التي يتبعها في علاقته بموسكو والغرب، ففي اللحظة التي يفعل فيها ذلك يفقد أهميّته باعتبارها بيضة القبّان في العلاقة بين معسكر بكين – موسكو ومعسكر بروكسل – واشنطن. لهذا لن يغادر أردوغان على الأرجح موقعه ذاك، وسيستمر في سياسة تحصيل العوائد من الطرفين، وهو أبرع من يفعل ذلك.
العربي الجديد
——————————
الجرأة الغربية والجعجعة الروسية/ أسامة أبو ارشيد
تقول روسيا، في محاولة لتبرير إخفاقاتها العسكرية المتوالية في أوكرانيا على مدى 18 شهراً، إنها لا تحارب قوات تلك الأخيرة فحسب، بل ومن ورائها حلف شمال الأطلسي (الناتو) برمته. روسيا هنا محقّة، و”الناتو” لا ينكر ذلك أبداً، وهو عاد وأكّد في قمّته قبل أيام، في العاصمة الليتوانية فيلنيوس، على تقديم مزيد من الدعم العسكري لكييف يمتدّ إلى سنوات. لكن هذه الحقيقة لا تقيل عثرة روسيا في أوكرانيا وذلك المستوى الهزيل، بل والمهين، الذي ظهر عليه أداؤها العسكري والسياسي في الفترة الماضية، وما زال، في ما كان ينبغي أن يكون “عملية عسكرية خاصة” خاطفة وحاسمة، يؤكّد من خلالها الكرملين على استحقاق روسيا لقب “القوة العظمى”. صحيحٌ أن حلف الناتو، وفي مقدّمته الولايات المتحدة، قدّموا أسلحة فتّاكة ومتقدّمة بعشرات المليارات من الدولارات لكييف، فضلاً عن الدعم الاستخباراتي وفرض عقوباتٍ اقتصاديةٍ خانقة على موسكو، إلا أن الافتراض الذي كان سائداً لدى المدرسة الواقعية في حقل العلاقات الدولية أن هذه الجهود ستذهب هباءً، وبأن روسيا ستتجاوزها من حيث مراكمة الإمكانات والموارد العسكرية المضادّة، ذلك أن الأمر مرتبط بأمنها القومي مباشرة. لكن ما لم يكن يعرفه كثيرون أن الفساد نخر في جذع المؤسّسة الروسية، بما في ذلك العسكرية منها، بشكل جعل من “الدبّ الروسي” أقرب إلى دبٍّ من ورق، حتى وصل الأمر إلى أن مليشيا من المرتزقة العسكريين التابعين للكرملين، والحديث هنا عن مجموعة فاغنر، كادت تطيح، الشهر الماضي (يونيو/ حزيران)، حكم الرئيس فلاديمير بوتين، في تمرّد انتهى بسرعة بوساطة بيلاروسية.
عندما اجتاحت القوات الروسية أوكرانيا، كانت ذريعة الكرملين الأساسية أن روسيا لا يمكن لها أبداً التعايش مع تمدّد حلف الناتو شرقاً وتضييق الخناق عليها أكثر على حدودها الجنوبية الغربية. بل ذهب الكرملين أبعد من مجرّد المطالبة بمنع انضمام أوكرانيا إلى “الناتو”، إلى حد اشتراط سحب الحلف قواته وأسلحته من دول في أوروبا الشرقية، وجمهوريات البلطيق الثلاث، ليتوانيا ولاتيفيا وإستونيا، التي كانت تدور في فلك الاتحاد السوفييتي قبل انهياره قبل أكثر من 30 عاماً وانتهاء حقبة الحرب الباردة. إلا أن قرار غزو أوكرانيا وتعثّره أتى بنتائج عكسية، إذ عزّز “الناتو” من وجوده العسكري في بولندا وجمهوريات البلطيق، وانضمّت فنلندا إلى الحلف، وتقف السويد على أعتابه اليوم. وبهذا تكون حدود روسيا مع الحلف قد توسّعت من 754 ميلاً إلى قرابة 1590 ميلاً. أما ثالثة الأثافي فتتمثل في تزايد فرص انضمام أوكرانيا إلى الحلف بعد قمّته في فيلنيوس، وهو ما قد يضيف 1425 ميلاً إضافية إلى الحدود المشتركة. وبهذا يكون “الناتو” قد شدّد الخناق جيوسياسياً على روسيا، بدل أن تنجح الأخيرة في إنهائه.
لم تكن الولايات المتحدة وحلفاؤها الأوروبيون ليجرؤوا على استفزاز روسيا إلى هذا الحدِّ لو كانوا يظنّون أنها قادرة على الرد بحزم. تملك روسيا الترسانة النووية الأكبر في العالم وهي قادرة على تدمير الغرب كله لو اضطرت لذلك. لكن السلاح النووي سلاح ردع لا سلاح حرب، وهي إذا كانت قادرة على تدمير الغرب به، فإنه قادر على سحقها كذلك بالسلاح ذاته ضمن ما يعرف بنظرية توازن الرعب أو توازن الردع. إنها معركة الكل فيها خاسر.
تضيّق هذه الحقيقة هامش المناورة أمام موسكو في الردّ على استفزازات واشنطن وحلف شمال الأطلسي في أوكرانيا، خصوصاً بعد أن ثبت أن فعالية السلاح الروسي التقليدي ليست في مستوى نظيره الغربي، دع عنك طبعاً التداعيات الكارثية عقودا من الفساد في روسيا، الذي لم تنج منه المؤسّسة والصناعات العسكرية، وهو ما تركها مكشوفةً أمام أعدائها. هذا الواقع البئيس الذي تجد روسيا نفسها فيه اليوم دفعها إلى الجعجعة أكثر من الفعل، وهو ما أفقدها المصداقية. يهدّد مسؤولوها السياسيون والعسكريون أكثر مما ينفذون. يحذّرون من تداعيات خطيرة ستترتب على أمور يقوم بها الغرب، ولكن الغرب يمضي بها غير مبال. توسّع “الناتو” رغم تهديدات موسكو. تلقت كييف أسلحة نوعية وهجومية فتّاكة، وتبدو روسيا عاجزة، حتى اللحظة، عن معادلة الكفّة. والآن، تستعد دول في الحلف لتزويد أوكرانيا بطائرات أف – 16، في حين وافقت إدارة جو بايدن على مدّها بقنابل عنقودية، ولا يبدو أن أحداً يأبه لما يتوعّد به ديمتري ميدفيديف، نائب سكرتير مجلس الأمن القومي الروسي، أن العالم يقف على أعتاب حرب عالمية ثالثة وعلى شفير حرب نووية.
طبعا، لا يعني ما سبق أن الأمور قد لا تنزلق إلى صدامٍ مسلّح بين روسيا و”الناتو”، وهو ما سيتحوّل، على الأرجح، إلى حربٍ نووية، كما كان هدّد بوتين من قبل، ذلك أنه لا طاقة لروسيا بحرب تقليدية مع الحلف. ومن ثمَّ، تقوم الاستراتيجية الأميركية، ومن ورائها حلف الناتو بالضرورة، على إبقاء روسيا تحت ضغطٍ مدروسٍ من دون إلجائها إلى خيار اليأس النووي. وهكذا، اتفق قادة “الناتو” على أن تكون أوكرانيا عضوا فيه “بعد الحرب”، لا الآن، لتفادي صراع مباشر مع روسيا. إنها استراتيجية استنزافٍ فعّالةٍ نجح فيها الغرب، وفشلت فيها موسكو، جرّاء عقود من الأعطاب البنيوية والهيكلية في البلاد، وقرار حربٍ لم تكن متهيئة لها. وإذا كان من الواضح أن واشنطن تريد إيصال رسالةٍ إلى الصين من خلال الورطة الروسية في أوكرانيا، فإن السؤال الذي لا تعرف إجابته بعد هو ما إذا كانت الصين تعاني من الخلل البنيوي والهيكلي نفسه، كما روسيا، في حال اختارت غزو تايوان، وقرّر حلف شمال الأطلسي الوقوف ضدّها، أم أنها تعلمت من الإخفاقات الروسية وهي أكثر استعداداً؟
على أي حال، يقف العالم فعلاً على شفير كارثة، قد تكون نووية، فكثرة الضغط قد تولّد انفجاراً. ولا يمكن التقليل من فرص استخدام روسيا سلاحاً نووياً تكتيكياً في أوكرانيا لتعويض خسائرها الفادحة، ولتفادي هزيمة عسكرية مذلّة جرّاء المدد العسكري الغربي لها، وهو أمرٌ سيكون له تداعيات كبيرة، مع ضرورة التسجيل هنا إن عواصم “الناتو” الكبيرة قد لا تكون تمانع بالمقامرة على أشلاء أوكرانيا وشعبها من أجل تحقيق مصالح جيوسياسية كبرى في مواجهة موسكو.
العربي الجديد
————————–
روسيا ترفض ضمانات الغرب لأوكرانيا و«تراقب الوضع»
اعتبرتها «خطوة خاطئة وخطيرة للغاية» وحذّرت من «عواقب سلبية»
موسكو: رائد جبر
على الرغم من عدم إخفاء النخب السياسية الروسية ارتياحها لما وصف بـ«خيبة الأمل الكبيرة» التي حصل عليها الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي بعد رفض مطالبه بتحديد جدول زمني لانضمام بلاده إلى حلف شمال الأطلسي (ناتو)، لكن نتائج اجتماعات قمة الحلف التي انعقدت في العاصمة الليتوانية فيلنيوس أثارت قلقاً في روسيا بسبب ظهور تماسك الحلف في مواقفه حيال موسكو، رغم التباينات على عضوية أوكرانيا، وكذلك بسبب الضمانات الأمنية التي أعلنت مجموعة السبع تقديمها لكييف، والتي وصفها الكرملين بأنها «تطور خطير للغاية وستكون له عواقب سلبية».
وسخر سياسيون روس من فشل زيلينسكي في حمل القمة على الاستجابة لمطالبه. وقال نائب رئيس مجلس الفيدرالية (الشيوخ) قسطنطين كوساتشوف إن قمة «الناتو» وضعت أوكرانيا «في حجمها الطبيعي كتابع للحلف وليس شريكاً». وزاد أن زيلينسكي اضطر للتراجع عن مواقف سابقة لحضور القمة رغم عدم تلبية مطالبه. أما الناطقة باسم الخارجية الروسية ماريا زاخاروفا فنعتت وزير الخارجية الأوكراني ديمتري كوليبا بـ«الغباء»؛ لأنه طالب بتحديد الشروط التي ينبغي على كييف تحقيقها لقبول طلب عضويتها في الحلف. وقالت الدبلوماسية الروسية إن القيادة الأوكرانية «لم تتعلم قواعد اللعب مع الغرب، وتطالب بغباء بتوضيح شروط اللعبة».
في المقابل، بدا الكرملين أكثر تحفظاً على نتائج القمة، ورأى أن الضمانات التي أعلن الغرب عن تقديمها لأوكرانيا تشكل تطوراً «خطيراً للغاية»، وفقاً للناطق الرئاسي الروسي ديمتري بيسكوف، الذي حذّر من أن التطور يشكل «خطوة خاطئة جداً وستكون لها عواقب سلبية». وقال بيسكوف للصحافيين إنه «من خلال تقديم أي ضمانات أمنية لأوكرانيا، تتجاهل هذه الدول في الواقع المبدأ الدولي الخاص بعدم قابلية الأمن للتجزئة. أي أنها من خلال توفير ضمانات أمنية لأوكرانيا، تتعدى على أمن الاتحاد الروسي». وتابع أن هذا محفوف بـ«عواقب سلبية للغاية» في أي أفق تخطيطي. وأكد الكرملين، في هذا الإطار، أنه «يراقب الوضع عن كثب، ويذكّر بأن توجه نظام كييف بالتحديد نحو الانضمام إلى حلف (الناتو) هو الذي أصبح أحد أسباب بدء العملية العسكرية».
ووصف بيسكوف «الناتو» بأنه «حلف هجومي، ولم يتم إعلانه وتشكيله لضمان الاستقرار والأمن الدوليين، بل لإثارة الاضطراب والعدوان».
وأضاف أن الحلف يرى في التعاون بين موسكو وبكين تهديداً له. وتابع: «مثل هذه المواقف ينم عن جهل في جوهر العلاقات الروسية الصينية. علاقاتنا ليست موجهة بأي شكل من الأشكال ولم تكن موجهة أبداً ضد دول ثالثة أو أي أحلاف، على الرغم من حقيقة أننا نتحدث عن تحالفات عدوانية بطبيعتها».
ونقلت وسائل إعلام حكومية روسية عن مصادر غربية أن وثيقة قمة حلف «الناتو» تنص على تخصيص معدات عسكرية لكييف، وتعزيز تبادل المعلومات الاستخباراتية، وتوسيع برامج التدريب للقوات المسلحة لأوكرانيا، فضلاً عن تطوير المنشآت الصناعية.
في غضون ذلك، رأت أوساط برلمانية روسية أن الضمانات الغربية المقدمة لأوكرانيا لن تنجح في تهدئة الموقف ووضع مقدمات لتسوية سياسية للنزاع المتفاقم. وقال ميخائيل شيريميت، العضو في مجلس النواب (الدوما) عن منطقة القرم، لوكالة أنباء «نوفوستي» الحكومية، إن «إعلان وضع الحياد الكامل، وإطاحة نظام كييف الحالي، ونزع السلاح من البلاد، هي الضمانات الحقيقية لأمن أوكرانيا».
على صعيد موازٍ، جدد وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف تأكيد موقف بلاده في مواجهة التحركات الغربية، وقال في مقابلة مع صحيفة إندونيسية نشرت الأربعاء، إن «الصراع الأوكراني لن ينتهي حتى يتخلى الغرب عن هوسه بإلحاق هزيمة استراتيجية بروسيا». وأوضح لافروف: «لماذا لا تتوقف المواجهة في أوكرانيا؟ الإجابة بسيطة للغاية… ستستمر إلى أن يتخلى الغرب عن خططه للحفاظ على هيمنته وهوسه بإلحاق هزيمة استراتيجية بروسيا بأيدي الدمى التي يحركها في كييف».
وأضاف الوزير الروسي أنه لا يرى «حتى الآن، مؤشرات على التغيير في هذا الموقف، ونرى كيف يواصل الأميركيون وأتباعهم ضخ الأسلحة بشكل واسع إلى أوكرانيا، ودفع نظام كييف لمواصلة الهجوم».
وأكد أن «تجاهل الغرب للمبادرات المقدمة من طرف العديد من الدول يعتبر مؤشراً أيضاً، بما في ذلك مقترحات الرئيس الإندونيسي، جوكو ويدودو، الذي تحدث أثناء زيارته لموسكو، عن الحاجة إلى وقف إطلاق النار، فضلاً عن ضمان المساعدة الإنسانية والأمن الغذائي، كما أعرب عن استعداده لتكون بلاده بمثابة وسيط بين روسيا وأوكرانيا. وتحدث وزير الدفاع الإندونيسي برابوو سوبيانتو، عن موضوع تسوية الأزمة الأوكرانية، لكن كلماته في كييف اصطدمت على الفور بعدم القبول وقولهم، إنه ليس هناك حاجة إلى وسطاء حالياً».
وشدد لافروف على أن «ما يسمى بصيغة السلام التي طرحها زيلينسكي، التي يحاولون الآن فرضها كنوع من الوصفة الوحيدة الممكنة للتسوية، هي أيضاً أحد أعراض الموقف العدواني من جانب كييف وحلفائها».
الشرق الأوسط
————————–
«فاغنر» في أفريقيا: ما مستقبل مرتزقة بريغوجين؟
بيروت: «الشرق الأوسط»
منذ محاولة مجموعة «فاغنر» الانقلابية الفاشلة ضد هيئة الأركان العامة الروسية والرئيس الروسي فلاديمير بوتين في نهاية يونيو (حزيران) الماضي، أصبح مستقبل هذه الميليشيا ضبابياً، بما في ذلك مستقبلها في قارة أفريقيا، وفق تقرير نشرته أمس الثلاثاء مجلة «أفريقيا الشابة» (Jeune Afrique).
منذ تمرده الفاشل ضد سيد الكرملين، نُفي بائع الهوت دوغ السابق يفغيني بريغوجين (قائد «فاغنر») في سان بطرسبورغ، حيث تحول إلى أمير حرب في بيلاروسيا. على الجانب الآخر من الحدود، بدأت السلطات الروسية في التفكيك التدريجي لأنشطة «فاغنر» الكثيرة – المرتزقة والدعاية – ما يثير الكثير من التساؤلات حول مستقبل «فاغنر»، خاصة في أفريقيا.
ماذا سيحدث لآلة دعاية «فاغنر»؟
إذا اشتهرت «فاغنر» بمرتزقتها، فإن المجموعة لها تخصص آخر: الدعاية والتأثير الإعلامي. بفضل الكثير من المواقع والفرق التي تتحكم في الحسابات على الشبكات الاجتماعية، أنشأ زعيم «فاغنر» يفغيني بريغوجين مشروع «لاختا» (Lakhta) في السنوات الأخيرة. يقدم المشروع مجموعة من الخدمات الرقمية، من التدخل في الانتخابات إلى زعزعة استقرار المعارضين، مروراً بالحفاظ على المشاعر المعادية لفرنسا في أفريقيا.
في الأيام القليلة التي أعقبت محاولة بريغوجين التمرد في روسيا في 23 يونيو الماضي، انخفضت النشاطات على حسابات وسائل التواصل الاجتماعي المتعلقة بـ«فاغنر». تم حظر بعض مواقع مجموعة «باتريوت ميديا» التابعة لبريغوجين من قبل السلطات الروسية، بينما نشر البعض الآخر من هذه المواقع محتوى يدعم الرئيس الروسي فلاديمير بوتين وينتقد انقلاب «فاغنر». ولكن فيما يتعلق بأفريقيا، فإن حسابات «لاختا» المزيفة سرعان ما استأنفت نشاطها الطبيعي.
وقد طور دعاة «فاغنر» المناهضون لفرنسا خبرة من الصعب استبدالها، في هذا المجال، وفق التقرير.
هل تواصل مجموعة «فاغنر» التوظيف؟
جاء في رسالة نُشرت في 4 يوليو (تموز) على إحدى قنوات «تلغرام» التابعة لمجموعة «فاغنر»: «تواصل المجموعة تجنيد الموظفين». وأكدت المجموعة في نفس الرسالة أن الدولة الروسية لم تمنعها من التجنيد وأن مركزها في مولكينو (في روسيا) حيث يتم استقبال المجندين لا يزال مفتوحاً.
أشار التقرير إلى أن «فاغنر ستحاول بشكل خاص جذب مقاتلين يتحدثون العربية أو الفرنسية»، وتساءل إذا كان هؤلاء المجندون يعتزمون القتال في أفريقيا، ولا سيما في جمهورية أفريقيا الوسطى ومالي، حيث تكون هاتان المهارتان اللغويتان موضع تقدير.
هل ستتأثر مالي وجمهورية أفريقيا الوسطى بتمرد «فاغنر»؟
في باماكو وبانغي، كان من الواضح أن تمرد بريغوجين الفاشل كان متابَعاً من كثب. قبل كل شيء، أثار ذلك بعض القلق حول العقيد أسيمي غويتا (الحاكم في مالي) وفوستان آرشانج تواديرا رئيس جمهورية أفريقيا الوسطى اللذين اختار كلاهما مرتزقة من مجموعة «فاغنر» لتأمين نظاميهما. فماذا سيحدث لهما إذا تم سحب هذا النوع من التأمين على الحياة منهما في غضون أسابيع أو أشهر قليلة؟
بدءاً من 26 يونيو الماضي، بعد يومين من انتهاء هجوم رجال بريغوجين في روسيا، أراد سيرغي لافروف، وزير الخارجية الروسي، أن يطمئن شركاءه في مالي وأفريقيا الوسطى. وفي مقابلة مع قناة «روسيا اليوم»، قال إن «عمل» «فاغنر» في البلدين «سيستمر بالطبع»، معترفاً علناً بوجود المجموعة في مالي، وهو ما نفته باماكو دائماً.
من جانب مالي أو أفريقيا الوسطى، لا يوجد رد فعل رسمي أو تشكيك في الشراكة مع «فاغنر». ومع ذلك، فإن موجة الصدمة التي سببها تمرد بريغوجين بدأت تظهر في القارة. في ليلة 6 إلى 7 يوليو، أقلع مئات عدة من المرتزقة من بانغي إلى روسيا (ما يصل إلى 500 أو 600، وفقاً لبعض مصادر مجلة «أفريقيا الشابة»)، من بين ما يقرب من 1500 عنصر من «فاغنر» موجودين في جمهورية أفريقيا الوسطى. تحت ضغط من الكرملين، تستعد «فاغنر» لمراجعة تنظيمها وإبلاغ فرقها هذه في أفريقيا أنها ستستجيب الآن لوزارة الدفاع الروسية. يمكن لهؤلاء الرجال – أو بعضهم – العودة بعد ذلك إلى جمهورية أفريقيا الوسطى.
وبينما يمكن توقع حركة مماثلة في مالي (مغادرة من عناصر «فاغنر» باتجاه روسيا مرحليا)، حيث يوجد نحو 1400 مرتزق من «فاغنر» منذ بداية عام 2022، أفاد تقرير «أفريقيا الشابة» بأنه لم تتم ملاحظة أي عودة للقوات هناك إلى روسيا حتى الآن، باستثناء التناوب المعتاد للأفراد من مطار باماكو على متن طائرات «إليوشين» الروسية.
وعد التقرير أنه حتى لو استعادت وزارة الدفاع الروسية مزيداً من السيطرة على أنشطة «فاغنر»، فإن البعض لا يرى أن «فاغنر» سيغادر مالي وجمهورية أفريقيا الوسطى تماماً على المدى القصير. «فالوجود الروسي في أفريقيا استراتيجي للغاية».
هل تستطيع «فاغنر» الاستمرار من دون الكرملين؟
أرباح من الذهب والنفط والماس والخشب أو حتى القهوة والكحول… رجال «فاغنر» يجنون أرباحاً كبيرة من الموارد التي يستغلونها أينما تم نشرهم في أفريقيا – في ليبيا والسودان، ولكن بشكل خاص في مالي وجمهورية أفريقيا الوسطى. من الصعب تقدير إيرادات «فاغنر» من هذه الأرباح التي تصل إلى عشرات الملايين من الدولارات كل عام، ما يسمح لزعيم «فاغنر» بريغوجين بتمويل العمليات العسكرية لمجموعته وعملياتها في تأمين النفوذ.
بالإضافة إلى هذه المكاسب المالية الهائلة، استفادت «فاغنر» دائماً من الدعم اللوجستي والمادي للجيش الروسي. يتم تدريب جزء من مرتزقتها في قاعدة مولكينو، جنوب غرب روسيا، التابعة لجهاز المخابرات العسكرية الروسية الشهير GRU. كما تم نشر قوات «فاغنر» ونقلها باستخدام طائرات النقل إليوشين أو توبوليف من الجيش الروسي. نفس الشيء بالنسبة للمعدات والمركبات والطائرات التي يستخدمونها في العمليات، والتي قدمتها موسكو مرة أخرى. لذلك من الصعب، حسب التقرير، تخيل أن مجموعة بريغوجين يمكن أن تتابع أنشطتها بالكامل دون دعم الكرملين – الذي على الرغم من كل شيء يحتاج إلى «فاغنر» للحفاظ على النفوذ الذي اكتسبته روسيا في أفريقيا في السنوات الأخيرة.
——————————–
الجيش الروسي.. جنرالات “يختفون ويطردون ويتعرضون للقتل“
الحرة / ترجمات – واشنطن
منذ اختفاء “جنرال يوم القيامة”، سيرغي سوروفيكين، عقب تمرد جماعة فاغنر القصير، تسود حالة من عدم اليقين بين العسكريين الروس، وفقا لصحيفة “نيويورك تايمز”.
وتقول الصحيفة إنه بالإضافة إلى سوروفيكين المختفي، قتل جنرال في غارة جوية في أوكرانيا، واتهم الثالث قيادته بالخيانة بعد طرده من الخدمة، فيما قتل قائد رابع بالرصاص خلال ممارسته رياضة الجري.
وأدى هذا، بحسب الصحيفة، إلى معاناة الجيش الروسي من عدم الاستقرار في الأيام التي تلت التمرد.
وقال المشرع الروسي، أندريه كارتابولوف، أحد كبار المشرعين في البلاد، عندما ضغط عليه أحد المراسلين، إن الجنرال سوروفيكين “يأخذ قسطا من الراحة”.
وكان سوروفيكين يعتبر حليفا ليفغيني بريغوجين، زعيم شركة مرتزقة فاغنر.
وذكرت صحيفة نيويورك تايمز أن المسؤولين الأميركيين يعتقدون أن الجنرال سوروفكين كان على علم مسبق بالتمرد لكنهم لا يعرفون ما إذا كان قد شارك فيه.
وفي الساعات التي تلت بدء التمرد، أصدرت السلطات الروسية بسرعة شريط فيديو صوره الجنرال يدعو مقاتلي فاغنر إلى التراجع.
وجاء تعليق المشرع الغامض حول الجنرال سوروفكين بعد يومين من نشر السلطات الروسية أول لقطات لأكبر ضابط عسكري في البلاد، الجنرال فاليري غيراسيموف، منذ التمرد.
في الفيديو ، كان الجنرال غيراسيموف يتلقى تقريرا من قوات الفضاء الروسية، التي يديرها الجنرال سوروفيكين.
لكن الشخص الذي قدم التقرير كان نائب الجنرال سوروفيكين، العقيد فيكتور أفزالوف.
وكشف الكرملين في وقت سابق من هذا الأسبوع أن بريغوجين وكبار قادته التقوا بالرئيس، فلاديمير بوتين، بعد خمسة أيام من التمرد، مما أثار العديد من الأسئلة حول نوع الصفقة التي تم التوصل إليها مع المتمردين السابقين.
والأربعاء، قالت وزارة الدفاع إن القوات المسلحة الروسية كانت تجمع أسلحة فاغنر وذخائرها ومعداتها العسكرية.
وفي الوقت ذاته، تلقت روسيا ضربة أخرى لأعلى صفوفها العسكرية.
وأعلنت السلطات الأوكرانية أن اللفتنانت جنرال أوليغ تسوكوف، نائب قائد المنطقة العسكرية الجنوبية في روسيا، قتل في أوكرانيا خلال هجوم صاروخي ليلة الإثنين على مدينة بيرديانسك المحتلة، وهي واحدة من أعلى الخسائر التي تكبدتها روسيا خلال الحرب.
وأكد النائب الروسي والجنرال المتقاعد، أندريه غوروليوف، وفاة الجنرال تسوكوف في ظهور على التلفزيون الحكومي، يوم الأربعاء، قائلا إنه “مات ببطولة”.
وأعادت الوفاة إلى الأذهان الأيام الأولى للحرب، عندما قال المسؤولون الأوكرانيون إنهم قتلوا حوالي 12 جنرالا على الخطوط الأمامية.
كما أصدر غوروليوف تسجيلا في وقت متأخر من يوم الأربعاء لقائد جيش الأسلحة المشتركة الروسي رقم 8، الميجور جنرال إيفان بوبوف، يشرح لقواته سبب إعفائه من قيادة الوحدة، التي تقاتل على الجبهة في أوكرانيا بالقرب من زابوريزهيا.
وقال الجنرال بوبوف: “الوضع صعب مع القيادة العليا”، مما أدى إلى تسريحه بعد أن أثار مشاكل عانى منها في ساحة المعركة، بما في ذلك عدم توفر بطاريات مضادة للصواريخ ومحطات استطلاع للمدفعية، فضلا عن الوفيات والإصابات التي تعاني منها قواته من نيران مدفعية العدو.
وبدا أن الجنرال بوبوف يستهدف الجنرال غيراسيموف دون أن يسميه، قائلا إنه في حين أن القوات الأوكرانية لم تستطع اختراق وحدة جيشه من الجبهة، فإن “قائدنا الكبير ضربنا من الخلف، وقطع رأس وحدة الجيش بشكل غادر وحقير” في أصعب اللحظات وأكثرها توترا.
كما ألقت السلطات الروسية القبض على رجل أوكراني، يوم الأربعاء، للاشتباه في إطلاق النار على قائد غواصة روسي سابق، النقيب الثاني، ستانيسلاف رزيتسكي، في وقت سابق من هذا الأسبوع في مدينة كراسنودار الجنوبية، حيث كان يشغل منصب نائب مدير مكتب التعبئة في المدينة.
وذكرت وسائل الإعلام الروسية أن الكابتن رزيتسكي قتل بالرصاص أثناء الركض في حديقة كراسنودار.
ويوم الثلاثاء، بعد يوم من العثور على الجثة، قالت المخابرات العسكرية الأوكرانية على حسابها الرسمي على Telegram أن الكابتن رزيتسكي قاد غواصة شاركت في هجمات صاروخية على أوكرانيا.
وذكرت وكالة الأنباء الرسمية ريا نوفوستي، نقلا عن مصدر مجهول في سلطات إنفاذ القانون الروسية، أن الرجل الذي اعتقل يوم الأربعاء اعترف أثناء استجوابه بتجنيده من قبل المخابرات الأوكرانية لتنفيذ عملية القتل.
ونقلت “سي إن إن” إن الجنرال المسؤول عن قيادة الجيش الروسي في جنوبي أوكرانيا، إيفان بوبوف، قال إنه سرح من الخدمة بعد أن اتهم القادة في وزارة الدفاع بعدم تزويدهم بالدعم الكافي.
الحرة / ترجمات – واشنطن
————————-
واشنطن بوست: هل الشراكة التركية مع موسكو هي الضحية الأخيرة للحرب في أوكرانيا؟
إبراهيم درويش
نشرت صحيفة “واشنطن بوست” تقريرا لعدد من مراسيلها، قالوا فيه إن الحرب الروسية أصبح لها ضحية جديدة وهي “رابطة بوتين- أردوغان”.
وقالوا إن قرار الرئيس التركي رفع الفيتو عن عضوية السويد في حلف الناتو، أدى إلى مطالب من المتشددين الروس، باعتبار تركيا بلدا “غير صديق”. وقالوا إن التحركات التركية التي نُظر إليها كمؤيدة للغرب، بما فيها استقبال أردوغان للرئيس الأوكراني فولودومير زيلينسكي في إسطنبول يوم الجمعة، قادت لتكهنات حول تحول تركي نحو علاقات أكثر دفئا مع أوروبا والولايات المتحدة، بعد سنوات من التعاون الوثيق مع موسكو.
وفي روسيا، حيث كانت علاقات الرئيس بوتين مع أردوغان هي أهم عملة جيوسياسية، فإن حس تحول الرئيس التركي للتعاون مع القادة الغربيين، أثار على ما يبدو قلقا في موسكو مثل القلق الناجم عن انضمام السويد للناتو، مما أثار اسئلة حول الحرب الروسية في أوكرانيا، وإن كانت قوضت أهم علاقات روسيا.
وتعلق الصحيفة أن انتقاد الكرملين لأنقرة كان حذرا، لكن المشرعين القوميين المتشددين شجبوا بمرارة أردوغان، في وقت تساءلت فيه الصحافة السائدة عن خطوات تحول رئيسية يقوم بها الرئيس التركي بعيدا عن روسيا.
وبدا التحول واضحا في نبرة أردوغان عند لقائه مع زيلينسكي الذي زار تركيا الأسبوع الماضي، وهي الأولى منذ الغزو الروسي، حيث تحدث الزعيم التركي عن علاقات الصداقة بين البلدين، وعبّر قائلا إن استقلال أوكرانيا يستحق عضويتها في الناتو. وبعد أيام، تحرك لكي يرفع الفيتو عن عضوية السويد في الناتو، وكان ذلك ضربة قوية لروسيا التي جعلت من منع الناتو قبول أعضاء جدد، سياسة أمنية لها منذ تسعينات القرن الماضي.
ومنحت الصداقة مع أردوغان، بابا خلفيا لبوتين كي يتجنب العقوبات الغربية على بلاده، في وقت صورت الصحافة الرسمية، الرئيسَ الروسي بالرجل القوي الذي يقيم علاقات مع رجال أقوياء. وكلاهما يتشاركان في رؤية وقف الهيمنة الأمريكية، وهو مبدأ أساسي دفع بوتين لغزو أوكرانيا والوقوف أمام الجشع الغربي.
وبعد التحدي الذي واجه بوتين جراء تمرد فاغنر، اتصل أردوغان بالرئيس الروسي وعبّر عن “دعمه الكامل” له، وعندما فاز أردوغان بالجولة الثانية من الانتخابات الرئاسية، اتصل به يوتين وهنأه، واصفا إياه بـ”الصديق العزيز”.
إلا أن تحرك أردوغان للإفراج عن قادة في كتيبة أزوف الأوكرانية، الذين دافعوا عن ماريوبول أثناء الحصار الروسي، واعتبرتهم موسكو إرهابيين، نظر إليه المسؤولون الروس على أنه خيانة. وما أغضب الروس أكثر، هي الإشارات عن التقارب التركي ودعم أنقرة لأوكرانيا. ففي أثناء زيارة زيلينسكي، وقّع الطرفان اتفاقيات للتعاون في الصناعات الإستراتيجية، وتم التأكيد على بداية إنتاج أول طائرة مسيرة “بيرقدار” من مصنع في أوكرانيا.
وقال رئيس لجنة الشؤون الدفاعية في المجلس الفدرالي الروسي، فيكتور بونداريف، إن “تركيا تتحول تدريجيا وبثبات من كونها بلدا محايدا إلى بلد غير صديق”.
ويرى المحلل الروسي سيرغي ماركوف، أن قرار أردوغان تسليم قادة كتيبة أزوف لزيلينسكي “أرسل هزات داخل روسيا”، لأن موسكو تتعامل مع الكتيبة كـ”رمز للنازية الجديدة في أوكرانيا وجرائم الحرب ضد الشعب الروسي”. وكان رد فعل الكرملين الغاضب تعبيرا عن استياء الجمهور، خاصة بعد تصريحات قائد الكتيبة دينيس بروكوبينكو، بأنهم سيعودون للقتال.
ووصف المتحدث باسم الرئاسة الروسية، ديمتري بيسكوف، التسليم بأنه “خرق” لعملية تبادل الأسرى، وطلبت روسيا توضيحا في مكالمة بين وزير الخارجية الروسي ونظيره التركي يوم الأحد. وما أثار مخاوف موسكو أكثر، هي تصريحات المتحدث باسم هيئة الأركان الأوكراني، أوليكسي غروموف، من أن كييف تتوقع حصولها على مدافع هاوتزر ذاتية الدفع، من طراز تي-155 فيرتينا التركية.
ولم تؤكد تركيا الصفقة. ولو قدمت تركيا المدافع فـ”إن هذا يعني تحولا نوعيا حصل في سياسة تركيا فيما يتعلق بالنزاع الروسي- الأوكراني” حسب صحيفة نيزافيسمايا غازيتا.
وقلل بيسكوف من قرار تركيا فتح الباب أمام عضوية السويد في الناتو، قائلا إن موسكو تتفهم التزامات تركيا باتجاه الحلف، و”لم يكن هذا سرا بالنسبة لنا، ولم نرتد أبدا نظارات ملونة في هذا المجال”، وقال إن روسيا ستواصل التعاون في المصالح المشتركة بين البلدين.
ووقف البلدان على جانبي النزاع في كل من سوريا وليبيا، لكن العلاقات ظلت قوية بينهما مع تراجع علاقة روسيا بالناتو. وأهمية العلاقة للبلدين واضحة من خلال الأرقام، فقد زادت صادرات تركيا إلى روسيا بنسبة الضعف منذ بداية الغزو، من 2.6 مليار دولار في النصف الأول من العام الماضي، إلى 4.9 مليار دولار عن نفس الفترة. وزادت واردات تركيا من النفط والغاز الروسي بشكل كبير عام 2022، وهو ما وفّر عائدات لروسيا بسبب العقوبات الغربية.
ويقول محللون إن في قلب حسابات أردوغان هي تخفيف الأزمة الاقتصادية التركية، وتخفيض معدلات التضخم وتراجع العملة التركية، وزيادة معدلات التصدير للدول الأخرى. ورغم زيادة الصادرات التركية لروسيا، إلا أن حجم الصادرات الإجمالي تراجع في حزيران/ يونيو إلى 20.9 مليار دولار، أي بنسبة 10.5% مقارنة مع حزيران/ يونيو الماضي.
ولقي أردوغان مساعدة أثناء الانتخابات الأخيرة، عندما وافقت غازبروم الروسية على تأجيل مدفوعات لها بقيمة 600 مليون دولار إلى عام 2024. إلا أن أردوغان تبنى بعضا من تعهدات المعارضة في مرحلة ما بعد الانتخابات، مثل تحسين العلاقات مع الغرب. ودعا يوم الإثنين، الاتحادَ الأوروبي إلى “فتح الطريق” أمام تركيا للدخول في النادي، بعد توقف طلبها عام 2019.
وتقول إيفرين بالتا، أستاذة العلوم السياسية بجامعة أوزيجين في إسطنبول، إنه “من المبكر الحديث عن تحول تركيا باتجاه الغرب”، وما يحدث هو تكيف مع الظروف، بما في ذلك الحاجة لجذب الاستثمارات، في وقت يعاني البلد من أزمة اقتصادية.
وقالت بالتا: “لقد تغيرت حاجات السياسة الخارجية والحاجات البنيوية للاقتصاد التركي”، مشيرة إلى حاجة تركيا لجذب الاستثمارات الغربية. وأضافت أن تركيا قامت ومنذ عدة سنوات، بتطبيع علاقاتها مع أعدائها وخصومها مثل اليونان وإسرائيل ودول الخليج.
وترغب تركيا باستكمال صفقة طائرات أف-16 بقيمة 20 مليار دولار مع الولايات المتحدة، والتي يُنظر إليها أنها المفتاح الرئيسي لقرار أردوغان المضي بملف عضوية السويد في الناتو ووقف الفيتو ضدها.
ويرى تيمور كوران، الاقتصادي في جامعة ديوك، إنه تعامل مع تحركات أردوغان “باتجاه الغرب والتي تثير الدوار” بأنها ابتعاد واضح عن روسيا، و”ربما كان هذا التحول تكتيكيا، فعداؤه العميق للغرب معروف”، لكن التحول قد يكون دائما لو جلب إليه استثمارات غربية.
وفي موسكو، فموقف أردوغان من الغرب واستعداده لمواجهته يظل ورقة رابحة لروسيا، وحاول بيسكوف لعب ورقة الحنق التركي بسبب انتظار أنقرة الطويل للدخول في الاتحاد الأوروبي. وقال يوم الثلاثاء: “لا أحد يريد تركيا في أوروبا”، مضيفا: “على شركائنا الأتراك ألا يكون لديهم أي وهم بشأن هذا”.
وفي الوقت الذي يثمن فيه الكرملين شراكته مع تركيا، إلا أن القوميين المتشددين الروس عبّروا عن غضبهم منها. وقال المدون العسكري والصحافي في التلفزة الرسمية أندريه ميدفيدف، إنه لم يستغرب من خداع أردوغان لروسيا. وتساءل إن كان الرئيس التركي حليفا أو صديقا، مجيبا أن أردوغان لم يكن أبدا حليفا لروسيا ولا صديقا أيضا، وأن هناك شركاء تكتيكيون يحاولون خدمة أهدافهم، و”لا أمل منهم” بحسب قوله.
القدس العربي
—————————
معهد كارنيغي: قمة الناتو هزيمة لأوكرانيا وانتصار لبوتين.. وإلى متى يمكن أن تستمر الحرب؟
بروكسل: لم ينجح مارثون باخموت- فيلينوس، الذي نظمه مئات الأوكرانيين من عاصمة بلادهم إلى عاصمة ليتوانيا، واستمر لنحو أسبوع، في إقناع قادة حلف شمال الأطلسي “ناتو”، الذين اجتمعوا في العاصمة الليتوانية بضرورة تحديد موعد لانضمام أوكرانيا إلى الحلف.
بالفعل صنعت المجموعات الأوكرانية المنظمة للمارثون، الذي ارتدى المشاركون فيه قمصان بيضاء عليها رقم 33 وكلمة ناتو، مشهداً مثيراً بالفعل، عندما وصلت المسيرة إلى الميدان الرئيسي في مدينة فيلينوس، بالتزامن مع انطلاق قمة الناتو. واحتشد المشاركون في الميدان وخرج إليهم الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي ليخطب فيهم، وإلى جانبه زوجته، ويردد الجميع هتاف: “المجد لأوكرانيا”.
لكن هذا المشهد المؤثر لم يكن كافياً لتحقيق هدف أوكرانيا والدول المؤيدة لانضمامها بقوة، وهي بولندا ودول البلطيق الثلاث إستونيا وليتوانيا ولاتفيا، سواء بإعلان اعتزام الحلف ضم أوكرانيا بمجرد انتهاء الحرب مع روسيا، ولا قبول عضويتها قبل هذا الوقت، بحسب رغبة أوكرانيا.
ثم كانت المفاجأة أن البيان الختامي الطويل لقمة الحلف اكتفى بالقول: “سنكون في وضع يسمح لنا بالتوسع ودعوة أوكرانيا للانضمام للحلف عندما يتفق الحلفاء على ذلك وتتحقق الاشتراطات المقررة”.
وترى المحللة الأيرلندية جودي ديمبسي، الباحثة الكبيرة غير المقيمة في معهد كارنيغي أوروبا للأبحاث، في تحليل نشره موقع المعهد، أن قمة فيلينوس الأخيرة جاءت تكراراً لقمة بوخارست 2008 المشؤومة، التي وعدت بضم أوكرانيا إلى الناتو في يوم ما، دون أن تقدم لأوكرانيا خطة عمل الانضمام، والتي تحدد المسار نحو العضوية، بسبب ضغوط قوية من جانب فرنسا وألمانيا. واستغلت روسيا افتقاد المشاركين في قمة بوخارست للرؤية الاستراتيجية، واعتبر الرئيس الروسي فلاديمير بوتين موقفهم ضوءاً أخضر لكي يغزو جورجيا عام 2008، ويحتل شبه جزيرة القرم، وأجزاء من شرق أوكرانيا في 2014، ثم يشن حرباً شاملة ضد أوكرانيا في 2022.
لكن في قمة فيلينوس قال الناتو إن أوكرانيا لا تحتاج إلى خطة عمل الانضمام، لكنه “سيواصل دعم ومراجعة التقدم الذي تحققه أوكرانيا على صعيد العمل البيني، إلى جانب الإصلاحات الديمقراطية والأمنية المطلوبة” لعضوية الحلف. فبدا البيان وكأنه يريد مبرراً لمنح أوكرانيا العضوية، وفي نفس الوقت عذراً لعدم منحها جدولاً زمنياً للانضمام.
وفي “منتدى الناتو العام”، وهو حدث رئيسي عقد على هامش قمة فيلينوس، قال وزير الدفاع السويدي بال جونسون إن الدول الأوروبية “صدّرت إلى أوكرانيا صناعة أسلحة متباينة. فهناك 600 نوع مختلف من الأسلحة أرسلت إلى أوكرانيا”، وهو ما يؤدي إلى تعقيد جهود صيانتها بصورة هائلة.
وهناك سبب آخر يجعل ألمانيا والولايات المتحدة ترفضان منح أوكرانيا جدولاً زمنياً واضحاً للانضمام إلى الناتو. فالدولتان تنظران إلى الحرب في أوكرانيا من منظور المواجهة مع روسيا. وهما تشعران بالقلق من احتمالات تصعيد الحرب. وبالنسبة لبرلين وواشنطن وبعض الحلفاء الآخرين، فإن عضوية أوكرانيا في الناتو ستحتم عليه الدفاع عنها إذا تعرّضت لأي هجوم. ونقلت المحللة ديمبسي، رئيسة تحرير مدونة “إستراتيجية أوروبا”، التابع لمعهد كارنيغي أوروبا، عن مسؤولين في الناتو القول إنهم إذا تعّهدوا بضم أوكرانيا بمجرد انتهاء الحرب، فقد يتعمد بوتين إطالة الحرب لأطول فترة ممكنة.
وخلال الشهور التي سبقت قمة الناتو، أفزع بوتين ألمانيا بتهديداته المتكررة باستخدام الأسلحة النووية في الحرب الدائرة. واعتقد المستشار الألماني أولاف شولتس أن تحديد تاريخ لانضمام أوكرانيا، سيقود إلى مواجهة عسكرية مباشرة بين روسيا والناتو. في الوقت نفسه فإن ألمانيا مازالت تفتقد لإستراتيجية أمنية متماسكة للتعامل ليس فقط مع روسيا، وإنما أيضاً مع أوكرانيا وباقي دول أوروبا الشرقية.
وتقول ديمبسي، التي تنشر تحليلاتها في صحيفة “واشنطن بوست” الأمريكية إن إرسال ألمانيا والكثير من دول الناتو للأسلحة إلى أوكرانيا ضروري، لكنه ليس إستراتيجية مكتملة، كما أنه لا يكفي لإنهاء الحرب بسرعة. وفي فيلينوس كررت ألمانيا ودول الحلف الأخرى، بصورة مثيرة للغثيان، عبارة “مستقبل أوكرانيا في الناتو”، وأنها ستدعم كييف “مهما طالت الحرب”. لكن هذه الدول لم تسأل نفسها “إلى متى يمكن أن تستمر الحرب، وإلى أي حد سيصل عدد القتلى والدمار وجرائم الحرب في أوكرانيا؟”.
وتختتم ديمبسي تحليلها بالقول إن قادة الناتو افتقدوا للشجاعة والرؤية الإستراتيجية اللازمة لمنح أوكرانيا جدولاً زمنياً للانضمام للحلف، وانتصرت تهديدات بوتين، ليعود الأوكرانيون الذين قطعوا مئات الكيلومترات للمطالبة بأن تصبح بلادهم العضو رقم 33 في حلف الناتو، إلى ديارهم خاليي الوفاض ليواجهوا المزيد من القنابل الروسية.
(د ب أ)
——————————-
بوليتكو: من هلسنكي أعلن بايدن انتصاره على بوتين وترك أوروبا وسط غموض مسار الحرب
إبراهيم درويش
نشر موقع مجلة “بوليتكو” تقريرا أعده كل من جوناثان ليمير وألكسندر وورد قالا فيه إن الرئيس جو بايدن أعلن عن انتصاره على الرئيس الروسي فلاديمير بوتين وسط تزايد التحديات في أوكرانيا.
وقالت المجلة إن الرئيس أنهى جولته الأوروبية في العاصمة الفنلندية هلسنكي بشكل متناقض مع زيارة دونالد ترامب وقمته مع بوتين قبل خمسة أعوام. فقد أكد الرئيس من هيلسنكي على قوة الناتو وقدرته على وقف روسيا، ولكن هذه التأكيدات في الخارج جاءت وسط حالة من عدم اليقين تخيم على مستقبل الحرب. وقالت إن الرئيس أنهى رحلته في هيلسنكي بحضور مختلف عن آخر زيارة لرئيس أمريكي للعاصمة الفنلندية. فقبل خمسة أعوام دعم ترامب موقف بوتين ضد الاستخبارات الأمريكية ونتيجتها بأن موسكو تدخلت في انتخابات عام 2016.
وهذه المرة لوح بايدن بقوة التحالف المصمم لوقف بوتين وتوسع الناتو في أعقاب غزو روسيا لأوكرانيا. وقال بايدن “لقد خسر بوتين الحرب”، وقال بمؤتمر صحافي “لدى بوتين مشكلة حقيقية، وكيف سيتحرك من هنا؟ وماذا سيفعل؟ وكذلك، ستكون هناك فكرة الوسيلة التي سيستخدمها، ويمكنه وقف الحرب غدا ويمكنه القول “لقد خرجت”. وغادر بايدن أوروبا بمزاج المنتصر، وببداية طازجة بعد انضمام السويد للحلف وتأكيده على الوحدة بين جانبي الأطلنطي، وهو أمر مهم له شخصيا. وفي خطاب مركزي له في ليتوانيا، دافع عن سياساته وعبأ الديمقراطيات لمواصلة قتال الطغيان في أوكرانيا وحول العالم.
وكان قادرا على تخفيف مظاهر قلق الرئيس الأوكراني فولدومير زيلنيسكي الذي خفف من غضبه في أثناء قمة فيلينوس من أن التحالف يحاول إبطاء دخول بلاده في التحالف. إلا أن الرئيس خلف وراءها نقاطا مفتوحة وأسئلة بدون إجابة وتتعلق بالخطوات القادمة لأكبر حرب تشهدها أوروبا منذ الحرب العالمية الثانية، ومشكلة بايدن هي أن ما سيأتي لاحقا يظل خارجا عن سيطرته. فيمكن للكونغرس وقف عمليات تسليم مقاتلات أف-16 لتركيا، وهو ما يدفع أنقرة للتفكير مرتين حول منح الضوء الأخضر للسويد.
وأكثر من هذا، فماذا عنى بايدن بالالتزامات الأمنية الطويلة نحو أوكرانيا والتي شبهها بالتزام أمريكا الطويل تجاه إسرائيل. وهل تعني أن يلتزم الكونغرس بالحرب ولسنوات قادمة. وفي ظل تعثر الهجوم الأوكراني المضاد، هناك حلفاء ونواب في الكونغرس يعيدون التفكير بالدعم لأوكرانيا. وهناك مخاوف حقيقية بشأن الترسانة العسكرية للبلد، فنقص الإمدادات دفع أمريكا لاتخاذ خطوات مثيرة للجدل كتزويد كييف بقنابل عنقودية. وارتفع صوت الهمس بين الجمهوريين العائدين من زيارة أوكرانيا حول استمرار تمويل أوكرانيا بالمستويات الحالية. وعن البداية المتعثرة للهجوم المضاد، قال بايدن إن زيلينسكي اعترف له بأنه “عمل شاق”.
ثم هناك الانتخابات الرئاسية في العام المقبل، ويتوقع أن يكون ترامب المرشح الرئيسي للجمهوريين، وربما فكك كل ما بناه بايدن وبعد أشهر من عودته إلى البيت الأبيض. وبالتأكيد فقد كان شبح الرجلين، ترامب وبوتين، حاضرا في هلسنكي. فقد كانت ظلال قمة ترامب- بوتين في تموز/يوليو 2018 حاضرة في لقاء بايدن مع الرئيس الفنلندي سولي نينسوتو. فقد عقد المؤتمر الصحافي يوم الخميس، في الغرفة نفسها، عندما سأل صحافي ترامب “من تصدق؟” وعندها وقف ترامب مع بوتين ورفض نتيجة حكومته.
واليوم أصبح بوتين منبوذا دوليا بعد غزوه لأوكرانيا وتعثر جيشه وعدم تحقيقه الهدف بعد مرور أكثر من 500 يوم، في وقت احتشد فيه العالم لدعم أوكرانيا. وكان انضمام فنلندا إلى الناتو التي تشترك بحدود طولها 800 ميل مع روسيا هو تعبير عن تخلي البلد عن الحياد المستمر منذ عقود. وقال ترامب إنه سيعيد النظر بالحرب في أوكرانيا وسيخرج من الناتو، إلا أن بايدن ومضيفه الفنلندي قللا من تصريحاته وتهديداته لو عاد لوحدة الناتو.
وقال بايدن إنه “سيضمن بالمطلق” أن الولايات المتحدة باقية في الناتو، مشيرا لدعم الحزبين لهذا الأمر، لكنه قال “لا أحد يضمن المستقبل، ولكن هذا هو الرهان الأحسن”. وفي الوقت الذي منحت فيه الإدارة الجزرة للدول إلا أن الوفود المرافقة من الكونغرس لوحت بالعصا للدول الأعضاء وحثتها على زيادة نفقاتها الدفاعية.
وفي الوقت الذي عاد فيه زيلينسكي خائب الأمل من عضوية في الناتو إلا أنه لم يعد خاوي الوفاض، فقد عاد بمليارات الدولارات من الضمانات الأمنية والدفاعية من الناتو ومجموعة الدول السبع التي تمنحه التفوق النوعي في هذه الحرب المستعصية. وعبرت وفود الحزبين عن حذر بشأن عضوية أوكرانيا بالناتو، وهو موقف كرره بايدن من أن البلد ليس جاهزا للعضوية قبل نهاية الحرب، لكنه أكد أن مستقبلها في الحلف بدون تقديم جدول زمني.
————————–
العالم معلق برقبة روسيا/ مصطفى عبد السلام
باتت دول العالم التي تعاني نقصا شديدا في الغذاء، ومعها أسواق الحبوب الدولية، معلقة برقبة روسيا التي تصر على رفض تجديد اتفاق الحبوب والذي ينتهي العمل به يوم الاثنين المقبل، ويتيح حاليا لأوكرانيا تصدير قمحها وحبوبها وأسمدتها بشكل آمن عبر موانئها الواقعة على البحر الأسود والمحاصرة من قبل القوات الروسية.
موسكو هددت أكثر من مرة بالخروج من اتفاق الحبوب، وحتى الآن كل الإشارات تقول إنها تصر على موقفها تجاه عدم تجديد الاتفاق فترة جديدة، ووقف تدفق القمح الأوكراني لأسواق العالم بدءا من الأسبوع المقبل، مع تعرضها، كما تقول، للخداع من قبل الغرب أكثر من مرة سواء فيما يتعلق بعدم تخفيف العقوبات المفروضة عليها، أو ذهاب القمح لأوروبا وبلدان غربية ثرية وحرمان أفريقيا والدول الفقيرة منه.
يرفض فلاديمير بوتين كل الضغوط التي تمارس عليه من الأمم المتحدة وقادة دول لتجديد الاتفاق بما يضمن لأسواق العالم تدفقا آمنا وسلسا للقمح الأوكراني، وهنا يطل علينا شبح حدوث قفزات لأسعار الأغذية في الأسواق العالمية كما حدث عقب اندلاع حرب أوكرانيا في فبراير 2022.
الكرملين يخرج علينا من وقت لآخر ويؤكد أنه لا جديد نقوله بشأن اتفاق الحبوب. الأمم المتحدة ترسل اقتراحا لروسيا واحدا تلو الآخر لإنقاذ الاتفاق، وتسعى لإبرام صفقة تقضي بإزالة العقبات التي تؤثر على المعاملات المالية لبعض البنوك الروسية مع بنوك العالم، والسماح في نفس الوقت بالتدفق المستمر للحبوب الأوكرانية عبر البحر الأسود.
أنطونيو غوتيريس الأمين العام للمنظمة يبعث يوم الثلاثاء برسالة إلى بوتين يقترح فيها زيادة التسهيلات الممنوحة لصادرات الأغذية والأسمدة الروسية، وفي المقابل ضمان استمرار اتفاق تصدير الحبوب.
يقترح أيضا على بوتين تمديد الاتفاق مقابل ربط شركة تابعة للبنك الزراعي الروسي بنظام سويفت الدولي للمدفوعات. علما بأن حرمان روسيا من شبكة السويفت وقطع علاقة بنوكها بالنظام المالي العالمي كان من أبرز أدوات الغرب في معاقبة موسكو اقتصاديا.
يبدو أن بوتين لا يثق في الوعود القادمة من الدول الغربية أو الأمم المتحدة، ولذا جاء الرد أمس الخميس من وزير الخارجية سيرغي لافروف الذي قال إنه لم يسمع أي مقترحات جديدة بخصوص اتفاق البحر الأسود لتصدير الحبوب، متجاهلا بذلك مقترحات الأمم المتحدة.
كما أبغ بوتين زعماء أفارقة قبل أيام أنه لا يعتقد أن إمدادات الحبوب الأوكرانية تساعد في حل أزمة الغذاء، وهو هنا يمهد بتجميد الاتفاق.
كثيرون يراهنون على تدخل تركيا لنزع فتيل أزمة كبيرة يمكن أن تهدد باندلاع أزمة غذاء عالمية، وهي التي نجحت في تجديد اتفاق تصدير القمح الأوكراني عدة مرات على مدى عام رغم تشدد موسكو.
اقتصاد دولي
ينتهي الاثنين المقبل.. لا تجديد لاتفاق الحبوب حتى الآن
يدعم ذلك دخول بوتين وأردوغان في نقاش منذ فترة طويلة حول وضع خطط محددة تضمن استمرار إمدادات القمح الروسي والأوكراني للدول النامية بشكل مستقل عن أي طرف آخر، كما تقول موسكو إنها تبحث مع تركيا سُبل ضمان صادرات الحبوب الروسية بغض النظر عن أي اتفاق.
ومن المتوقع أن تحتل أزمة الحبوب صدارة الموضوعات المطروحة على أجندة اللقاء المرتقب الذي يجمع بين بوتين وأردوغان في أنقرة خلال شهر أغسطس/ آب المقبل.. فهل ينجح أردوغان في نزع فتيل الأزمة كما فعل في مرات سابقة؟ وهل يتحمل العالم كل هذه الأيام بلا حبوب؟
—————————
موسكو محقة… إنها “الحرب الباردة”/ ناصر السهلي
صحيح قول موسكو إن حلف شمال الأطلسي (ناتو)، يذهب إلى استراتيجيات “الحرب الباردة”، وإن بأدوات وظروف دولية مختلفة عما قبل انهيار جدار برلين في عام 1989. فالأمر واضح منذ غزو أوكرانيا العام الماضي. سياسات الكرملين تساهم بصناعة وقائع مثل هذه الحرب الباردة. فمنذ نحو عقد، تسير موسكو على أمواج غرور القوة القاتلة، من شبه جزيرة القرم إلى سورية فأفريقيا، وإن عبر مرتزقة “فاغنر” سيئة الصيت والممارسة، والتي لم تقل وحشية عن “بلاك ووتر” الأميركية. ولم يعد يهم الآن تسمية ما يجري في أوكرانيا بـ”عملية عسكرية خاصة” أو بالحرب، فالنتيجة واضحة.
الغرب لعب لعبته المفضلة: إظهار لا مبالاة ثم الانقضاض. والفخّ في أوكرانيا مستمر، طالما ظنّت موسكو أن غرور “تجريب” الأسلحة الروسية على رؤوس مدنيي سورية وليبيا ودول أفريقية، سيسمح بانتصارها في أوكرانيا. ويبدو أن غطرسة “القائد الأوحد والحكيم” لكتم أي صوت يعارض الحرب تساعد الغرب على المدى المنظور.
أسوأ ما في الاستدارة نحو أجواء “الحرب الباردة”، استعادة الرئيس الأميركي الديمقراطي جو بايدن ملامح الريغانية في دعوة الرئيس الجمهوري الراحل رونالد ريغان (1981-1989) لآخر رئيس سوفييتي، ميخائيل غورباتشوف، من أمام جدار برلين، لإزالته (1987).
خاطب بايدن مساء الأربعاء الماضي الآلاف في فيلنيوس بريغانية – شعبوية واضحة: “نحن ندافع عن الحرية اليوم وغداً وطالما استغرقت ذلك”. وبجيش مستشارين وصنّاع استراتيجيات، تلعب واشنطن لعبة التاريخ لحشد الغرب وغيرهم. فتحت سطح تعميق ورطة روسيا في أوكرانيا، ثمة صراع آخر للحفاظ على انجذاب أغلبية شوارع الغرب إلى الأنظمة الليبرالية، مقابل تخيلات عن تفضيل بعض الناس لنمط حياة وحكم روسي – صيني.
صحيح أنه في ما يسمى “الدول النامية”، لأسباب تاريخية استعمارية، وازدواجية المعايير الغربية مع قضايا شعوبها، ثمة من يؤيد موسكو في مواجهة الغرب. لكن ملامح هذه “الحرب الباردة” تشي بأن صراعاً مفتوحاً بدأ لاستمالة دول الجنوب الأفقر. ومع انتفاء أسس التحول إلى “قطبية ثنائية”، سيوسّع الغرب ابتعاد الناس عن النموذج الروسي في الحكم وأنماط المواطنة، سواء في الداخل أو في الفضاء السوفييتي السابق، أو حيث ينشر الروس جنودهم دفاعاً عن أنظمة بعينها.
إذاً، “الحرب الباردة” المستجدة، بأدوات وتطورات العقود الأخيرة، ليست “قصّاً ولصقاً” من السابقة، بل بتداعيات تنافسية كارثية، ما لم تقف شعوب ودول الجنوب، وبينهم العالم العربي، وقفات جادة ورصينة لأجل مصالحها ومستقبلها في “النظام العالمي الجديد”، بملامح تفرضها نتائجها.
———————————
قمّة الناتو على تخوم بوتين/ فاطمة ياسين
تململت بعض دول الشمال الأوروبي بعد هجوم الرئيس الروسي فلاديمير بوتين على أوكرانيا، وأبدت السويد وفنلندا رغبتهما بالانضمام إلى حلف الناتو، وقد أحسّتا بخطر داهم يحيق بهما بوجود جارٍ مدجّج بأسلحة نووية ونوايا هيمنة، عبَّر عنها بوتين بوضوح من خلال محاولته اجتياح أوكرانيا. وكانت الدولتان قد حافظتا على حيادٍ مضطربٍ خلال الحرب الباردة وما بعد سقوط الاتحاد السوفييتي، وقاومتا بضراوةٍ محاولات الجذب الكثيرة لجرّهما إلى أحد الأطراف، ولكن الدولتين، بفضل خبرة سابقة وتجربة مرّة خلال الحرب العالمية الثانية، فضلتا البقاء على تخوم الحرب الباردة، وعدم التحيّز لأي طرف. وكانت السويد قبلها قد قادت تيار عدم الانحياز في فترة ما بين الحربين العالميتين، ووقفت في الوسط بين صعود الدولة النازية في ألمانيا ونمو المدّ الشيوعي السوفييتي، وحافظت على حيادٍ مريبٍ خلال الحرب العالمية الثانية، فقد تساهلت، إلى حدّ بعيد، مع ألمانيا في بداية الحرب، وقدّمت دعما لوجستيا واضحا خلال الهجوم الألماني على الاتحاد السوفييتي، واستمرّت في توريد الحديد الصلب إلى ألمانيا، ثم انقلب هذا التساهل إلى دعم واضح لدول الحلفاء باحتضان المعارضين للاحتلال النازي من كل من النرويج وفنلندا، وتوقيف صادرات الحديد إلى ألمانيا. أما فنلندا فقد استسلمت بسهولةٍ في بداية الحرب العالمية الثانية لغزو سريع من الاتحاد السوفييتي، ثم انقلبت الموازين ليحلّ النازيون محلّ السوفييت فترة قصيرة. وما لبثت أن خسرت ألمانيا الحرب ووُضع تصورٌ للحدود السياسية من الحلفاء، وحافظ السوفييت على علاقات تجارية مميّزة مع الجارة فنلندا رغم اعتناق الأخيرة النظام الرأسمالي.
تغيّر الوضع السياسي بحدة عند سقوط الاتحاد السوفييتي، وبعد أن سيطر بوتين على مقاليد الأمور، ومعه حلم الهيمنة من جديد، عانى من مشكلة اليد القصيرة في الشرق، بعد أن انضمت دول المنظومة الاشتراكية، بشكلٍ شبه كامل، إلى الاتحاد الأوروبي وحلف شمال الأطلسي، بالإضافة إلى دول كانت منضويةً ضمن الاتحاد السوفييتي نفسه، كدول البلطيق الثلاث، وتواصل المدّ حتى كاد أن يشمل أوكرانيا، الدولة التي يعتبرها بوتين كيانا عضويا هاما لا يمكن التخلي عنه، وإن شنّ حربا في سبيل ذلك، وهذا ما حدث بالفعل. ولكن حربه أعادت فتح سجلات “الناتو” الذي كادت مفاصله تُصاب بالتكلس، حتى وصل الحال بالرئيس الأميركي السابق، ترامب، إلى المطالبة بحله لعدم جدواه العسكرية. لتعود عجلة هذا الحلف إلى الدوران بعد الغزو الروسي لأوكرانيا، وتعود إدارة بايدن لضخّ حياةٍ جديدةٍ فيه بجعل دولتين بعيدتين نظريا عن ميدان المعركة، ولطالما جاهرتا بالحياد، السويد وفنلندا، تطالبان بالانضمام إلى هذا الحلف، وينتظر العالم بعد أيام قمّة مرتقبة له على مقربة من حدود روسيا في العاصمة فيلنيوس الليتوانية.
عُرفت دول أوروبا الشمالية، أو اسكندنافيا، بحيادها المعلن، حتى في حال تقاربها مع هذا الطرف أو ذاك ظرفيا، إلا أن الحياد كان عقيده سياسية. ورغم انضمام الدنمارك والنرويج المبكر لحلف الناتو، إلا أن الدولتين لم تنخرطا في جميع أنشطته، وحافظتا على ما يشبه الحياد حتى تحت مظلّة الحلف. واليوم، تجد دولة كفنلندا نفسها مضطرّة للدخول في “الناتو” للحماية، بما يعني أن الخطر الذي تراه محتملا من بوتين يفوق خطر السوفييت. وبوجود فنلندا في الحلف، ومع ترقّب انضمام السويد، ستصبح الدول الاسكندنافية بالكامل أعضاءً في “الناتو”، وهي المطلة على روسيا من الغرب، حيث فنلندا وحدودها الطويلة غير المحروسة جيدا، وتساهم بحصتها العسكرية في “الناتو”، ما يؤدّي إلى مزيد من الصعوبات العسكرية والاقتصادية على بوتين، وهو يجد نفسه أمام تهديد جدّي يكاد يشمل حدوده الغربية بالكامل، فمن الأعلى فنلندا نزولا نحو أستونيا ولاتفيا، وفي الأسفل المنطقة الملتهبة في أوكرانيا. وبهذا، من غير المعروف كم ستصمُد بيلاروسيا، حليفة موسكو، قبل أن تبدأ حركة عصيانها هي الأخرى، لتجعل غرب روسيا قاتما وشديد الظلمة.
العربي الجديد
—————————-
ارتياح روسي لضبابية آفاق عضوية أوكرانيا في “ناتو”/ رامي القليوبي
لم تفجّر قمة حلف شمال الأطلسي (ناتو) التي اختتمت أعمالها في العاصمة الليتوانية فيلنيوس أول من أمس الأربعاء، مفاجآت كبيرة بالنسبة إلى موسكو، إذ لم يقدّم الغرب، كما كان متوقعاً، وعوداً واضحة لأوكرانيا بعضوية وشيكة في الحلف، رافعاً في الوقت نفسه مستوى التسليح، ومعلناً عن تخفيف إجراءات الانضمام وتقديم ضمانات أمنية طويلة الأجل لأوكرانيا من قبل مجموعة الدول السبع.
وقد أثار الدعم الغربي المتزايد لأوكرانيا في قمة فيلنيوس حفيظة موسكو، والتي توعّدت على لسان المتحدث الرسمي باسم الرئاسة الروسية ديمتري بيسكوف، بـ”ردّ حازم” في حال انضمام أوكرانيا إلى “ناتو”.
وبالتزامن حذّر نائب رئيس مجلس الأمن الروسي ديمتري ميدفيديف، من أن قرار الحلف زيادة الدعم العسكري لأوكرانيا يقرّب حرباً عالمية ثالثة.
ومع ذلك، ثمة مؤشرات لارتياح روسي لنتائج القمة نظراً لما كشفته من انقسامات داخلية في الحلف بشأن مصير عضوية أوكرانيا واستياء الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي، من ذلك. إلا أن هذا الارتياح يتخلّله انزعاج روسي من تسليم صواريخ “سكالب” الفرنسية بعيدة المدى للجيش الأوكراني، وتقلُّب موقف الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، الذي دعم العضوية المستقبلية لأوكرانيا وقبل بعضوية السويد.
قمة انتصار أردوغان
واعتبر أستاذ العلوم السياسية في معهد موسكو الحكومي للعلاقات الدولية كيريل كوكتيش، في حديث لـ”العربي الجديد”، أن أردوغان بدا وكأنه المنتصر الوحيد في قمة “ناتو” بعد أن تمكّن من فرض شروطه للموافقة على قبول السويد إلى عضوية الحلف، مقللاً في الوقت نفسه من أهمية تأثير عضوية استوكهولم على أمن روسيا.
وأضاف كوكتيش أنه “كان يُخطَّط لقمة ناتو أن تكون قمة للمنتصرين يتم خلالها الاستماع إلى تقارير حول نجاح التقدم الأوكراني المضاد، وكيفية الحديث مع روسيا من موقع القوة”. وأوضح أن “ذلك لم يتحقق، مما اضطر الحلف للتوصل إلى اتفاقات مع أردوغان بشأن قبول السويد من أجل حفظ ماء الوجه”.
واعتبر كوكتيش أن أردوغان هو المنتصر الوحيد في القمة، مضيفاً أنه حصل على وعود بتسليم مقاتلات “أف-16” الأميركية ورفع العقوبات المفروضة على قطاع التصنيع العسكري التركي، ما يعني أنه تمكّن من فرض شروطه. وعلى حد تعبير كوكتيش، “صحيح أنه لم يتم الوفاء بطلبه المتعلّق بدعم انضمام تركيا إلى الاتحاد الأوروبي، ولكنه لم يكن يطمح في ذلك من أساسه، منطلقاً من مبدأ اطلب الكثير، فستحصل على شيء ما”.
ومن اللافت أن التفاهمات الأخيرة بين تركيا وحلف الأطلسي تزامنت مع موجة من التوتر في العلاقات بين موسكو وأنقرة، إثر سماح أردوغان بعودة مقاتلي كتيبة “آزوف” القومية المتشددة إلى أوكرانيا، والغموض حول مصير “صفقة الحبوب” التي ينتهي سريان مفعولها في 17 يوليو/تموز الحالي.
ومع ذلك، قلّل كوكتيش من تأثير انضمام السويد إلى الحلف على أمن روسيا، بسبب بعدها الجغرافي النسبي، إذ إن المخاطر الأمنية الناجمة عن انضمام السويد أقل من تلك المتعلقة بعضوية فنلندا. وأضاف أن “روسيا لم تكن متوهّمة بحياد السويد، مدركة أنها كانت دولة مقرّبة من الحلف حتى من دون عضوية رسمية”.
وجزم كوكتيش بأن روسيا لم تخرج طرفاً خاسراً من قمة “ناتو”، فالحلف أظهر بوضوح أنه غير مستعد لتحمّل مخاطر الدفاع عن أوكرانيا، “ولكنه ربما كان سيقبل إعطاءها العضوية في حال كانت تنتصر على الأرض”.
من جهته، اعتبر الخبير في مركز بحوث قضايا الأمن التابع لأكاديمية العلوم الروسية قسطنطين بلوخين، هو الآخر أن روسيا تشعر بالاطمئنان لما تراه تقديم وعود لأوكرانيا بالعضوية في حلف الأطلسي، من دون نيّة قبولها على أرض الواقع.
وقال بلوخين في حديث لـ”العربي الجديد” إنه “من البديهي للجميع أن مخرجات القمة معادية لروسيا، ولكن موسكو سعدت بل تحمست لوجود شخصيات في الحلف تتمتع بالعقل السليم ولا تريد حرباً عالمية ثالثة مع روسيا، لأن منح العضوية لأوكرانيا كان سيعني توريط دول حلف شمال الأطلسي في النزاع معها تلقائياً”.
وأوضح أن “ناتو” لا يحتاج إلى أوكرانيا في حد ذاتها، مضيفاً أنه “تم تقديم وعود لأوكرانيا بالعضوية من دون النية لقبولها، لأن هناك منظومة تعاون قائمة بالفعل بين الحلف وكييف من جهة تسليح هذه الأخيرة”. ولفت إلى أن “أوكرانيا هي التي تحتاج إلى العضوية في الحلف من أجل الاستفادة من إمكانياته وموارده المالية والحصول على تذكرة الدخول إلى النادي الغربي المغلق”.
مواجهة الصواريخ الفرنسية
على الرغم من الارتياح الروسي العام لمخرجات قمة فيلنيوس إلا أنها لم تخلُ من نتائج مخيبة لآمال موسكو مثل إعلان الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، عن تسليم صواريخ “سكالب” بعيدة المدى لأوكرانيا.
ومع ذلك، اعتبر الخبير العسكري وكبير الباحثين بمركز تحليل الاستراتيجيات والتكنولوجيا يوري ليامين، أن روسيا قادرة على مواجهة صواريخ “سكالب” بعد أن سجّلت سوابق لإسقاط صواريخ “ستورم شادو” البريطانية المماثلة.
ولفت ليامين في حديث لـ”العربي الجديد” إلى أن النسخة الفرنسية من الصواريخ هي من نفس صواريخ “ستورم شادو” التي تسلّمها بريطانيا بالفعل لأوكرانيا. وأوضح أن “هذه الصواريخ من التصميم المشترك، وكانت تنتج للقوات الجوية البريطانية كـ”ستورم شادو”، وللقوات الجوية الفرنسية كـ(سكالب إي جي)”.
إلا أن ثمة تساؤلات حول مواصفات الصواريخ الفرنسية المورّدة إلى أوكرانيا، إذ أوضح ليامين أن المدى المعلن البالغ 250 كيلومتراً، هو مدى النسخة التصديرية من صاروخ “سكالب”، لافتاً إلى أن “فرنسا تسلّم حالياً صواريخ مجنّحة من قواتها المسلحة” قد يصل مداها الفعلي إلى 560 كيلومتراً.
وأوضح أن صواريخ “سكالب” مخصصة لإصابة أهداف مغطاة بوسائل الدفاع الجوي، مضيفاً أنه “من أجل هذا الغرض، أُنتجت مع تقليص مرئيتها للرادارات حتى تتمكن من التحليق على أدنى المرتفعات”. ولفت إلى أنها “هدف صعب، ولكن يمكن تدميرها، وهناك أمثلة على تدمير صواريخ “ستورم شادو” التي سلمتها بريطانيا بواسطة وسائلنا (روسيا) للدفاع الجوي”.
وبموازاة انضباط كبار المسؤولين الروس في تصريحاتهم خلال يومي قمة “ناتو”، برز تحذير مدفيديف، والذي تحوّل منذ بدء الحرب الروسية المفتوحة في أوكرانيا من سياسي ليبرالي إلى “صقر”، من أن قرار الحلف زيادة الدعم العسكري لأوكرانيا يقرّب حرباً عالمية ثالثة.
ورأى السياسي الروسي أن هذا القرار وغيره من قرارات “ناتو” (بشأن انضمام أوكرانيا إلى الحلف في المستقبل) لا تعني لموسكو سوى مواصلة العملية العسكرية بالأهداف السابقة، وأحدها هو تخلي كييف عن الانضمام إلى الحلف. وأضاف أنه نظراً لعدم عزم القيادة الأوكرانية فعل ذلك، “سنضطر إلى القضاء على هذه المجموعة”.
—————————–
روسيا وأوكرانيا… حرب تبحث عن نهاية/ رمزي عز الدين رمزي
لا مؤشرات على حسم وشيك للحرب
لقد مضى أكثر من عام على بدء الأزمة الأوكرانية. وعلى الرغم من ذلك، لا تسوية تلوح في الأفق، بل على العكس تتنبأ الوثائق المُسربة الصادرة مؤخرا عن البنتاغون بأنه لن يحصل أي تحرك باتجاه تسويةٍ سياسية هذا العام.
وفي غضون ذلك، فإن الموقفين الروسي والأوكراني آخذان في التعنّت. إذ تُواصل أوكرانيا إعلان التزامها بمواصلة الحرب حتى “تستعيد كل الأراضي التي خسرتها منذ عام 2014 أمام روسيا، وهي تتلقى في ذلك دعم الولايات المتحدة وحلفائها في تلك الحرب”.
في المقابل، يبدو أن روسيا ماضية في عزمها على تحسين موقفها على الأرض ولم تُظهر أدنى اكتراثٍ بإنهاء الحرب في وقت وشيك. واكتفت بتكرار القول بأنها لا تزال مستعدة للمفاوضات.
وصفت الولايات المتحدة الصراع بأنه تحدٍ عالمي يضع الديمقراطيات في مواجهة مباشرة مع الأنظمة الاستبدادية، وهي تواصل ضخ المساعدات العسكرية والاقتصادية إلى أوكرانيا لضمان استمرارها في الحرب. ويأمل الأوروبيون أن تأتي روسيا في نهاية المطاف إلى طاولة المفاوضات تحت ضغط العقوبات المتنامي.
من جهة أخرى، ألمحت الصين إلى أنها لن تسمح بهزيمة روسيا، لكنها لن تقبل أيضا بحالة يكون فيها الصراع مفتوحا. فإذا أضفنا هذا التلميح الصيني إلى عزم الصين توفير أسلحة فتاكة لروسيا، لأمكننا تفسيره كمؤشّر على نفاد صبر بكين المتزايد من الوضع الحالي ونيتها التوسط في مرحلة ما من الصراع.
ولا تريد بقيةُ دول العالم، وهي التي تعاني من عواقب الحرب الاقتصادية، الانحياز إلى أي طرف من طرفي الصراع، وهي ترغب عموما في التوصل إلى تسويةٍ مبكرة.
هل من آفاق لإنهاء الصراع؟
إن السؤال الذي يستدعي الإجابة عليه هو: لماذا يواجه التوصل إلى تسوية صعوبة حتى الآن، وما هي احتمالات التوصل إلى تسوية؟
أولا، لم تنتفِ الأسباب التي حملت روسيا على التدخل عسكريا في أوكرانيا. بل هي على العكس من ذلك تعززت، وأصبحت موسكو الآن أكثر اقتناعا بأن الغرب عازم على إضعاف الدولة الروسية. وقد تجلى هذا بوضوح في وثيقة “مفهوم السياسة الخارجية للاتحاد الروسي” الذي صدر في 31 مارس/آذار 2023.
ثانيا، شدّد الطرفان على الطابع الأيديولوجي للنزاع. فبالنسبة للغرب، هو في خضم حالة صراع بين “الأنظمة الاستبدادية (روسيا) والديمقراطيات (الغرب وحلفائه)” وهو ما عُرض بوضوح في استراتيجية الأمن القومي لإدارة بايدن الصادرة في أكتوبر/تشرين أول 2022.
أما بالنسبة لروسيا، وكما يظهر على نحو جَلِيٍّ في مفهوم السياسة الخارجية للاتحاد الروسي، فإن النزاع يدور في واقع الأمر حول سعي الولايات المتحدة وحلفائها لــ”… إضعاف روسيا بكل السبل الممكنة، بما في ذلك تقويض دورها الحضاري البنّاء ….” بعبارة أخرى، يشكّل الوضع في أوكرانيا تهديدا وجوديا لروسيا. ويخبرنا التاريخ أن الحروب الأيديولوجية هي أكثر الحروب ديمومة.
لا يمكن لروسيا أن تتحمل الهزيمة. كما أنه لا يمكن لها بكل تأكيد التخلي عن شبه جزيرة القرم. ولا يمكنها أيضا الانسحاب من الجسر البري الذي يربط شبه جزيرة القرم بالبر الرئيسي لروسيا. وفيما يخص إقليم الدونباس، وفي حين أن روسيا ربما ليست قادرة على ضم الإقليم بأسره كما خططت له في الأصل، فإنها ستحاول الاحتفاظ بالأراضي التي تسيطر عليها الآن. أخيرا، سيتطلب الأمر تقديم ضمانات بالسلامة وبالأمن وبالحقوق الثقافية للناطقين بالروسية في المنطقة. وهذه مهمة طويلة الأجل ولا يمكن تحقيقها على المدى القصير.
بينما يرتكز النموذج السياسي الغربي على انتشار السلطة، ويرتكز على نظام من الضوابط والتوازنات، وعلى نظرة براغماتية، فإنه لا يمكن لأي شخص مطلع على التاريخ الروسي أن يتجاهل حقيقة أن العقلية الروسية تمتلك خصائص ثابتة تنعكس في النظام السياسي الروسي: الإيمان بالاستثناء وقبول السلطة المركزية والرهاب الأمني الناجم عن حقيقة أن روسيا، على مر القرون، قد غزاها الغزاة من جميع الأنحاء.
هذه الخصائص هي المسؤولة إلى حد كبير عن التنافس المتقطع بين روسيا والغرب. وجاءت الأزمة الأوكرانية لتزيد من شعور موسكو بالضعف ولتعزز حاجتها إلى إعادة هيكلة البنية الأمنية الأوروبية وتسرع التحرك نحو نظام دولي متعدد الأقطاب. لذا فإن الأزمة الأوكرانية هي أكثر من مجرد أزمة لأوكرانيا. إنها بمنزلة مفتاح لمكانة روسيا في الفضاء الأوروآسيوي، وهو أمر أساسي لأمنها القومي ومكانتها الدولية.
شعبية بوتين في روسيا
وفي غضون ذلك كله، لا يزال الرئيس بوتين يتمتع بشعبية كبيرة في روسيا. ويبدو أن الحكومة الروسية قد نجحت إلى حد كبير في حماية سكان المدن الرئيسة على الأقل من تأثير العقوبات. فلا تزال الضروريات الأساسية للحياة متوفرة، بما في ذلك واردات الأغذية الطازجة التي تأتي من مصادر متعددة بما في ذلك تركيا وإيران وآسيا الوسطى. وحتى أن البضائع الأوروبية التي يُفترض أنها محظورة هي في واقع الأمر متوفرة في السوق الروسية، إذ تشق طريقها عبر وسطاء في بلدان القوقاز وأبخازيا وأوسيتيا الجنوبية.
ويتصف الوضع الاقتصادي في روسيا بالصمود أيضا، على عكس التوقعات التي تنبأت في بداية الحرب بانهيار الاقتصاد الروسي. إذ توقعت التقديرات انكماش الاقتصاد الروسي بنحو 15 بالمئة في عام 2022. وبحسب صندوق النقد الدولي، فإن الناتج المحلي الإجمالي الروسي انخفض بنسبة 2.2 بالمئة فقط في عام 2022 ويتوقع أن يكون الأداء أفضل في عام 2023، حيث سيعاني من انخفاض بنسبة 0.3بالمئة فقط. وبينما ينهار الوضع، فقد شهدت التجارة مع الاقتصادات الرئيسة خارج العالم الغربي زيادة كبيرة، خاصة التجارة التي تجري مع دول البريكس.
لقد عوضت التجارة مع البريكس عن انخفاض طلب الأوروبيين على النفط والغاز الروسي عن طريق بيع المزيد منه إلى الصين والهند. وعندما تبدأ أثار العقوبات في الظهور، خاصة عندما يتعلق الأمر بتوافر الرقائق الدقيقة الضرورية لإنتاج الأسلحة الروسية، سيكون من الصعب التنبؤ بتأثير تلك العقوبات على الاقتصاد الروسي.
وأثبتت أوكرانيا بالدليل القاطع قدرتها على الصمود. وبدعم حاسم من الغرب، فاق أداء الجيش الأوكراني كل التوقعات وتمكن من صد الهجمات الروسية. ولقد تمكن الأوكرانيون في الواقع من استعادة جزء من الأراضي التي خسروها في المرحلة الأولى من الحرب. وعلاوة على ذلك، فإن الجبهة الداخلية قد صمدت بحزم، وهو الأمر الذي يثبت أن القومية الأوكرانية ما زالت تنبض بالحياة.
أما الولايات المتحدة، فقد أوضحت بجلاء أن هدفها يتمثل في إضعاف روسيا إلى حد كبير كيلا تشكل تهديدا على جيرانها من الغرب. ولكن، غايتها الحقيقية ليست واضحة في حقيقة الأمر. إذ أوضح رئيس الأركان الأميركي كيلي أنه لا يعتقد أن بوسع أوكرانيا كسب الحرب، بمعنى استعادة الأراضي التي خسرتها لصالح روسيا.
وفي هذه الأثناء، لا يزال النظام الدولي متقلبا في وقت تتنافس فيه كل من الولايات المتحدة وحلفائها من جهة، والصين وروسيا من جهة أخرى لضمان مكانة مميزة لهما. وتشعر بقية دول العالم بالقلق إزاء ما يبدو أنه مواجهة طويلة الأمد تذكرنا بالحرب الباردة، على الرغم من أنه جرى خوض الحرب هذه المرّة بأسلحة مختلفة، جُلّها أسلحة اقتصادية، وبالتالي حملت معها تأثيرا مباشرا أكبر على دول الجنوب.
لم يبذل أحد حتى الآن أي جهد جاد للوساطة بين الموقفين المتشددين لكل من روسيا وأوكرانيا. وبينما أبدت عدة دول استعدادها للوساطة، وكان آخرها البرازيل، فإن الدولة الوحيدة التي لديها نفوذ كاف لأداء مثل هذا الدور هي الصين، ولا يزال يتعين عليها أن تبدي موقفا أقوى في هذا الصدد. ما فعلته الصين حتى الآن هو الإشارة فقط إلى استعدادها للقيام بالوساطة، لكنها ربما تنتظر اللحظة المناسبة والحلفاء المناسبين للشروع في هذا المسار المعقد المحفوف بالعديد من المخاطر.
هل وصلت الأزمة إلى طريق مسدود؟
ويبدو الوضع السائد أنه وصل إلى طريق مسدود، ومع ذلك ثمّة مؤشّرات أيضا على أن ذلك يتغير، فهناك تلميحات إلى أن الدعم الغربي لأوكرانيا قد يتآكل، وهناك بالمقابل شكوك باقية حول المدة التي يمكن لروسيا أن تستمر فيها الحرب.
ويبدو أن التعب يزحف في الولايات المتحدة، وقد يتضاءل التأييد الشعبي للحرب في ظل عدم تحديد مآل هذه اللعبة في النهاية حقا. أضف إلى ذلك تعاظم الشكوك حول القدرة على توفير الأسلحة بالحجم المطلوب لمواصلة الحرب. لقد رأينا بالفعل علامات على ذلك عبر الطيف السياسي، وخاصة بين الجمهوريين.
بالإضافة إلى ذلك، مع اقتراب دورة الانتخابات من نهايتها بالسرعة القصوى، سيكون هناك ضغط متزايد على الرئيس بايدن لتوضيح معنى كل ما يجري في أوكرانيا وكيف سينتهي. وقد يضطر بايدن إلى القيام بذلك بحلول الخريف المقبل، لأن فشله في القيام بذلك بحلول ذلك الوقت سيحدّ بشدة من قدرته على المناورة بعد ذلك، مما سيجبره على التشدّد في موقفه بدلا من البحث عن حل. بعد كل شيء، لا يود أي رئيس حالي أن يُنتَقَد لخسارته (أوكرانيا) أمام روسيا.
وهناك أيضا مخاوف في كل من الولايات المتحدة وأوروبا من أن أوكرانيا ستحتاج إلى المزيد من الأسلحة، وأفضلها، لمقاومة أي هجمات روسية أخرى، إذا استمر النزاع. ما يعني أن الحرب ستؤدي إلى تآكل الاستعداد العسكري للغرب واستنزاف مخزوناته من الأسلحة. ويبدو أن القاعدة الصناعية الدفاعية لا تستطيع مواكبة إنفاق أوكرانيا على المعدات والذخيرة.
لا يزال الوضع في أوروبا غير قابل للتنبؤ. أتاح الشتاء الدافئ للأوروبيين الابتعاد عن الاعتماد على الغاز الروسي. ولكن على نحو متزايد، تُظهر الدول الأوروبية قلقا متزايدا بشأن وضعها الاقتصادي غير المستقر، ولكن أيضا القلق بشأن استمرار الدعم العسكري لأوكرانيا دون أن يبدو في نهاية النفق أي ضوء. ويبقى أن نرى ما إذا كان هذا القلق سيترجم إلى ضغط لمتابعة حل سياسي في أوكرانيا.
من جانب آخر، على الرغم من أن أداء روسيا الاقتصادي قد يتحسن، فإن موسكو قد تواجه خيارات وقرارات صعبة. فلمواصلة الحرب، ستحتاج إلى مزيد من التعبئة، وهو قرار يفضل الرئيس بوتين تجنبه. والأخطر أنه مع انخفاض المعروض من الرقائق الدقيقة، فإن إنتاجها الصناعي، وخاصة العسكري، سوف يعاني صعوبات حقيقية، مما سيضيّق على الشعب ويقلص قدرة الجيش على مواصلة الحرب.
باختصار، روسيا والغرب قد يقتربان من موقف سيكون فيه ثمن إنهاء الأعمال العدائية أكبر من التزامهما باستمرار الحرب قائمة حتى النهاية. وفي ظل هذه الظروف ومع عدم رغبة كل من روسيا وأوكرانيا في دفع الثمن السياسي للتسوية، ستكون النتيجة الأكثر احتمالاً مماثلة للسيناريو الكوري. خطوط تماس مجمدة وهدنة ومنطقة منزوعة السلاح على طول خطوط التماس، من دون وجود عملية سياسية.
وسيتم تأجيل تحقيق الحد الأدنى من الأهداف التي ستكون كل من روسيا وأوكرانيا مستعدين للتعايش معها لبعض الوقت في المستقبل. كما أن العلاقة بين روسيا والغرب، بما في ذلك مسألة الأمن الأوروبي، ستنتظر يوما آخر، في المستقبل البعيد.
المجلة
———————————–
المعضلة الروسية.. خمسمئة يوم على الحرب/ فارس الذهبي
تمر هذا الأسبوع ذكرى مرور خمسمئة يوم على بدء الحرب الروسية على أوكرانيا، وسط تخبط واضطراب وفوضى شكلتها هذه الحرب التي قام باتخاذ قرارها الرئيس الروسي فلاديمير بوتين نفسه، بمساندة ثلة من جنرالاته من المؤسسة العسكرية، ومن اللافت أن قرار الحرب قد اتخذ بمعزل عن الرأي الذي قدمته الاستخبارات الروسية بشقيها الأمني والعسكري، فالقرار حسب وكالات الأنباء العالمية هو قرار الرئيس ومن حوله فقط، وليس قرار دولة، أو برلمان، أو حتى رد فعل دفاعي، وإنما سوّق القرار على أنه رد فعل استباقي على اقتراب الناتو من حدود الفيدرالية الروسية، وأن ما تفعله القوات المسلحة الروسية ما هو إلا رد فعل احترازي و”عملية عسكرية خاصة” وليس إعلان حرب.. طبعاً كل ما قيل من هذا القبيل هو محض كذب، فالحرب ليست “عملية خاصة” كما يُصر الرئيس الروسي وإعلامه، والهدف المعلن بشأن إقصاء حلف الناتو عن الحدود الروسية تمرغ في وحول شرق أوروبا، فأدى إلى عكسه تماماً، فحلف الناتو، لم يعد فقط في أوكرانيا، وإنما دخلت دول أخرى تتشاطر الحدود الطويلة مع الفيدرالية الروسية إليه، فنلندا، التي خاضت حربين كبيرتين ضد روسيا في مئة عام، والتي تحتل روسيا أراضيَ منها، دخلت عملياً الحلف منذ أشهر، والسويد التي تتشاطر الحدود البحرية مع روسيا ستدخل قريباً، أما أوكرانيا فباتت عضواً غير معلن في الحلف، من حيث التسليح والاستخبارات، بل بات الشعب الأوكراني في حالة عداء وبقاء شرسة ضد حكومة بوتين، لم تكن عليه قبل الحرب، أما أغلب شعوب أوروبا التي ضاقت ذرعاً من الحروب، فهي أيضاً باتت تحسب حساباً لانفلات الجنون العسكري من الشرق نحو أراضيهم، بلغاريا ورومانيا، سلوفينيا، دول البلطيق، ألمانيا نفسها أعلنت خروجها من حالة اللاتسليح ودخول ماكينتها الصناعية عالم الصناعات العسكرية تحسباً لمواجهة مع الروس خلال هذا العقد.
أما عن نتائج تلك الحرب، فقد تجاوزت خسائر الجيش الروسي، خسائر سابقه الجيش السوفييتي في أفغانستان، وسط تخبط عسكري كبير، وانشقاقات وتبديل قادة عسكريين، وتمرد مسلح قاده أحد قادة الميليشيات المنتشرة في البلاد الروسية، فوسط عدد من الميليشيات (منها ميليشيا أحمدوف، وفيلق الحرية الروسي) شنت ميليشيات فاغنر تمرداً شهيراً الشهر السابق، ليس بهدف إسقاط الحكومة، وإنما لتوجيه أنظار الرئيس إلى ضرورة تغيير رأس الآلة الحربية الروسية في وزارة الدفاع. تخيلوا هذا، رئيس ميليشيا يطالب بتغيير وزير دفاع.
وسط كل هذا تتدفق الأخبار عن تزويد حلف الناتو لأوكرانيا بالذخيرة العنقودية، ضمن تحذيرات من استخدامها بعقلانية، كما صرحت الناطقة باسم الخارجية الأميركية، وهل يمكن استخدام الذخيرة العنقودية بطريقة عقلانية؟.
حذرت وزارة الدفاع الروسية من هذا التصعيد، وطالب العديد من السياسيين فلاديمير بوتين، “بإعلان التعبئة العامة، وعدم التهاون مع فكرة الحرب، عبر تسخيفها والتعالي عليها بتسميتها “عملية خاصة”، وخوضها كما يخوض الجيش الروسي الحروب عادةً”.
ولكن يخشى الرئيس الروسي في ما يخشاه انفلات الأمر ضده، وهو يعلم، بأن الغرب ينتظر منه الدخول الشامل في الحرب، كي يصطاده للمرة الثانية كما فعل في المرة الأولى حينما ورطه في الاجتياح الأول في 22 فبراير 2022، فكلفة الحرب الشاملة تعني اضطراباً شاملاً في المعسكر الداخلي لروسيا، تعني تعبئة عامة، وعسكرة المجتمع عبر سياقة عشرات الآلاف من الشباب إلى الجبهات وخفض مستويات العمالة، وازدياد الهجرة و الفرار من فئة الشباب، تعني مزيداً من الانفاق العسكري، تعني دماراً شاملاً للمدن والبنية التحتية، في روسيا وأوكرانيا على حد سواء، تعني تسخين الأجواء عالمياً وربما اضطراب سلاسل التوريد الغذائية، الحرب الشاملة تعني أيضاً احتمالية اللعب الصفرية، فإما فائز منتصر يحصد كل شيء، أو فاشل مهزوم يخسر كل شيء، بما فيه النظام و الدولة وربما تفكك الفيدرالية، وهو ما تستشعره الاستخبارات من تحركات الغرب، من حدود روسيا مع كوريا الشمالية وحتى حدود فنلندا.
اليوم ستعقد قمة الناتو في فيلينيوس، ليتوانيا، التي ستكون بمنزلة استعراض من الحلف، ضد بوتين نفسه، بعد إنذاره الشهير للحلف، بتقديم ضمانات مكتوبة تتضمن عدم انضمام دول جديدة للحلف، ففي هذه القمة سيحضر هؤلاء الأعضاء الجدد برفقة زيلينسكي نفسه..
فاللعبة النفسية تشغل حيزاً كبيراً في الحرب القائمة، الغرب لديه خبراء نفسيون دقيقون، وهو قد درس شخصية بوتين بتروي، فهو عنيف، يخشى الإحراج، وخصوصاً أمام كوادره وجنرالاته، فبعد تجاهل الغرب له ولإنذاراته، وتجاهله تماماً، دخل الحرب، وتبعثر الجيش وساءت الحالة الاقتصادية، وانتشرت الميليشيات.
فما الذي بقي من خيارات لدى بوتين، الخيار النووي؟
في كل شهر يخرج نائب رئيس مجلس الأمن القومي الروسي، ميدفيديف، ليذكر العالم بالخيار النووي، وبأن روسيا مستعدة لاستخدامه. ولكن بوتين لن يجرؤ على هذا.. فحتى القنابل التكتيكية النووية، ستعني عملياً حرباً شاملة ضده، حرباً لن تنتهي إلا بسقوط موسكو أو سقوط لندن!..والجميع يعلم إلى أين سترجح الكفة في هذا النوع من الحروب العدمية الصفرية.
إذاً الخيار المتبقي هو الالتزام بقواعد الاشتباك المفروضة من قبل الغرب، حرب تقليدية تستمر كما الـ500 يوم المنصرمة، خسائر بشرية واستنزاف، فوضى متصاعدة، ضعف اقتصادي، وتدرج في فقدان السيطرة من قبل القيادة المركزية الروسية على باقي البلاد والمستعمرات الجديدة.
تدخل الحرب الروسية على أوكرانيا يومها الـ500، وبوتين يدخل عقده الثامن، وسنته الثالثة والعشرين في الحكم، فأي إرث سيتركه بوتين على الإمبراطورية الروسية، المترامية الأطراف، هل التثبيت أم التشتت؟
——————————
روسيا “تختبر” أميركا في سوريا… وعينها على أوكرانيا/ أنطون مارداسوف
موسكو زادت تحركاتها العسكرية شرق الفرات
اسطنبول- في بداية شهر فبراير/شباط من العام الماضي- قبل أسبوع من بدء غزو أوكرانيا- امتلأت وسائل التواصل الاجتماعي بصور المركبات المدرعة الروسية محفور عليها حرف “Z” ورموز أخرى. ورغم أن اللافتات كان لها غرض وظيفي بحت (علامات لتجنب “النيران الصديقة”)، فقد أصبح يُنظر إليها على أنها رموز رسمية للغزو، حتى إنها حُظِرت في بعض البلدان. ومن المفارقات الآن أن نرى الجيش الأوكراني، في لقطات من شبكات التواصل الاجتماعي، يضع علامات مماثلة على مركباته المدرعة بينما يواصل هجومه المضاد الذي طال انتظاره.
وفي ظل هذه الظروف، سيتعين على الكرملين أن يولي اهتماما تاما بالجبهة الأوكرانية، خاصة إذا أعلنت كييف ليس فقط عن عزمها إخراج القوات الروسية من مناطق دونباس، بل والسعي أيضا لاستعادة شبه جزيرة القرم.
وبالإضافة إلى ذلك، احتدم النزاع بين يفغيني بريغوجين، مالك شركة فاغنر العسكرية الخاصة، والمؤسسة العسكرية الروسية الرسمية، مجددا على نحو عنيف. فقد أهان بريغوجين شخصيا كلا من وزير الدفاع سيرجي شويغو، ورئيس هيئة الأركان العامة فاليري غيراسيموف على اختلاقهما “مجاعة القذائف” كما زعم. وتباهى أيضا أنه بفضل مرتزقته فقط تأخر بدء الهجوم الأوكراني المضاد والواسع النطاق، حيث احتجزت القوات الأوكرانية في أرتيميفسك (باخموت) لأشهر وهي تقاتل قوات فاغنر العسكرية الخاصة.
تحول في التركيز
منذ بداية مارس/آذار، وطوال أبريل/نيسان، ومايو/أيار، أبدى الطيران الروسي نشاطا متزايدا في سوريا، كما ذكر مسؤولون أميركيون مرارا. فقد بدأت الطائرات والطائرات دون طيار الروسية في التحليق فوق أهداف عسكرية أميركية بكثافة، خلافا لاتفاقيات فض الاشتباك. وقد لا تكون هذه هي المرة الأولى، فربما جرت حوادث مماثلة من قبل، ولكن على نحو أقل. وحسب وثائق البنتاغون المسربة، في نوفمبر/تشرين الثاني 2022، فإن قوات الدفاع الجوي الروسية في القامشلي كادت أن تُسقط طائرة “MQ-9 Reaper UAV”، وهي من نوع الطائرات دون طيار نفسه التي اعترضتها مقاتلة روسية وأصابتها فوق المياه المحايدة للبحر الأسود في مارس/آذار 2023.
ووجهت موسكو اتهاماتها لواشنطن بأنها تحاول تصعيد التوتر ليس في منطقة البحر الأسود فحسب، بل في منطقة البحر الأبيض المتوسط أيضا، وادعت أن التحالف بقيادة الولايات المتحدة انتهك بروتوكولات فض الاشتباك وبنود المذكرة الأميركية الروسية بشأن السلامة الجوية فوق سوريا 213 مرة في أبريل/نيسان وحده.
ومع ذلك، أظهرت وثائق البنتاغون المسربة نفسها أن المخابرات العسكرية الأوكرانية كانت تخطط لمهاجمة القوات الروسية في سوريا، وهو ما كان سيجبر موسكو على نقل بعض القوات العسكرية من أوكرانيا. وحسب المصدر نفسه، تخلت أوكرانيا في النهاية عن الفكرة لعدد من الأسباب الفنية والسياسية.
غير أن هناك شكوكا موضوعية في أن موسكو تبنت موقفا تفاعليا بحتا في سوريا، وثمة مبررات للاعتقاد بأنها قد تبادر إلى ممارسة الضغط على المنشآت الأميركية في المنطقة.
أولا، في وقت مبكر من عام 2021، حاول الكرملين إجبار الناتو على التفاوض على هيكل أمني أوروبي جديد، ليس فقط من خلال التهديد بعمل عسكري ضد أوكرانيا، وإنما أيضا بالعمل النشط في سوريا، مثل إجراء تدريبات واسعة النطاق أو نشر قاذفات استراتيجية ذات قدرة نووية لفترة قصيرة في قاعدة حميميم الجوية. ومن المؤكد أن روسيا نشرت مجددا قاذفات “TU-22M3” في قاعدتها السورية نهاية مارس/آذار 2023.
ثانيا، ليس من قبيل الصدفة أن تصاعد النشاط الروسي في سوريا قد تزامن مجددا مع زيادة الحوادث التي تشتبك فيها القوات التي تعمل بالوكالة عن إيران والقوات الأميركية. وبينما أحجمت روسيا سابقا عن ربط نفسها بالهجمات الإيرانية وجمدت أنشطتها في شرق سوريا إلى حد كبير، فإنها مع بداية الحرب في أوكرانيا تعمّدت إظهار التنسيق مع إيران أو حتى الصين، غالبا دون موافقتهما، لإثبات صلابة وضع الكرملين وتوافر الموارد لخوض الحرب. غير أن الكرملين يعي أن التضامن مع إيران لا بد أن تكون له حدود واضحة، نظرا لمعارضة إسرائيل نشر طهران رادارات ومنصات للدفاع الجوي في سوريا.
ولهذه الأسباب مجتمعة، قد تنطوي تصرفات روسيا على تكتيك يهدف لتقليل الضغط عليها في أوكرانيا بالضغط على منافسيها في مناطق خارج أوكرانيا. والمخطط الذي كان من الممكن لكييف أن تجده مفيدا قد يكون أيضا جذابا لموسكو، التي لا تمتلك الكثير من الموارد لإنشاء أي خطوط حمراء في الظروف الحالية. مع ذلك، يحاول الكرملين جاهدا رسم خطوط حمراء تظهر لواشنطن أن عليها تقديم تنازلات في أوكرانيا وفي الأسلحة الاستراتيجية أيضا. على سبيل المثال، لم تخفِ موسكو رغبتها في إبرام معاهدة جديدة لمنع الحوادث في أعالي البحار وفي الجو شبيهة بالمعاهدة السوفياتية الأميركية لعام 1972، التي حدّدت، في حقبة الحرب الباردة من بين أمور أخرى، المسافة التي يسمح فيها للسفن والطائرات الحربية بأن تقترب من بعضها بعضا أثناء المناورات.
ولكن أن تربط موسكو بعناية مناطق البحر الأسود والبحر الأبيض المتوسط في “حزمة” واحدة، فهو في الواقع أمر طبيعي تماما وليس خطة تكتيكية لمواجهة الأزمة. والحقيقة أن الكرملين لا يسترشد في هذا الأمر بالمنطق الدبلوماسي أو حتى السياسي، بل بالتفكير العسكري الخالص. وإذا أخذنا منطق التخطيط العسكري هذا في الاعتبار، يمكننا أن نقدم تفسيرا منطقيا لكثير من خطوات موسكو التي تبدو غير متوقعة.
مسرحا الحرب مسرح واحد
عندما باتت موسكو رسميا طرفا في الحرب الأهلية السورية عام 2015، بدا الكثير من حججها غير منطقي. وحتى أن كثيرا من المستشرقين الروس والباحثين في الشأن القوقازي، مثلا، شككوا دائما في الخط الرسمي القائل بأن الحملة في سوريا يفترض بها أن تساعد السلطات الروسية على “محاربة الإرهاب بمقاربات بعيدة”. ويدرك الخبراء أن السلطات الروسية نفسها شجعت أشخاصا غير مرغوب فيهم على مغادرة شمال القوقاز إلى الشرق الأوسط، وذلك قبل دورة الألعاب الأولمبية الشتوية عام 2014 في سوتشي، ومن دون أن تولي هذه السلطات اهتماما كبيرا بالقضاء على الأسباب المؤدية إلى انتشار الأفكار المتطرفة بين المسلمين. ومع ذلك وقعت هجمات إرهابية في روسيا، وقد ربطها مرتكبوها ربطا مباشرا بالثأر من التدخل في سوريا.
وقد كان هناك أيضا كثير من الدبلوماسيين الروس ممن فهموا أن فرضية “محاربة التطرف” كانت مجرد دعاية، وأن العملية العسكرية كان لها أهداف وغايات مغايرة تماما، سياسية في المقام الأول.
ومع ذلك، فمن وجهة نظر الجيش الروسي تعتمد أفعال الكرملين على منطق قويم. والجيش هو من نسج سردية التدخل الروسي في الاتجاه الذي يحلو له.
وحسب التخطيط العسكري الروسي، فإن الجهة الاستراتيجية الجنوبية التي تتوافق مع المنطقة العسكرية الجنوبية، لا تشمل آسيا الوسطى ومنطقة البحر الأسود والحدود الروسية الأوكرانية فحسب، بل تشمل أيضا شمال القوقاز وجنوبه، وهي رأس جسر لنشر القوات في البحر الأبيض المتوسط. وفي الواقع، منذ الحرب مع جورجيا عام 2008، تلقت قوات المنطقة العسكرية الجنوبية معدات أكثر تطورا دون غيرها من المناطق الأخرى، وتلقت تدريبا أفضل على نحو بيّن.
وقد أدرجت شبه الجزيرة القرم وسيفاستوبول، بعد ضمهما، في المنطقة العسكرية الجنوبية عام 2014، ثم تلتهما أراضي دونباس عام 2023. وبسبب قرب شبه الجزيرة من سوريا، زود الجيش الروسي المتمركز في هذه المنطقة بسفن إنزال كبيرة من سيفاستوبول. كما نفذت سفن أسطول البحر الأسود وأسطول بحر قزوين، وهما جزء من المنطقة العسكرية الجنوبية، ضربات ضد أهداف للمعارضة وأهداف للإرهابيين في سوريا. كما أُعيد انتشار الطيران القتالي في الغالب من مطارات القرم لصالح العملية في سوريا، بينما شكلت وحدات المنطقة العسكرية الجنوبية العمود الفقري للشرطة العسكرية الروسية شرقي حلب.
ولكن حتى مع التغييرات الأخيرة، تظل المنطقة العسكرية الجنوبية أصغر منطقة عسكرية في روسيا، بينما تشمل مساحة مسؤوليتها المناطق الأكثر إشكالية والمعرضة أكثر للصراع. أما في التخطيط العسكري لحلف الناتو، فإن أهم رأس جسر لهجوم محتمل على شبه جزيرة القرم هو البحر الأبيض المتوسط. وقد رأت الولايات المتحدة منذ الحرب الباردة، الجزء الشرقي من هذا الحوض البحري الشاسع كمنصة ملائمة لـهجوم افتراضي على جنوب وسط روسيا من حاملات الطائرات وصواريخ توماهوك كروز.
بعد بدء الحرب في أوكرانيا وبعد تدمير طراد الصواريخ الموجهة موسكفا والغرق القسري لسفينة الهبوط الكبيرة ساراتوف في بيرديانسك، حامت شكوك حول القدرة الحقيقية لأسطول البحر الأسود على القيام بعمليات قتالية على نحو فعال. وهذا ما يجعل روسيا تستعد الآن لنقل الأساطيل الروسية الأربعة وأسطول بحر قزوين من مناطقها العسكرية وإعادتها تحت إمرة القيادة الرئيسة للبحرية، كما كان في السابق، ليتمكن البحارة من المشاركة مباشرة في التدريب القتالي، متجاوزين الإجراءات البيروقراطية.
ولكن حتى في حال النقل المفترض للعمليات القتالية إلى شبه جزيرة القرم، فإن إمدادات المجموعة الروسية في سوريا ستظل دونما تغيير. وبعد قرار تركيا في عام 2022 بتقييد الرحلات الجوية العسكرية الروسية إلى سوريا وإغلاق المضائق التركية أمام السفن الحربية، أمست سيفاستوبول معزولة عما يسمى Syria”
“Express، وبات عبء إمداد القوات الروسية وقوات نظام الأسد بالسلاح والمساعدات الإنسانية ينقل بكامله عن طريق سفن الشحن الجافة على امتداد مسار نوفوروسيسك- طرطوس- نوفوروسيسك. وكيما يصل الإمداد على نحو أسرع، تستخدم غالبا طائرات النقل التي تحلق عبر إيران والأردن منذ أكثر من عام، باستثناء الرحلات الجوية الفورية التي تحمل شحنات إنسانية، التي تسمح لها تركيا بعبور مجالها الجوي إلى حميميم.
عامل التعب
منذ نهاية أبريل/نيسان 2023، نشأ وضع غير مسبوق أمام القوات المسلحة الروسية قبالة السواحل السورية؛ حيث تم تقليص قدرات قوة المهام الروسية على نحو جذري، حيث غادرت البحر الأبيض المتوسط ثلاث سفن في وقت واحد- فرقاطة البحر الأسود الأدميرال غريغوروفيتش واثنان من طرادات البلطيق سوبرازيتلني، وستويكي.
وقد أمضت طواقم الطرادين سوبرازيتلني وستويكي قرابة نصف عام (منذ أكتوبر/تشرين الأول 2022) في شرق البحر الأبيض المتوسط، بينما سجل طاقم الأدميرال غريغوروفيتش رقما قياسيا لم يسجَّل من قبل أيام الاتحاد السوفياتي ولا في أيام روسيا الحديثة. فقد غادرت السفينة سيفاستوبول متوجهة إلى سوريا في أكتوبر/تشرين الأول 2021 وبقيت في الخدمة القتالية طوال هذا الوقت دون أي رسو أو أي إصلاحات أخرى.
ولم يبقَ من السفن السطحية القتالية الكبيرة في المنطقة سوى فرقاطة الأدميرال غورشكوف، إضافة لغواصة حربية واحدة تعمل بالديزل والكهرباء من طراز “B-265” كراسنودار، وهي لا تكفي لخلق دفاع فعال على مقربة من الساحل السوري ضد تشكيل من السفن الكبيرة. ومن المستحيل استبدالها بسفن من سيفاستوبول بسبب الحظر التركي، والطريقة الوحيدة لتقوية المجموعة هي إرسال السفينة الكبيرة المضادة للغواصات الأدميرال ليفتشينكو من الأسطول الشمالي إلى الساحل السوري.
الشيء الوحيد الذي أسعف موقف روسيا، أن الولايات المتحدة قد سحبت الآن مجموعة من حاملات الطائرات بقيادة الحاملة “يو إس إس جورج إتش دبليو بوش” من البحر الأبيض المتوسط.
وهكذا، يواجه الجيش الروسي مهمة الحفاظ على نشاط دائم في البحر الأسود ومناطق البحر الأبيض المتوسط، وذلك لإبراز صورة القوة والاستجابة لمختلف تدريبات الناتو مثل مناورات نبتون سترايك 2022 للأسطول الأميركي السادس وممارسة الضغط السياسي على خصومه الجيوسياسيين.
لكن بسبب نقص السفن السطحية الكبيرة في الأسطول واستمرار الحظر التركي على مرور السفن الحربية الروسية عبر مضيق البوسفور والدردنيل، وهو ما يؤثر في قدرتها على إصلاح وتحديث سفن أسطول البحر الأبيض المتوسط، فإن القدرة الروسية على إبراز القوة في مسارح العمليات تلك- البحر الأسود والبحر الأبيض المتوسط- غير متكافئة. من الواضح أن من مصلحة الكرملين سد هذه الفجوة بالموارد المتاحة مثل نشاط الطيران.
المجلة
=====================
تحديث 06 تموز 2023
————————————-
بوتين الضعيف… ليس حلاً للغرب
لن تهدأ العاصفة التي خلّفها تمرّد مجموعة “فاغنر” العسكرية الروسية في وقت قريب، لا في روسيا ولا في أوروبا ولا في الولايات المتحدة أو أنحاء أخرى من العالم
في الداخل، يحاول الرئيس الروسي فلاديمير بوتين ترميم صورته التي تضرّرت من التمرّد. النظام بدا ضعيفاً. هذه حقيقة لا جدال فيها، وإلاّ كيف تمكّن 5 آلاف مقاتل من شركة خاصة الوصول إلى أبواب موسكو، وإسقاط 6 مروحيات وطائرة نقل فيها 13 طياراً
التساؤلات المصاحبة للتمرّد ساهمت هي الأخرى في هزّ مكانة الرئيس الروسي: هل تحرّك قائد المجموعة المتمرّدة يفغيني بريغوجين وحده؟ وكيف استولى بسهولة على مقرّ القيادة العسكرية الجنوبية في روستوف، والانطلاق من هناك إلى موسكو؟ هل كان الرجل يتمتع بتأييد أحد من داخل المؤسسة العسكرية؟ لماذا سرت كل هذه الشائعات حول مصير نائب قائد القوات الروسية في أوكرانيا الجنرال سيرغي سوروفكين؟
الإرتباك لا يسود روسيا وحدها. إنّه يطاول دولاً أوروبية هالتها سرعة التطورات في روسيا، وبدأت تراجع حساباتها. ماذا يخبئ إنتقال بريغوجين إلى المنفى في بيلاروسيا؟ وهل لا يزال الرجل يشكّل تهديداً على أوكرانيا ودول أوروبية، أكثر مما يشكّله على الداخل الروسي؟
وفضلاً عن كل ذلك، ما هو الموقف الذي يتعيّن اتخاذه من بوتين، بين من يرى أنّ روسيا غير المستقرّة داخلياً تساهم في الإسراع بوضع حدّ للحرب في أوكرانيا، ومن يرى أنّ الفوضى في الداخل الروسي من شأنها التسبّب بأضرار كبيرة لأوروبا
كلام الممثل الأعلى للإتحاد الأوروبي جوزيب بوريل الخميس الماضي كان لافتاً. فهو قال قبيل قمة لقادة الاتحاد في بروكسل، إنّ “بوتين يشكّل خطراً أكبر لدى إضعافه. لذا، علينا أن نتنبّه جيّداً الى العواقب… كنا ننظر حتى الآن إلى روسيا على أنّها مصدر تهديد بسبب قوتها الكبيرة والقوة التي استُخدمت في أوكرانيا. أما الآن، فعلينا النظر إلى روسيا على أنّها مصدر خطر بسبب عدم استقرار الأوضاع الداخلية”
يُفهم من ذلك، أنّ أوروبا هي الأخرى ستجد نفسها أمام مأزق أكثر فداحة من الحرب في أوكرانيا، إذا ما إستبدّت الفوضى في الداخل الروسي. هذا الموقف الأوروبي يرقى إلى إقرار ضمني بارتباط الأمن الأوروبي ارتباطاً لا فكاك منه بالأمن الروسي. وهنا تفقد الدعوات إلى إلحاق هزيمة استراتيجية بروسيا، سندها الرؤيوي، لما يمكن أن يتفرّع عنها من واقع إنفلات الأمن الروسي، في حال ذهبت البلاد إلى حرب أهلية
كل هذا يقود إلى إعتقاد جازم، أنّ ثمة في أوروبا من يفكّر اليوم بأنّه كان يمكن تجنّب الحرب الأوكرانية وتداعياتها على روسيا وعلى القارة، لو أنّ الغرب كان أكثر مرونة في مسألة إنضمام أوكرانيا إلى حلف شمال الأطلسي
لكن هذه المرونة كان يقرأها الغرب إقراراً منه بالتخلّي عن السياسة التي ينتهجها منذ سقوط جدار برلين وتفكّك الإتحاد السوفياتي وانتهاء الحرب الباردة، بما كرّس نظام القطب الواحد في العالم
هنا يجب التوقّف ملياً عند كلام لرئيس هيئة الأركان الأميركية المشتركة الجنرال مارك ميلي في آخر إجتماع للدول الداعمة لأوكرانيا في بروكسل قبل أكثر من أسبوعين، إذ قال إنّ حرب روسيا على أوكرانيا “هي حرب على النظام العالمي”
هذه هي القراءة الاستراتيجية للحرب الروسية على أوكرانيا. وهذا ما يفسّر الشراسة الغربية في المواجهة مع موسكو. إنّها دفاع عن النظام العالمي القائم. والتراجع خطوة إلى الخلف يعني إنهيار هذا النظام. وهذا ما يفسّر أيضاً التصدّي الأميركي الشرس للصعود الصيني أيضاً
لكن الغرب يجد نفسه اليوم أمام وقائع جديدة تفرزها الحرب، لم تكن واردة في حساباته من قبل. إنّ إضعاف روسيا ليس الحلّ السحري المنشود، وإنما قد يشكّل بداية لأسوأ السيناريوهات المتخيّلة
النهار العربي
——————————
رغم كل شيء… هل ستواصل مجموعة «فاغنر» نشاطها؟
ترى المحللة مولي دونيغان أنه من المستحيل حلها كونها تمثل أهمية كبيرة للأهداف الجغرافية الاستراتيجية والقوة الاقتصادية لروسيا
شهد العالم الأسبوع الماضي مزيجاً من الخيال، والتوقع، والإثارة، والفزع، حين بدا أن مجموعة «فاغنر» الروسية تمثل تحدياً مباشراً لمؤسسة الجيش الروسي، المسلح نووياً. ومع ذلك، ليس من المحتمل تفكيك هذه المجموعة.
وتقول مولي دونيغان، وهي من كبار علماء السياسة لدى مؤسسة البحث والتطوير الأميركية (راند)، إن من المستحيل تقريباً تصور قيام القيادة الروسية بحل كامل لأساسيات شركة مجموعة «فاغنر» وكل المشاركين فيها، فهم يمثلون أهمية كبيرة للأهداف الجغرافية الاستراتيجية والقوة الاقتصادية الكبرى لروسيا.
وكان الرئيس الروسي فلاديمير بوتين صرح يوم الاثنين الماضي أنه سيلتزم بوعده بالسماح لجنود مجموعة «فاغنر» بالانتقال إلى بيلاروسيا، أو العودة لبلادهم ولعائلاتهم، أو توقيع عقود مع وزارة الدفاع الروسية.
و««فاغنر»» مجرد واحدة من الشركات العسكرية الروسية الخاصة الكثيرة المعروفة التي عملت، ولا تزال تعمل بالخارج، لكنها فريدة في نطاقها وحجمها، وقد تردد أنها نشرت خمسة آلاف مقاتل في ذروة الحرب الأهلية السورية خلال عام 2017، و50 ألفا في أوكرانيا مطلع العام الحالي. كما أن «فاغنر» لها نشاط في أنحاء أفريقيا، والشرق الأوسط، وأميركا اللاتينية، وغالبا ما تكون رأس الحربة الروسية في استعراض القوة في هذه المناطق.
وبالإضافة إلى ذلك، تعتبر «فاغنر» مصدر دخل كبير للكرملين، حيث إنها تمكن حكومة الكرملين من السيطرة سراً وبصورة مأمونة على مواقع التعدين واستخراج المعادن مقابل قدر كبير من الربح.
ومستقبل «فاغنر» التي قاتلت في أوكرانيا وتنشط في دول أفريقية وكذلك في سوريا، صار موضع تساؤل بعد التمرد الذي نفذته في روسيا بقيادة رئيسها يفغيني بريغوجين.
وأعلن وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف الجمعة أن مستقبل مجموعة «فاغنر» المسلحة في أفريقيا يعتمد على «الدول المعنية». وقال لافروف: «مصير هذه الترتيبات بين الدول الأفريقية ومجموعة «فاغنر» هو أولا وقبل كل شيء مسألة تخص حكومات الدول المعنية ما إذا كانت ستواصل هذا النوع من التعاون أم لا». بعد إنهاء بريغوجين التمرد بسرعة وتوجهه إلى المنفى في بيلاروسيا، بات يتعين على مقاتليه الاختيار بين اللحاق به أو الانضمام إلى الجيش الروسي النظامي أو العودة إلى الحياة المدنية، كما يجب على المجموعة تسليم معداتها وأسلحتها الثقيلة.
الاثنين، قالت جمهورية أفريقيا الوسطى، الدولة الأفريقية التي تنشط فيها «فاغنر»، إن روسيا ستواصل حضورها في البلد سواء بواسطة المجموعة المسلحة الخاصة أو بصيغة مغايرة. من جانبها، دعت فرنسا الأربعاء جميع الدول المعنية إلى النأي بنفسها عن «فاغنر»، وقالت إنها مستعدة لفرض عقوبات إضافية على خلفية الجرائم المنسوبة إلى المجموعة في مسارح عملياتها. كما أعلنت واشنطن عن عقوبات جديدة تطال المجموعة خصوصا على خلفية نشاطها في جمهورية أفريقيا الوسطى.
وتضيف دونيغان، مديرة برنامج الاستراتيجية والعقيدة والموارد بمركز أرويو التابع لراند، أنه ليس من الغريب أن أسس السوق الروسية الحالية بالنسبة للقوة تشكلها الشركات الخاصة التي ظهرت في فترة ما بعد الحرب الباردة لدعم الاحتياجات الأمنية لشركات الطاقة الروسية العملاقة، مثل «غازبروم»، و«تاتمبفتن» و«سترويترانسجاز»، و«زاروبيزنفت»، و«روزنيفت»، و«سورجوتين فتجاز».
وعلى مدار سنوات دأبت روسيا على الاستعانة ب«فاغنر» في ظل غموض استراتيجي: فما زالت العناصر العسكرية الخاصة غير قانونية في روسيا، مما يتيح قدراً كبيراً للغاية من الغموض إزاء نية الكرملين تجاه «فاغنر». وقد فضل بوتين أن يعامل بوجه خاص بريغوجين، قائد «فاغنر»، بصورة أبوية مثل أحد أبنائه، بينما يعامل وزارة الدفاع كابن، كالابن الآخر – ولم يرغب مطلقاً في إعلان أن أحدهما هو «الابن المفضل».
وتقول دونيغان إنها كشفت في كتابها «النصر للتأجير» أن المرتزقة يمكن أن يدعموا فاعلية الجيش عند استخدامهم بدلا من قوة عسكرية، ولكن في الحقيقة يمكن أن يضعفوا الجيش عندما يتم «نشرهم» إلى جانب القوات العسكرية النظامية. ومن الممكن أن تنجح عملية نشر المرتزقة وقوات الجيش معاً، ولكن فقط إذا تم تشكيل هيكل قيادة وتحكم واضح ومتسق ينصاع له الجميع.
وتشير دونيغان، وهي أحد كبار المحاضرين بمعهد السياسة والاستراتيجية التابع لجامعة كارنيغي ميلون، إلى أن بوتين عمل كل شيء عمدا لتجنب أن يكون هناك مثل هذا الهيكل الواضح والمتسق للقيادة والتحكم بين «فاغنر» والجيش، وكان يفضل بدلا من ذلك وضع وجهي العملة الخاص والعام في مواجهة كل منهما الآخر.
ويعتبر تمرد بريغوجين، بالاستعانة بــ25 ألف مقاتل روسي مستأجرين، مثالاً واضحاً تماماً على ما يحدث من خطأ عندما يتم نشر قوات خاصة وعامة في غياب وحدة هيكل القيادة.
لقد كان ذلك انقلاباً أو محاولة فعلية للاستحواذ على السلطة السياسية، لقد كان التمرد لعبة قوة مسرحية من جانب بريغوجين لإظهار أهميته بالنسبة للأطراف الأخرى في دائرة بوتين الداخلية.
وحدث ذلك مع محاولة وزارة الدفاع وضع مقاتلي «فاغنر» تحت سيطرتها المباشرة بعقود فردية مع نهاية شهر يونيو (حزيران)، مما يمثل فعليا تطويقاً لسيطرة بريغوجين في أوكرانيا ويعرض للخطر مشروعات «فاغنر» الكثيرة، والرابحة في أفريقيا، والشرق الأوسط، ومناطق أخرى بجنوب العالم. وكان ذلك مثالاً على استراتيجية حافة الهاوية للوقوف في وجه تهديد طويل الأمد لأعمال «فاغنر» من جانب القيادة العسكرية الروسية.
وسوف يتم تقدير خطوة روسيا التالية بعناية، وربما تتضمن تغيير اسم أو وصف مجموعة «فاغنر»، وإحلال شخص آخر محل بريغوجين كقائد لها، وربما يتم سحب مقاتلي «فاغنر» من أي أراض مجاورة لروسيا – بما في ذلك أوكرانيا – بسبب خطر وقوع تمرد آخر.
وأشارت دونيغان إلى أن قوات «فاغنر»، البالغ قوامها 50 ألف مقاتل، شكلت نسبة كبيرة من القوات البرية الروسية في الحرب مطلع العام الحالي، بالمقارنة بحوالي 169 ألفا إلى 190 ألفا من المقاتلين الروس الذين يعملون في أوكرانيا وحولها منذ فبراير (شباط) 2022 وفي ضوء أهمية أفراد «فاغنر» في العمليات الروسية بأوكرانيا واستعدادها للاستعانة بمقاتليها كوقود للمدافع في المهام الانتحارية، من الممكن أن يكون لهذا الخيار الخاص بالسحب التام لقوات «فاغنر» من أوكرانيا تداعيات كبيرة بالنسبة لقدرة روسيا على أن تخوض بفاعلية حربا برية هناك. واختتمت دونيغان تقريرها بالقول إنه لا يزال من غير المعروف ما إذا كان بوتين سوف يركز أساسا على الأساليب الجوية، والنووية وغيرها من الأساليب غير التقليدية عقب تنفيذ مثل هذا السحب لقوات «فاغنر».
—————————–
هل فشل “طباخ بوتين” في مسعاه وقدم خدمة مجانية لمنافسيه؟
————————–
صفقة “فاشلة” لسيطرة فاغنر على سوريا.. تعرف على تفاصيلها
—————————–
فك رموز مشاهد ظهور فلاديمير بوتين منذ تمرد فاغنر/ ستيف روزنبرغ
أين فلاديمير بوتين؟ سؤال راودنا جميعا يوم الإثنين – بعد يومين من تمرد دراماتيكي قامت به مجموعة فاغنر بقافلة من المقاتلين المرتزقة متوجهة إلى موسكو.
وأعلن متحدث باسم بوتين عن اتفاق لإنهاء تمرد فاغنر في وقت متأخر يوم السبت.
ولكن متى سيعلق الرئيس نفسه على الأمر المثير للجدل؟
كان الأمر مثيراً للجدل لأن مرتزقة فاغنر قد تمردوا واستولوا على مواقع عسكرية ثم ساروا إلى موسكو؛ وقتل طيارو سلاح الجو الروسي في التمرد.
ومع ذلك، وافق الكرملين على عدم مقاضاة مقاتلي فاغنر أو زعيمهم يفغيني بريغوزين مقابل إلغاء خطة التمرد.
تخطى قصص مقترحة وواصل القراءة
خلال الأسبوع الماضي، قام الرئيس بوتين بسلسلة من المظاهر العامة غير العادية – كلها متلفزة – في محاولة واضحة لضبط “السفينة”.
يوم الاثنين: مخاطبة الشعب عبر الفيديو
نسمع يوم الاثنين من بريغوزين رسالة صوتية نُشرت على الإنترنت تعرض جانبه من القصة.
ويقول إن رجاله توجهوا إلى موسكو “لمحاسبة” القادة الذين ألقى باللوم عليهم في “أخطاء” حرب أوكرانيا.
ثم صدر إعلان في وقت متأخر من المساء. “استعدوا: الرئيس بوتين سيخاطب الأمة”.
يظهر بوتين على شاشات التلفزيون بعد العاشرة مساءً.
خطاب منه في وقت متأخر من الليل أمر غير معتاد للغاية.
تضج وسائل التواصل الاجتماعي بشائعات مفادها أن هذا سيكون خطابًا “سيقرر مصير روسيا”.
وبخوف نشغل التلفزيون الروسي لنسمع الرئيس يتحدث.
سرعان ما يتضح أن هذا العنوان لن يقرر مصير البلاد. لا توجد إعلانات هامة ومحورية. لكن الخطاب الذي مدته خمس دقائق يقدم أدلة على الكيفية التي سيدير بها الكرملين الأحداث الدرامية في عطلة نهاية الأسبوع لصالحه.
يرسم بوتين صورة لروسيا توحدت لهزيمة خيانة قادة فاغنر.
إنه يحاول استقطاب الجميع إلى جانب: فيشكر الجمهور الروسي والمسؤولين الروس والزعماء الدينيين والقوات المسلحة الروسية وأجهزته الأمنية. وهو يميز بين قادة التمرد ومقاتلي وقادة فاغنر العاديين الذين يشيد بهم باعتبارهم وطنيين. بشكل حاسم، يقدم نفسه على أنه الرجل الذي تجنب إراقة الكثير من الدماء.
ويقول: “بمجرد أن بدأت هذه الأحداث تتكشف، تماشيا مع تعليماتي المباشرة، تم اتخاذ خطوات كبيرة لتجنب إراقة الدماء”.
الثلاثاء: مواجهة القوات
بحلول صباح الثلاثاء، كان هناك زخم كبير لمحاولة استعادة سلطته.
في حدث تم الترتيب له بسرعة، اصطف نحو 2500 جندي وحرس روسي ومسؤولين أمنيين في ساحة الكاتدرائية في الكرملين.
هذا هو ذات موقع مواكب التتويج والجنازة للقياصرة الروس.
جديلة بوتين: نزل الرئيس – القائد الأعلى للقوات المسلحة – على خلفية القباب بصلية اللون لكاتدرائيات الكرملين، من درجات الكرملين العديدة نزولاً إلى الساحة السجادة الحمراء.
بوتين يلقي خطابا لقواته.
حتى قبل أن يبدأ في الكلام، فإن الصور تقول كل شيء. كل شيء هنا في مكان واحد: الكنيسة الأرثوذكسية والكرملين والرئيس والجيش. إنه يذكرني بالشعار القديم للإمبراطورية الروسية: “للإيمان، للقيصر، للوطن”.
بعبارات أخرى، الرسائل المرئية هنا تدور حول تقديم روسيا كدولة متحدة خلف فلاديمير بوتين.
يبدو الأمر كما لو أنهم يريدون أن يعتقد الروس أن الكنيسة والجيش والرئيس كلها عناصر مترابطة، بل إنها جزء من كل واحد.
في خطابه المختصر، ادعى الرئيس بوتين مرة أخرى أن المجتمع الروسي قد اجتمع بعد تمرد فاغنر.
لكن معظم ما يقوله هو ثناء على جيشه “لوقف حرب أهلية”.
أعلن دقيقة صمت لروح طياري القوات الجوية الذين قتلوا. الرئيس يعبر عن احترامه، لكنه لم يتطرق بعد إلى السؤال عن سبب عدم محاكمة مقاتلي فاغنر بسبب خيانتهم للكريملين.
انتهى الكلام.
عزف النشيد الوطني وإلقاء التحية بالبندقية.
الرسالة العامة هنا بشكل مبسّط: الرئيس لا يقف وحيداً، بل وإنه وبمساعدة الجيش الروسي والشعب الروسي، حقق للتو نصراً عظيماً للأمة.
الأربعاء: بوتين… “قريب وشخصي”
ربما كان هذا هو الفيديو الأكثر إثارة للدهشة لبوتين خلال الأسبوع – وربما في العام. هذا لأنه نراه بوتين غير شبيه ببوتين، من حيث الاقتراب والشخصية من الجماهير.
السبب الرسمي لزيارة الرئيس بوتين لداغستان هو ترؤس اجتماع حول السياحة الداخلية.
لكن ليس الاجتماع هو الذي سيطر على نشرات الأخبار لاحقًا على التلفزيون الروسي. إنها المشاهد غير الاعتيادية التالية.
ظهر زعيم الكرملين وسط حشد من المحبين في مدينة دربنت.
لقد اعتدنا على رؤية فلاديمير بوتين يبتعد عن أولئك الذين يتعامل معهم. هل تتذكر طاولات الكرملين الطويلة مع بوتين جالسًا بأمان في أحد طرفيه وضيوفه في الطرف الآخر؟
ليس هنا. في داغستان يقوم بتقبيل الأطفال، ومصاحفة النساء، والتقاط الصور مع العامة.
التلفزيون الحكومي ينقرها.
“صراخ، صرير، تصفيق”: صاح مقدم برنامج حواري شهير على قناة روسيا الأولى. قال: “حتى نجوم موسيقى الروك لا يتلقون هذا النوع من الترحيب. الغرب يسخر من أنه بعد تمرد بريغوزين أصبح الرئيس ضعيفًا. وهذا يثبت العكس.”
يبدو سلوك بوتين غير عادته. من ناحية أخرى، لم يعد هناك شيء طبيعي بشكل خاص في روسيا.
كان الرئيس الروسي قد نجا للتو من تمرد مسلح. ربما يشعر بالحاجة إلى أن يثبت – للشعب والنخبة السياسية ولنفسه – أنه لا يزال لديه مؤيدين هناك. إن التعبير “العفوي” عن شعبيته بالشارع سيكون مناسباً لمشروع القانون.
عندما نشاهد هذه الصور، نتذكر فجأة ما حدث في نهاية الأسبوع الماضي، بعد إتمام الصفقة لإنهاء التمرد. عندما غادر مقاتلو فاغنر بقيادة بريغوزين روستوف ليلة السبت، تم تشجيعهم في الشوارع.
هل رأى فلاديمير بوتين تلك الصور؟ هل يشعر بالحاجة إلى لحظة “البطولة” الخاصة به؟
لعلنا لن نعرف الإجابة أبدًا.
الخميس: بحفاوة بالغة … ورسومات مبتكرة
ومع ذلك، فإن أي فرصة لمحاولة إظهار:
(أ) أنه مسؤول ومهتم
(ب) أنه نشط
(ج) أنه مدعوم ومحبوب من الشعب
يصفق الرئيس الروسي عند دخوله القاعة. يجلس ويستمع إلى أحد المنظمين يلقي كلمة افتتاحية.
وتقول مخاطبة بوتين: “فلاديمير فلاديميروفيتش، ومعك أنت والبلد بأسره، عشنا أحداث 24 يونيو التمرد بقلق. نحن معكم جميعا وندعمكم جميعا”.
ولإثبات ذلك، أبدى المندوبون ترحيبا حارا لفلاديمير بوتين.
من نفس الحدث، نرى فيديو آخر أكثر غرابة قليلاً. الرئيس بوتين يخربش على السبورة التفاعلية.
والنتيجة هي وجه أحمر شبيه بالرسوم المتحركة بثلاث خصلات من الشعر.
صورة غريبة من زعيم تعلم فن البقاء السياسي.
طوابير من القوات الموالية، البنادق تلقي التحية، صراخ الجماهير وتصفيق حار.
بهذه الأنواع من الصور، يحاول زعيم الكرملين إظهار أنه عاد إلى السيطرة.
حتى أن لديه الوقت للرسم. لا بد أنه يشعر بالثقة.
في أعقاب التمرد، شهدنا بوتين مشحونًا بقوة هذا الأسبوع.
كان هنا، كان هناك، بدا وكأنه في كل مكان. بدا الأمر كما لو أنه بدأ حملته لإعادة انتخابه، حيث تنتهي فترة رئاسته العام المقبل.
لكن الصور الإيجابية لا تغير حقيقة أن التمرد فاجأ الكرملين. لقد كان تهديدا واضحا. كان مقاتلو فاغنر في طريقهم إلى موسكو عندما تم إلغاء التمرد. لقد كان تحديا غير مسبوق لسلطة بوتين.
وعواقب ذلك على المدى الطويل لا تزال غير واضحة.
——————————
موسكو تعزو انحراف موقف بريغوجين إلى المال
اتهم التلفزيون الروسي الرسمي الأحد رئيس مجموعة «فاغنر» يفغيني بريغوجين بأنه انحرف عن موقفه بعدما تلقى مليارات من المال العام، ما يدعم السردية الجديدة للسلطة حول المجموعة شبه العسكرية منذ تمردها الفاشل. وقال دميتري كيسيليوف وهو أحد الأصوات الرئيسية لدى آلة الإعلام في الكرملين في برنامجه الأسبوعي إن «بريغوجين فقد وجهته بسبب المبالغ الضخمة من المال». وأضاف أن «الشعور بالاعتقاد أن كل شيء متاح ظهر منذ فترة طويلة عند بدء عمليات (فاغنر) في سوريا وأفريقيا». وتابع أن هذا الشعور «تعزز» بعد أن استولى مرتزقة بريغوجين هذا العام على مدينتي سوليدار وباخموت في أوكرانيا. وقال كيسيليوف أيضاً إن زعيم «فاغنر» «اعتقد أن بإمكانه الوقوف في وجه وزارة الدفاع الروسية والدولة والرئيس شخصياً في الوقت نفسه». ولإثبات جنون العظمة المفترض لدى بريغوجين، أكد مقدم البرنامج لكن دون تقديم أدلة أن المجموعة شبه العسكرية «فاغنر» تلقت 858 مليار روبل (8.8 مليار يورو) من المال العام. ورأى كيسيليوف أن «أحد العوامل الرئيسية» في تمرد مجموعة «فاغنر» هو رفض وزارة الدفاع الروسية تمديد العقود الكبيرة الموقعة مع مجموعة «كونكورد» للمطاعم التي يملكها بريغوجين. يذكر أن تمرد «فاغنر» الذي نفذ نهاية الأسبوع الماضي، هز السلطة الروسية في أوج النزاع في أوكرانيا. وعلى مدى ساعات، احتل مقاتلو «فاغنر» مقر قيادة الجيش الروسي في روستوف (جنوبي غرب)، وزحفوا مئات الكيلومترات باتجاه موسكو. وانتهى التمرد مساء السبت باتفاق نص على رحيل بريغوجين إلى بيلاروسيا. ولم تُعْلَنْ أي عقوبات ضد المتمردين، لكن مستقبل شركات بريغوجين يبدو غير مؤكد، فقد حجبت مواقع إخبارية مقربة من مجموعته في روسيا هذا الأسبوع. والسبت، أعلن مقر قيادة المجموعة في سانت بطرسبرغ «مركز فاغنر» على «تلغرام» أنه ينقل مركزه، مؤكداً في الوقت نفسه أنه سيواصل العمل بموجب «صيغة جديدة». وأكد بريغوجين أن تمرده لم يكن يهدف لإطاحة السلطة، بل إنقاذ مجموعة «فاغنر» من التفكيك من قبل قيادة الأركان الروسية التي اتهمها بعدم الكفاءة في النزاع في أوكرانيا. ومنذ الاثنين الماضي لم يدل بريغوجين بأي تصريح علني. والأحد، رفض كيسيليوف فكرة أن مقاتلي «فاغنر» هم الأكثر فاعلية في القوات الروسية، مؤكداً أن الأمر استغرق منهم «225 يوماً» للسيطرة على باخموت مقابل «70 يوماً» للجيش النظامي من أجل السيطرة على ماريوبول.
——————————
فضح حقيقة حرب بوتين في أوكرانيا.. إنترسبت: بريغوجين صدق وهو كذوب
رايسن: بريغوجين دحض الحجة الرئيسية التي استخدمها دعاة الدعاية الروس بأن توسع حلف الناتو باتجاه الشرق هو السبب في اندلاع الحرب في أوكرانيا
يقول الكاتب بموقع “إنترسبت” (The Intercept) الأميركي جيمس رايسن إن قائد قوات مجموعة فاغنر الروسية يفغيني بريغوجين رغم أنه ضليع في الكذب وتزييف المعلومات، فإن أكثر ما ميّز عملية تمرده الفاشلة الأسبوع الماضي هو الصدق، وإن من أكثر أشكال عصيانه للنظام هو قول الحقيقة.
وأضاف رايسن في مقال له بالموقع أن بريغوجين كاذب بشكل مرضي ومحترف للتضليل اتُّهم في الولايات المتحدة فيما يتعلق بحقل الإنترنت الذي يديره، والذي كان في طليعة الجهود الروسية للتدخل في الانتخابات الرئاسية الأميركية لعام 2016 لمساعدة الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب على الفوز.
ومضى الكاتب يقول إن بريغوجين عندما بدأ تمرده أطلق خطبا على الإنترنت ضد ما قال إنها أكاذيب تستخدمها موسكو لتبرير “الغزو الروسي الوحشي لأوكرانيا”، وكانت تعليقاته صريحة للغاية وبعيدة عن الرسالة التي يجب إرسالها للرئيس الروسي فلاديمير بوتين لدرجة أنه بدا كما لو أن شخصا ما قد سلمه بالخطأ خطابا مخصصا للرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي.
المزاعم الروسية حول سبب الحرب أكاذيب
وقال بريغوجين إن “الغزو” لم يكن أكثر من استيلاء الأوليغارشية الروسية على الأراضي والهدف منه إثراء النخب القوية في البلاد بينما اتخذ الروس الفقراء وقودا للمدافع”، مضيفا أن المزاعم الروسية بأن النظام النازي في أوكرانيا، بدعم من الناتو، كان على وشك مهاجمة روسيا، أكاذيب.
لم ينتقد بريغوجين بوتين، بل ركز انتقاداته الصاخبة على النخبة الروسية الأوسع، وعلى وجه التحديد “عدوه الشخصي” وزير الدفاع سيرغي شويغو.
وقال بريغوجين إن وزارة الدفاع تحاول خداع الجمهور والرئيس وكتابة قصة تفيد بأن هناك مستويات مجنونة من العدوان من الجانب الأوكراني و”أنهم سيهاجموننا مع كتلة الناتو بأكملها”، لكن الحقيقة هي أنه لم يكن هناك شيء غير عادي عشية 24 فبراير/شباط 2022 وهو اليوم الذي هاجمت فيه القوات الروسية أوكرانيا، وأضاف أن أوكرانيا لم تكن تخطط لأي نوع من الهجوم على روسيا.
الحرب ضرورية لشويغو والأوليغارشية
وقال بريغوجين أيضا إن الهجوم الروسي “بدأ لسبب مختلف تماما”، فقد كان ضروريا لشويغو للحصول على نجمة بطل، ولحصول الأوليغارشية “المخادعين المصابين بأمراض عقلية” الذين يحكمون روسيا على المال.
ونقل الكاتب عن بريغوجين قوله إن شويغو قتل آلافا من الجنود الروس الأكثر استعدادا للقتال في الأيام الأولى من الحرب، مضيفا أن الغزو بدأ حتى مع رغبة زيلينسكي وأوكرانيا في السلام، وكان الزعيم الأوكراني “مستعدا للاتفاقيات؛ فكل ما يجب القيام به هو النزول من البرج العاجي والتفاوض معه”.
وعلق رايسن بأن هذه هي الكيفية التي دحض بها بريغوجين الحجة الرئيسية التي استخدمها دعاة الدعاية الروس وأتباعهم الغربيون بأن توسع حلف الناتو باتجاه الشرق منذ نهاية الحرب الباردة هو السبب في اندلاع الحرب في أوكرانيا.
جدار النظام الروسي
وأضاف الكاتب أنه رغم خروج بريغوجين من المشهد، فإن نوبة صدقه النادرة قد يكون لها تأثير متأخر. فإذا أصبحت تعليقاته معروفة على نطاق واسع في روسيا على الرغم من الرقابة الصارمة، فقد تؤدي إلى مزيد من تآكل الدعم الروسي للحرب، وإضعاف قبضة بوتين على السلطة بشكل خطير.
وختم رايسن مقاله بالقول إن بريغوجين هو رسول الحقيقة الرهيب، وإن من المؤكد أن لديه أسبابه الأنانية للقول إن حرب روسيا مبنية على الأكاذيب. ومع ذلك، فإن قول الحقيقة قد يساعد في النهاية في تمزيق الواجهة التي أقامها بوتين لإخفاء حقيقة حربه في أوكرانيا.
المصدر : إنترسبت
—————————
“فاغنر” ثمرة روسية والبذرة إيرانية/ عيسى الشعيبي
سوف يمرّ وقت طويل، قبل أن يجد المحللون والدبلوماسيون والفضوليون الإجابات الشافية لذاك السيل المتدفّق من الأسئلة، التي أطلقها تحرّك قائد مجموعة فاغنر، يفغيني بريغوجين، من عقالها، عندما توجّه في رتل عسكري لجب إلى موسكو، ثم توقف فجأة، بذريعة مرتجلة، عند أبواب عاصمة الإمبراطوريات الروسية المتعاقبة، في مشهد يشي بالتمرّد العسكري، أو ربما بانقلاب على سيّد الكرملين، الأمر الذي أوجد وضعاً فوضوياً لم يدُر في خلد القيصر من قبل، ولم يراود أذهان أعدى أعدائه، ممن راحوا يتمنون النجاح لكل من فلاديمير بوتين وطبّاخه العتيد، وأخذوا، في الوقت نفسه، يعيدون قراءة الفسيفساء الداخلية المعقدة للبلد المتورّط في حرب بالوكالة مع حلف الناتو.
سوف نضع كل تلك الأسئلة والتساؤلات والتكهنات جانباً، وندع للأيام المقبلة مهمة فضّ التباسات هذه اللحظة الروسية الحرجة، سيما وأن الفصل الأخير من هذه الدراما المثيرة لشتّى التوقعات لم يُكتب بعد، وأن الكلمة النهائية لكل الأطراف المعنية بالتسوية الغامضة لم تُقل بعد، وذلك بهدف تركيز الضوء ما أمكن على أحد أهم الدروس الثمينة، المستخلصة من تحدّي قائد مليشيا فاغنر سلطة ربّ البيت قبل أن تشيب منه الذوائب، ودسّ إصبع طويلة في عين مروّض الدببة، وذلك بدلاً من الركض وراء التسريبات المضلّلة، والانشغال بأمر ما إذا كانت الواقعة عملاً مسرحياً مدبّراً، حسب نظرية المؤامرة، أو كانت تمرّداً أو انقلاباً، ولا فرق بينهما في المحصلة.
ما نحن بصدده في هذه المقاربة التأمّلية هو تبيان مدى جسامة الخطيئة المؤسِسِة لكل الخطايا اللاحقة، الباعثة لكل هذه الفوضى الضاربة تحت أعمدة هيكل حكم الأوليغرشيا، ونعني تلك الغلطة الكبرى التي ارتكبها القيصر بحقّ نفسه، بل وبحقّ العسكرية الروسية، ربما لتعظيم رصيده الشخصي أو لإيجاد توازن بين كبار جنرالاته البدينين المتجهمين دائماً، المتنافسين على كل شيءٍ حوله، بما في ذلك الثروة والسلطة، وذلك حين حاول اللاعب الممسك بخيوط السلطة الكلية إعادة هندسة مركّبات الآلة الحربية الثقيلة وتجديد قدراتها التكتيكية، ومواءمة ما يمكن تسميتها “جينات الدولة العميقة”، مع متغيرات المسرح الدولي ومراوغاته الكثيرة، فخالف، بهذه الفعلة غير المهنية، قواعد منظومة السلطة وأحكامها، أي سلطة، وسار عكس ما انفطرت عليه طبيعة الدولة القُطرية، محتكرة العنف وحدها من غير منازع، ومستخدمة السلاح حقّا مطلقا لها من دون شريك، فكان بوتين بذلك كمن ربّى أفعى في غرفة نومه.
وهكذا، وعلى غرار ما صنعه آيات الله لدرء خطر انقلاب جيش الشاه عليهم ذات ليلة ليلاء، بإنشاء الحرس الثوري كبندقية موازية وقلعة حامية، زرع بوتين بيده، لا بيد جنرال أدارت الفودكا رأسه، بذرة سامّة مماثلة في أحشاء روسيا المتعافية حديثاً من حالة تسمّم مديدة، وهي هنا “فاغنر”، أو قل هذا المخلوق صاحب الأذرع الطويلة، الذي أخذ يكبر تحت بصر وسمع المفتون بفن المناورة وتوزيع الأدوار واللعب على الحافّة النووية، إلى أن جاء اليوم الذي تمرّد فيه المخلوق على الخالق وعصى، أي يوم تحوّلت المليشيا المدجّجة من قوة ضاربة بيد السيد الأوحد، إلى منظمّة عسكرية داخلية مسيّسة، تزاحم أركان النظام على مغانم الحكم، وتهدّد بغزو العاصمة، لاقتطاع نصيبها العادل من كعكة السلطة.
تعيد هذه السابقة الروسية المخلّة بمبدأ “بندقية واحدة وآراء سياسية متعدّدة”، المعمول به لدى سائر الدول المعاصرة، إلى الذاكرة الغضّة سوابق عديدة منسوخة، عن تلك البدعة الإيرانية، التي تكرّرت غير مرة في العالم العربي، أي تخليق بندقية مكافئة لبندقية الدولة، تمهيداً لتصنيع سلطة بديلة، ستنمو تحت شعار المقاومة، وتمسّك فيما بعد بمفاصل الحكم، الذي سوف يتزعزع أكثر مع مرور الوقت، إلى أن تتمكّن الدويلة من ابتلاع الدولة، تماماً على نحو ما تنطق به تجربة حزب الله في لبنان، واليمن، وإلى حد ما في غزّة، وحدّث ولا حرج عما يدور في السودان هذه الآونة، ولا تتفاءل كثيراً بمآل الزواج بالإكراه بين البندقية والسلطة في الحالة العراقية، القائمة على تساكنٍ مشحونٍ بالتربّص بين مختلف المكوّنات المذهبية.
وإلى أن تنجلي واقعة تمرّد فاغنر عن سر أسرارها الدفينة داخل أسوار الكرملين السميكة، المتكتّم على الحقائق المريرة، فإن العبرة المستخلصة على الفور من دروس هذه السابقة اللعينة أن المليشيات هي الخطيئة الأولى، الخطأ التأسيسي والكارثة بعينها على السلم والاستقرار والنمو المستدام والديمقراطية.
العربي الجديد
—————————–
استعجال بريغوجين… والشيطان في التفاصيل
هل ينطبق على يفغيني بريغوجين القاعدة التي تقول: «مَنْ تعجّل شيئاً قبل أوانه عوقب بحرمانه»؟ وهل كان من الممكن أن يتحدّى بريغوجين الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في الانتخابات الرئاسيّة عام 2024، لو لم يتمرّد؟ حدث ما حدث، واتّبع الغرب وخاصة أميركا نصيحة نابوليون التي تقول: «إذا كان عدوّك يرتكب الأخطاء، فلا توقفه».
لذلك؛ حذّرت كييف من القيام بعمليات سريّة في الداخل الروسيّ خلال الفترة القصيرة للتمرّد، فالتزمت كييف بالتحذير. هاجم بريغوجين وزارة الدفاع، كما رئاسة الأركان. واتهمهما بالتقصير وسوء التخطيط، كما سوء إدارة الحرب. وبذلك يكون بريغوجين يهاجم الرئيس بوتين بطريقة غير مباشرة. فهو، أي بوتين، ومع وزير الدفاع، رئيس الأركان، إلى جانب عدد محدود جدّاً من دائرة الرئيس بوتين، من خطّط للحرب دون إعلام أي من القيادات العسكريّة العليا، أو حتى السياسيّة ضمناً وزير خارجيّته، والذي قال في الهند مؤخراً خلال قمّة دوليّة عقدت في دلهي: إن أوكرانيا هي من هاجمت روسيا.
قال بريغوجين الحقيقة حول الوضع الميداني في أوكرانيا. كما ضرب المصداقيّة التي قامت عليها الحرب، والتي اعتمد عليها الرئيس بوتين. لم يلقَ آذاناً صاغية، فتمرّد في المكان نفسه الذي تمرّد فيه الجنرال لافر كورنيلوف عام 1917، في مدينة روستوف جنوب روسيا. وحسب صحيفة «الغارديان»، لا يزال لدى بريغوجين تأييد داخلي معيّن، حتى لو تراجع بعد التمرّد، ووصل إلى 29 في المائة خلال وبعد إنهاء التمرّد بعد أن كان قبل التمرّد يقارب الـ58 في المائة (1643 شخصاً مُستطلعاً). فهو صادق مع الشعب الروسيّ حتى الوقاحة. وهو من أثبت قيادة عسكريّة ميدانيّة. زار الجبهات، شارك مقاتليه في مآسيهم ومعاناتهم اليوميّة. مقابل ذلك، هناك أخبار تقول إن الرئيس بوتين يستعمل حالياً شبيهاً له خلال تنقّله؛ خوفاً على امنه الشخصيّ – وهذا أمر مستبعد في حالة بوتين اليوم.
تراجع بريغوجين في منتصف الطريق إلى موسكو، فكان الفضل للرئيس البلاروسي. فماذا بعد؟ ما جمعته المصلحة والسلطة لا يفرّقه تمرّد بسيط. وإذا ارتبط اسم الرئيس بوتين بـ«الشيف» بريغوجين فقد ينطبق المثل الروسيّ على هذه العلاقة: «عندما يتكلم المال يصمت الصدق»، أو «تعطي الأعمى العينين فيطالبك بالحاجبين». لا يمكن للرئيس بوتين نكران العلاقة القريبة مع بريغوجين، حتى لو تبرّأ منه. فقد أصبح مصير بوتين يتعلّق مباشرة بما سيحقّقه الجيش الروسيّ في أوكرانيا من انتصارات وبسرعة. والعكس، قد يعني المزيد من شرعنة التمرّد الذي قاده المموّل السابق لمجموعة «فاغنر».
لا يمكن لبوتين أن يطبّق القول «إن الانتقام طبق من المفضّل أن يؤكل بارداً». فالوقت لا يسمح له. وهو مضطّر إلى إثبات قيادته واسترداد هيبته حتى ولو قلّل الكرملين من التأثير السلبي للتمرّد. وعليه، لبوتين مهمّتان صعبتان متزامنتان، هما: ترتيب وضع الداخل خاصة في وزارة الدفاع، الأركان والاستخبارات. وتفكيك إمبراطوريّة بريغوجين في الداخل الروسي وعبر العالم خاصة في أفريقيا.
إذا هناك 3 مستويات، أو دوائر للعمل في روسيا اليوم بعد التمرّد. الأولى، هي الداخل الروسيّ، وكل ما يحمله من أعباء وصعوبات. وقد يمكن تقسيم هذه الدائرة (الداخليّة) إلى دوائر عدة في الوقت نفسه. على سبيل المثال: من سيحلّ مكان «فاغنر»؟ أهي قوات رمضان قاديروف؟ من سيحلّ مكان بريغوجين؟ وهل يمكن تركه قريباً من المسرح الحربيّ الأوكرانيّ، كي يحصد المصداقيّة كلما تعثّر الجيش الروسيّ؟ وهل سيُخاط له الكثير من الملفات تتعلّق بالفساد لمحاكمته على أساسها، فيُطلب تسليمه من بيلاروسيا؟ ومن سيتحّكم بمؤسسات «فاغنر»، خاصة الإعلامية؟ وهل سيكون هناك قيادة موحّدة لـ«فاغنر»، أم قيادة متعددّة شرط أن تكون تحت إمرة من الكرملين؟ هل سيُطاح وزير الدفاع؟ ورئيس الأركان؟ متى؟ ومن سيحلّ مكانهما، وهما المحسوبان الأقرب إلى أذن الرئيس بوتين من ضمن طاعة عمياء له؟ كيف سيتمّ التعامل مع الضباط الكبار المقرّبين من بريغوجين؟ وكيف سيُعاد رسم العلاقة المدنيّة السياسيّة مع العسكر؟ وفي حال التغيير على صعيد القيادات العسكريّة، هل سيبقى مسار الحرب في أوكرانيا على النمط القديم نفسه؟ ومن أين سيأتي بضباط أفذاذ لقيادة الحرب على أوكرانيا، بعد أن كان التغيير في القيادات العسكريّة خلال الحرب هو النمط السائد؟ ألم يُطهّر جوزيف ستالين جيشه ممن يعارضه؟ وألم يُخرج ستالين بعض القيادات العسكريّة التي زجّها في السجن لقيادة حربه ضدّ هتلر؟ وألم يحقّق هؤلاء النصر له؟ هذا في الدائرة الأولى.
أما في الدائرة الثانية، وبعد أن عدَدْنا أن أوكرانيا تقع الآن ضمن اهتمامات الدائرة الأولى. فعلى بوتين تطمين الحلفاء، كما الدول المحايدة. من هنا الرسائل والاتصالات الدبلوماسيّة لوزير الخارجيّة سيرغي لافروف. وأخيراً وليس آخراً، لا بد من إعادة تأهيل مجموعة «فاغنر» في العالم وخاصة أفريقيا. هذا على الورق، أما في الحقيقة فإن الشيطان يكمن حتماً في التفاصيل.
الشرق الأوسط،
——————————
تمرد “فاغنر”… أول كوابيس بوتين الأوكرانية/ بشير البكر
التمرد الذي قام به قائد قوات “فاغنر” يفغيني بريغوجين، في 24 يونيو/حزيران الماضي، جاء في صلب تداعيات حرب روسيا على أوكرانيا، ويشكل أول مؤشر إلى أنها أحدثت تأثيراً مهماً داخل القيادة الروسية ذات التركيب الهرمي، الذي يقف على رأسه الرئيس فلاديمير بوتين.
وتشكل هذه الحركة ذات الطابع العسكري أول عملية احتجاج جماعية علنية، يقودها رجل من الدائرة الضيقة للرئيس، ومن المقربين إليه، والمفوضين سلطات واسعة أمنية، عسكرية، وسياسية. وبالتالي لا يمكن النظر إليها على أنها مجرد عملية عصيان محدود، انتهى بالاتفاق الذي رعاه الرئيس البيلاروسي ألكسندر لوكاشينكو.
كان مخطط بريغوجين، حسب ما تسرّب من جهاز المخابرات الفيدرالي الروسي، يقوم على اعتقال كل من وزير الدفاع سيرغي شويغو، ورئيس الأركان، قائد جبهة الحرب في أوكرانيا فاليري غيراسيموف، واحتلال مقر قيادة الجبهة، بانتظار أن تنضم إليه الوحدات المشاركة في الحرب على أوكرانيا.
أهمية تمرد “فاغنر”
ويمكن أن تشكل ردود الفعل الغربية، والتغطية الإعلامية الواسعة التي حظي بها التمرد، مؤشراً إلى أهمية ما جرى في 24 يونيو، عندما أفاق العالم على أخبار تتحدث عن تقدم 400 آلية عسكرية باتجاه العاصمة الروسية، وصدور أخبار، غير مؤكدة، عن مغادرة بوتين موسكو باتجاه مسقط رأسه مدينة سانت بطرسبورغ.
صحيح أن خبر مغادرة بوتين موسكو لم يتأكد، إلا أنه لم يظهر إلى العلن في العاصمة قبل مرور حوالي 60 ساعة على حادث التمرد، حين أطل مساء 26 يونيو في بيان مقتضب، كرر فيه الاتهامات التي وجهها إلى التمرد الذي وصفه بـ”الخيانة” والطعنة في الظهر، وأكد على محاسبة المسؤولين عنه.
وكان لافتاً، من حيث الشكل، الخطاب الذي ألقاه صباح 27 يونيو، ومن خلاله وجّه رسالة استعراض للقوة من داخل الكرملين، وظهر فيه وهو ينزل درجاً طويلاً، سائراً على السجادة الحمراء، وفي استقباله ما يشبه حرس شرف مصغر، ولم يخرج في حديثه عن الخطاب السابق.
كانت الأوساط تنتظر أن يتوجه بوتين بخطاب مفصل إلى الروس والرأي العام، يشرح فيه ملابسات ما حصل، ولكنه في المرتين اكتفى بخطاب قصير، لم يتجاوز خمس دقائق، أراد من خلاله أن يقلل من شأن ما جرى، رغم الأوصاف الحادة التي أطلقها عليه.
صورة بوتين في الخطابين ليست الصورة المعهودة عنه في السابق، ورغم المساحيق الكثيرة التي اجتهدت في إخفاء وتمويه القلق، بدا التشتت واضحاً على قسمات وجهه، واختفت تلك المسحة العالية من الغرور والاعتداد بالنفس، التي تظهر، عادة، على وجهه، وتصرح بها لغة جسده المتوترة.
تدلّ جملة الوقائع التي اجتمعت خلال ثلاثة أيام من التمرد على عدد من المعطيات، من بينها أن التمرد العسكري الذي حصل أثر بصورة كبيرة على وضع الرئيس الروسي، لأنه شكّل أول تحد صريح لسلطاته من جهة. ومن جهة ثانية، إن النتائج الكارثية لحرب أوكرانيا بدأت تتفاعل داخلياً، وعكس ذلك التعاطف الشعبي مع قوات “فاغنر” في مدينة روستوف، ونزول السكان إلى الشوارع لالتقاط الصور مع أفرادها، وتوديع بريغوجين بعلامات النصر.
القراءات الغربية ترى في حدث التمرد عدة وجوه، وتلتقي عند وجهين. الوجه الأول هو، أن الحرب على أوكرانيا، لن تتأخر في أن تؤدي دوراً أساسياً في تقرير مستقبل الوضع داخل روسيا. والثاني هو أن الرئيس الروسي بدأ يفقد السيطرة على الوضع الداخلي.
ويرى أكثر من خبير غربي في التمرد العسكري بداية لهز الحكم القوي للرئيس الروسي، وينظر هؤلاء إلى الاتفاق الذي قاده رئيس بيلاروسيا ألكسندر لوكاشينكو محطة مهمة على هذا الطريق، نظراً لما ظهر عن ضعف على بوتين الذي يبدو أنه دخل للتسوية مضطراً.
ويعتبر هؤلاء أن التمرد تعبير فعلي عما يتفاعل داخل الأوساط المعارضة للحرب على أوكرانيا، ويشكل هؤلاء قوة كبيرة صامتة حتى الآن، وجاء التمرد ليرسل إشارة صريحة إلى الضرر الكبير الذي أحدثته الحرب، وإلى الثقل الذي يمثله معارضو الحرب. ويعكس التمرد مسألة مهمة وهي أن الصمت على النتائج الكارثية للحرب لم يعد ممكناً، وستكبر كرة الثلج تدريجياً، لتسير في اتجاه المطالبة بمحاسبة المسؤولين عن الحرب ونتائجها الميدانية والخسائر الكبيرة في الأرواح والماديات.
الاحتجاجات ستصل إلى بوتين
تتركز الاحتجاجات حتى الآن ضد وزير الدفاع ورئيس الأركان، ولكنها ستتجه في نهاية المطاف ضد بوتين شخصياً، بوصفه المسؤول الأول والأخير عن قرار الحرب. ولذلك شُبه ما يواجهه الآن بالثورة الروسية في عام 1917، عندما أطاح البلاشفة القيصر الروسي نيكولا الثاني في خضم الحرب العالمية الأولى (1914 ـ 1918)، مما دفع البلاد إلى حرب أهلية، ومهد الطريق في النهاية لإنشاء الاتحاد السوفييتي.
يبدو من علاج التمرد أن بوتين يعي هذه المسألة، وتصرف على أساسها. ولو كان الاحتجاج يقف عند التضحية بوزير الدفاع ورئيس الأركان، لما توانى عن ذلك، ولكنه يدرك أن القسط الأكبر من المسؤولية يقع عليه، وأن التمرد القادم سيكون موجهاً ضده شخصياً. هناك عدة أسئلة بقيت من دون إجابات، لماذا لم يقمع بوتين التمرد العسكري، وفضّل، على غير عادته، الذهاب إلى اتفاق برعاية لوكاشينكو؟ هل هو عاجز عن ذلك، هل لجأ إلى الدبلوماسية، من أجل تجنب نزاع مسلح يمكن أن يتطور إلى حرب أهلية؟
مهما كانت الإجابات، بدا الاتفاق خارج إرادته، وظهر في خطابه الأول وكأنه غير موافق عليه، حينما أكد على محاسبة “منفذي الجريمة” على حد تعبيره. إلا أن بريغوجين وقادة “فاغنر” الرئيسيين غادروا باتجاه بيلاروسيا، وهذا ترك المجال أمام تأويلات كثيرة. يعرف بريغوجين حجم المخاطرة التي قام بها، ولكن بدا واضحاً أنه درسها جيداً، بما في ذلك عواقبها إذا لم تسر الأمور على ما يرام بالنسبة له، وحتماً ستسير الأمور بشكل سيئ، ومع ذلك ذهب إلى خيار التمرد، وكان في وسعه ألا يذهب لذلك، لو أراد أن يحتفظ بموقعه وامتيازاته.
إحدى الإشارات المهمة هي أن بريغوجين أدار التمرد من داخل مقر مركز القيادة العسكرية للجيش الروسي الجنوبي، الذي سيطرت عليه قوات “فاغنر” في مدينة روستوف، وغادره رئيس الأركان وقادة الجبهة الكبار، لأنهم علموا قبل يومين بمخطط الانقلاب. بريغوجين أكد أن هدف التمرد لم يكن إطاحة الحكومة الروسية، بل الاحتجاج على قرار حل “فاغنر”، ولفت الانتباه إلى إخفاقات القيادة العسكرية الروسية في أوكرانيا، وبرهن على ذلك من خلال سهولة زحف عناصر “فاغنر” إلى موسكو، وقال إن قواته باتت على بعد 200 كيلومتر من العاصمة، وسلطت الضوء على الفوضى في وزارة الدفاع.
ومن بين التأويلات الكثيرة أن اتفاق خروج بريغوجين وقيادة “فاغنر” هو حصيلة صراع مراكز قوى داخل دائرة القرار في روسيا، لم يصل إلى طرح الثقة ببوتين، بل بدأ يشكك بنتائج الحرب على أوكرانيا، ويطالب بمحاسبة وزير الدفاع ورئيس الأركان. وقد رفض بوتين هذا الطلب، لأنه يدرك مآلاته البعيدة. يختلف بريغوجين عن خصوم بوتين السياسيين الآخرين، الذين انتقدوا قراراته لأن لديه جيشاً قوياً يسنده، ولذلك كانت أول خطوة هي الفصل بينه وبين جيشه، وإخراجه من اللعبة قبل أن يصبح من المستحيل القضاء عليه.
وضمن هذا السياق يمكن وضع قضية الجنرال سيرغي سوروفيكين، نائب قائد العمليات العسكرية الروسية في أوكرانيا الملقب بـ”الجنرال هرمجدون”، الذي كشفت محطة “سي أن أن” الأميركية أنه كان عضواً بارزاً في “فاغنر”، وأنه اختفى منذ حصول التمرد. أصر بريغوجين على أنه ليس لديه أي طموحات سياسية، ويأمل فقط أن يتراجع مع مرتزقته إلى مناخ دافئ بمجرد الانتصار في الحرب. ومع ذلك فإن الدور الذي كان يلعبه يشكل خطراً، وكلما حققت قواته انتصارات على الأرض زاد أعداؤه.
ويعتبر خبراء أن وحشية بريغوجين وتبجحه هي مقدمة لطموحات شخصية، مع أنه كان يوحي بأن رعاية بوتين له هي مصدر القوة الشخصية. وتبين أنها رعاية، يمكن أن تختفي في أي لحظة، ولذلك رد بريغوجين على اتهامات بوتين بقوله، إن الرئيس “مخطئ بشدة” وإن مقاتليه “وطنيون من وطننا الأم”. وتعهد بأنه “لن يسلم أحد نفسه بناء على طلب الرئيس أو جهاز الأمن الفيدرالي أو أي شخص آخر”. كان هذا يمثل تهديداً مباشراً لبوتين.
انعكاسات تمرد “فاغنر”
يبقى السؤال الأهم هو كيف سينعكس تمرد “فاغنر” على الحرب في أوكرانيا. أول رد فعل أنه قوبل بالبهجة والكثير من الشماتة في كييف، وبدا أن أوكرانيا ستكون حريصة على استغلال ما حصل، خصوصاً ما يتعلق بتدابير لإدارة الوضع على خط المواجهة، وصدرت عدة تصريحات أوكرانية، تركز على ما سيحدث من ترتيب القوات الروسية على طول خطوطها الدفاعية، وهذا أمر يحتاج بعض الوقت حتى تظهر نتائجه الميدانية.
ما حصل مهم جداً لتحديد وضع روسيا داخلياً وخارجياً. على المستوى الداخلي، بات وضع بوتين مطروحاً على بساط البحث، وهذا أمر لم يجرؤ أحد حتى على مجرد التفكير فيه. كما أن الاستقرار الداخلي، الذي سبق الحرب على أوكرانيا، صار من الماضي، وجاء التمرد ليكشف الصورة الفعلية.
أما على المستوى الخارجي، فإنه يجري النظر إلى روسيا على أنها دولة غير مستقرة وضعيفة عسكرياً ولا تشكل تهديداً، باستثناء ما تمتلكه من السلاح النووي، وجيشها بات ضعيفاً، ولذلك جرى الاستعانة بقوات الزعيم الشيشاني رمضان قديروف للوقوف بوجه تمرد “فاغنر”.
وبالنسبة للولايات المتحدة وأوروبا تشكل روسيا الضعيفة مصدر خطر مضاعف، ولذلك تزداد الحاجة إلى الوقوف خلف أوكرانيا من أجل تقويض نظام بوتين، ومن الآن فصاعداً لن تحسب الكلفة العسكرية في دعم صمود أوكرانيا فقط، بل في فاتورة التعجيل بسقوط بوتين.
——————————
ماذا لو سقط بوتين؟/ مصطفى المصطفى
منذ أيام قليلة راقب العالم بمزيد من الاهتمام عملية الانقلاب الذي لم يكتمل، والذي قاده قائد قوات “فاغنر” “يفغيني بريغوجين”، حيث انقسم العالم بين من ينتظر أن يشاهد نهاية مأساوية لحكم “بوتين”، ومن ينتظر أن يرى “بريغوجين” ومرتزقته يلقون المصير الذي يستحقه كل خائن. لكن ما حصل بعد ساعات قليلة من تسارع الأحداث لم يكن مرضياً لكلا الفئتين؛ فئة المحبين وفئة الكارهين، فبعد توسّط الرئيس البيلاروسي “ألكسندر لوكاشينكو” أعلن “بريغوجين” أنه أوقف عملية التمرد حقناً للدماء.
لم تكن تفاصيل الاتفاق بين “بريغوجين” و”لوكاشينكو” معلومة للجميع، لكن أغلبية المراقبين والمحللين حول العالم أصبحوا يتحدثون عن بداية لحقبة جديدة من تاريخ روسيا البوتينية، وأن ما بعد تمرد “فاغنر” ليس كما قبله، فالسهولة التي استولت فيها قوات “فاغنر” على مقاطعة “روستوف” وسيطرتها على كافة النقاط العسكرية فيها، ومن ثم توجهها إلى مشارف موسكو قاطعة مئات الكيلومترات دونما أية مقاومة تذكر؛ أطاحت بآخر ما تبقى من سمعة للجيش الروسي. ثم جاء موقف الرئيس الروسي بقبول إسقاط التهم عن “بريغوجين” ومنحه الضمانات الأمنية ليصيب هيبة وسمعة الرئيس الروسي في مقتل. وهكذا أصبح النظام الروسي أمام معضلة يصعب تجاوزها.
لكي تتضح بعض جوانب المعضلة لا بد من التذكير أن قوات “فاغنر” شكلت – خلال الأشهر الأخيرة – القوة الضاربة في الجيش الروسي، بل القوة التي دارت – إلى حد ما – سوءة الجيش الروسي، وهي الآن أصبحت خارج المعادلة. من جهة أخرى، ليس “بريغوجين” مجرد شخص عادي أو ضابط مغمور قام بهذه الحركة، فالرجل لديه نفوذ قوي في الأوساط العسكرية، وعلاقات متشعبة مع طبقة “الأوليغارشيا” الروسية. وإذا ما أضفنا إلى ذلك اهتزاز صورة بوتين – داخلياً وخارجياً – وما له من تداعيات نفسية وسلوكية تكون الصورة أصبحت أكثر وضوحاً.
بالعودة إلى فريقي محبي بوتين وكارهيه، ومن أجل دقة أكثر؛ لم تكن الأمور على هذه الشاكلة تماماً، فهناك فريق آخر كان يتابع مجريات الأحداث بتخوف وحذر شديدين، وهذا الفريق – بالمجمل – من أعداء روسيا البوتينية، إلا أنهم ممن يستطيعون تنحية العواطف جانباً والنظر إلى الأمور بمآلاتها ونتائجها، ويأتي على رأس هؤلاء؛ الساسة في الدول الغربية عموماً، وفي الولايات المتحدة على وجه التحديد؛ إذ لطالما عبر الأمريكيون عن مخاوفهم من السقوط الحر لروسيا أو لنظامها السياسي لما له من تبعات وتداعيات اقتصادية وسياسية وأمنية.
ومن أجل تفسير الموقف الأمريكي دعونا نتذكر مقالاً بعنوان “ليس لدى بوتين مخرج جيد وهذا يخيفني حقاً” كتبه “توماس فريدمان” جاء فيه: “لا يوجد سوى شيء واحد أسوأ من روسيا القوية تحت حكم بوتين، وهو روسيا الضعيفة والمهينة والمخلة بالنظام والتي يمكن أن تنقسم أو تتعرض لاضطراب قيادة داخلي طويل الأمد، مع فصائل مختلفة تتصارع على السلطة، ووجود رؤوس حربية نووية. إن روسيا بوتين ليست أكبر من أن تفشل. ومع ذلك، فهي أكبر من أن تفشل بطريقة لن تهز بقية العالم”.
تلك المقاربة الأمريكية للملف الروسي تشبه – من حيث الشكل – المقاربة الأمريكية للملف السوري، فمن بين الذين تابعوا أخبار تمرد “فاغنر” بشغف شديد هم السوريون، وسرعان ما أصبح سؤال: ماذا لو سقط “بوتين”؟ حاضراً بقوة، فماذا لو سقط “بوتين”؟.
تشير معظم التقديرات الغربية إلى أن النظام الروسي غير مهدد بشكل فعلي حتى الآن، لكنه دخل مرحلة من الضعف والاضطراب الشديدين، ولكن، لنفترض جدلاً أن تداعيات التمرد الذي قاده “بريغوجين” سوف تؤدي لانهيار النظام الروسي خلال الأشهر القادمة، فهل سيكون سقوط نظام أسد بالتبعية تحصيل حاصل لسقوط نظام “بوتين”؟.
أغلب الظن أن الإجابة بالإيجاب سوف تكون متسرعة وتفتقر إلى الموضوعية، فبقاء نظام أسد صامداً حتى الآن هو قرار أمريكي قبل أن يكون قراراً روسيا، وهذا لا يعني بأي شكل من الأشكال انحياز الولايات المتحدة للنظام السوري وتآمرها على الشعب، إنما هي مقاربة أمريكية لإغلاق الملف السوري من خلال عملية الانتقال السياسي وفق القرار 2254، ذلك أن الولايات المتحدة كفرت تماماً بفكرة إسقاط الأنظمة على الطريقة العراقية أو الطريقة الليبية. إنها مقاربة ترتكز على سؤال جوهري: ما هي النتائج المترتبة على سقوط النظام السياسي في البلد الفلاني؟
تتفق كل من روسيا وأمريكا بالخطوط العريضة حول الملف السوري، لكنهما تختلفان بالجزئيات؛ تماماً كما هو الخلاف حول تفسير القرار 2254، فروسيا التي تعتبر نفسها الحامي الفعلي للنظام السوري من السقوط تريد أن يكون وضع اللمسات النهائية للحل من اختصاصها، وتريد أن يكون استثمار الحدث من نصيبها، فهي التي أهدرت الموارد في سبيل الحفاظ على النظام، وهي من يجب أن تحصد النتائج.
بناء على كل ما سبق؛ فسقوط النظام الروسي أو كف يده عن الملف السوري تحت أي ظرف كان؛ سوف تكون نتائجه أن نظام أسد سوف يتعرض لضغوط أكبر لتنفيذ القرار 2254 حسب التفسير الأمريكي لهذا القرار، بينما ستضعف وجهة النظر الروسية بغياب الجهة الداعمة لها. من جهة أخرى؛ ستكون الولايات المتحدة بموقف حرج لأنها سوف تضطر للإفصاح عن موقفها الرافض لسقوط النظام السوري من خلال تفويض جهة أخرى بحمايته والوقوف في وجه أي محاولة للعبث بخارطة السيطرة الحالية إن حصلت.
——————————
في تداعيات تمرّد طبّاخ القيصر/ عبد اللطيف السعدون
إذا ما فكّر الرئيس الروسي فلاديمير بوتين أن يلوم أحدا على ما جرى له أخيرا، فلن يجد غير فلاديمير بوتين نفسه، فهو الذي حوّل الطباخ يفغيني بريغوجين إلى قائد عسكري، وربما مخطّط استراتيجي أيضا، وأصبح واحدا من رجال الصفّ الأول الذين يعتمد عليهم، بخاصة في “فتوحاته” الخارجية، وهو الذي كانت وظيفته الأساسية أن يعدّ بنفسه الأطباق التي يفضّلها القيصر، ويتحسّس مذاقها قبل أن تقدّم له، وكانت النتيجة أن تمرّد الطباخ على سيّده بعدما داعبت عقله خيالاتٌ مريضةٌ في أن في وسعه أن يصل إلى الكرملين، ويطيح القيصر، وينصّب نفسه مكانه.
في التاريخ القريب واقعة مماثلة ارتكبها الرئيس العراقي الراحل صدّام حسين، عندما جعل من العريف الهارب من الجيش حسين كامل واحدا من مقرّبيه وزوجه ابنته، ثم عيّنه وزيرا للدفاع ومشرفا على الصناعات العسكرية، وأعطاه رتبة فريق، وألحق بسلطته وزاراتٍ عدّة. وإذ انفتحت أمام كامل أبواب المجد تصوّر أن الدنيا دانت له إلى الأبد، وأنها خطوة واحدة فقط، ويحصل على لقب السيد الرئيس بعد إطاحته عمّه، وكان أن طار إلى الأردن ليعلن من هناك “بيانه الأول”. صبر صدّام على تمرد “العريف” الهارب شهورا قبل أن يتمكّن، وبخطّة ذكية، من إعادته الى البلاد، إلا أنه لم يمهله بعد وصوله سوى ساعات معدودة، حتى كان “شباب العشيرة” قد أجهزوا عليه في منزله، وقتلوه شرّ قتلة.
ربما تذكّر الرئيس بوتين ما فعله صدّام حسين مع “العريف” المتمرّد، وقد يكون قد طلب من مساعديه تزويده بكل التفاصيل، تمهيدا لوضع خطته الخاصة به، والتي تجعل بريغوجين نسيا منسيّا، استنادا إلى خبرته العريضة في جهاز المخابرات (كي جي بي)، ولكي لا تبقى “الشوكة في الحلق” طويلا.
ولكن هل يضمن مقتل بريغوجين، إن تم، أو حتى قبوله بوضع “اللاجئ الدائم” عند رئيس بيلاروسيا لوكاشينكو، حليف الرئيس بوتين، إسدال الستار على واقعة التمرد من دون توقّع تداعياتٍ قد لا تظهر في المدى القريب، وخصوصا أن بقاء حرب أوكرانيا من دون حسم يظل يأكل من جرف الرئيس بوتين على المستوى الداخلي، وقد شرعت قياداتٌ عسكريةٌ عليا في إظهار نوع من الامتعاض والغضب مما يجري، كما أن شرائح مدنية بدأت تشعُر بثقل الحرب عليها بعدما طالت أكثر مما قدّر لها، ومن دون أن تبدو في الأفق دلائل تشير إلى قرب نهايتها.
وبالعودة إلى تجربة صدّام حسين، معروفٌ أن قضاءه على حسين كامل حفّز عسكريين كبارا على تدبير مكائد ومؤامرات لإطاحة الرئيس الذي استطاع إجهاضها قبل أن تأخذ طريقها إلى التنفيذ، كما أن ما قدّمه “العريف” الهارب من أسرار ومعلوماتٍ، بعضُها كاذبٌ وملفّق، إلى “سي آي إيه” استخدمتها واشنطن في التدليل على امتلاك العراق أسلحة الدمار الشامل، وفي إقناع أطراف ودول بالمشاركة معها في إسقاط نظام بغداد لاحقا.
قد تحدُث مثل هذه التداعيات في أعقاب تمرّد بريغوجين، وخصوصا أن للأخير صلات وطيدة بعديد من القيادات العسكرية التي تُضمر عدم الرضا عن سياسات بوتين، وقد جرى بالفعل اعتقال بعضها، ومن بينهم سيرغي سوروفيكين الموصوف بأنه عضو سرّي في مليشيا فاغنر، وتردّد أنه كان على علم بنية بريغوجين التمرّد على سيّده.
وفي إطار خدمات “فاغنر” خارج روسيا، قد تحدُث تداعياتٌ من “قماشة” مختلفة، خصوصا في البلدان التي مارست فيها “فاغنر” نوعا من التغلغل لخدمة أغراض نظام بوتين، مثل سورية، وليبيا، والسودان، وأفريقيا. ومن الطبيعي أن تسود الحيرة الأوساط الحاكمة في هذه البلدان، بعد أن أصبح استمرار وجود رجال “فاغنر” فيها مشكوكا فيه، إذ قد تتعرّض المناطق التي كانت تحت حمايتهم إلى الانكشاف، وربما إلى حالة من الفوضى تلحق الضرر بالمناطق نفسها، وقد تتسبّب في ظهور عقد “جيوسياسية” تخلق مآزق صعبة لتلك البلدان، وخصوصا أن لفاغنر فيها، إضافة إلى خدماتها العسكرية، نشاطات اقتصادية وتجارية ذات تأثير مباشر على المستفيدين منها، وهذا كله قد ينشئ مأزقا للنظام الروسي نفسه الذي اعترف بتبعيّة “فاغنر” له وتمويلها منه، وإن حاول أن ينأى بنظامه عما ارتكبته هنا وهناك من أفعالٍ يرقى بعضها إلى أن يكون “جرائم حرب” وجرائم ضد الإنسانية.
يبقى سؤال في انتظار الإجابة: ما مقدار ما يمكن أن تناله التداعيات المحتملة من نظام الرئيس بوتين، ومن مكانته القيادية في داخل بلاده، ومن صورة “روسيا العظمى” التي تطوف في عقله؟
العربي الجديد
————————-
رئيس بيلاروسيا: رئيس فاغنر عاد إلى روسيا
قال رئيس بيلاروسيا ألكسندر لوكاشينكو، اليوم الخميس، إن رئيس مجموعة فاغنر الروسية الخاصة يفغيني بريغوجين، لم يعد موجوداً في بلاده.
وكان لوكاشينكو قد قال، يوم 27 يونيو/حزيران، إنّ بريغوجين وصل إلى بيلاروسيا في إطار الاتفاق الذي أنهى الأزمة.
ومع ذلك، قال لوكاشينكو للصحافيين، اليوم الخميس، “بالحديث عن بريغوجين فإنه في سانت بطرسبرغ. إنه ليس في أراضي بيلاروسيا”.
وأضاف لوكاشينكو أنّ عرضاً لمجموعة فاغنر لنقل بعض من مقاتليها إلى بيلاروسيا لا يزال قائماً، وهو احتمال أثار قلق الدول المجاورة الأعضاء في حلف شمال الأطلسي.
أخبار
لوكاشينكو: بوتين كان يريد “تصفية” بريغوجين ونصحته بألا يتعجل
وتابع أنه لا يرى في ذلك تهديداً لبلاده، وقال إنه لا يعتقد أنّ مقاتلي مجموعة فاغنر سيحملون السلاح ضد بيلاروسيا.
ولوكاشينكو، حليف بوتين المقرّب، قام بوساطة حاسمة في حلّ الأزمة، توّجت باتفاق يقضي بانتقال بريغوجين ورجاله إلى بيلاروسيا.
وتضمّن الاتفاق الذي أنهى تمرد مرتزقة فاغنر، السماح لهم إما بالاندماج في القوات المسلحة النظامية الروسية، أو الانتقال مع رئيسهم يفغيني بريغوجين إلى المنفى في بيلاروسيا أو العودة إلى عائلاتهم.
كما نُقل عن لوكاشينكو قوله حينها إنه لا يعتزم فتح أي مراكز تجنيد تابعة لفاغنر في بيلاروسيا.
(رويترز، العربي الجديد)
———————————-
سليماني وبريغوجين وجهان لعمْلةٍ تكاد تكون واحدة/ دلال البزري
الأول قاسم سليماني، إيراني، عسكري سابق. والثاني، يفغيني بريغوجين، روسي، مقاول ولائم. من الجيل نفسه. أربع سنوات تفصل بينهما. سليماني هو ابن “الحرس الثوري”، الذي أنشأه الخميني غداة الثورة الإسلامية، بسبب ريْبته من جيشه الرسمي، وريث الشاه. فكان رئيسا لفيلق القدس، المنبثق من هذا “الحرس”. وبريغوجين ابن بوتين غير الرسمي، لقبه طبّاخ بوتين. ورئيس شركة خاصة، عسكرية، اسمها فاغنر. ولا نعلم إن كانت الريبة الخمينية نفسها تجاه الجيش الروسي هي التي جعلت بوتين يشرف على نشأتها، ويأمر وزارتي الدفاع والمالية بتمويلها؛ على الأقل في بدايتها، كما في حالة فيلق القدس. ولكن المؤكد أن الاثنين، “الشركة” و”الفيلق” تحوّلا، بفضل هذه الحظوة “الحكومية”، إلى بؤر ثراء.
وبحسب كل الوقائع التي كانا بطليها، يقوم الاثنان بمقاولات في الباطن لصالح دولتيهما. مقاولات فريدة من نوعها، فهما يتزعمان تنظيمين مسلّحين غير شرعيين، غير رسميين. وغرضهما دعم سياسة بلديهما عبر تكوين مليشيا واحدة، في حالة بريغوجين، أو مليشيات من مختلف الجنسيات في حالة سليماني. وما حاجة دولتين، الأولى نووية، والثانية في الطريق إليها… ما حاجة كل منهما إلى مليشيا؟ الأرجح أنها من ضرورات تغطية أعمال إجرامية تقودها هاتان الدولتان خارج أراضيهما، من دون أن تخضعا لأوجاع رأس القوانين والمعاهدات الدولية بشأن الحروب.
في الظاهر، يبدو سليماني نقيضا وجدانيا لبريغوجين، فهو حامل عقيدة ملالي إيران الشيعية، فيما نظيره من دولة ليست دينية بالمعنى المتعارَف عليه. لكن اللقاء “الفكري” يتجاوز ذلك. فبريغوجين قومي روسي، على طريقة بوتين. أي أنه يجمع بين كنيسة أرثوذكسية موالية لبوتين وحسْرة على أمجاد روسيا الإمبراطورية، السوفييتية منها والقيصرية. فيما الأول سليماني، فوق “دينيته”، ممتلئ كبرياءً بعظمة حضارة فارسية قديمة، يودّ هو أيضاً، مع وقادته، إعادتها إلى مجدها السابق. وهذا تشابه قليل أمام المحرِّك “الفكري” المشترك بين الاثنين. أعني تلك الأولوية الممْنوحة لكراهية مطلقة، أساسية، جوهرية، ضد الغرب وأميركا، ضد “الإمبريالية الرأسمالية النيوليبرالية”، أو “العوْلمة التكنو- رأسمالية المتوحشة”، كما يتفلْسف متحمّسون “أولويون”.
ومن أجل هذه الغاية “النبيلة”، يشترك المرتزقة الذين أنشأهم الاثنان في كل الحروب التي تخوضها دولهما. في سورية، التقيا للدفاع عن بشّار الأسد. وبعد سورية، أو قبلها، كانت لكل واحد منهما أدوار مماثلة. اعتقاداً لدى قادة الدولتين الداعمتين لهما أن هذه التدخّلات العسكرية تحمي “المجال الحيوي” لكليهما. أي تمنحهما، بعبارتٍ أخرى، توسّعاً هما بحاجة إليه لبعث إمبراطوريتهما المفقودة. ومع أن جماعة سليماني تتنافس مع جماعة بريغوجين على فوسفات سورية ونفطها، وما يمكن أن يُشلَّح من خيراتها، مقابل خدمة عرش الأسد … غير أنهما لا يتصارعان، فهما تابعان لدولتين متحالفتين.
مم تتألف قوات “فاغنر” وقوات “فيلق القدس”؟ “فاغنز” لمّت شَتاتاً رثاً من سجناء سابقين، أخرجهم بوتين منها، مقابل خدمتهم المغرية لأعماله الإجرامية، حول العالم. وللوهلة الأولى، يبدو ذلك فرقاً بينها وبين “فيلق القدس”، الذي يجنّد على أساس مذهبي، لا على أساس السجل العدلي. في المقابل، أينما وُجد شيعة، في المشرق، نجح سليماني بتنظيم أبنائه، وتأسيس مليشيات موالية لإيران، تعمل على أجندته بضميرٍ حيّ. يبدو هنا وكأن ثمّة فرقاً بين الاثنين: ولكن في الواقع لا. فسليماني اختار رجاله من بين الضعفاء في أوطانهم، وأفهمهم أن عزّتهم من عزّته. كما حصل في لبنان، حيث بدا حزب الله، صنيعة سليماني، أنه يرفع من شأن الشيعة اللبنانيين إلى ما لم يكونوا يحلمون به في ظل نظام طائفي، همّشهم. أما مليشيا “الفاطميون”، الأفغانية، العاملة هي الأخرى في سورية، فهي مؤلفة من مهجّرين أفغان شيعة، هربوا من بلدهم ولجأوا إلى إيران. وخضعوا لابتزاز سليماني، بأنهم إذا انضموا إلى مليشيات الإقليم، سوف ينالون شيئاً من كثيرٍ حرموا منه في لجوئهم.
سليماني وبريغوجين ابنا دول فاسدة، تنتمي إلى محور الدول الاستبدادية، تضم، فوق روسيا وإيران، كلا من كوريا الشمالية وسورية طبعاً، فوق عدد من الدول “المائلة” إليه، مثل الهند والبرازيل، تقودهم كلهم الصين التي يتشبّث حزبها “الشيوعي” الحاكم بأساليب ستالين التعسفية. وهذا محور صاعد، يهزّ الكيانات الضعيفة، ويلتهم روحها.
أما وسائل “الفيلق” و”الشركة”، فهي القتل. والقتل بالأسلحة البيض وبالفظائع، وبحرية مطلقة. رجال بريغوجين اشتهروا بالقضاء على سجنائهم بالمطْرقة. يضربون بها، ويضربون… حتى الموت. فيما رجال سليماني أبدعوا في الأشكال من الموت والحصار والتهجير في سورية. وإذا كان مصير سليماني هو القتل، وعلى يد أعدائه الأميركيين، فإن بريغوجين، بعد تمرّده على بوتين، مهدّد هو الآخر بالقتل، ولكن على الطريقة الروسية؛ أي التسْميم بلا أثر. .. ولكن التشابه الأعمق بين سليماني وبريغوزين يقع في قلب الميدان.
عودة إلى بضعة أيام خلت: لماذا تمرّد بريغوجين على بوتين وجيشه، بعدما كان “يخدم” أهدافه بغزو أوكرانيا خير خدمة؟ ولماذا كان محور خلافه معه أداء الجيش الروسي في أوكرانيا، ونقده بعنف، وإدانة عدم فعاليته، فقدانه الذخيرة، عشوائية خططه…؟ لأن الجيش كانت لديه خطة لإدخال رجاله إليه وإدماجه به، وبموافقة بوتين؛ بمعنى آخر، خطّة سيطرة الجيش على “الشركة”. أما لماذا هذه المحاولة للعسكر بتوحيد السلاح الروسي ضمن المؤسّسة الرسمية، فلا نعلم. ربما بحثاً عن احترام دولي، ربما بسبب منافسة الشركة الجيش في الساحة الأوكرانية، أو أي شيء آخر … والذي يجمع بين سليماني وبريغوجين هو تحديداً ذاك التعلّق بالسلاح المليشياوي. صنيعة سليماني في لبنان، أي حزب الله، بل “صديقه”، وشريكه في حروب خاضها هذا الأخير مع إسرائيل… هذا الحزب يواجه المأزق نفسه الذي عانى منه بريغوجين. أي نزع سلاحه وإدخال عناصره إلى الجيش اللبناني.
قام بريغوجين بتمرّده، فشل في الدفاع عن سلاحه، ودخل المنفى البيلاروسي. أما حزب الله، فهو ما زال على معركته الأولى: سلاحه. وهو الآن مزهوٌّ بقدراته “الإقليمية” التي تسمح له بتدمير لبنان، وإفقار شعبه، والقضاء على مستقبل أبنائه … مقابل احتفاظه بهذا السلاح.
هل نقرأ مستقبلاً ما في اسمي التنظيمين اللذيْن يقودهما الرجلان؟ سليماني “فيلق القدس”، وبريغوجين “شركة فاغنر”؟ أن يكتب للأول، “فيلق القدس”، مدَداً من فلسطين التي لن تعرف لا دولتين ولا حقوقاً، فيستمر بالازدهار؟ وأن يكون مصير الثاني، من مصير أدولف هتلر، الزعيم الألماني النازي المعجب بريتشار فاغنر، الموسيقار الذي أحيا جنون عظمته؟ وهو اسم لا يبدو منطقياً من البداية على كل حال، إذ يخدم رجال “فاغنر” الغزو الروسي أوكرانيا، تحت شعار “محاربة النازية الأوكرانية”. فهل يزول الاسم وشركته من الأرشيف، نظراً لهذا التناقض، أو نتيجة هزيمة بريغوجين في مسعاه للحفاظ على سلاحه، أو أشياء أخرى لا نعلمها؟
العربي الجديد
—————————-
فاغنر وأسئلة الأمن الدولي/ المهدي مبروك
لا يعدّ ما حدث في روسيا أخيراً شأناً روسياً محضاً، وإن كان جل الفاعلين روساً. ثمة أشياء ظاهرة من جبل الجليد وهي مهمة، ولكن ما خفي منه أعظم. قد تبدو تفاصيل الأحداث أشبه بفيلم خيالي: المفاجآت الغريبة، المصادفات العجيبة، وتبديد كل ما نتوّهم أنه حبكة عقلانية، يسندها المنطق في توضيب الأحداث وتسلسلها.
كنّا، إلى وقت قريب، نظن أن مجموعة فاغنر ليست في النهاية سوى ذراع متقدّمة للقوات الروسية، توكل إليها المهام القذرة، لتظلّ متمتّعة دوماً بحالة الإنكار. والمجموعة، في النهاية، كائن هجين بكل ما في الكلمة من معنى: مقاتلون أشبه بالمرتزقة، لا يدافعون عن وطنهم، بل عما يعتقد حكّامهم أن لهم فيه مصلحة، قدرات قتالية عالية لا تخلو من وحشية، وارتكاب جرائم ضد الإنسانية، غموض قانوني يجعلها في حلٍّ من التزامات دولية عديدة في أثناء النزاعات والأزمات.
لم نكن، نحن العرب، نعلم عن “فاغنر” وغيرها الكثير. كانت ثقافتنا الأمنية والعسكرية بالمعنى الواسع للنزاعات الدولية تقليدية: لا ترى من قوات قتالية سوى الجيوش النظامية، وبعض المجموعات المسلحة الإرهابية، أي الخارجة عن القانون، على اعتبارها مليشيات. وإذا ذهب خيالنا بعيداً، انتبهنا إلى المرتزقة الذين ما زلنا نذكر منهم الفرنسي بوب دينار الذي تحكّم في مصائر حكّام في أفريقيا، وفرض كما شاء شروطه، وأطاح بعضهم، وحاول مرّاتٍ عديدة فرض آخرين. ولعل بعضنا يتذكّر الإنزال الذي قام به على سواحل جزر القمر سنة 1995. استفادت أنظمة عديدة من خدماته التي توزّعت على الاستشارات والاستخبارات وتنفيذ عمليات عسكرية وتدريب جيوشٍ وقوات خاصة.
فرقٌ كبير بين ما قدّمه بوب دينار في العقود الأخيرة من القرن الماضي لفائدة فرنسا، وما تقدّمه حالياً “فاغنر” لروسيا. علينا أن نقرّ أن فرنسا قد استفادت كثيراً من الخدمات التي كان ينفذّها بوب دينار، ولكن فرنسا الرسمية، رئاسة الجمهورية، رئاسة الحكومة، وزارة الدفاع، لم تكن قادرة على مجرّد التلويح بأنها على صلة ما به، بل حاكمته من حينٍ إلى آخر، وإنْ لم يخل الأمر ضمنياً من غضّ طرفٍ قد يصل إلى تواطؤ. وهذا يختلف تماماً مع “فاغنر” التي تعدّ أحد ابتكارات الجيش الروسي في بداية الألفية الثالثة، فهذه المجموعة ليست مرتزقة بالمعنى التقليدي للكلمة، بل لا تعدو أن تكون ابتكاراً، جاء أعقاب تلك الشهرة/ السمعة السيئة التي حازتها شركة بلاك ووتر الأميركية التي اكتشفناها مع الحرب الأميركية على العراق. هي هجين من التنظيم الملتبس الذي يتراوح ما بين الشركة الخاصة والتنظيم المسلح ووكالة خدمات أمنية.. تعرّف في أدبيات كثيرة بأنها مجموعة أشبه بمؤسّسة مقاولات أمنية وعسكرية متعدّدة الخدمات.
حثت “بلاك ووتر” بنجاحاتها، والتي أخفق الجيش الأميركي عن إنجازها، أو أحجم، لاعتبارات قانونية وسياسية وأخلاقية، وتخلّى عنها لفائدة تلك الشركة سيئة السمعة، الكرملين، وتحديداً الرئيس بوتين، على أن يحاكي هذا النموذج. جاءت هذه المبادرة في سياقاتٍ كانت فيها روسيا بوتين تطمح في لعب دور جيوسياسي، يُعيد إليها هيبتها، بعد التفكّك الكبير الذي شهده الاتحاد السوفييتي، والانكفاء الذي عاشته روسيا عقدين أو أكثر. كان بوتين، من خلال “خطابات القسم” وحتى في ليلة إعلان حربه على أوكرانيا، يعود إلى سردية المجد الروسي الضائع الذي اجتباه القدر لاستعادته.
وبقطع النظر عن دقّة الرابط الهيكلي الرسمي بين “فاغنر” والمؤسّسة العسكرية الروسية، تبرهن العقود التي ظهرت على السطح أن الجيش الروسي يستفيد، بشكل مباشر، من خدمات هذه الشركة. وتؤكّد تقارير عديدة أصدرتها منظماتٌ دولية مختصّة في الشؤون الأمنية أن المجموعة قدّمت للجيش الروسي خدمات عدة في بلدانٍ، مثل سورية وليبيا وأوكرانيا، فضلاً عن دول أفريقية عدة، على غرار مالي وأفريقيا الوسطى والسودان. تراوحت الخدمات التي أنجزتها بالوكالة عن الجيش الروسي ما بين القتال، وبناء قواعد عسكرية، وأعمال استخباراتية رفيعة، وإجراء مفاوضات شاقّة.
على خلاف “بلاك ووتر” التي اكتفت بتقديم خدماتها لفائدة الجيش الأميركي، وفق إطار محدّد، وبعيداً عن مغامرات بوب دينار، طوْراً لفائدة مصلحته الخاصة المادية المحضة، وآخر لمصالح فرنسا، وبعض من حكم في أفريقيا، قدّمت “فاغنر” نمطاً فريداً من هذه المجموعات الأمنية غير النمطية التي لا تشبه غيرها من المليشيات ولا مجموعات المرتزقة، ولا أيضاً حتى شركة بلاك ووتر. إنها تتقاطع مع هذه التنظيمات كلها، من حيث نوع الخدمات الأمنية والعسكرية التي تنفّذها لفائدة الغير، وهو عادة مؤسّسات عسكرية تنتمي إليها هذه الشركات (الجيوش الفرنسي والأميركي والروسي). ولكن يبدو أننا باتجاه مجموعة منخرطة في الطموحات السياسية، الداخلية والخارجية. يحرص قائد “فاغنر” يفغيني بريغوجين، من خلال نمط إدارته وتواصله، على تقديم نفسه زعيماً وطنياً روسياً، له مواقف وتصوّرات ورؤى.
هذا النموذج القيادي لإحدى الشركات الأمنية الأكثر عنفاً ووحشية وحضوراً في ساحة النزاعات الدولية الراهنة لن يهدّد السلم الداخلي الروسي فحسب، بل قد يهدّد العالمي أيضاً. لا يعبّر التمرّد الذي قاده بريغوجين عن امتعاضه الشخصي تجاه أداء جيش بلاده في حربه على أوكرانيا، بل يؤكّد مرّة أخرى عدم الرضا عن المهام التقليدية التي أدتها الشركات الأمنية عموماً. لن نكون إزاء مقاتلين يعودون إلى بيوتهم حال إنجاز تلك المهام، بل إننا قد نشهد صعود هذه الشركات إلى الحكمين، المحلّي والدولي. لنتخيّل، ولو للحظة، ماذا سيكون حال السلم الدولي، لو امتلكت هذه الشركات قوة ردع نووية، أو ما شابه ذلك، والأمر غير مستبعدٍ قريباً.
العربي الجديد
————————-
أشباح فاغنر في أفريقيا/ صهيب محمود
يتواصل السجال بشأن مآلات تفجّر الصراع بين مجموعة فاغنر العسكرية الروسية الخاصة والقيادة العسكرية الروسية، لا في الداخل الروسي فحسب، وإنما أيضًا حول انعكاساتها في أماكن وجودها في العالم، فالشركة غدت، في السنوات الأخيرة، أهم أدوات السياسة الخارجية للنفوذ الروسي العسكري في العالم. ولعبت دورًا مهمًا في ساحات القتال في سورية، وجمهورية إفريقيا الوسطى وليبيا ومالي والسودان، قبل أن تلفت أنظار العالم مساهمتها في الحرب الروسية الأوكرانية.
قانونيًا، شركة فاغنر غير مسجلة في الداخل الروسي. وانخرطت في أفريقيا لأسباب خاصة بها، مثل جني الأموال. لكن الكرملين وجد أنها ذراع مفيدة لما يحاول القيام به دبلوماسيًا وعسكريا من خلال الخدمة في الحروب بالوكالة. وتقدّم الشركة خدماتها العسكرية لدى الجماعات والأنظمة العسكرية في أفريقيا، في مقابل الحصول على امتيازاتٍ في الموارد. ويقول محللون إن الهدف الرئيسي لروسيا في أفريقيا في هذه المرحلة حشد الدعم الدبلوماسي الذي تأمل في استخدامه في أماكن مثل الأمم المتحدة، فعملت موسكو منذ العام 2006 على إعادة بناء وجودها ودورها في أفريقيا. ووقعّت 19 اتفاقية تعاون عسكري مع الحكومات الأفريقية بين 2015 و2019 فقط. وتخطّط بهذا السياق، لعقد القمة الثانية والمنتدى الاقتصادي والإنساني الروسي الأفريقي في الفترة من 26 إلى 29 يوليو/ تموز الجاري.
وجد الكرملين شركة فاغنر فرصةً لا تتكرّر لإعادة توجيه مصالح سياسته الخارجية في أفريقيا لتقديم التدريب والمشورة للأنظمة العسكرية التي تواجه احتجاجات سياسية أو تظلّمات جهوية أو عرقية. لكنها مارست إنكارًا طويلًا بشأن انخراطها في أفريقيا في السابق، إلا أن هذا تبدّد مع مرور الوقت. وكانت تقارير صحافية واستخباراتية كثيرة تذهب بوجود تلك القوات التابعة لموسكو. ففي يوليو/ تموز 2018، أجرى ثلاثة صحافيين روس، أورخان جمال، مراسل حربي محترف، ألكسندر راتسورغييف، وثائقي، كيريل رادتشنكو، مصوِّر تلفزيوني، تقصيا عن وجود “فاغنر” في جمهورية أفريقيا الوسطى، بتكليف من مركز إدارة التحقيقات، وهو مشروع أطلقه المعارض الروسي المقيم في المنفى، ميخائيل خودوركوفسكي. إلا أنهم اغتيلوا قرب مدينة سيبيت (Sibut) في شمال شرقي العاصمة بانجي، ونُسِبَتِ الحادثة إلى مُسلَّحين مجهولين، بحسب ما مصادر حكومية وأخرى روسية في شهر أغسطس/ آب من العام نفسه. لاحقًا أقرت وزارة الخارجية الروسية علانية بوجود “فريق تدريب” عدد أفراده 175 شخصًا، وقالت إنهم أرسلوا إلى جمهورية أفريقيا الوسطى “في أواخر يناير/ كانون الثاني- أوائل فبراير/ شباط 2018 لكن من دون الإشارة إلى ما إذا كان الموظفون المدنيون يعملون في “فاغنر” أو مقاولين عسكريين رسميين.
في عام 2018 دخل ما يقرب من ألف جندي من “فاغنر” أفريقيا الوسطى للدفاع عن حكومة الرئيس فوستين أرشانج تواديرا ضد هجمات المتمرّدين على العاصمة بانجي. وتقوم بحراسة الرئيس الشخصية منذ ذلك العام. في المقابل، حصلت “فاغنر” وشبكة الشركات التابعة لها على حقوق غير مقيدة في السيطرة على منجم ذهب نداسيما المربح، حسبما ذكرت دورية Africa Intelligence في أواسط يوليو/ تموز 2018. وهي منطقة غنية بمناجم الذهب واليورانيوم كانت تسيطر عليها شركات فرنسية. وعلى هذا، غدت أفريقيا الوسطى ساحة مواجهة عنيفة بين الروس والفرنسيين.
في كلمته في أعقاب التمرّد أخيرا، خصّص وزير الخارجية الروسية لافروف معظم حديثه عن حلفائه في القارّة الأفريقية، وقال إنهم ذهبوا إلى هناك استجابة للحكومات الأفريقية، وإن “محاولة التمرّد الفاشلة لن تسبّب صعوبات في علاقات روسيا الاتحادية مع الأصدقاء”. وأكد أن الاستعدادات للقمة الروسية الأفريقية جارية على قدم وساق، وأنهم يعملون على إضافة “نقاط جديدة مهمة للغاية إلى جدول أعمالها”، في إشارة إلى البحث عن دور “فاغنر” في تلك الدول. لكنه أوضح أيضًا أن الاتفاقيات أبرمت مباشرة بين الحكومات المعنية وشركة فاغنر، وسيكون مصيرها متروكًا للدول الأفريقية وشركة فاغنر لتقرّر ما إذا كانت مهتمة بمواصلة هذا الشكل من التعاون، لضمان أمن هيئات السلطة هناك.
لم تفوّت واشنطن، وخصوم روسيا الآخرون، التعبير عن القلق إزاء أنشطة “فاغنر” في أفريقيا، وخصوصا مالي، لا سيما أن الشركة تُتهم بأنها وراء إخراج البعثة الأممية من مالي في هذا الأسبوع. واتهم منسق مجلس الأمن القومي للاتصالات الاستراتيجية في البيت الأبيض، جون كيربي، مجموعة فاغنر بسرقة موارد مالي الطبيعية، وقال إنها قتلت آلاف المدنيين، واتهم بريغوجين نفسه بأنه مهندس عملية إخراج بعثة الأمم المتحدة من مالي.
وترتكب “فاغنر” انتهاكات لحقوق الإنسان في ليبيا وموزمبيق وأفريقيا الوسطى ودول أفريقية أخرى. في ليبيا مثلا، ارتكبت قوات فاغنر التي قاتلت إلى جانب “الجيش الوطني الليبي” الذي يتبع خليفة حفتر خلال حملة طرابلس 2019 عمليات قتل خارج نطاق القانون وزرع ألغام أرضية في مناطق مدنية. وأخيرا، ذكرت تقارير أن الشركة تزوّد مليشيا قوات الدعم السريع السودانية بالصواريخ خلال حربها ضد الجيش السوداني. كما أفادت “هيومن رايتس ووتش” بأن المرتزقة الروس قادوا القوات المالية في مذبحة راح ضحيتها 300 مدني في وسط مالي، في هجوم استمر أيامًا على منطقة عسكرية. وذكرت مصادر لـ VICE World News، أن نسبة المدرّبين الروس إلى القوات الوطنية في المجزرة التي استهدفت أيضًا المتطرّفين، كانت ثلاثة إلى واحد، ما يشير إلى وجود عدد كبير من القوات الروسية التي تقاتل على الأرض.
سينعكس بالتأكيد تفجّر الصراع بين الشركة والإدارة الروسية في طبيعة وجود الشركة في أفريقيا، خصوصًا أنها تسيطر على مناطق غنية بالموارد عبر شبكة من الشركات المرتبطة بها. يعني ذلك خسارة روسيا أماكن اعتبرتها تحت سيطرتها الجيوسياسية لصالح شركات فرنسية، وكانت غالبا تستخدم موسكو حقّ “الفيتو”، لمنع معاقبة هذه الدول من الأمم المتحدة على خرق حقوق الإنسان. أما بالنسبة للدول الأفريقية فهي على أعتاب عصرٍ جديدٍ لزرع المليشيات والمرتزقة وتغذية النزاعات الإثنية والقبلية، وطبعًا استمرار نهب مواردها وإفقار شعوبها. والجديد أن دولا بأكملها ستكون فريسة لشركة خارجة عن السيطرة الروسية الرسمية. السيناريو المخالف لكل ذلك عودة العلاقات بين “فاغنر” وبوتين على ما كانت عليه، وهو الخيار الأقلّ ترجيحا، فإعلان بريغوجين طموحاته بإطاحة بوتين الشخصية تستبعد هذا الخيار. أما البلدان الأفريقية فتنتظر عصرًا جديدا من سيطرة الجيوش المرتزقة في الدول الهشّة في عالمٍ آيلٍ إلى الاحتراب والاحتراق أكثر فأكثر.
————————————
فاغنر السورية ـــ الإفريقية/ بسام مقداد
الأسئلة التي طرحها تمرد بريغوجين لا تزال أكثر بكثير من الأجوبة التي تكاد جميعها تقتصر على التخمينات والتوقعات. بعد السؤال الذي طرح مباشرة بعد صفقة التسوية عن مصير بريغوجين نفسه ومصير مرتزقته، يبرز الآن السؤال عن مصير أمبراطوريته المترامية بين الشرق الأوسط وإفريقيا. وقد يكون الإستعصاء السوداني عجّل في طرح هذا السؤال، خاصة بعد تصريح نائب رئيس مجلس السيادة السوداني مالك عقار عن علاقة “فاغنر” بقوات الدعم السريع السودانية، وعن دعوة روسيا للتوسط في النزاع السوداني، بعد فشل الوساطة الأميركية السعودية.
موقع Lenta الإخباري الروسي نقل في 29 المنصرم عن Newsweek قولها بأن “فاغنر” تعمل في عدد من بلدان الشرق الأوسط وإفريقيا، حيث الحكومات المحلية لا تريد طلب المساعدة من الغرب. وعلى الرغم من أن المجموعة غادرت روسيا، إلا أن نشاطها لا يزال يثير قلق الولايات المتحدة والبلدان الأوروبية.
يقول الموقع أن الأسبوعية الأميركية نقلت عن تقرير لمنظمة “مراسلون بلا حدود” تأكيده بأن وثائق “فاغنر” المكتشفة حديثاً تشير إلى أن المجموعة على علاقة وثيقة بقوات الدعم السريع السودانية. منذ سنوات ومجموعة “فاغنر” تدرب جنود هذه القوات، وكبار ضباطها يخدمون في المراكز القيادية لقوات الردع السريع. وتدفع “فاغنر” لهذه القوات مقابل إستخدام القواعد العسكرية السودانية من أجل تأمين نقليات عسكرييها.
تضيف الأسبوعية الأميركية بأن “فاغنر” تقيم أو حاولت أن تقيم لها وجوداً عسكرياً، سياسياً أو إقتصادياً في بوركينا فاسو، الكاميرون، الكونغو الديموقراطية، أريتريا، غينيا الإستوائية، مدغشقر، موزامبيق وزيمبابوي.
لم تسهُ الأسبوعية عن ذكر الوجود الإفريقي الأبرز لمرتزقة “فاغنر” في جمهورية إفريقيا الوسطى ومالي، بل ذكّرت بأن وزارة الخزانه الأميركية سبق أن فرضت عقوبات على أربع شركات تقيم إثنتان منها في جمهورية إفريقيا الوسطى، وإثنتان في كل من روسيا والإمارات العربية المتحدة. كما فرضت عقوبات على شخص روسي مقيم في مالي، ويشتبه بعلاقاته مع “فاغنر” وصاحبها يفغيني بريغوجين. وتضيف المطبوعة أن “فاغنر” تستغل مشكلات الأمن في سائر أنحاء العالم لإرتكاب الفظائع والأعمال الإجرامية.
موقع absatz الروسي نشر في 30 المنصرم نصاً شرحت فيه بوليتولوغ روسية ما تراه بأن مواقع روسيا في سوريا “ستكون قوية حتى من دون “فاغنر”. نقل الموقع عن The Wall Street Journal قولها أنه بعد ساعات من توقف مسيرة “فاغنر” نحو موسكو، طار نائب وزير الخارجية الروسي سيرغي فارشينين إلى دمشق للقاء الرئيس السوري ومناقشة وضع مجموعة “فاغنر” في سوريا. كما ينقل الموقع عن مصادر لم تسمها المطبوعة الأميركية قولها بأن جميع وحدات “فاغنر” الموجودة في سوريا تلقت أوامر بالتجمع في القاعدة الجوية لوزارة الدفاع في اللاذقية، وخضعت جميعها لسيطرة الكرملين.
ورأت الصحيفة الأميركية أن النشاط الدبلوماسي الروسي المتزايد يعكس محاولة الرئيس الروسي طمأنة الشركاء في إفريقيا والشرق الأوسط أن عمل “فاغنر” سيستمر في هذه المناطق، لكن المرتزقة سيكونون تحت قيادة أخرى.
البويتولوغ الروسية كارينه كيفوركيان قالت للموقع بأن لدى سوريا مشاكل كثيرة غير المسائل المتعلقة بالسيطرة على وحدات “فاغنر”. ورأت أن المسألة الأولى التي تقف أمام حكومة الأسد هي إنسحاب القوات التركية من سوريا. وافترضت أن هذه المسألة بالإضافة إلى مسائل مواصلة إندماج سوريا بالمنطقة قد بحثها فارشينين في دمشق. وتؤكد أنه لم توجد يوماً أي مشاكل جدية مرتبطة بوجود مجموعة “فاغنر” في سوريا.
وبشأن تساؤل الخبراء الغربيين ما إن كان بوسع الصين أن تحل محل روسيا في مجال توفير الأمن في المنطقة، رأت كيفوركيان أنه ليس لدى الصين خبرة خوض الأعمال الحربية التي للعسكريين الروس أو للشركات العسكرية الخاصة الروسية. وقالت بأن الصين لم يسبق لها أن واجهت المهمات التي تواجهها روسيا في الشرق الأوسط الذي يحتاج الوسيط فيه إلى خبرة في خوض العمليات الحربية. وافترضت أن الصين ستستمر في التغلغل بالمنطقة عبر المجال الإقتصادي، كما كانت تفعل حتى الآن.
موقع ixbt الروسي الإلكتروني المتخصص بشؤون الإلكترونيات نشر في 2 الجاري نصاً مقتضباً رأى فيه أن روسيا تعيش لحظة مفصلية بعد تمرد “فاغنر”. وقال بأن المهم الآن أن “لا نخطئ”، وأن يُستغل الوضع لتطهير روسيا من الجبناء والخونة. و”المطلوب بالدرجة الأولى عملية تطهير كبيرة للنخب”.
ذكر الموقع بما قاله بوتين بشأن “فاغنر” العام 2018 في مؤتمره الصحافي السنوي عشية رأس السنة. قال أنه بالنسبة لمجموعة “فاغنر” وما تقوم به، “على الجميع أن يبقى ضمن القانون”. وتعمد بوتين الخلط بين مجموعة المرتزقة هذه وشركات الأمن الخاصة الموجودة في كل بلد. وقال بأن حظر عمل هذه الشركات ستعقبه كمية كبيرة من العرائض المطالبة بحماية سوق العمل هذا الذي يضم حوالي مليون شخص. أما بشأن “فاغنر” نفسها، فقال بأن النيابة العامة عليها أن تقيم عمل المجموعة إذا خالفت القانون. وبشأن تواجدها في “مكان ما خارج البلد”، فإذا كانت لا تخرق القانون الروسي، فلها الحق بالعمل وتطوير مصالحها في “أي نقطة على الكرة الأرضية”.
موقع dsnews الأوكراني نقل في 27 المنصرم عن التقرير اليومي لمعهد دراسة الحرب الأميركي ISW قوله بأن مستقبل “فاغنر” بعد محاولة الإنتفاضة المسلحة، يرجح أن لا يلحظ يفغيني بريغوجين في دور القائد. ورأى التقرير أن بوتين كان بوسعه إعتقال قيادة “فاغنر” بتهمة الخيانة، لكنه بدلاً من ذلك إقترح مسامحتها ودمج قوات المجموعة بالقوات الروسية النظامية. ويستنتج التقرير من ذلك أن بوتين بحاجة لقوى عسكرية عاملة مدربة وفعالة، من دون أن يكون من الواضح كيف سيكون هذا الدمج في بنية قوات وزارة الدفاع.
يفترض تقرير المعهد الأميركي أن الكرملين قد يقرر الإحتفاظ بمجموعة “فاغنر” فقط لدعم العمليات في إفريقيا والشرق الأوسط، ويقوم بتقسيم مجموعة قوات “فاغنر” في أوكرانيا. لكن مثل هذه السيناريوهات قد تؤثر على معنويات قوات “فاغنر” وقدراتها القتالية.
يرى تقرير المعهد أن جهود بريغوجين فشلت في إقناع بوتين بولائه له. ومن المحتمل أن تكون كلمة بوتين في 26 المنصرم قد أشارت إلى قطيعة حاسمة بين بوتين وبريغوجين. وفي حال قرر الكرملين الإبقاء على مجموعة “فاغنر” كوحدة منفصلة، من المحتمل أن يحاول إستبدال قائد المجموعة لإبعادها عن زعيمها.
موقع azattyq الإخباري الكازاخي نشر في 29 المنصرم نصاً بعنوان “إفريقيا أو الموت؟ من المستبعد أن يبقى بريغوجين طويلاً في بيلوروسيا”. يستهل الموقع نصه بالتساؤل عن الخطوات المقبلة للمجرم السابق الذي أصبح مليارديراً وقائد مرتزقة، وما إن كان سيبقى بريغوجين على قيد الحياة أو سينتقل إلى إفريقيا.
قال الموقع أن يفغيني بريغوجين نفذ خلال سنوات عمله الطويلة وسيطاً للكرملين مهمات كثيرة معقدة ــــ من دعم القادة الأفارقة الكليبتوقراطيين إلى تدمير مدينة باخموت الأوكرانية. الآن، وبعد أن تحدى القوات المسلحة الروسية وخلق أزمة سياسية في روسيا، على زعيم “فاغنر” أن ينفذ المهمة الأصعب: البقاء على قيد الحياة، أو تفادي الوقوع في السجن، أو هذا وذاك.
يذكر الموقع بكلمة بوتين التي إتهم فيها بريغوجين بالخيانة، وينقل عن المدير السابق للشؤون الروسية في مجلس الأمن القومي الأميركي توماس غراهام قوله بأن بوتين لا يتساهل عادة مع الخونة، ولذلك “أفترض أن أيام بريغوجين معدودة”.
المدن
——————————-
تمرد «فاغنر» أضعف روسيا وأنقذ رئاسة بوتين!/ هدى الحسيني
في مقابلة صحافية نشرتها صحيفة «لا ستامبا» الإيطالية مع قائد ميليشيا «فاغنر» يفغيني بريغوجين، في 14 أبريل (نيسان) الماضي، قال إنه حامي الحمى الأول للرئيس الروسي فلاديمير بوتين، وقد غرّدت زوجة المعارض الروسي أليكسي نافالني بأن بريغوجين لا يكذب في قوله، فهو الطاهي الذي وثق به بوتين ليطعمه ويصبّ له الشراب، وهو المتذوق الأول من صحن الرئيس للتثبت من خلوّه من السم، ولهذا فقط كان حامي حمى بوتين. ولكن بعيداً عن تاريخ بريغوجين فإن قيادته قوات «فاغنر»، الميليشيا الضاربة التي أنشأها بوتين لتنفيذ العمليات القذرة، لم تكن سوى لثقة بوتين بولائه ومازوشيته القتالية حيث لا مكان فيها للرحمة أو الشفقة. ويبقى التساؤل عمّا حدث ليتحول الطاهي ذائق طعام الرئيس خائناً طاعناً في الظهر، وينتهي به المطاف ليصبح منبوذاً منفياً في بيلاروسيا، وإن كان الأمر غير مؤكد أنه صار هناك.
تتفاوت النظريات فيما حدث، فهناك من يقول إن إقدام قوات «فاغنر» على احتلال مدينة روستوف وبدء توجهها نحو موسكو بدا كأنه محاولة انقلابية للاستيلاء على السلطة، أو كان ما حصل أمراً مدبراً من بوتين بهدف إظهار نفسه كضحية لمن وثق بهم واعتمد عليهم لحسم العملية العسكرية في أوكرانيا فخانوا العهد وخذلوا الأمة، وبهذا يصبح المجرم ضحية وتنتقل مسؤولية الفشل إلى الخونة. وهناك نظرية أخرى تقول إن بريغوجين تم احتواؤه من الاستخبارات البريطانية والأميركية (ويليام بيرنز رئيس جهاز الاستخبارات الأميركية قال في لندن الأسبوع الماضي إنه لا دخل لبلاده) التي أقنعته بخطة الهجوم على موسكو واحتلال وزارتَي الدفاع والداخلية وتطويق الكرملين مع قطع شامل لوسائل الاتصالات، مما سيؤدي إلى سقوط بوتين، وقد اقتنع قائد «فاغنر» بالخطة وأقدم على تنفيذها إلا أنه تردد وهو على بُعد 400 كلم من موسكو وأعلن عن التراجع لقاء موافقة بوتين على اقتراح الرئيس البيلاروسي ألكسندر لوكاشينكو، إعطاءه لجوءاً سياسياً في مينسك. وأيضاً هناك نظريات أخرى وجميعها لا تتعدى التكهنات. إلا أن المؤكد أن نظام بوتين في مأزق كبير، وهناك تشكيك في مقدرته على الخروج منه سالماً، وسيبقى غارقاً في مستنقعات أوكرانيا لأشهر طويلة إذا لم يكن لسنوات.
أثارت مسيرة بريغوجين نحو موسكو في نهاية الأسبوع قبل الماضي دهشة حتى أكثر المراقبين المخضرمين في السياسة الأوروبية. على الرغم من أن التوترات بين بريغوجين ووزارة الدفاع الروسية كانت واضحة لعدة أشهر، إلا أن الاستيلاء المفاجئ على مدينة روستوف الروسية الجنوبية من شركة «فاغنر» العسكرية الخاصة في 24 يونيو (حزيران) أجبر الكثير من المحللين على إعادة تقييم افتراضاتهم حول استقرار الدولة الروسية.
في حين يبدو أن رسالة صوتية موجزة من بريغوجين والخطب العامة التي ألقاها بوتين تمثل نهاية هذه المرحلة من الأزمة، ولا يزال الكثير منها غير واضح.
أعلن لوكاشينكو أن بريغوجين اختار المنفى في مينسك، وعرض بوتين على قوات «فاغنر» الاختيار بين البقاء مع المجموعة والاندماج في الجيش الروسي. ولكن حتى الآن لم يكن هناك تأكيد بصري ملموس لأي شيء يتجاوز عودة قوات «فاغنر» إلى قواعدها. في حين أن المدعين العامين الروس قد أسقطوا اتهامات الخيانة ضد بريغوجين وغيره من قادة «فاغنر» كجزء من عملية المصالحة المفترضة، إلا أن فرص نجاح هذه العملية لا تزال غير واضحة.
أدى التناقض بين التكهنات المحمومة حول ما حدث في 24 يونيو (حزيران) والسرعة التي انحسرت بها الأزمة بعد ذلك، إلى رد فعل عنيف مناقض بين بعض المراقبين الذين يجادلون بأن الادعاءات أن بوتين قد ضعف بسبب موقف بريغوجين مبالَغ فيها إلى حد كبير. وإلى حد ما، أشارت قدرة بوتين على منع الانشقاقات داخل الأجهزة الأمنية والوحدات العسكرية وشبكات الأعمال، والانضمام إلى معسكر بريغوجين، إلى أن الكثير من النخبة الروسية يفضِّل تجنب المتاعب بدلاً من المخاطرة بمزيد من زعزعة الاستقرار في الوقت الحالي على الأقل. ومهما جرى التعبير عن الكثير من الانتقادات خلف الأبواب المغلقة بسبب أخطاء بوتين الكثيرة في الحرب ضد أوكرانيا، لم يكن أحد من بين النخب المحبطة بشدة في روسيا على استعداد للمخاطرة بدعم تحدي «فاغنر».
تشير نظرة فاحصة لتصريحات بريغوجين إلى أنه ركز اللوم في الإخفاقات العسكرية على عدم كفاءة وزارة الدفاع. في حين أن دوامة التصعيد سرعان ما حوّلت مناورة «فاغنر» إلى تحدٍّ مباشر لسلطة بوتين على مدار ذلك اليوم، خصوصاً في أثناء الاجتماع مع كبار شخصيات الجيش في روستوف، لكنّ بريغوجين أشار إلى أنه لم يكن يتحدى شرعية نظام بوتين. وفي أحدث تسجيل صوتي له، واصل ترديد الروايات التاريخية القديمة التي تؤكد كيف يمكن أن يُضَل «القياصرة» الجيدون -في هذه الحالة بوتين- من المستشارين «الأشرار» مثل سيرغي شويغو وزير الدفاع، أو رئيس هيئة الأركان العامة الجنرال فاليري غيراسيموف، كما تبين أن خطة بريغوجين الأولية هي الحصول على نفوذ كافٍ لمنع مخطط شويغو المعلن لاستيعاب «فاغنر» في وزارة الدفاع.
ومع ذلك، حتى مع مثل هذه المحاذير، لا يزال التمرد الذي كاد يصل إلى موسكو وأدى إلى إسقاط طائرات ومروحيات قتالية رمزاً صارخاً لنقاط الضعف الهيكلية المتزايدة في روسيا. إن قوة شبه حكومية مثل «فاغنر» يمكن أن تحصل على الاستقلالية والموارد للتخطيط لمسيرة إلى موسكو من دون جذب انتباه وكالة الاستخبارات المحلية التابعة لمجلس الأمن الفيدرالي أو الأجهزة الأمنية الأخرى، هو مؤشر على ضعف نهج بوتين في الحفاظ على أمن النظام والتوترات الخطيرة داخل النخبة الروسية.
بعبارة أخرى، قد لا تثبت الأزمة بالضرورة أن قبضة بوتين على السلطة قد ضعفت، ولكنها تثبت أن قوة الدولة الروسية التي يسيطر عليها قد ضعفت.
ولذلك، في حين أن مصير «فاغنر» وبريغوجين سيظل غير واضح خلال الأسابيع القليلة المقبلة، وربما مصير بوتين لفترة أطول بكثير، لا يزال من الممكن استخلاص استنتاجات حول مسار روسيا على المدى الطويل من الفوضى التي أطلقتها أحداث نهاية ذلك الأسبوع. وتمكن بوتين من منع مقامرة بريغوجين ومن جلب المزيد من الانقسامات بين النخبة الروسية إلى السطح. ويشير ذلك إلى أن المخاوف واسعة النطاق بشأن التهديد الذي يمكن أن يشكّله عدم الاستقرار هذا على تماسك الدولة لا تزال تمكّن بوتين من تصوير نفسه على أنه الزعيم الذي لا غنى عنه في روسيا. ومع ذلك، فإن مدى شلل النظام عندما واجه أزمة متصاعدة يشير إلى أن مغامرة «فاغنر» هي أحد أعراض الاتجاهات الهيكلية طويلة الأجل التي ستستمر في الظهور.
في نظام أصبح يعتمد على زعيم فرديّ للعمل كحَكَم بين الفصائل المتنافسة، تشير قدرة قوة مكونة من بضعة آلاف من القوات على تهديد العاصمة إلى الفوضى التي يمكن أن تتكشف بمجرد رحيل بوتين. وعندما يتعلق الأمر بكيفية حدوث أزمة خلافة، فإن العامل الأكثر صعوبة في القراءة هي الاستجابة المحتملة للشعب الروسي.
اللامبالاة على نطاق واسع في موسكو حتى مع اقتراب قوات «فاغنر» من المدينة، هي مؤشر محتمل على أن جهود نظام بوتين لتفتيت السكان الأوسع وتجريدهم، من شأنها أن تضمن أن يجلس معظم الروس على الحافة ويتجنبوا المشاركة. فمدى إثبات المعارضة الليبرالية أنها غير ذات صلة خلال مسيرة بريغوجين إلى موسكو هو علامة على أن القمع والهجرة الجماعية قد حطّما قدرة حركات المعارضة المؤيدة للديمقراطية على التأثير في الأحداث داخل روسيا في أي وقت قريب.
ومع ذلك، فإن الحماس الذي أظهره بعض الناس في روستوف تجاه «فاغنر» يُلَمح إلى أن سيناريو الحرب الأهلية يمكن أن يحشد أعداداً أكبر بكثير مما يتوقعه الكثير من المحللين حالياً.
عَكَس صعود بريغوجين والزعيم الشيشاني رمضان قاديروف ضعف شويغو وغيراسيموف، اللذين فُضح عدم كفاءتهما في ساحات القتال الأوكرانية.
على الرغم من أنه يبدو أن بوتين قد واجه التحدي الذي قدمته «فاغنر» في الوقت الحالي، فإن الاضطرابات في أعقاب مقامرة بريغوجين توفر تلميحاً إلى كيفية تأجيج الاتجاهات الهيكلية الأوسع للتوترات في جميع أنحاء المجتمع الروسي. وإذا لم تتمكن القيادة الروسية التي ستخلف بوتين في نهاية المطاف من إصلاح الضرر الذي ألحقه بروسيا بسرعة، فإن المذبحة المجتمعية التي من المرجح أن تظهر بعد رحيله يمكن أن تدمّر الدولة التي أراد استعادة مجدها.
الشرق الأوسط
———————–
«فاغنر» بعد التمرد!/ فايز سارة
لا شك في أن التمرد الذي نفذه مؤسس «فاغنر» وقائدها يفغيني بريغوجين مؤخراً في روسيا، يمثل تحدياً كبيراً للسياسة الروسية وللرئيس فلاديمير بوتين شخصياً؛ سواء في المستوى الداخلي أو في المستوى الخارجي. ولئن كان الأمر يتعلق بواقع السلطة وصراعاتها في المستوى الداخلي، فإنه يتعلق في المستوى الخارجي بوجود روسيا وسياساتها وعلاقاتها في المحيطين الإقليمي والدولي.
ففي الجانب الأول، ظهر التمرد بمثابة انقسام في القوة الأساسية للنظام بين المؤسسة العسكرية ممثلة بوزارة الدفاع وقادتها من كبار الضباط، والقوة الرديفة التي تمثلها منظمة «فاغنر» التي أسسها ويقودها بريغوجين. ورغم التفاوت في الأهمية بين القوتين من حيث العدد والإمكانات والإطار القانوني، فإن الطرفين في اختلافهما وصراعهما يعكسان تمايزاً له قواعد مختلفة ذات تأثير يتجاوز حدود اختلاف العدد والإمكانات والإطار القانوني.
وقد ظهرت تعبيرات الاختلاف قبل التمرد وخلاله، كان منها الدور المختلف من حيث مجريات ونتائج عمليات قوات «فاغنر» في الحرب الروسية – الأوكرانية، ومنها الصوت المرتفع لرئيس «فاغنر» في مطالبته محاسبة وزير الدفاع وكبار جنرالات الجيش عن تقصيرهم وارتكاباتهم في حرب أوكرانيا، ومنها أيضاً الحماسة والترحيب اللذان قوبل بهما تمرد «فاغنر» في أوساط المتطرفين القوميين والشبان الروس.
وبطبيعة الحال، فإن ضجيج «فاغنر» بدأ قبل التمرد بأشهر مندداً ومتحدياً وزير الدفاع وجنرالات الجيش، وسط سكوت الرئيس عن سلوك رئيس «فاغنر» وهجماته، ما منع المؤسسة العسكرية عن رد قوي ومعلن؛ بل جعلها تلجأ (حسب خصمها) إلى إجراءات تؤخر وصول الدعم المطلوب إلى قوات «فاغنر» في جبهات الحرب، والتسبب في خسائر بشرية في مواقعها. ولا شك في أن بين الأسباب المباشرة لسلوك قيادة الجيش قدرتها المحدودة في تحقيق انتصارات نوعية في الحرب الأوكرانية، مقارنة بما كان يظهر في أعمال «فاغنر» هناك. وفي المحصلة كان موقفها ضعيفاً في المنافسة مع «فاغنر» وصوت رئيسها المرتفع سعياً لتعزيز مكانته على حساب قادة المؤسسة العسكرية، وبخاصة وزير الدفاع سيرغي شويغو.
إن ما ظهر من تحديات داخلية في الانقسامات الروسية، كان محصلة لوجود ودور «فاغنر» في الداخل الروسي، بخلاف ما تركه وجودها ودورها الخارجي من نتائج، جاءت في سياق جهود وأعمال قامت بها «فاغنر»، انعكست إيجابياً على وجود روسيا وسياساتها في غالبية البلدان التي دخلتها، فحققت «إنجازات إيجابية» لسياسة موسكو، من دون أن تحملها أياً من خطايا تلك السياسات؛ لأن موسكو كانت في كل الأحوال تنكر علاقاتها مع «فاغنر»، وتشيع أن الأخيرة ليست سوى شركة أمنية روسية، لا ترتبط بسياسات ومواقف روسيا.
ومما لا شك فيه، أن منظمة «فاغنر» وما يماثلها من كيانات، بمثابة «صندوق أسود»، لا يظهر من أعمالها سوى ما تعلن عنه، أو ما يتم اكتشافه بالصدفة، أو عبر جهود خصومها في ملاحقتها، ما يعني أن الحديث عن «فاغنر» لا يتناول إلا ما هو معروف من أعمالها، والتي قد يكون في قائمتها ما هو مختلف، ويصل إلى مستوى الجريمة المنظمة، بخاصة في ضوء التاريخ الأسود لمؤسسها ولأغلب المنتسبين إليها.
إن الأبرز والأكثر شهرة في أعمال «فاغنر» التي امتدت عبر ثلاث قارات، هو مشاركتها في الحرب الروسية – الأوكرانية. ورغم محدودية مقاتليها هناك البالغين 25 ألفاً مقابل مئات آلاف الجنود الروس، فقد تركت بصماتها في نتائج المعارك بسبب طبيعة المنتسبين إليها ومواصفاتهم وتسليحهم وإدارتهم، ما جعلهم موضع فخر القيادة الروسية.
وبين الأدوار المهمة في سجل عمليات «فاغنر» دورها في حرب سوريا، وقد بدأ بعيد التدخل العسكري الروسي في سوريا عام 2015، وسط إعلان واضح تكرر عدة مرات أنها لا تتبع القوات الروسية، وليست جزءاً منها؛ لكنها من الناحية العملية كانت الوجه الأكثر دموية للوجود الروسي هناك؛ حيث مارست عمليات قذرة، بعضها في ملفات المحاكم الروسية، وقامت بمحاولات استيلاء على حقول نفط، كلفت واحدة فاشلة منها عشرات القتلى من جنود «فاغنر» على يد الأميركيين.
ويمتد حضور «فاغنر» وأعمالها في عدد من الدول الأفريقية، بينها ليبيا والسودان ومالي، ورغم أن أعمالها بغالبيتها كانت تندرج في سياق الصراعات الداخلية، وفيها عمليات قتل وإخضاع، فإن بعضها يشمل الحماية والتدريب وعمليات نهب الموارد المحلية.
ولا يحتاج إلى تأكيد، أن أعمال «فاغنر» في البلدان الأفريقية على غرار ما عليه الحال في غيرها، تحظى بتأييد ودعم الحكومة الروسية؛ بل أيضاً بتمويلها؛ حيث قال بوتين مؤخراً إن روسيا موّلت أعمال «فاغنر» في العام الماضي بـ100 مليار دولار، وجاء بعده تصريح وزير الخارجية سيرغي لافروف، بأن أعمال وأدوار «فاغنر» مستمرة حتى بعد التمرد.
خلاصة الأمر: أن تمرد «فاغنر» ترك أثره المباشر على رئيسها بريغوجين وبعض المقربين منه بدفعهم إلى منفى مجاور، أما على المنظمة، فإنه لم يؤثر على وجودها ولا على دورها؛ بل إن ثمة حرصاً رسمياً على ذلك بما تقدمه من دور وخدمات تدعم سياسات ومواقف روسيا في أكثر الأماكن الحساسة للمصالح الروسية، ولا يمكن فهم أفكار بوتين حول مصير «فاغنر» في دمجها مع الجيش الروسي أو عودة منتسبيها إلى حياتهم الاعتيادية، سوى أنها تفكير علني ببعض ما يمكن القيام به بصدد «فاغنر»؛ لكن عندما يهدأ الوضع وتبرد آثار التمرد، فإن التفكير سوف يتركز أكثر على سبل إعادة إحياء وتطوير «فاغنر» وأعمالها؛ ليس لأنها تجنب روسيا القيام بأعمال وتنفيذ سياسات فقط؛ بل لأنها أيضاً «بقرة حلوب»، تجلب مزيداً من المكاسب؛ لا سيما في المجالين السياسي – العسكري من جهة، والمادي لروسيا من جهة أخرى.
الشرق الأوسط
——————————–
تحليل: تمرد فاغنر يهدد استمرار المصالح الروسية في سوريا
انتهاء أزمة تمرد مجموعة فاغنر ، لا يزال الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين يواجه تحديا وهذه المرة ليس على الأراضي الأوكرانية، ولكن في سوريا.
ووفق تحليل نشرته مجلة “فورين بوليسي” قامت قوات روسية في إطار “إجراء احترازي”، باحتجاز عدد من قادة مجموعة فاغنر ونقلتهم إلى قاعدة حميميم الجوية التي تعد مركزا للقيادة والسيطرة للقوات التابعة لموسكو والموجودة في سوريا، كما أنها تعتبر “مقرا لوجستيا” لعمليات فاغنر الخارجية.
وتعد هذه القاعدة “أكبر منشأة روسية خارج مناطق الاتحاد السوفيتي السابق، تستخدم كمدرج للطائرات العسكرية الثقيلة التي تنقل كميات كبيرة من الأسلحة والأفراد، وتقوم بتزويدهم بالوقود”.
كما تستخدم مجموعة فاغنر حميميم كنقطة إنطلاق إلى “ليبيا ومالي والسودان وإفريقيا الوسطى وفنزويلا”، وإذا منعهم الكرملين الوصول لها فهذا يعني “توقف إمبراطورية رئيس فاغنر، يفغيني بريغوجين عن العمل”، بحسب التحليل.
وبعد عملهم لسنوات لصالح روسيا، تلقى قادة فاغنر في سوريا “إنذارات بتوقيع عقود جديدة مع وزارة الدفاع الروسية أو العودة إلى الديار” وذلك في الوقت الذي تشكل فيه هذه القوات “أحد المكونات الأساسية التي تحمي مصالح موسكو في سوريا”.
وأشار التحليل إلى أن فاغنر لديها مجموعة أساسية من الجنود يقدر عددهم بـ 1000 إلى 2000 جندي، ولكن لديهم شبكة أكبر من الجنود تضم نحو 10 آلاف متعاقد عسكري يعملون في حراسة البنية التحتية للنفط والغاز والفوسفات”.
ويدفع فاغنر للمقاولين العسكريين السوريين الخاصين جزءا من الإيرادات التي تحققها هذه المرافق الحيوية، وأغلبها شركات مرتبطة أحد المقربين من بوتين، وهو جينادي تيمشينكو.
وتؤكد المجلة “أنه بغض النظر عما يقرره قادة فاغنر، إلا أن احتفاظ روسيا بنفوذه على دمشق يعني تأمين الدفع لآلاف المتعاقدين العسكريين السوريين” وأي توقف بالدفع قد يعني حدوث نوع من الفراغ قد ينتهي لصالح إيران، بتقديمها الأسلحة والأموال لهؤلاء المقاتلين.
ورغم وجود شراكة في دعم نظام بشار الأسد من قبل روسيا وإيران، كانت خلافاتهم شديدة في سوريا واشتبكا أكثر من مرة للسيطرة على احتياطيات الفوسفات والحصول على الأصول الحيوية الأخرى، حيث أصبح مرتزقة فاغنر مكونا أساسيا يدعم مصالح موسكو في سوريا.
وتوقع تحليل آخر للمجلة ذاتها أن تنتقل ساحة المعركة بين “فاغنر وموسكو” إلى سوريا، وهو ما سيهدد استمرار ما سمته الصحيفة بـ”إمبراطورية روسيا في الشرق الأوسط”.
وخلال الشهر الماضي أثيرت شكوك حول سلطة بوتين بعد التمرد الذي لم يدم طويلا بقيادة رئيس مجموعة فاجنر بريغوجن.
وسيطر مقاتلو فاغنر على مدينة جنوبية وتقدموا صوب موسكو في 24 يونيو، ومثلوا لبوتين أكبر تحد لقبضته على السلطة منذ وصوله لسدة الحكم في اليوم الأخير من عام 1999.
وانتهى التمرد بصفقة توسط فيها رئيس روسيا البيضاء ألكسندر لوكاشينكو.
وقال وزير الدفاع الروسي سيرجي شويغو مطلع يوليو إن التمرد القصير الذي شنه مقاتلو مجموعة فاغنر لم يؤثر على “العملية العسكرية الخاصة” التي تنفذها بلاده في أوكرانيا.
وأضاف أن الهدف من التمرد كان تقويض استقرار روسيا لكنه فشل بسبب ولاء الجيش، مضيفا أنه لم يؤثر على الوضع في الخطوط الأمامية.
وتابع أمام اجتماع بالوزارة “التحريض لم يؤثر على أعمال وحدات الجيش المشاركة في العملية”.
الحرة / ترجمات – واشنطن
—————————–
زمن الفتن الجديد في روسيا/ فلاديسلاف زويوك
ليس عام 1917 هو السابقة بل عام 1604
بعد تمرد بريغوجين القصير، قارن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين خيانة قائد “فاغنر” الميليشياوي بعاصفة 1917 الثورية “بحال الجيش” في تلك السنة، “وبانهيار الدولة وخسارة بلاد شاسعة، وأخيراً، بمأساة الحرب الأهلية”، على ما قال بوتين في خطبة متلفزة، وطعن في “الخيانة الداخلية” المسؤولة عن هزيمة روسيا في الحرب العالمية الأولى وسقوط الإمبراطورية. “ما نواجهه هو، بالضبط، خيانة”.
وبعض المحللين الغربيين، كأنهم يقتفون مثال بوتين، قارنوا بريغوجين بلافر كورنيلوف، الجنرال القيصري الروسي الذي نقل، في أغسطس (آب) 1917، قوات من خطوط الجبهة الأمامية إلى بتروغراد، عاصمة روسيا يومها، وأوكل إليها طرد الثوريين منها، واتهم كورنيلوف بمحاولة انقلاب واعتقل.
وغداة 100 عام على الواقعة، على قول بعض أعداء بوتين الكثر، انفجرت روسيا من جديد. وبعد أن استولى على مقر أركان عسكري مهم في مدينة روستوف – على – الدون الجنوبية، سار مرتزقة بريغوجين إلى الشمال، نحو موسكو، في موكب منظم، وانتقلوا من محافظة إلى أخرى من غير أن يصطدموا بأضعف مقاومة.
وفي الأثناء لم تسمع كلمة واحدة من الكرملين، وانتشرت إشاعات عن أن بوتين استقل الطائرة إلى موسكو. وصرح الرئيس الأوكراني فولودويمير زيلينسكي أن الرئيس الروسي فقد السيطرة على روسيا. وأوصى المعارض الروسي في المنفى ميخائيل خودوركوفسكي، الروس العاديين بأن يتسلحوا لأن حرباً أهلية بدأت فعلاً.
إلا أن بريغوجين ألغى مسيره، في غضون ساعات، إلى موسكو، وقبل اتفاقاً فاوض عليه الرئيس البيلاروسي ألكسندر لوكاشينكو وقضى بإعفاء بريغوجين من الملاحقة بتهمة الخيانة والذهاب إلى بيلاروس، وفي وسع مقاتلي “فاغنر” إما مرافقته، وإما التوقيع على عقد مع وزارة الدفاع الروسية. وما بدا دراما قد تؤدي إلى القضاء على بوتين صار أشبه فجأة بمهزلة مخيفة.
وعلى رغم ذلك، فلا شك في أن قضية بريغوجين غيرت الوضع في روسيا على نحو لا عودة عنه. وثمة جوانب كثيرة من التمرد ونتائجه لا تزال غامضة. والجلي هو أن رجوع بوتين، ومعه نقاده وخصومه، إلى 1917 وقع على مقارنة سيئة. وما يحصل اليوم في روسيا يشبه حوادث حقبة سابقة على 1917، مسماة بزمن الفتن، أو الـ”سموتا”، ودامت من عام 1604 إلى عام 1613.
في أثناء هذه الحقبة، شهدت سلالة روريكيد الروسية نهاية عنيفة، واقتضى تثبيت سلالة رومانوف السلطة الملكية عقداً من الحروب والاضطرابات الأهلية. وبين أول الحوادث وخاتمتها لم يبق لروسيا كيان قائم وسيادة- وقد تلقى روسيا اليوم مصيراً مثل هذا، فنظام بوتين الأوتوقراطي والفردي عسر تصور خلافة منتظمة.
محدثون قبيحون، ومدونون قدماء
وكان إيفان الرهيب وعهده العنيف والمضطرب انتهى في عام 1584، هو من بنى الإطار الذي حصلت حوادث الـ”سموتا” فيه. فإيفان أرهق شعبه، واستنزف موارده المالية، وخاض حروباً لا نهاية لها في سبيل توسيع مملكته، في بلاد البلطيق على الخصوص. وشتت النخبة الروسية في دوامة إعدامات عظامية (بارانويا) أراد منها تثبيت سلطانه المطلق. وفي دورة غيظه، قتل ابنه الذي كان ليخلفه لو بقي على قيد الحياة، وأباح العرش لمنافسة شرسة بين أحزاب النخبة وكتلها.
وأعقبت هذا الفصل فصول من الأفول الاقتصادي والمجاعة والنزاع. وأقساها الحرب بين بوريس غودونوف، رجل البلاط الطموح الذي نصب ملكاً بين 1598 و1605، وشاب مغامر، زعم أنه ابن إيفان. والمدعي هذا، “ديمتري الكذاب”، أيده قادة بولنديون- ليتوانيون طامعون في ثروات روسيا، وأيدته نخب موسكو، والسكان الروس بعض الوقت. وأدت وفاة غودونوف في 1605 إلى انتصار ديمتري الكذاب، فدخل موسكو وأعلن نفسه قيصراً عليها، قبل أن يقتل في السنة التالية هو وحاشيته البولندية على يد جمع خائب.
وابتلعت الحرب الأهلية والأزمة الاقتصادية روسيا، بينما الـ”سموتا” تتأجج. وحل أعداء الخارج في الداخل: قدم السويديون من الشمال، وهاجم خان القرم، ذراع السلطنة العثمانية، من الجنوب، واحتلت القوات البولندية الكرملين. ولا يعلم أحد كيف نجت روسيا من الموت. والمؤرخون القوميون يزعمون أن السبب هو موجة هائلة من الوطنية والإيمان أنقذت الروسي.
والثابت هو أن دورتي تجنيد عريض أسعفتا الروس على استعادة الكرملين من البولنديين وفرض النظام تدريجاً. وأجمع الروس، من جميع طبقات المجتمع، في 1613، على انتخاب القيصر “الشرعي” ميخائيل رومانوف. وعاد السلام مع البلدان الغربية بعد خمس سنوات.
ذهب المؤرخ القيصري، فاسيلي كييوشيفسكي، في محاضراته في التاريخ الروسي المطبوعة في 1904، إلى أن الـ”سموتا” هي “ركن أسلوب الحياة الحديث” في روسيا، و”دراسة هذه الحقبة”، على قوله، “تشبه كتابة سيرة ذاتية”.
وفي أعقاب 120 سنة لا تزال هذه الكلمات صادقة وتنطبق على الحاضر. فروسيا، على رغم قوتها النووية، وسكانها المدينيين المتحضرين، واقتصادها الرقمي المتين ونظامها المالي الصامد، تبدو أبنيتها وهيئاتها الاجتماعية والسياسية متقادمة وبائتة، وأقل حداثة، من بعض الوجوه، من الاتحاد السوفياتي نفسه. فـ”أساس القوة الروسية لم يتغير أبداً في أثناء القرون الخمسة الماضية، على ما كتب الكاتب والمسرحي الروسي فلاديمير سوروكين، في فبراير (شباط) 2022.
وهذه مبالغة تكشف عن أفكار عميقة. وفي كل مرة تشبه فيها روسيا أوروبا الحديثة تعيد هزة حادة البلد إلى أصوله القروسطية. وانتهى نصف قرن من التصنيع والتحديث إلى فظائع الثورة الروسية والاستبداد البلشفي. وبدا أن كفاح ثلاثة عقود في سبيل تخطي إرث الزعيم السوفياتي جوزيف ستالين الفظ بدأ يؤتي ثماره قبل أن ينهار في 1991. وأفضت محاولات “أوربة” روسيا الواعدة، في أعوام 1990، إلى ردة فلاديمير بوتين.
ولا تشبه روسيا بوتين الديكتاتورية الشيوعية ولكنها متقادمة، وعليها سمات الهرم على نحو غريب. وهي تبدو مناسبة للقرن السابع عشر فوق مناسبتها القرن الحالي أو القرن السابق. تلاشت وطويت العاصمة الثقافية في العهدين القيصري والسوفياتي. وطوي عهد الاشتراكيين المثاليين والبيروقراطيين المستنيرين. وطويت معايير الفروسية والشرف التي ألهمت كورنيلوف محاولة إنقاذ روسيا من الفوضى. ولا يعثر الواحد على الإمساك أو التحفظ الذي حال دون إيقاع الـ”كي جي بي” مجزرة في المعارضة الروسية في أغسطس 1991، حين أخفق فريق من السوفياتيين المتحمسين والمغالين في الاستيلاء على سلطة غورباتشيف. وهمدت النزعات الإنسانوية والمستنيرة التي نفحت الحياة في تحديث روسيا الفكري والاجتماعي طوال عقود. ولم يبق إلا لفيف من الشخصيات الجديرة بأداء أدوار في أوبرا: القيصر المنكفئ، بطريرك الكنيسة الأرثوذكسية الروسية المنبطح، الحاشية الخبيثة، أسياد الحرب المتنمرون، وأخيراً المتصدي المغامر إلى الخلافة، وكلهم يؤدي دوره بحسب ما تقتضي قواعد الصنعة.
وثمة مثالات كثيرة لبريغوجين في وقائع الـ”سموتا” فهو يشبه مثيلاً له اسمه فاسيكي شوبكسي كان رجل بلاط كاذباً ومتآمراً وحاول اغتيال المتصدي لوراثة العرش. وثمة مثيل آخر كان قائداً عسكرياً متمرداً وسجيناً سابقاً هو بولونيكوف، قاد في أغسطس 1606، جيشاً مختلطاً سار إلى موسكو وهو ينوي قتل النخب وتنصيب “قيصر الشعب”. وهزمته القوات الحكومية بعد أن خانه شركاؤه، وسملت عيناه وقضى غريقاً. وفي يوم واحد، تصدى بريغوجين للخلافة على عرش روسيا، وجسد آمال ملايين الناس وانتظاراتهم ومطاعنهم، لكنه خيب كثيرين، من ميول متفرقة، حين تنصل سريعاً من هذا الدور.
مثلث الاستقرار
تعرب أخبار الـ”سموتا” عن أحوال روسيا اليوم فوق إعراب أخبار 1917 الخادعة لعلل كثيرة. ففي الكرملين يتربع قيصر وليس حكومة انتقالية عاجزة، على ما كانت عليه الحكومة في 1917، أولاً، وليس ثمة متطرفون روس على شاكلة فلاديمير لينين وليون تروتسكي، حتى لو بحثنا عنهم في زوايا المكتبات الغربية الخفية. ولا تجوز المقارنة بين بريغوجين وكورنيلوف.
فكورنيلوف كان على أتم الاستعداد لبذل حياته في سبيل بلده والمبادئ الديمقراطية، على ما صنع فعلاً بعد أقل من عام على مسيره الفاشل إلى بتروغراد- مسير آخر في سبيل تحرير روسيا من البلاشفة. أما بريغوجين فهو قائد مرتزق لا يؤمن بشيء، وثمرة هجينة مولودة من قران رجل حاشية وزعيم عصابة مافيا. وأثار غيظه تغلب رجال حاشية بوتين الآخرين، أعدائه، عليه، وعزموا على انتزاع ممتلكاته، ماله وجيشه الخاص، منه. وهو لم ينو يوماً أن ينصب نفسه القيصر المقبل، ولم يكن تمرده مؤامرة حذرة للاستيلاء على السلطة، بل عملاً يائساً للحيلولة دون حل “فاغنر”.
وتصلح الـ”سموتا” إطاراً لفهم هشاشة الدولة الروسية وقدرتها على الصمود. فالاستقرار في أوائل القرن السابع عشر كان ثمرة تفاعل أربعة مراكز سلطة، ثلاثة مراكز داخلية وطنية، ومركز خارجي: القيصر، والنخب، والشعب والأعداء. وفي أثناء الـ”سموتا” جرت روسيا إلى حروب متواترة مع جيرانها الغربيين، وعلى الأخص مع الاتحاد البولندي- الليتواني.
وكان دور المثلث الوطني الداخلي حاسماً في صنع المخرج من هذه الحقبة. وفهم الناس جميعاً أن مصير روسيا، من غير القيصر، هو الانهيار، لكن النخب الروسية كانت تخاف شعبها فوق خوفها من الأعداء الخارجيين، وكانت مستعدة لقبول سيطرة أجنبية، أو، على أضعف تقدير، لقبول المساومة مع الأعيان الغربيين على الحيلولة دون انتفاضة عامة من تحت تؤول إلى توزيع الثروة والملكيات.
وفي كل مرة أيدت فيه النخبة متصدياً للحكم يسانده الغربيون، مثل ديمتري الكذاب تحلق الشعب حول القيصر والدين، وحول الدولة الروسية. وانتهت الحرب الأهلية في روسيا ببروز ليوانان جديد، حلف جديد بين النخب والشعب والقيصر.
ومثلث القوى المحلية هذا لا يزال يسيطر على روسيا إلى اليوم. ولا ريب في أن تمرد بريغوجين أضعف القيصر، وزعزع سلطة بوتين وصورته. ويذكر ظهوره المتخشب والحاقد على شاشات التلفزة، بينما معظم الناس نيام، بالأيام المضطربة في حقبة 1991- 1993. فهو لا يعلم ما عليه أن يقول، وبدا تحذيره من “1917 آخر” نابياً وفي غير موقعه.
والحق أن صد انقلاب بالقول إن انتصار المتآمرين يعود على الناس بسوء الحال، رد ركيك ومتهافت. ولم يتحمل بوتين المسؤولية عن الفوضى. وبدا تهديده تلويحاً في الهواء. وعلى رغم هزاله، نجح الانقلاب في إضعاف الزعيم الروسي فوق ضعفه.
ولكن تفاقم ضعف بوتين لا يعني أن نهاية عهده قريبة. فالنخب الروسية، والجيش والشعب لم ينحازوا إلى صف سيد الحرب المغامر على بوتين. فهم حدسوا، مصيبين، في أن النزاعات والفوضى لن تعود عليهم بغير الضرر، ولن تقود إلا إلى “سموتا” أخرى، وتكبدهم خسائر مالية ضخمة، وتطلق العنان للعنف.
وانتهى التمرد قبل أن يضطر الروس إلى الانتصار لفريق على آخر. ولم يحظ بريغوجين، في أي وقت من الأوقات، بفرصة الفوز بتأييد نخب موسكو والجمهور معاً.
وعلى قدر ما تدوم الحرب في أوكرانيا تتعاظم فرص اندلاع “سموتا” جديدة في روسيا. فالنخب الروسية تفصلها، مرة أخرى، عن عامة الناس هوة عريضة كتلك التي مهدت لزمن الفتن. ومثال القيصر هو العامل الوحيد الذي يجمعهم ويمكن الدول من الحكم.
فإذا توارى بوتين فجأة، اضطرت حاشيته إلى مجابهة خيار عسير. إما انتهاج طريق غودونوف ورمي روسيا في لجة الفوضى، وإما تجنب الحرب الأهلية وإتاحة الفرصة أمام كل الكتل لانتخاب رئيس جديد على وجه السرعة.
وبعد يومين على نهاية تمرد بريغوجين، خاطب بوتين الشعب الروسي، مرة ثانية، ومدح كل الناس، ولم يستثن المقاتلين الفاغنريين فأشاد بمسلكهم الوطني والعاقل، ولكنه أشار إلى الـ”سموتا” على وجه التحذير. وهذا ما لا يزال الروس يفهمونه. واحتمال انزلاق قوة نووية إلى زمن فتن جديد لا ريب يرعب البلدان الغربية كما يرعب الشعب الروسي. ولا شك في أن فرص انتقال سريع من الأوتوقراطية في زمن حرب إلى نظام ليبرالي مرن في موسكو، ضعيفة. والأمثلة المستقاة من التاريخ الروسي تطيل أمد الانتقال.
*أستاذ التاريخ الدولي في كلية لندن للاقتصاد، وصاحب: الانهيار: تداعي الاتحاد السوفياتي
مترجم من فورين أفيرز 28 يونيو (حزيران) 2023
———————————-
بوتين أراد تقليم أظافر “فاغنر” في سوريا، فكيف تستفيد إيران من ذلك؟
عربي بوست
خلال الأيام الماضية شهد الملف الروسي تطوراً مهماً بالتمرد الذي قاده يفغيني بريغوجين، قائد مجموعة فاغنر ضد القيادة الروسية قبل أن يتراجع عن قراره، والعودة مرة أخرى إلى الثكنات العسكرية لمجموعته خارج روسيا.
لكن رغم تراجع بريغوجين عن الخطوة، فإن تداعياتها ما زالت مستمرة، وستطال جميع الملفات التي باتت فيها فاغنر فاعلة مثل الملف السوري، فمثلاً عقب التمرد مباشرة ألقت الشرطة العسكرية الروسية في سوريا القبض على 4 -على الأقل- من كبار قادة فاغنر، ونقلتهم إلى قاعدة حميميم الجوية، على الساحل الغربي للبلاد احتياطاً من أن تتفاقم الأمور.
وأخبرت مصادر مختلفة مجلةَ Foreign Policy الأمريكية أن قادة فاغنر لا يزالون محتجزين في منشأة مغلقة في حميميم، وأنه لم يصدر حتى إعلان رسمي عن مكان وجودهم.
وتضم قاعدة حميميم عدة آلاف من الجنود والمتعاقدين الروس، وهي مركز القيادة والسيطرة الروسي في سوريا، والمقر اللوجستي لجميع عمليات فاغنر في الخارج.
تقليم أظافر فاغنر في سوريا من قبل الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، قد يمنح إيران تفوقاً ملحوظاً في العديد من الملفات، لاسيما فيما يتعلق بالسيطرة على مناطق النفط وتوزيع الميليشيات في أماكن سيطرة النظام السوري.
أماكن وجود فاغنر في سوريا
وتحتوي القاعدة على مدرجي طيران كبيرين، وهي أكبر منشأة روسية تقع خارج دول الاتحاد السوفييتي السابق، وتتوافر على الإمكانات اللازمة لخدمة الطائرات الثقيلة القادرة على نقل كميات كبيرة من الأسلحة والأفراد؛ وإعادة تزويدها بالوقود.
وتستعين فاغنر بطائرات وزارة الدفاع الروسية في قاعدة حميميم لنقل قواتها ومعداتها إلى ليبيا ومالي والسودان وجمهورية إفريقيا الوسطى، وحتى فنزويلا. ومن ثم إذا منع الكرملين فاغنر من استخدام هذه المنشأة، فإن إمبراطورية بريغوجين العالمية لن تلبث أن تتوقف رحاها.
مرتزقة روس من شركة “فاغنر” في سوريا، أرشيفية/ مواقع روسية
وبحسب المجلة الأمريكية، فإن قادة فاغنر في حميميم أُنذروا بأن عليهم توقيع عقود جديدة مع وزارة الدفاع الروسية، وإلا العودة إلى ديارهم. ومع ذلك، فإن الاستنزاف الذي تعرّض له وكلاء روسيا في سوريا على مدى السنوات الماضية قد جعل قوات فاغنر أحد المكونات الأساسية في حماية مصالح موسكو في البلاد، وهو ما يمنح بريغوجين تأثيراً كبيراً يُستبعد معه أن تلجأ روسيا إلى تفكيك سريع لنفوذه.
لدى فاغنر الآن ما بين ألف إلى ألفي جندي منتشرين في سوريا، وهؤلاء هم المركز لشبكة أكبر بكثير تضم أكثر من 10 آلاف متعاقد عسكري خاص من السوريين الذين يحرسون البنية التحتية للنفط والغاز والفوسفات في صحراء البلاد.
تعتمد فاغنر على إيرادات هذه المنشآت لسداد حصة من رواتب المتعاقدين العسكريين معها في سوريا، لكن معظم المنشآت تملكها أو تديرها شركات مرتبطة برجل الأعمال الروسي غينادي تيموشينكو -أحد المقربين من الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، والرجل الذي يزعم خبراء أنه يشرف على إدارة ثروة بوتين- وبعض الشركات الوهمية التابعة لفاغنر من الباطن.
كيف سينعكس ذلك على الملف السوري؟
روسيا إحدى أكبر الدول المصدرة للطاقة والسلع في العالم، ومن ثم فإن الإيرادات من الموارد الطبيعية في سوريا لا تكاد تُذكر بالنسبة إلى إيرادات الدولة الروسية. أما النظام السوري، فهو في حاجة ماسة للعملة الأجنبية، ومن ثم فإن سيطرة موسكو على هذه الموارد تمنحها النفوذ اللازم لإجبار دمشق على عدم النكوث بتعهداتها الجيوستراتيجية مع الكرملين إذا تبدلت الأمور بعد نهاية الحرب.
احتفاظ روسيا بنفوذها على دمشق أمرٌ ضروري لتأمين ولاء الآلاف من المتعاقدين العسكريين السوريين الذين يقودهم بريغوجين. ومن ثم، فإن أي توقف مؤقت أو تخفيض في عطايا هذه القوات بسبب الاضطراب في موسكو يقدِّم فرصة سانحة للاستغلال من إيران -الغريم الأكبر لروسيا على النفوذ في سوريا- التي يمكن أن تقدم لهؤلاء المقاتلين أسلحة أفضل وأجوراً أعلى.
فعلى الرغم من الشراكة الممتدة لروسيا وإيران في مناصرة بشار الأسد، فإن البلدين وقعت بينهما خلافات حادة في سوريا منذ عام 2017. وتقاتل وكلاء تابعون لهما في اشتباكات عنيفة عام 2018 للسيطرة على احتياطيات الفوسفات في البلاد، ثم تواصل القتال المتفرق بين الجانبين على أصول استراتيجية أخرى.
أضعفت هذه النزاعات من نفوذ روسيا بالبلاد، وزاد الطين بلة أن آمال التوصل إلى حل سياسي للصراع بين النظام السوري والمعارضة قد تلاشت. وكانت الشركات الروسية تتطلع إلى مكاسب هائلة إذا رُفعت العقوبات عن سوريا، لكن العقوبات لم تُرفع ومساعدات التنمية الغربية لم تأتِ.
شرعت روسيا خلال عام 2021 في قطع الدعم عن كثير من وكلائها الذين رأت أن أهميتهم لها قد تراجعت بالبلاد، ومن ثم انصرف هؤلاء بولائهم إلى إيران التي أخذت تعوضهم عن رواتبهم المقطوعة. وزادت وتيرة هذا الأمر بعد الغزو الروسي لأوكرانيا في فبراير/شباط 2022.
إيران حاضرة وهكذا تستفيد
التطبيع السريع في الأشهر الأخيرة بين نظام الأسد ودول الجامعة العربية هو -في حد ذاته- استراتيجية الملاذ الأخير التي لجأت إليها السعودية والإمارات والأردن لاحتواء إيران، بعد إدراكهم أن روسيا ربما لم تعد لديها الوسائل لفعل ذلك.
في غضون ذلك، فإن مرتزقة فاغنر وشبكة متعاقديها المسيطرة على مواقع النفط والغاز في سوريا باتت ركناً أساسياً فيما تبقى من مرتكزات الاحتلال الروسي للبلاد. وقد استغلت هذه الشبكة عائداتها المستقلة والمستدامة من الموارد في التصدي لكثير من تحركات إيران الرامية إلى الاستئثار بالنفوذ في سوريا.
لكن الأحوال قد تتبدل، إذا سقطت ركيزة أخرى من ركائز نظام بوتين، فالمتعاقدون السوريون مع فاغنر قد ينفضّون عنها ويتحولون بولائهم إلى إيران، كما فعل كثير من الوكلاء السابقين لروسيا في البلاد. والأمثلة على ذلك كثيرة، ففي أبريل/نيسان 2021، تجاهلت روسيا استنصار ميليشيا مدعومة من القبائل بها في قتال القوات الكردية المدعومة من الولايات المتحدة في شمال شرق سوريا. فلما هُزمت هذه الميليشيات وطُرد الناس من بيوتهم، فتح مقاتلو العشائر أبوابهم أمام إيران، فأمدَّتهم بكميات كبيرة من الأسلحة والمعدات الثقيلة، وعوضتهم عن الرواتب التي انقطعت عنهم.
أما اللواء الثامن التابع للجيش السوري، الذي كان ذات يوم أحد أشد المجموعات ولاءً لروسيا في جنوب سوريا،. فقد خاب أمله بموسكو في أواخر عام 2021 لما تأخرت في إرسال القوات لمساعدته في محاربة تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) وخفضت رواتب مقاتليه إلى النصف، فكان أن انقطع الاتصال بين المجموعة وروسيا في عام 2022، وآلت تبعية اللواء الثامن إلى مديرية المخابرات العسكرية السورية، أحد أقوى وكلاء إيران في البلاد.
والخلاصة من ذلك، أن روسيا إذا خسرت ولاء المرتزقة السوريين الذين يحرسون البنية التحتية للطاقة في البلاد، فإنها ستعجز عن الاستمرار في إجبار الأسد على السماح لها باستخدام الأراضي السورية لتهديد الناتو، والتوسع في جميع أنحاء إفريقيا.
حملة روسيا لإصلاح جيش النظام
بعد هزيمة داعش في عام 2018، شنّت روسيا حملة شرسة لإصلاح الجيش السوري المتكلس، وعمدت إلى ترقية الجنرالات السوريين الذين يتحدثون الروسية، وتخلصت من مئات الضباط، وصادرت الأسلحة والوثائق العسكرية لكثير من المقاتلين في الميليشيات المدعومة من إيران، واعتقلوا مموليها.
لكن هذه الخطوات ما لبثت أن توقفت على إثر الانكماش الاقتصادي الناجم عن جائحة كورونا، وعجز روسيا عن فرض سيطرتها على الجيش السوري، ولذلك قلَّصت وزارة الدفاع الروسية جهودها، وأقبلت على الاستعانة بشبكتها من المتعاقدين العسكريين والمرتزقة لبناء قوة غير نظامية تُدير مواطن اهتمامها القليلة في البلاد.
تسارعت وتيرة هذا التحول بسبب النزاعات التي اشتعلت بين وكلاء روسيا وتركيا في عام 2020، فقد اضطرت موسكو إلى تجنيد كثيرٍ من المرتزقة السوريين بين ديسمبر/كانون الأول 2019 وأغسطس/آب 2020 للقتال إلى جانب خليفة حفتر في ليبيا ضد حكومة طرابلس المعترف بها دولياً، والمدعومة من تركيا. وفي أثناء ذلك، شاركت الميليشيات التابعة لفاغنر في معارك متفرقة ضد المعارضين المدعومين من تركيا في إدلب السورية.
عودة سوريا إلى الجامعة العربية
وبعد هذه الحملات، سرعان ما اضطرت روسيا إلى التعبئة مرة أخرى لقتال تنظيم داعش في وسط سوريا، وزاد من أهمية الأمر أن معظم هجمات التنظيم كانت تقع على منشآت معالجة الغاز وحقول النفط، ودفعت بخطر مباشر على مصالح روسيا، فاستعانت موسكو بوكلائها في جميع أنحاء البلاد؛ واستدعت مزيداً من المقاتلين من السقيلبية -بلدة مسيحية تتبع محافظة حماة وأغلب سكانها من المسيحيين- التي سبق أن جندت منها أشد المقاتلين ولاء لها.
والحال كذلك، فإن شبكة المرتزقة التي كابدت روسيا الصعاب لتكوينها طوال عام 2020 صارت ضرورة لاستمرار العمل في حقول الطاقة والفوسفات في سوريا، والتي أصبحت السيطرة عليها هي الشغل الشاغل لروسيا خلال السنوات الماضية. وفي غضون ذلك، انتهزت إيران الفرصة لتقويض النفوذ المتداعي لروسيا، والتقاط الوكلاء السابقين الذين لم يعد الكرملين قادراً على تحمل تكلفة رعايتهم.
قوات فاغنر والمجموعات السورية المتعاقدة معها هم من المرتزقة، ومن ثم فإنهم يقاتلون من أجل المكاسب المادية بحكم طبيعتهم. وبعضهم -مثل المسيحيين الأرثوذكس في السقيلبية والبلدات المجاورة- إما لديهم أسباب خاصة للتقرب من روسيا، أو يرونها حصناً لهم من الاعتداءات الطائفية للشيعة الموالين لإيران. لكن إذا تخلت موسكو عن بريغوجين تخلياً تاماً، فإن وكلاء فاغنر لن يجدوا بداً من البحث عن مصالحهم الخاصة، بحسب المجلة الأمريكية.
اعتقلت القوات الروسية مجموعة من كبار قادة فاغنر في سوريا أواخر الشهر الماضي، وهؤلاء كان منهم قائدان يعملان بقاعدة حميميم، وثالث كان يتمركز في دمشق، ورابع في محافظة دير الزور الغنية بالنفط؛ وخامس في السقيلبية. ومن ثم إذا تواصل اعتقالهم، فإن مرتزقة السقيلبية المسيحيين، وغيرهم من الجماعات الموالية لروسيا، قد يتلقون عروضاً مغرية من وكلاء إيران.
علاوة على ذلك، فإن إيران قد يتيسر لها قريباً أن تقدم المزيد من هذه العروض إذا تحسنت أحوالها الاقتصادية. فقد استأنفت الولايات المتحدة في أواخر يونيو/حزيران المحادثات غير المباشرة مع طهران لالتماس سبل العودة الاتفاق النووي أو استبداله باتفاق مؤقت. وقد وافقت الولايات المتحدة حديثاً على إلغاء قرار بتجميد 2.7 مليار دولار من ديون العراق للبنوك الإيرانية. وطالبت طهران بالإفراج عن 7 مليارات دولار من مستحقاتها المجمدة لدى كوريا الجنوبية بسبب العقوبات، وعرضت إطلاق سراح المواطنين الأمريكيين المحتجزين في المقابل.
ومع ذلك، فإن موقف روسيا الضعيف حالياً قد يؤخر أي خطوات جامحة لكبح نفوذ بريغوجين في سوريا. فالاحتلال الروسي لسوريا ليس مشغولاً بالربح في المقام الأول، والسماح لبريغوجين بأن يواصل جني بعض الأموال ليس إلا ثمناً بخساً لن تُمانع موسكو في دفعه للحفاظ على نفوذها القائم على ساحل البحر المتوسط. أما إن فعل الكرملين خلاف ذلك، فإنه يعرّض نفوذه لثغرة لن يلبث وكلاء إيران أن يتحركوا لاستغلالها.
———————————-
من لا يملك لمن لا يستحق.. كيف خسر الأسد حصته من فاغنر؟/ وفاء علوش
في محاولة منه لتعزيز صلاته مع الكرملين ونيل مزيد من الدعم والرضا، ومدّ نظامه بالدعم المالي، كان نظام الأسد يلعب مؤخراً ورقة اعتقد فيها أنه سيحقق مكاسب داخلية لتحقيق استقرار أمني ومادي.
فقد شهد الشهر الفائت زيارات ومفاوضات بين النظام السوري وممثلي مجموعة فاغنر، من أجل التوصل إلى اتفاقية جديدة من شأنها زيادة عدد قوات المجموعة العسكرية غير النظامية في سوريا في الأشهر المقبلة من نحو 4 آلاف مقاتل إلى ما يقرب من 70 ألفاً في صفقة كبيرة يسمح لهم النظام بالاستثمار في مجال الفوسفات والنفط والغاز.
وقد كان الاتفاق _الذي يقضي بأن تكون نصف القوات متمركزة في المناطق الساخنة من سوريا على أن يّوزع النصف الثاني في بلدان أخرى وفق مصالح روسيا_ على وشك التوقيع، بحسب ما ذكرت معلومات تداولتها وسائل إعلام بريطانية، لكن التمرد الذي قاده بريغوجين أحبط آمال النظام السوري بقطف ثمار هذا التعاون على أمل أن تمنحه صيرورة الأحداث فرصة التعاقد مع مرتزقة جدد.
لم يعد من المستغرب أن يتحالف رئيس النظام السوري مع الشيطان من أجل تحقيق مآربه، وربما أثبت ذلك بالفعل في أكثر من موضع، فدعم إنشاء مجموعات مرتزقة في داخل البلاد ومنحها سلطات صلاحيات عسكرية وسلطها على رؤوس السوريين لتسرق حقوقهم وتمارس ضدهم القمع وترغمهم على الرضوخ.
الفكرة التي قد تلفت النظر وتثير التساؤل هنا، كيف يمكن للسوريين التعامل مع مرتزقة مستعمرين؟ وكيف يمكنهم تقبل وجود مثل هذه المجموعات، وقد ارتكبت جرائم وحشية بحق السوريين من اعتقال وتنكيل في الجثث ونهب لآثار وخيرات البلاد، وحاولت بثّ الرعب في نفوس المواطنين بقصد الردع، على الرغم من اتهامهم بانتهاكات لحقوق الإنسان وارتكاب جرائم حرب من طرف الأمم المتحدة والمنظمات الحقوقية؟
لن تعني الإجابة على هذه الأسئلة النظام وأعوانه الذين لا يكيلون وزناً لرأي السوريين بشكل عام، ويكفي أن يصرح واحدٌ من أبواقه أن المقصد من ذلك لم يكن إلا بهدف حماية الأمن ودحر الإرهاب في سوريا، مستغلين في ذلك أن السوريين لم يعودوا يمتلكون رفاهية طرح الأسئلة، وهم بالكاد يسعون إلى أن يكونوا آمنين في موطئ أقدامهم ولديهم ما يكفي لسدّ الرمق حتى اليوم التالي.
استعانت السلطات بالمجموعات العسكرية غير النظامية في فترات مختلفة من التاريخ، لتقويض الاحتجاجات والتمردات وتثبيت قواها، لكن الحكومات في الغالب كانت تأخذ احتياطاتها في حال تجاوزت أهداف تلك المجموعات مهمتها الأساسية، وتطاولت بالامتداد نحو مطامع فرض سيطرة وسلطة، لأن مثل هذه المجموعات ليس من السهل السيطرة عليها وكبح جماح سلوكها الهمجي في كثير من الأحيان، بعد أن أُطلقت يدها لتستطيع فعل ما تشاء في مقابل تأدية المهمة المطلوبة منها، وهذا بالضبط ما فعلته روسيا التي آثرت قطع ذراعها العسكري على أن تسمح لها بالتمرد ضدها.
من حسن حظ السوريين ربما ورأفة بحالهم فقد فشل ذلك المخطط وذهبت نتائجه أدراج الرياح ولم يفلح النظام في إتمام صفقته، بسبب خلاف لم يتبين العالم معالمه بعدُ بين فاغنر وبين روسيا، ولكن اتضحت على إثره أن أطماعهم باتت أكبر من الارتزاق فحسب وأصبح طموحهم يتجه نحو حب امتلاك القوة والسلطة، ما قد يدفعهم إلى التخطيط ليكونوا أصحاب حكم لا دروع عسكرية فحسب.
ربما لم يكن الحظ وحده، بل كان الغباء السياسي الذي يصر النظام السوري على أن يثبته للعالم يوماً بعد آخر، لكنه لم يكن غباء صرفا بقدر ما كان ممزوجاً بجشع واضح بالتحالف مع أيٍّ كان ولعب أقذر الأوراق، حتى وإن كان الثمن إقطاع مزيد من الأراضي ومنح الصلاحيات للمرتزقة والمتكسبين والمستعمرين في مقابل أن يبقى متربعاً على عرشه، أما الاحتمال الآخر الذي لا يقلّ أهمية عن سابقيه، أنه بسلوك التابع لم يتبين حقيقة ما يدور خلف الكواليس واكتفى بتفيذ الأوامر وطاعة أولي الأمر.
استعانت القوات الروسية بعد تدخلها العسكري في سوريا في عام 2015 بمجموعة “فاغنر” للقتال إلى جانبها، وأوكلت إليها عدداً من المهام أبرزها حماية حقول النفط ومناجم الفوسفات وخاصة في البادية السورية، وكان من المتوقع أن تصبح سوريا أكبر قاعدة لهم لو أن الرياح السياسية أتت على هواهم قبل أسبوعين في ذروة المفاوضات التي جمعتهم بالنظام السوري.
لم تكن تلك الصفقة مثلما قد يتوهم البعض لحماية السلم في سوريا أو لتأمين حماية مشددة لحقول النفط والفوسفات والغاز في البلاد، لقد كان من المخطط أن يدر ذلك التحالف ملايين الدولارات على الطرفين، في وقت يعاني فيه السوريون من فقر وسوء أحوال معيشية وضيق حال، في حال حصلت المجموعات المرتزقة على رخصة لاستثمار الموارد الطبيعية التي لا تمنح ثمارها للسوريين أبناء البلد أنفسهم.
من منا كان يتوقع أن خطوة عسكرية تقوم بها روسيا قد تأتي لصالح السوريين؟ وأن إحباطها تمرد فاغنر قد يجعل السوريين يتنفسون الصعداء وأن تنقلب خطتهم بالانقلاب على روسيا ضدهم وضد الأسد الذي قرر مصافحتهم وعقد حلف معهم.
لم تفعل روسيا ذلك لو لم تشكل تلك القوات تهديداً لها، ولم تكن مصلحة السوريين من ضمن أهدافهم، وقد لا يعني ذلك ألا تعيد استخدام خدماتهم مرة أخرى إذا لزم الأمر، وإن كنا لا ندري.. فقد علمتنا السنوات الأخيرة جيداً كيف تتقاطع العلاقات وفقاً للمصالح، وكيف يصبح عدوّ اليوم صديق الغد والعكس صحيح.
————————————-
ماذا عن مستقبل دور فاغنر في سوريا؟/ محمود علوش
لا يزال التمرد المسلح القصير الذي قام به زعيم مجموعة فاغنر يفغيني بريغوجين في روسيا ينطوي على كثير من الغموض الذي يصعب فهمه تماماً إنْ لجهة الأسباب الفعلية التي دفعت بريغوجين لإعلان التمرد أو لجهة الكيفية التي انتهى بها. لكنّ ما يبدو مؤكداً أن أزمة التمرد ستؤثر على مستقبل مجموعة فاغنر ونشاطها القتالي بالوكالة عن روسيا في العديد من الدول ولا سيما سوريا.
حتى كتابة هذه السطور، لا يزال من غير الواضح ما إذا كانت روسيا تنوي إنهاء وجود المجموعة ككيان عسكري خاص أو الحفاظ عليها مع إعادة تأهيلها وجعلها مرتبطة بشكل وثيق بالجيش الروسي، لكن موسكو بدأت بالفعل التحرك في الوقت الحالي لتأكيد سيطرتها على دور المجموعة في سوريا. في أعقاب التمرد، أوفدت موسكو سيرغي فيرشينين نائب وزير خارجيتها إلى دمشق للقاء رئيس النظام بشار الأسد وذكرت صحيفة وول ستريت جورنال الأميركية أن فيرشينين طلب من الأسد منع مقاتلي فاغنر مغادرة البلاد من دون إذن من موسكو. مع أن نشاط فاغنر في سوريا خلال سنوات الصراع كان يخضع لوزارة الدفاع الروسية، إلآّ أن تمرد بريغوجين كشف عموماً أن المجموعة كانت تحظى بهامش من الاستقلالية في إدارة نشاطها القتالي في الخارج ولا سيما سوريا.
منذ أن انخرطت روسيا بشكل مُعلن في الحرب إلى جانب النظام السوري منتصف العقد الماضي، كانت مجموعة فاغنر أحد الأصول العسكرية الروسية في هذا الانخراط. كانت حاجة روسيا لدور فاغنر في سوريا محيرة بعض الشيء وغير مفهومة، لكنّها تُفسر إلى حد كبير الاستراتيجية الروسية في سوريا. بالنظر إلى أن الانخراط الروسي في الحرب اقتصر بشكل رئيسي على القوة الجوية مع تجنب موسكو نشر قوات قتالية على الأرض لتجنب الخسائر في صفوف القوات الروسية، فإن ذلك لم يكن كافياً لتحويل مسار الحرب لصالح النظام خصوصاً أن الحرب في الفترة التي أعقبت التدخل العسكري الروسي كانت تتركز على قتال الشوارع أيضاً. لذلك، لجأت روسيا إلى الاعتماد على المرتزقة مثل مقاتلي فاغنر لتقديم الدعم القتالي لقوات النظام على الأرض. علاوة على ذلك، وجدت روسيا حاجة إلى الانخراط عبر مرتزقة فاغنر في ديناميكية العمليات القتالية على الأرض لتحقيق هدفين آخرين، أوّلهما الحد من نفوذ الميليشيات الموالية لإيران، والتي اعتمد عليها النظام بشكل رئيسي في قتال الشوارع، وثانياً، استخدام مرتزقة فاغنر من أجل مهاجمة القوات الأميركية المنتشرة في شمال شرقي البلاد. برز هذا التكتيك في عام 2018 عندما هاجم مقاتلو فاغنر القوات الأميركية بالقرب من دير الزور.
في الوقت الراهن، يصعب التحقق من طبيعة المهام الحالية التي تقوم بها فاغنر في سوريا لقياس التأثير المحتمل لأزمة التمرد على دورها في هذا البلد. لكن المجموعة لعبت دوراً في مساعدة النظام السوري في السيطرة على حقول النفط في مدينة تدمر بعد هزيمة تنظيم داعش فيها. ولا تزال حتى الآن تقوم بتأمين هذه الحقول. كانت استعانة روسيا بفاغنر في سوريا مفيدة من حيث التكاليف الأقل والمكاسب الأكبر. ساعدت فاغنر الجيش الروسي في تجنب نشر قوات قتالية على الأرض لمنع الخسائر المحتملة، بينما استطاعت المجموعة تمويل نشاطها بنفسها من خلال تقاسم أرباح عوائد النفط مع النظام. بالنظر إلى النظام لا يزال عاجزاً عن مواصلة تأمين هذه الحقل بنفسه، فإن الحاجة إلى فاغنر لا تزال قائمة. علاوة على ذلك، تحول وجود فاغنر في سوريا إلى قاعدة روسية لتجنيد المرتزقة في دول أخرى مثل أفريقيا. أشرفت فاغنر على إرسال مرتزقة سوريين إلى ليبيا لدعم الجنرال خليفة حفتر منذ عام 2019. وبعد اندلاع الحرب الروسية الأوكرانية قبل نحو عام ونصف، وثقت تقارير قيام فاغنر في سوريا بتجنيد مرتزقة من الشرق الأوسط للقتال إلى جانب القوات الروسية في أوكرانيا.
بمعزل عما إذا كانت روسيا تُخطط للهيمنة الكاملة على نشاط فاغنر في سوريا أو التخلي عن دورها، إلآّ أنها لا تزال ترى حاجة إلى استمرار دور المرتزقة التابعين لها في سوريا، ليس فقط من أجل الاحتفاظ بتأثير قوي لها في ديناميكية السيطرة على الأرض، بل أيضاً من أجل مواصلة أنشطتها القتالية المخفية في دول أخرى. في ضوء أن الصراع السوري في الوقت الحالي لم يعد يتطلب انخراطاً أكبر لدور المرتزقة مقارنة بالسنوات الماضية، فإن الحاجة الروسية إلى دور فاغنر لم تعد مُلحة، لكنّها لم تنتهِ بكل الأحوال. ما يُفسر ذلك، أن الصفقة التي أبرمها بوتين مع بريغوجين برعاية الرئيس البيلاروسي تضمنت تقديم عرض لمقاتلي فاغنر بتوقيع عقود مع وزارة الدفاع الروسية. في هذه الحالة، فإن وزارة الدفاع الروسية ستُشرف بشكل كامل على نشاط المقاتلين الذين يوافقون على هذا العرض. في ظل حاجة روسيا إلى الحفاظ على انخراطها العسكري المُنكر في أفريقيا ومواصلة تجنيد المرتزقة من الشرق الأوسط لدعم قواتها في أوكرانيا، فإن الاعتماد على الكيانات العسكرية الخاصة لتحقيق هذه الأهداف سيبقى قائماً سواء كان ذلك بإعادة تأهيل فاغنر أو زيادة الاعتماد على الكيانات العسكرية الخاصة الروسية كتلك التي أنشأتها شركة غاز بروم الروسية الحكومية. لأن فاغنر امتلكت الكثير من الخبرة في قتال الشوارع في سوريا وفي تجنيد المرتزقة في هذا البلد لنقلهم إلى جبهات أخرى مثل أفريقيا وأوكرانيا، فإن روسيا ستواصل على الأرجح الاعتماد عليها سواء مع الحفاظ على وجودها ككيان عسكري خاص أو دمج مقاتليها في شركات مرتزقة أخرى تابعة لها.
———————————–
أوكرانيا تفجر تمرد بريغوجين/ طوني فرنسيس
رئيس “فاغنر” أراد موقعاً في السلطة فأنهى دوره الروسي
يصعب الاقتناع بأن مشكلة “طباخ بوتين” مع وزير دفاع الرئيس الروسي سيرغي شويغو ورئيس أركانه فاليري غيراسيموف هي التي دفعت يفغيني بريغوجين إلى قيادة قواته في “فاغنر” لاحتلال قيادة المنطقة العسكرية الجنوبية في روستوف، ثم التوجه شمالاً إلى موسكو لاحتلال وزارة الدفاع قبل الانتقال في زيارة ودية إلى مكتب الرئيس الروسي بالكرملين.
ويصعب الاقتناع في المقابل بأن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين الذي كان شاهداً على هجمات بريغوجين المتكررة على وزير الدفاع منذ بدء المراوحة في الحرب الأوكرانية، قرر الوقوف على الحياد بين جيشه ومرتزقته، آملاً الاستفادة من صراع الديكة في حديقته وإجراء التطهيرات اللازمة في الوقت المناسب بهدف تعزيز موقعه وسلطته على رأس الاتحاد الروسي.
لقد تخطت أحداث الـ 24 من يونيو (حزيران) الماضي كل هذه التقديرات، وفهم بوتين الأمر على حقيقته وهو أنه ببساطة محاولة انقلاب تقوم بها ميليشيات خاصة أشرف على تأسيسها ورعايتها، واستعملها ذراعاً غير رسمية في توسيع نفوذ موسكو داخل الشرق الأوسط وأفريقيا، وجندها في حرب أوكرانيا ابتداء من ضم القرم عام 2014 لتصبح قوة بارزة في المعارك على الأرض بعد انطلاق الهجوم الروسي في فبراير (شباط) العام الماضي.
لقد كبر الذئب الذي رباه بوتين على مدى الأعوام الماضية وبات حاضراً في سوريا وليبيا والسودان ومالي وأفريقيا الوسطى وموزمبيق وفنزويلا وبوركينا فاسو ومدغشقر.
ففي ليبيا بات لاعباً أساسياً منذ خريف عام 2019 يدعم الجنرال خليفة حفتر ويقيم في قاعدة الجفرة الجوية التي منها ينطلق إلى جهات أفريقيا الأخرى، وإلى مالي حضر 1000 عنصر من مقاتلي “فاغنر” ليحلوا محل الفرنسيين وفي قواعدهم دعماً للانقلابيين، وفي أفريقيا الوسطى تحضر “فاغنر” منذ 2017 وتوسع نشاطها في مجال تجارة المعادن والأخشاب والفودكا، وهو ما تفعله في السودان إلى جانب “قوات الدعم السريع” التي تضع يدها على مناجم ذهب دارفور، وتفعل أشياء مماثلة في سوريا في حقول النفط والفوسفات منذ بداية التدخل الروسي الرسمي في هذا البلد قبل ثمانية أعوام.
كبر حجم الذراع العسكرية غير الرسمية للكرملين وتوسع كثيراً، وفي الحرب الأوكرانية بدا دورها أساساً في معارك مفصلية آخرها معركة باخموت، وخلال هذه الحرب ارتفع صوت الطباخ في إدانة القيادة العسكرية الروسية الرسمية، ولم يصل إلى المساس ببوتين شخصياً لكن رسائله النارية كانت تستهدفه فعلياً.
بقي الرئيس صامتاً وأجرى تعديلات بقيادة القوات المقاتلة في أوكرانيا، لكنه لم يمس سلطة وزير الدفاع ورئيس الأركان، ومع غرق القوات في وحول حرب كان مقدراً لها أن تنتهي في أيام، ازداد الاعتماد على مرتزقة بريغوجين وعليه شخصياً، فحضر إلى الجبهات وأعلن ضحاياه وزاد في وتيرة انتقاداته من دون استجابة.
شعر الطباخ أنه شخصياً مرتزق لا قيمة له على رغم كل ما يجنيه، وكان يرى رمضان قديروف كيف يقدم نفسه قائداً في الجبهات تلحقه الكاميرات ثم يعود لعرينه في الشيشان، بينما هو يبقى عسكرياً من دون لقب ومهمته أن يقاتل ويقتل في مقابل مليار دولار سنوياً من الدولة الروسية، وإتاوات وأرباح تجبى من مناطق النفوذ الخارجي.
المراوحة في الحرب الأوكرانية هي على الأرجح الصاعق الذي فجر الخلاف بين بريغوجين وموسكو، وجعلته يحرك قواته في اتجاه العاصمة في استعادة لحدثين وقعا في التاريخ نفسه والمكان عينه، في الـ 24 يونيو عام 1812 عندما تحرك نابوليون بجيوشه الفرنسية نحو موسكو ليهزم لاحقاً، ومن روستوف انطلق القوزاق قبل 200 عام في ثورتهم ضد الإمبراطورة كاترين العظيمة.
الطرفان الفرنسي والقوزاقي قاتلا وهزما، لكن مفاجأة بريغوجين أنه توقف فجأة وانسحب من دون قتال فعلي بعد وساطة لوكاشينكو حليف بوتين على رأس بيلاروس، ومفاجأة بوتين جاءت في تسامحه مع طباخه الانقلابي الذي كاد يدخل روسيا في حرب أهلية داخلية، فيما كان ولا يزال يعاقب منتقديه ومعارضيه غير المدججين بالسلاح بالسجن والنفي وكبت الآراء.
لم يعاقب بوتين قائد التمرد ولا أتباعه واكتفى بإرسالهم إلى أرض حليفه لوكاشينكو، وعرض على أعضاء “فاغنر” نقل عقودهم إلى وزارة الدفاع أو الخروج إلى منازلهم، فيما لم يتحدد مصير “فاغنر ” بوضوح.
وفي بيلاروس يتحدثون عن استضافتها في معسكرات بضواحي مينسك بقيادة بريغوجين الذي انتقل إليها بموجب الاتفاق مع موسكو، وقد يكون الاتفاق نص على إنهاء الدور القتالي الخاص للشركة، كما يسميها الكرملين، في الحرب الأوكرانية، أي في الداخل الروسي، لكن ماذا عن دورها في الخارج؟
يقول سيرغي لافروف إن عمل “فاغنر” مستمر في مالي وأفريقيا الوسطى، فإذا كان ذلك صحيحاً فإنه يعني أنها ستواصل عملها في دول أخرى مما يفرض بقاء صيغة “الشركة” دوراً وهيكلية قيادية، وربما استمرار بريغوجين على رأسها إلا إذا ارتأى بوتين أمراً مختلفاً، فسيلقى الطباخ مصير منشقين آخرين ويؤتى بقيادة أكثر ارتباطاً بالكرملين وجهاز السلطة واستخباراته.
كانت إيران الأكثر قلقاً من بين الدول القريبة لموسكو إثر تحرك “فاغنر” نحو العاصمة الروسية، وهي الوحيدة التي تخطى إعلامها التفسير الروسي الرسمي لما جرى ليتهم حلف الأطلسي بتدبير مؤامرة ضد استقرار روسيا، لكن الاهتمام الإيراني الفعلي ينصب على مستقبل الدور الروسي في سوريا وكحليف مقرب وضروري في سياق مواجهة القيادة الإيرانية نفسها لخصومها في الداخل والخارج.
كانت ” فاغنر” تنظيماً مماثلاً للتنظيم الذي تعتمده إيران في تمددها الخارجي، وهي تلعب في سوريا دور الميليشيات الروسية غير الرسمية، وتملأ فراغات تضع الميليشيات الإيرانية عينها عليها.
سارعت القيادة الإيرانية من خلال اتصال الرئيس إبراهيم رئيسي والوزير عبداللهيان بنظيريهما الروسيين إلى تأكيد الوقوف إلى جانب الكرملين، وأوفدت إلى موسكو قائد الأمن الداخلي أحمد رضا رادان ليبحث مع قائد الحرس الوطني الروسي، الذي تأسس رداً على احتجاجات عام 2016، فيكتور زولوتوف العلاقات بعد التمرد.
وتحدث بعض الإعلام الروسي عن عرض إيراني بالمساعدة، لكن صحيفة “نيزافيسيمايا” الروسية قالت إن “من المشكوك فيه أن إيران يمكن أن تفعل أي شيء للمساعدة، ومن الناحية التقنية فالإيرانيون مجهزون أسوأ من الروس”، وسيحتاجون إلى معدات تقدمها روسيا تستعمل في قمع الاحتجاجات الداخلية.
لم تنته مفاعيل وارتدادات ما جرى في الجنوب الروسي، ويجب انتظار بعض الوقت لتتضح الصورة الجديدة لأدوار بوتين وطباخه وشركته التي يرعاها الكرملين، وتأثيرات ما جرى في روسيا وموقعها في أوكرانيا والعالم، إلا أن الثابت هو اهتزاز صورة روسيا بشكل لم يسبق له مثيل منذ انقلاب مطلع التسعينيات ونهاية الاتحاد السوفياتي رسمياً.
اندبندنت عربية
———————————
من يحاسب بوتين؟/ خيرالله خيرالله
غيّرت حرب أوكرانيا العالم. تبيّن في ضوء تمرّد مجموعة “فاغنر” بقيادة يفغيني بريغوجين أنّها حرب ستغيّر روسيا أيضاً. مرّة أخرى، في مناسبة الحديث عن تمرّد بريغوجين، يظهر بوضوح أنّ كلّ حسابات فلاديمير بوتين كانت خطأً منذ ما قبل دخوله الحرب الأوكرانيّة قبل نحو سنة وخمسة أشهر، في الرابع والعشرين من شباط (فبراير) 2022.
عاجلاً أم آجلاً، سيدفع الرئيس الروسي ثمن كلّ هذه الحسابات الخطأ التي أوصلته إلى أن يصبح، في الوقت الراهن، في الحضن الإيراني. في المدى البعيد، سيظهر أنّ المستفيد الأوّل من كلّ الخيارات البوتينية سيكون الصين وليس “الجمهوريّة الإسلاميّة”، خصوصا بعدما أكّد مدير وكالة الاستخبارات المركزّية الأميركية (سي. آي. إي) وليم بيرنز، ما معناه، أنّ الصين ستضع روسيا تحت سيطرتها. لا يمكن الاستخفاف بكلام بيرنز الذي عمل في الماضي سفيراً للولايات المتحدة في موسكو. يبدو أن الرجل يعرف روسيا عن ظهر قلب. مكّنه ذلك من تحديد اليوم الذي ستباشر روسيا فيه حربها على أوكرانيا.
سيدفع بوتين ثمن ما زرعه وذلك بعدما تبنّى مجموعة “فاغنر” وكشف أنّ روسيا كانت تمولها. ليست “فاغنر” سوى ميليشيا تضمّ مجموعات من المرتزقة تستخدمها روسيا في تنفيذ مهمات في مختلف أنحاء العالم، بما في ذلك سوريا ومجموعة من الدول الأفريقية مثل مالي وأفريقيا الوسطى. كان ذلك قبل اللجوء إلى هذه الميليشيا في أوكرانيا…
قبل أيّام من تمرّد بريغوجين على بوتين، بدا واضحاً أن أوروبا لا يمكن، بدعم أميركي صريح، قبول انتصار روسي في أوكرانيا بغض النظر عن الكلفة. فهم “طبّاخ بوتين”، أي بريغوجين الذي كان بوتين يرتاد مطاعمه في سانت بطرسبرغ، هذه المعادلة ولم يفهمها الرئيس الروسي نفسه. يؤكّد ذلك المؤتمر الذي انعقد في لندن حديثاً وخصّص لإعادة إعمار أوكرانيا. تحدّث الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي في افتتاح المؤتمر. أكّد أنّ سقوط أوكرانيا في يد روسيا سيعني أن أوروبا كلّها صارت مهدّدة. عرف الرئيس الأوكراني كيف يربط مصير بلده بمصير أوروبا. أقرّ مؤتمر لندن مبالغ كبيرة بالمليارات (نحو ستين مليار يورو) لإعادة إعمار أوكرانيا. يدلّ المبلغ على مدى جدّية أميركا وأوروبا في منع سقوط أوكرانيا.
تعني التطورات الروسيّة الأخيرة أنّ ثمّة ضرورة لإنهاء الحرب الأوكرانيّة عبر معادلة بسيطة تأخذ في الاعتبار الحاجة الأوروبيّة إلى منع روسيا من الهيمنة على أوكرانيا من جهة وإيجاد صيغة تنقذ ماء الوجه لفلاديمير بوتين من جهة أخرى. الأكيد أن صيغة تنقذ ماء الوجه للرئيس الروسي لن تكون كافية كي يتمكن من البقاء في السلطة طويلاً، كما يأمل في ذلك!
هل فات أوان الحلول السياسيّة في أوكرانيا؟ الجواب أن الحاجة تبقى ملحّة أكثر من أي وقت، من منطلق سياسي وإنساني، لوقف الحرب والتفكير في مخرج يضمن أوّل ما يضمن سلامة الأراضي الأوكرانيّة ووحدتها.
توجد حاجة إلى مواقف شجاعة ونبيلة تؤمّن تحقيق نتيجة إيجابية في مجال وقف الحرب والحفاظ على الأرواح ومنع الحرب من الامتداد إلى الداخل الروسي. لم يعد سرّاً أن الشجاعة السياسية تعني تفادي قطع العلاقة بفلاديمير بوتين بغض النظر عن كلّ أخطائه وعن أنّه سيحاسب يوماً. ثمّة حاجة إلى بقاء التواصل معه من أجل الوصول إلى مخرج سياسي لحرب طاحنة مرشحة للاستمرار طويلاً وتهديد السلام العالمي، خصوصاً في ضوء تهديد روسي، المرّة تلو الأخرى، باستخدام السلاح النووي. كان لافتاً بدء نقل أسلحة نووية روسيّة إلى أراضي بيلاروسيا البلد الحليف للاتحاد الروسي والذي لديه حدود مشتركة مع أوكرانيا!
هل يستطيع بوتين التوصل إلى تسوية سياسية في أوكرانيا التي سيكون عليه الانسحاب منها في المستقبل؟
إلى الآن، لا يستطيع ذلك. لكنّ الأكيد أنّ مصير الرئيس الروسي مطروح على بساط البحث. يعود ذلك إلى أنّه لم يعرف يوماً ما هو هذا العالم الذي يتحرّك فيه وما هي موازين القوة فيه. لم يدرك أنّ أوكرانيا ليست سوريا. ما هو مسموح له في سوريا محظور عليه في أوكرانيا.
تبقى مشكلة في غاية الأهمّية ستطرح نفسها في المستقبل القريب تتلخص في أن لا وجود لمن يحاسب الرئيس الروسي، كما الحال في أي دولة غربيّة. ففي الولايات المتحدة، على سبيل المثال، هناك، إضافة إلى القضاء، الكونغرس المستعد بمجلسيه لإيجاد توازن معيّن مع البيت الأبيض وذلك للحؤول دون أي تجاوزات واختلالات.
في غياب حلّ سياسي سريع في أوكرانيا، وفي ظلّ نظام الرجل الواحد الوحيد في روسيا، يخشى أن تترك هذه الحرب آثارها على روسيا نفسها حيث لا وجود لمن يستطيع محاسبة فلاديمير بوتين. حتّى في أيّام الإتحاد السوفياتي، كان هناك من يحاسب. عندما تسبب نيكيتا خروشوف في العام 1962 بأزمة الصواريخ السوفياتية في كوبا… وجد من يحاسبه. أقال المكتب السياسي للحزب الشيوعي الحاكم خروشوف الذي كان في موقع الأمين العام للحزب. كان ذلك في العام 1964. عيّن مكانه ليونيد بريجنيف.
لا وجود لمن يحاسب في روسيا اليوم. أقام فلاديمير بوتين نظاما أسوأ من النظام السوفياتي. أخذ بلده إلى المجهول. لم تعد القضيّة قضيّة “فاغنر” ويفغيني بريغوجين بمقدار ما أنّها قضية رجل لا يعرف العالم، رجل رفض الوقوف لحظة أمام المرآة وسؤال نفسه: ما أسباب انهيار الاتحاد السوفياتي؟
النهار العربي
—————————-
بروفايل رجل بغيض.. القصة الكاملة لصعود يفغيني بريغوجن/ عارف كتّاب
“بريغوجين هو جورج سوروس روسيا”، بهذه الكلمات المقتضبة وصف الرئيس الروسي فلاديمير بوتين “طباخه” السابق وابن مدينته ورجل مهامه العسكرية والاقتصادية حول العالم مالك شركة فاغنر ﻳﻔﻐﻴﻨﻲ ﺑﺮﻳﻐﻮﺟﲔ.
عاش بريغوجين في الاتحاد السوفيتي، ولكنه على نسق بوتين، لم يظهر أي إعجاب في لينين، ويبدو أنه كان يفضل ستالين، بما يعرف عنه من قسوته، التي كانت المعلم الأبرز في حياة مالك فاغنر.
انطلق بريغوجين في حياته من “سارق بدون أخلاق”، إلى صاحب سلسلة مطاعم، فيما عاش زعيم فاغنر انهيار الاتحاد السوفيتي، مقدمًا نموذجًا على حياة ما بعد الاشتراكية في روسيا، ممثلًا صعود رجل الأعمال في اقتصاد مفتوح، بعدما عاش في سجون الاتحاد السوفيتي.
وإذا كان بريغوجين يمثل نموذجًا لصعود ما بعد الاتحاد السوفيتي، فإن تبلور شخصيته في السجن وناجحه في آخر أيام الاتحاد السوفيتي، اكسبه القدرة على الصعود مع القيادة الروسية الجديدة “الأكثر قسوة ويمينية”.
تقدم سيرة بريغوجين، سيرة للسياسة الروسية في عهد ما بعد الاتحاد السوفيتي (ويمكن القول في عهد بوتين، لا فرق)، من محاولة للانفتاح على العالم، إلى محاولة استعادة أمجاد روسيا، التي خسرتها في سنوات التسعينات. صعد بريغوجين عاليًا، وتحول إلى صاحب نفوذ في روسيا وعدة دول حول العالم، بالتزامن مع أحلام روسيا “في عالم متعدد الأقطاب”، بعد خسارة “العالم ثنائي القطبية”.
وصل طموح روسيا إلى ذروته قبيل غزو أوكرانيا، وكذلك وصل نفوذ مالك فاغنر بريغوجين، مدللًا على ذلك بحاجة الدولة الروسية إليه للقتال في أوكرانيا، بعد سنوات من إنكار علاقتها به، فيما جاء انهيار بريغوجين، مع تعثر روسيا في وحل أوكرانيا، ومع فشل تمرده على القيادة العسكرية الروسية، خروج بريغوجين من روسيا إلى بيلاروسيا، قد تكون محطته الأخيرة، أو حلقة جديدة في قفزاته.
“هل يمكن أن يصبح بريغوجين رئيس روسيا المستقبلي؟” هذا كان سؤال مجلة الإيكونوميست، التي نشرت قصة صعود بريغوجين الكاملة، وهذا السؤال سيبقى برسم المستقبل. تقديرات عدة تشير إلى نهاية مسيرة بريغوجين السياسية والعسكرية، ولكن سيرة حياته تكشف عن تقلبات كثيرة عاشها بريغوجين، من التزلج إلى السرقة، ومن السجن إلى صناعة الطعام، ومن عالم الأعمال إلى شركته العسكرية الخاصة، مسار يشير إلى صعوبة استسلام بريغوجين سريعًا، وإلى تقلبات كثيرة، وضعته في واجهة روسيا لأشهر. بعيدًا عن السؤال الإيكونوميست، فإن هذه المادة، يمكنها أن تكشف جانبًا هامًا من شكل الممارسة السياسية في روسيا ما بعد الاتحاد السوفيتي، وربما ما بعد الحرب الحالية في أوكرانيا، حال نهايتها، وصعد بريغوجين آخر وربما بريغوجين نفسه.
لماذا وكيف صعد بريغوجين؟ وهل امتلك طموحًا لمنافسة بوتين؟ ولماذا لعب دور المعارضة في روسيا؟ هذه الأسئلة وأكثر يمكن الوصول إلى إجابات عليها في هذا التقرير المترجم عن التقرير الأصلي المنشور في مجلة الإيكونوميست.
في يوم من أيّام العام 2017، رُكنت سيارة بي إم دبليو سوداءُ مصفحةٌ خارج المقر الرئيس لمجموعة فاغنر في مدينة سان بطرسبرغ الروسية، وعم الصمت أرجاء المقر لأن الأقاويل أشارت إلى وصول يفغيني بريغوجين، رئيس المجموعة.
آنذاك كان ثمة اجتماعٌ يُعقَد في إحدى قاعات الاجتماعات داخل المقر، فتوجه بريغوجين رأسًا إليه بشخصيته المهيبة وحضوره الطاغي؛ فهو ممتلئ الجسم مدور الرأس، في أواسط الخمسينيات من العمر، يمشي والحراس محيطون به من كل جانب. واللافت أن كثيرًا من موظفيه لم يسبق لهم مقابلته بتاتًا، فلا وجود رسمي لمجموعة فاغنر، وهي شركة عسكرية خاصة تنشط في بلدٍ حيث يفترض ألا شرعية قانونية لمنظمات كهذه. لذلك سعى بريغوجين لئلا يلفت الأنظار قدر المستطاع، حتى إن مديرًا تنفيذيًا شابًا، ممن كانوا في الاجتماع، لم يتعرف عليه عند دخوله. وقد أفاد موظف سابق ممن حضروا هذه الحادثة بأن ذلك الشاب نهض معرفًا عن نفسه، فما كان من بريغوجين إلّا أن حملق في وجهه، ثم أمسك به من كم سترته وأخرجه إلى الردهة حيث لكمه على وجهه لكمًا عنيفًا.
بيد أنّ الحال تغيرت في هذه الأيام، فقلّة من الروس يتعذر عليهم معرفة بريغوجين حاليًا، إذ أصبحت مجموعة فاغنر أشهر قوة مرتزقة حول العالم، وأضحى قائدها اليوم، وحده من دون جنرالات الجيش، وجه الحرب الروسية على أوكرانيا؛ فهو إلى ذلك يُصدر البيانات الحربية عبر تليجرام (Telegram) وفكنتاكتي (VKontakte)، وهي منصة تواصل اجتماعي روسية بديلة عن فيسبوك. ولا يقتصر الأمر على ما سبق، فهو يقف ندًا للمؤسسة العسكرية الرسمية في روسيا ويواجهها علانية، وبذلك يعطي فرصة نادرة للمواطنين الروس حتى يطلعوا على صراعات السلطة التي تحدث عادة في الخفاء. وصحيح أن بريغوجين أخفق في مسعاه لإزاحة وزير الدفاع الروسي سيرغي شويغو، بيد أنّه يظل فاعلًا سياسيًا قويًا في البلاد، وتعزى هذه المكانة إلى المتابعة الجماهيرية الهائلة التي حققتها مجموعة فاغنر على منصات التواصل الاجتماعي.
ولئن عُرِف بريغوجين بسمعته السيئة، فإن دوره في هياكل السلطة لدى الكرملين ما يزال مبهمًا- ولعل ذلك هو النهج الذي يحبذه الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في إدارة الأمور؛ فالحكومة الروسية تستفيد من الالتباس والغموض المحيطان بموقع مجموعة فاغنر ضمن تسلسل القيادة حتى تنكر جرائم الحرب التي ارتكبتها المجموعة في أوكرانيا.
ويرى بعض الشباب الروس بريغوجين بطلًا تعرض للخيانة جرّاء الفساد وانعدام الكفاءة في المؤسسة العسكرية المتصلبة، في حين يراه آخرون رجل عصابات حالفه الحظ، أو مجرد أداة في أيدي أجهزة الأمن التي ربما تتخلص منه حالما تحقق أغراضها، كما يظنّ فيه بعض الناس القدرةَ على اغتصاب السلطة من بوتين.
أمّا بريغوجين نفسه فلاذ بالصمت والتكتم حيال طموحاته المستقبلية، بيد أن الاحتمال المرجح هو التنامي المطرد لقوته ليصبح لاعبًا مهمًا في مستقبل بلاده، خاصة إذا نجا من مكائد وأشراك أعدائه ضمن النخبة السياسية الحاكمة. ولا ريب أن إدراك التصرفات المستقبلية المحتملة لهذا الرجل المتلون يستلزم مراجعة التحولات في ماضيه.
ولد يفغيني فيكتوروفيتش بريغوجين عام 1961، وبدأ حياته بأمثل بداية ممكنة في ظل حكم الاتحاد السوفييتي، فالتحق بمدرسة 62 الداخلية الرياضية في مدينة لينينغراد، وهي مؤسسة مرموقة اشتهرت بتخريج الرياضيين الأولمبيين، وقد أوشك بريغوجين نفسه أن يصبح متزلجًا محترفًا لولا تعرضه لإصابة حرمته من ذلك، وهو ما ذكرته وثيقة مسربة زعم مخترقون أنهم حصلوا عليها من محامي بريغوجين.
وبدلًا من بروز بريغوجين في المجال الرياضي، ظهر اسمه لأول مرة في السجلات العامة ضمن عداد المجرمين؛ فقد حُكِم عليه بالسجن لعامين مع وقف التنفيذ بتهمة السرقة، وبلغ عمره آنذاك 18 عامًا، ثم ما لبث أن قام ببعض عمليات السطو بينما كان ما يزال خاضعًا للمراقبة. بيد أن منازل لينينغراد خلال الحقبة السوفييتية غلب عليها الفقر وأقفرت من الأغراض الثمينة التي يطمع بها السارقون، ففي شهر فبراير عام 1980 اقتحم بريغوجين وشريكه شقة سكنية، وسرقوا منها إناء وست كؤوس شراب وحمالة مناديل.
أفضت هذه المخالفات القانونية الصغيرة إلى جرائم أعنف وأخطر؛ ففي إحدى الليالي خرج بريغوجين ورفاقه للاحتفال بمبلغ 250 روبل سلبوه من رجل استدرجوه إلى زقاق مظلم، فلفتت أنظاره شابة ترتدي معطفًا جميلًا على حد وصف أحد أفراد العصابة، فتبعوها جميعًا في الشارع حتى استوقفها أحدهم طالبًا منها سيجارة. وفي اللحظة التي فتحت فيها حقيبتها، انقض عليها بريغوجين من الخلف ممسكًا رقبتها وأخذ يخنقها، فحاولت الصراخ طلبًا للنجدة غير أنه أحكم قبضته على رقبتها، فأغمي عليها وهوت على الأرض، فسلبها أحد اللصوص حذاءها، في حين نزع بريغوجين أقراطها الذهبية. وقد حكمت عليه المحكمة بعقوبة السجن لـ 13 سنة، وكان عمره آنذاك 20 عامًا.
وغلبت على السجون السوفييتية في تلك الحقبة القسوة الشديدة وانعدام الرحمة. تقول لاورا بياشنتيني، وهي باحثة في علم الجريمة سبق لها العيش بين أوساط السجناء، إنه عندما دخلت البلاد عصر الانفتاح عقب سقوط الشيوعية، فإن نظام السجون كُرّس تحديدًا لممارسة العنف المتواصل فائق الفظاعة، ذلك العنف اللا إنساني المحض؛ إذ أودع السجناء في مهاجع يتكدس فيها 50 إلى 100 سجين، وشجّع الحراس بعض السجناء على فرض الانضباط في تلك المهاجع، وبذلك أصبحت الحياة اليومية في تلك السجون خاضعة لسيطرة وإدارة زمرة المجرمين المدعومين الذين كان يطلق عليهم اسم (vory v zakone)، أي اللصوص الذين يلتزمون بقواعد معينة.
واتبعت هذه الزمرة قواعد صارمة، وساد بين أفرادها ميثاق شرف، لهذا تظنّ بياشنتيني أنهم احتقروا بريغوجين لأنه هاجم بعصابته امرأة وحيدة، وعاملوه لذلك معاملة سيئة في أثناء سجنه. وتحكمت هذه الزمرة أيضًا بتداول الأموال بين السجناء في السجن، فكانوا يستعملون الحيلة لتهريب الأجهزة الإلكترونية إلى الداخل مثل المسجلة أو التلفزيون، وهم إلى ذلك عرضوا على السجناء خدمات أخرى مثل حماية عائلاتهم في الخارج. ومن هذا المنطلق يتأتى القول إنّ حياة بريغوجين داخل السجن زودته بالمهارات الملائمة للنجاح في روسيا الجديدة التي أخذت معالمها تبرز في الخارج.
أطلق سراح بريغوجين من السجن عام 1990 حينما كان على مشارف العقد الثالث من عمره، وهو يستذكر هذه الأيام قائلًا إنه بدأ حياته الجديدة ببيع النقانق في لينينغراد (سان بطرسبرج حاليًا)، إذ تحدث لإحدى الصحف فقال: “أعددنا صلصة الخردل في مطبخ شقتي، وتولت أمي مهمة جمع إيرادات البيع لدينا، فقد جنيت 1000 دولار أمريكي في الشهر، وكسبنا أموالًا كثيرة من الروبلات حتى تعذر على والدتي إحصاؤها جميعًا”. وسرعان ما أقلع بريغوجين عن بيع الوجبات السريعة وعمل في مجال الطهو والمطاعم، فافتتح مطعمًا في أقبية بناء مصلحة الجمارك التاريخي في سان بطرسبرج، وترك إدارته لمضيف إنكليزي ذي شارب وخدين متوردين. وافتتح مطعمًا آخر على متن قارب نهري كان فيما مضى ملهى ليليًا عائمًا.
توحي القصة على نحو ما رواه بريغوجين بأن نجاحه وليد الكد والعمل الشاق، بيد أن بعض الأشخاص يعتقدون أن وراء الأكمة ما وراءها؛ فميخائيل خودوركوفسكي، وهو رجل أعمال أوليغارشي سابق سجنه بوتين عام 2005، يزعم أن الجريمة المنظمة تورطت في أنشطة مطاعم بريغوجين في سان بطرسبرج. فاثنان من شركاء بريغوجين في مجال المطاعم امتلكا كازينو، لذلك من المستبعد ألا يكون قابل آنذاك رجال العصابات في هذا الوسط المشبوه، لا سيما أن سان بطرسبرج كانت حينها “شيكاغو الروسية” على حد وصف خودوركوفسكي. وتستذكر بطانة بريغوجين اليوم الذي تناول فيه نائب العمدة، المسؤول عن الكازينوهات وأمور أخرى، وجبة العشاء في مطعمه. كان ذلك الشخص هو فلاديمير بوتين.
ولما استفحلت قوة بوتين وتبوأ مقاليد السلطة، أخذ بريغوجين تحت جناحه؛ فبعدما تولى بوتين منصب الرئيس عام 2000، أصبح بريغوجين متعهد الطعام المفضل له في المناسبات الرسمية الكبرى، فحاز بذلك لقب “طباخ بوتين”. وتقرّب بفضل هذا الدور من أقوى رجل في روسيا، فضلًا عن زعماء العالم الآخرين، فالتقط له المصورون صورة وهو يمسح آنية زجاجية على طاولة عشاء بوتين، وأخرى وهو يحوم بجوار الرئيس الأمريكي جورج دبليو بوش.
تقول كانديس روندو، التي عاشت في سان بطرسبرج في تسعينيات القرن الماضي وتعمل الآن باحثة خبيرة في مجموعة فاغنر، إن عمل بريغوجين في مجال الطعام ليس بالأمر التافه بتاتًا؛ فبوتين كان ما يزال حديث العهد في السياسة حينما تولى الرئاسة، لذلك استغل الولائم الفاخرة لإبهار نظرائه من رؤساء الدول. ولم تكن هذه المهمة يسيرة على بريغوجين، إذ تعين عليه أن يتغلب على مشكلتين عويصتين هما: نقص الطعام والصيت السيء للمطبخ الروسي، بيد أنه نجح في هذه المهمة وأعد قوائم طعام راقية من مكونات تقليدية؛ فلمّا زار الرئيس الأمريكي بوش روسيا، قدّم بريغوجين وجبات مكونة من الطماطم الأستراخانية (نسبة لمدينة أستراخان الروسية) والخل البلسمي، وجراد البحر مع مربى الكشمش الشائك، وسمك الهف المقلي مع اللفت والكوسا الصغيرة، لكن بوش تناول شريحة لحم.
وبرهن بريغوجين عن براعة فائقة في تنظيم المناسبات الكبيرة، فحظي لذلك بمكانة لا تضاهى لدى الحكومة الروسية، التي تعول في سياستها على المظاهر العامة الخادعة، بل إن الإسراف المبهرج في وجباته وترتيباته بلغ أحيانًا حدّ الهزل والسخرية؛ إذ كشفت بعض الرسائل الإلكترونية المسربة أنه قدّم للضيوف في حفل عشاء أقيم بمناسبة عيد ميلاد سيرغي إيفانوف، رئيس إدارة الرئاسة الروسية، لحم نعام صومالي، ولحم تمساح، ولحم قرش رمادي، وسمك البيرانا، لكن بوتين تناول شريحة لحم.
لا ريب أن بريغوجين حظي بثقة عمياء حتى بلغ هذا المنصب، لا سيما أن للروس باعًا طويلًا في تسميم الشخصيات السياسية. وقد تحدث ضابط استخبارات أمريكي سابق عن هذا الأمر منوهًا إلى أهمية دور الطاهي في الكرملين مقارنة بدوره في البلدان الغربية، ويقول إنه “يستلزم الأمر في روسيا ثقة راسخة في الطاهي الشخصي، فهذا الأمر مهم جدًا هناك”. وما من شخصٍ أدرى بهذا الأمر من بوتين، فجده كان الطاهي الشخصي لستالين.
وتقول روندو إن الأفراد العاملين في الخدمات المنزلية للقائد وبطانته يكتسبون نفوذًا واسعًا في الأنظمة الاستبدادية، “فسائقو الأفراد الأثرياء والمتنفذين في سان بطرسبرج والخدمُ والخادماتُ والطهاةُ، أولئك جميعًا ارتقوا في حياتهم، وأصبحوا الآن بمنزلة الحاشية الملكية في روسيا بوتين”. فقد حصل بريغوجين على عقود لتزويد الطعام إلى المدارس والسجون والجيش الروسي بأكمله، محققًا بذلك ثروة طائلة حسبما يشاع، والأهم من المال هو محافظته على ثقة بوتين.
ويمتنع موظفو فاغنر، إلا قلة منهم، عن الظهور على وسائل الإعلام، لكن منهم من كان مستعدًا للتحدث مثل مارات جابيدولين، وهو محارب من قدامى المحاربين تخلى عن منصبه في القوات المسلحة الروسية الرسمية عام 1993، ورغم أنه تعذر التحقق من جميع تفاصيل قصته، غير أنها متسقة مع الحقائق المتاحة.
يقول جابيدولين إنّه كابد حتى يستقر في حياته المدنية بعدما غادر فرقة المظليين، فعمل حارسًا شخصيًا واضطر في إحدى المرات لإطلاق الرصاص على رجل عصابة سيبيري، فحكم عليه بالسجن 3 سنين جرّاء ذلك. وأخبره أحد رفاقه السابقين في الجيش عن مجموعة فاغنر، فسجل اسمه للانتساب إليها، ثم باشر مهامه القتالية في أوكرانيا، حيث نشب صراع مسلح في شرقي البلاد عام 2014 بين الحكومة والانفصاليين المدعومين روسيًا، ثم انتقل بعدها للقتال في سوريا حيث دعمت روسيا نظام بشار الأسد.
يقول جابيدولين إنه خاض عام 2016 معركة مسلحة مع مجموعة مسلحة قرب مدينة تدمر، ولم يسمع في أثناء القتال دوي الانفجار الضخم الذي ألقاه في الهواء، فتشوشت حواسه كلها، ولم يحس إلا بالألم الشديد جرّاء عشرات الشظايا التي مزقت جسده، ثم أمضى شهرين متتابعين غائبًا عن الوعي في إحدى المستشفيات. ولمّا أفاق من غيبوبته ظل مترنحًا من إصابته الشديدة، غير أن أحدهم ناوله هاتفًا جوالًا وقال: “المتكلم هو يفغيني فيكتوروفيتش”. ويصف جابيدولين هذه اللحظة بقوله: “بدا الأمر كأنه نداء من الرب”، وقد أخبره بريغوجين حينها أن مجموعة فاغنر تتكفل بنفقات علاجه اللازمة، ووعده بميدالية شرف ووظيفة مكتبية مريحة. وصحيح أن بريغوجين لم يرتدِ طوال حياته زيًا رسميًا إلا زي السجن، بيد أنه تعامل مع مقاتليه كأنهم رفاق سلاح.
وما يزال الغموض يكتنف طريقة تحول بريغوجين من مجرد طاهٍ إلى قائد عسكري. يقول جابيدولين إن فاغنر كانت تعرف في بداياتها على أنها شركة، وهي إلى ذلك نشرت مرتزقتها في جميع أرجاء العالم من شبه جزيرة القرم إلى سوريا، ومن ليبيا إلى الكونغو. ففي سوريا دربت عناصر محلية، وشكلت قوات اصطدام رديفة لقوات النظام، أما في ليبيا فقاتلت في صفوف قائد المتمردين المدعوم روسيًا. وفي جمهورية أفريقيا الوسطى، قدم “مدربو” فاغنر الدعم والتدريب لقوات الحكومة في أثناء الحرب الأهلية في البلاد.
وفي عامي 2015 و2016 خدم رجال من المجموعة في أوكرانيا على أنهم جنود وهميون، أي أنهم قاتلوا مرتدين زيهم العسكري دون شارات تحدد هوياتهم، فغزوا أراضٍ تسيطر عليها القوات الأوكرانية ونفّذوا مهمات تخريبية واحتجزوا بعض الرهائن، وكان هدفهم الرئيس هو توحيد الجماعات الانفصالية المسلحة المتنافسة وإخضاعها لقيادة واحدة. وانتشرت شائعات فيما بعد أن مجموعة فاغنر دبرّت مقتل بعض القادة الانفصاليين ممن افتقروا للحكمة فتسببوا ببعض القلاقل.
ولمّا تعافى جابيدولين من إصابته، انضم إلى طاقم بريغوجين وعمل مساعدًا شخصيًا له، فاستطاع بذلك أن يطلع اطلاعًا وثيقًا على أعمال المنظمة. فقد أشارت التغطية الإعلامية آنذاك إلى أن فاغنر تجني الأموال من سيطرتها على آبار ومصافي النفط السورية، بيد أن جابيدولين ينكر هذه التفسيرات ويؤكد أن قطاع النفط السوري كان “متداعيًا” و”في حالة انهيار”، وهو إلى ذلك يؤكد على حد علمه أن مجموعة فاغنر لم تكسب أي أموال قط ولم يدفع بريغوجين أي ضرائب على الإطلاق، وإنما حوّلت الدولة تلك الأموال لسداد نفقات العمليات التي طلبها الكرملين.
وفي عام 2017، أي حينما بلغ انتشار قوات فاغنر في سوريا ذروته، يُخمن جابيدولين أن المجموعة أنفقت زهاء 175 مليون دولار أمريكي، منها 25 مليون دولار على هيئة معاشات لعائلات المرتزقة القتلى. واستطاع بريغوجين أن يحصل على الدبابات والمركبات المدرعة وقاذفات الصواريخ وغيرها من الأسلحة الصغيرة.
وصحيح أن بعض الناس لا يرون بريغوجين إلا شخصية تافهة من صناعة الكرملين، لكن يبدو أنه يتمتع بهامش من الحرية للعمل والمبادرة بنفسه؛ إذ يقول جابيدولين إن بريغوجين اتخذ في شهر فبراير عام 2018 قرارًا أحاديًا بإرسال رجاله للاستيلاء على آبار النفط في الأراضي الخاضعة لسيطرة القوات الكردية، ولم يدرك حينها أن القوات الأمريكية الخاصة ناشطة في المنطقة، وهو إلى ذلك إخفاق استراتيجي كبير. ولمّا رأى الأمريكيون دخول المرتزقة إلى تلك المنطقة، تواصلوا مع وزارة الدفاع الروسية عبر الخط الساخن المباشر ساعين بذلك لأن يتبينوا أنهم لن يشعلوا فتيل حرب عالمية إن صدوا الهجوم، فأكد الروس للأمريكيين أن لا جنود روس في المنطقة، فقصف الأمريكيون مرتزقة فاغنر، فمات منهم 100 جندي حسب تقديرات جابيدولين.
تتباين الحسابات بشأن السماح بوقوع هذه الكارثة؛ إذ يقول بعض الأشخاص إن بريغوجين تلقى إذن الكرملين لشن هذه الغارة، غير أن مسؤولي وزارة الدفاع تنصلوا منها لأنهم أرادوا تقليص نفوذه. ويأتي جابيدولين بتفسير أبسط لهذه الحادثة، فقد أعطي الجنرال الروسي الذي أجاب عن مكالمة الأمريكيين أوامرَ بعدم التدخل في شؤون فاغنر، وبذلك فقد تقيد بهذه الأوامر حرفيًا.
وكما هو معلوم غزت روسيا أوكرانيا في شهر شباط/ فبراير عام 2022. وفي بادئ الأمر لم يظهر للعلن أي دور لمجموعة فاغنر في هذه “العملية العسكرية الخاصة”، وهو الوصف الذي أطلقه الكرملين على عملية الغزو. وفي الحقيقة كان مرتزقة بريغوجين الخبيرين بالمعارك غائبين عن ساحات القتال في الأيام الأولى للحرب، وانتشرت الأقاويل والنظريات بخصوصهم غيابهم عن القتال. بيد أن الأوليغارشي السابق خودوركوفسكي يشير إلى أن بوتين أعطى أوامره لمجموعة فاغنر حتى تغتال الرئيس الأوكراني فلوديمير زيلينسكي في بداية الغزو. والجدير بالذكر أن خودوركوفسكي أصبح الآن معارضًا للنظام الروسي، ويعكف على جمع المعلومات الاستخبارية من مقره في لندن، وهو إلى ذلك يقول إن مناوئي بريغوجين في المؤسسة الأمنية الروسية أبلغوا الأوكرانيين بأمر الاغتيال، ويزعم أن محاولة الاغتيال أخفقت إخفاقًا ذريعًا ومخزيًا حتى أن بريغوجين فقد حظوته السابقة، ولم يفصح خودوركوفسكي عن مصدر معلوماته ولا عن طريقة حصوله عليها.
ومهما يكن السبب وراء غياب مقاتلي مجموعة فاغنر عن المعارك في الأيام الأولى، فإنهم سرعان ما ظهروا للعلن خلال الشهور القليلة التالية، خاصة بعدما أبدت أوكرانيا مقاومة فاقت كل التوقعات.
وجلا دور مجموعة فاغنر للعالم في شهر سبتمبر عام 2022، وتحديدًا حينما انتشر على تويتر مقطع فيديو عجيب؛ إذ ظهر بريغوجين في ساحة أحد السجون وهو يشحذ همم المجندين، والتف حوله مئات الرجال بينما كان يقول لهم: “ما تقدسونه قادر على إخراجكم من هذا السجن في نعوش، ولكنني قادر على إخراجكم أحياء”، فلا يلزمهم إلا القتال ضمن مجموعة فاغنر في أوكرانيا. أدلى لهم بريغوجين بحبال وعدٍ يتعذر على كثير منهم رفضه، وقال لهم: “لن تعودوا إلى السجن مهما حدث”، ثم أمهلهم خمس دقائق حتى يقرروا قبول العرض أو رفضه.
وكان بريغوجين حتى لحظة ظهور الفيديو يقاضي الصحفيين الذين يشيرون في كتاباتهم إلى صلته المحتملة بمجموعة فاغنر، أما الآن فأخذ يصرح بهذا الأمر علانية. وما انقضى يوم واحد بعد هذه الحادثة إلا وشهد تصريحًا من بريغوجين أو ظهورًا في مقطع فيديو على وسائل التواصل الاجتماعي؛ إذ كان يظهر غالبًا مرتديًا زي المعركة على خطوط المواجهة الأولى. وسرعان ما افتتح مقرًا جديدًا لفاغنر في سان بطرسبرج، وهو برج زجاجي فوق بابه عبارة مكتوبة بأحرف سريالية ضخمة: “مجموعة فاغنر، شركة عسكرية خاصة”. وبدا بريغوجين محصنًا من الانتقادات والمحاسبة بسبب الطلب المتزايد على الجنود في الخطوط الأمامية، فهو إلى ذلك المُزوّد الذي يحتاج إليه الكرملين. وقد اعترف بريغوجين أيضًا في الآونة الأخيرة بتأسيسه مجموعة من الحسابات الإلكترونية في محاولة للتدخل في الانتخابات الأمريكية عام 2016، وسبق له أن أنكر هذا الادعاء.
ومع ذلك تضمن الوعد الذي قطعه بريغوجين تحذيرًا شديد اللهجة للسجناء الذين سجلوا أسماءهم للانتساب إلى فاغنر، إذ قال إن “المجندون الذي يبلغون خطوط القتال الأمامية، ثم يتذمرون قائلين إن هذه الأمكنة لا تناسبهم، فهم لدينا بمنزلة الفارين، وسنعدمهم رميًا بالرصاص”.
ونشرت مجموعة فاغنر مقطع فيديو لسجين سابق اسمه يفغيني نوزين، كان محكومًا عليه بالسجن 24 سنة بتهمة القتل، ثم أطلق سراحه حتى ينضم للقتال في أوكرانيا، بيد أنّه انشق وهرب قبل أن يقبض عليه مرة ثانية. وقد ظهر نوزين في الفيديو داخل قبو مظلم، وبدا رأسه ملتصقًا بجدار من الطوب، ثم هُشِّم دماغه بمطرقة ثقيلة، وهي طريقة الإعدام التي أصبحت علامة مميزة لفاغنر، وقد وصف بريغوجين الفيديو بأنه عمل إخراجي متقن، وزار إحدى وحدات قوات فاغنر مهديًا إياها مطرقة محفور عليها عبارة “لقتل الأرانب”، أي أولئك الفارين من القتال.
وتقول وزارة الدفاع البريطانية إن عدد جنود فاغنر في أوكرانيا بلغ في بعض الأوقات 50 ألف مقاتل، وكان أربعة من أصل كل خمسة منهم سجناء سابقين. وفي ذلك الوقت صمم بريغوجين على نسب المجد والبطولة لمجموعة فاغنر وحدها؛ ففي شهر كانون الثاني/ يناير الماضي، أعلن استيلاء من سماهم أعضاء الأوركسترا الخاصة به (أي مقاتليه) على بلدة سوليدار في شرق أوكرانيا، وقال وقتها: “أؤكد لكم أن ما من وحدات أخرى شاركت في هذا الهجوم إلا مقاتلي فاغنر”، (لكن هذا الادعاء خاطئ، فقد قاتل الجيش الروسي كذلك).
وعقب ذلك انتقل بريغوجين في هجومه صوب باخموت، وادعى كذلك أن قوات فاغنر ستستولي وحدها على هذه المدينة. وفي الوقت عينه لم تصدر أي بوادر للمساعدة من جنرالات الجيش الروسي، وهنا يبين خودوركوفسكي أن وزير الدفاع شويغو ورئيس الأركان العامة فاليري جيراسيموف يريان جنود فاغنر كسقط المتاع، فهم مجرد جنود مشاة تافهين يستدرجون قذائف المدافع الأوكرانية، ويطهرون حقول الألغام عبر السير فيها، ويحددون مواقع العدو بإطلاق النار. ويتابع خودوركوفسكي كلامه بالإشارة إلى رغبة بريغوجين حينها في استخدام المدفعية الثقيلة لتمهيد الطريق أمام تقدم مقاتليه، وهو أمر اعتيادي في الوحدات القتالية النظامية، بيد أن وزارة الدفاع الروسية امتنعت عن استخدام إمداداتها المحدودة من الذخيرة والقذائف لتسهيل تقدم المرتزقة.
وهكذا لم تسقط باخموت سريعًا كما كان متوقعًا. أما بريغوجين فاشتد غيظه وغضبه من “الكسالى” في مؤخرة الجيش، الذين يتناولون طعامهم في “أطباق ذهبية” بينما يعود رجاله إلى منازلهم قتلى في النعوش. واللافت في الأمر أن التلفزيون الحكومي الروسي، الذي اعتاد تمجيد بريغوجين والاحتفاء به، امتنع هذه السنة عن تغطية أخباره أو الاهتمام بها كما السابق، مما يوحي بأن كفة الصراع مالت لصالح خصومه في المؤسسة العسكرية.
ويقول جابيدولين، موظف فاغنر السابق، إن براعة بريغوجين في التصرف تتجلى حينما يضيق عليه الخناق ويصارع للنجاة، فيقول: “إنه رجل صعب المراس وليس شخصًا عاديًا، فمن سوء التقدير معاملته على أنه مجرم أحمق، فهو شديد الذكاء والخطورة”.
في شهر أيار/ مايو الماضي زعم بريغوجين أن قواته استولت على مدينة باخموت، بيد أنها خسرت 20 ألف جندي لتحقيق هذه الغاية. وأجرى بريغوجين مقابلة تلفزيونية لاذعة اللهجة، فهاجم خلالها وزير الدفاع شويغو ووزير الخارجية سيرجي لافروف وآخرين من النخبة الحاكمة، الذين أرسلوا أولادهم إلى بلدان أخرى، في حين أرسل المواطنون الروس أولادهم للقتال في الجبهات، وأوشك أن يبصق في وجه الكاميرا حين قال غاضبًا: “يا أولاد الفاعلة، اجلبوا أولادكم وأرسلوهم إلى الحرب”.
وتعيش موسكو في الوقت الراهن حالةً من الإثارة والترقب بشأن طموحات بريغوجين السياسية، فقد برهن أنه رجل ذكي يحب الاستعراض والاستفزاز، ولو أنه فظ الأخلاق. ولمّا انتقد البرلمان الأوروبي انتهاكات فاغنر، أرسل لهم صندوقًا على شكل آلة كمان قاصدًا بذلك جوقته الموسيقية (أي مقاتليه)، وداخل الصندوق مطرقة ملطخة ببقع حمراء، أو ربما دماء! وهو إلى ذلك يقول إنه يعتزم الترشح لرئاسة أوكرانيا مستقبلًا.
ولا يظن جابيدولين أن بريغوجين- رئيسه القديم- راغب في الوصول إلى سدة الرئاسة في بلده، وهو إلى ذلك يقول: “إن رئيس روسيا مسؤول عن كل الأمور فيها، وجميع الإخفاقات والأخطاء”. ويعتقد جابيدولين أن نية بريغوجين الحقيقية هي شغل الدور الشاغر عقب وفاة فلاديمير جيرينوفسكي في العام الماضي، وهو سياسي قومي متطرف أباح له النظام الروسي توجيه الانتقادات العلنية ضمن حدود معينة، ويقول جابيدولين: “إنه موقع مناسب تمامًا، فلا يلزمه التعامل مع أي مشكلات، وإنما يستطيع التحدث بصراحة على العلن، وجني الأموال مستفيدًا من موقعه السياسي”.
وتميل فيونا هيل، المسؤولة السابقة عن السياسة الروسية في مجلس الأمن القومي الأمريكي، إلى الرأي القائل إن بوتين يحقق منافع سياسية كثيرة من ظهور معارضة يمينية، فهذا الأمر يجعله خيارًا معقولًا مقارنة بالخيارات الأخرى المتطرفة. وتعتقد هيل أن هذا التقدير السياسي يفسر ظهور سلسلة من المقالات في الصحافة الروسية عن احتمال ترشح بريغوجين لمنصب الرئاسة، ويفسر أيضًا الامتناع عن عقابه جرّاء انتقاداته العلنية المتهورة بحق الكرملين. وترى هيل أن بريغوجين برع في استخدام الخطاب الجماهيري الطنان، وهو إلى ذلك قادر على تأدية دور البعبع الذي قام به جيرينوفسكي في السابق.
ولدى هيل رأي لافت للاهتمام بشأن ديناميكية القوة بين بوتين ورئيس الطهاة المدان؛ فهي تظن أن من الأسباب التي تدفع بوتين لتوثيق صلته ببريغوجين هي الظهور بمظهر الرجل القاسي والمهاب جرّاء الارتباط بينهما، وهي صورة يتوق إليها بشدة؛ فعندما عكفت هيل على مراجعة سيرة بوتين الذاتية قبل بضع سنين، ارتابت بأن جميع القصص التي تحدد معالم الإرث الشخصي للرئيس الروسي، أي قصة الطفل البائس الذي يقاتل في فناء عمارته السكنية في لينينغراد، وتقييم شخصيته في جهاز الاستخبارات السوفييتية بأنه لا يهاب المخاطر، ما هي إلا قصص اختلقها بوتين بنفسه.
تقول هيل: “ينتابني التساؤل أحيانًا عن مدى الطبيعة القاسية لبوتين، فعندما تجلس بجواره مباشرة، لا تبدو سمات القسوة والهيبة بارزة عليه حقًا. فصحيح أن جسده يبدو رياضيًا ومثاليًا، بيد أنه لا يبث الخوف ولا الرهبة في نفوس الآخرين”. ومن المحتمل أن بريغوجين لا يرى رئيسه قويًا كما يدعي، وهنا تشير هيل إلى أنه ربما يتأمل بريغوجين ويتساءل في قرارة نفسه: “لماذا لا أكون أنا الرئيس؟!”
الترا صوت
———————————-
====================
تحديث 01 تموز 2023
———————————
الطبّاخ يحرق طبخة الرئيس/ بشير البكر
محاولة التمرّد العسكري في روسيا، التي قام بها رئيس مجموعة فاغنر، يفغيني بريغوجين، يوم السبت الماضي، ليست مفصولة عن سياق التجاذبات الحادّة داخل الدائرة المحيطة بالرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، الذي يُمسك بكل السلطات على نحوٍ مركزي، وبيد من حديد. وهناك تقديراتٌ غربيةٌ بأن التحرّك الذي قام به ما يُعرف بـ”طبّاخ بوتين” ليس حركة فردية، بل هو انعكاسٌ لموقف كتلةٍ من كبار العسكريين ومسؤولي الأمن ورجال الأعمال، غير أن شرارة التمرّد انطلقت بسبب محاولة وزارة الدفاع ورئاسة الأركان حلّ قوات “فاغنر”، وأدّى رفض بريغوجين حصول مواجهاتٍ عسكرية، تدخلت فيها مروحياتُ وزارة الدفاع لقصف فاغنر، ما دفع بريغوجين إلى السيطرة على قيادة العمليات العسكرية الروسية في مدينة روستوف، وهي المكلّفة بإدارة شؤون الحرب على أوكرانيا، ومن بعد ذلك التوجّه نحو موسكو بقافلةٍ عسكريةٍ كبيرة بلغت نحو 400 شاحنة، وصلت على بعد 200 كلم من العاصمة، من دون أن يتدخّل أحد للتعامل معها عسكريا من أجل منعها من ذلك، ما أثار أسئلةً كثيرة بشأن السبب الذي حال دون استخدام القوة العسكرية ضد التمرّد، واللجوء إلى التفاوض لإنهائه عبر وساطة قام بها الرئيس البيلاروسي ألكسندر لوكاشينكو.
اللغز الذي استعصى على التفسير هو سبب التغيّر في موقف بوتين، الذي صدرت عنه تصريحات نارية، يصف فيها التمرّد بـ”الخيانة” و”الطعنة من الظهر”، وأن منفذيه “سيحاسبون على الجريمة التي ارتكبوها بحق روسيا”، ومن ثم قبل التفاوض والتوصّل إلى الاتفاق الذي رعاه لوكاشينكو، ووقّع بموجبه سلسلة من المراسيم لصالح “فاغنر”، قبل أن يعلن بريغوجين سحب قواته وعودتها إلى مواقعها السابقة. وهذا يخالف أسلوب بوتين المعروف كليا، والذي يقوم على القسوة وعدم التسامح مع كل ما يمكن أن يهدّد حكمه، وما كان له أن يلجأ إلى المرونة عن طيب خاطر، بل هناك موانع فعلية حالت دون ذلك، أهمّها حساب النتائج غير المضمونة في إسكات التمرّد عسكريا، من دون ثمن كبير يصل إلى تهديد سلطاته. وفي غياب معلوماتٍ فعلية، حتى لدى الاستخبارات الغربية، تبدو “فاغنر” واجهة وأداة فقط، وأن التمرّد موجّه ضد بوتين، لكن الكتلة التي تقف خلفه اختارت مواجهة كتلة وزارة الدفاع في المرحلة الأولى، وفي حسابها إذا نجحت في إزاحة الوزير سيرغي شويغو، يصبح بوتين في موقفٍ أضعف، ويسهل الانقضاض عليه في مرحلة ثانية.
حرب أوكرانيا هي خلفية المشهد، وقد اختار الذين يقفون خلف التمرّد بريغوجين كي يقوم بالمناورة. ولذلك، بدأ التمهيد، منذ نهاية العام الماضي، من أرض الميدان، وهو يوجد على خطوط الجبهة الأمامية، ويقود حربين، الأولى من أجل صدّ القوات الأوكرانية، وقدّم لذلك خسائر كبيرة في صفوف قواته، والثانية ضد وزير الدفاع ورئيس الأركان، اللذيْن اتهمهما بعدم الكفاءة والامتناع عن تزويد قوات “فاغنر” بالأسلحة المناسبة والذخيرة الكافية، رغم أنها حقّقت نتائج في باخموت أفضل من الجيش الرسمي. وبفضل ذلك، صعّد من خطابه، واكتسب شعبية في أوساط العسكر والرأي العام الناقم على الأداء السيئ للجيش في الحرب، وما حصل من تمرّد عسكري يظهر أن هناك خللا كبيرا ينمو بسبب ذلك، أوصل الوضع في روسيا إلى مرحلةٍ من التأزّم الشديد، الذي ترفع من وتيرته الخسائر الكبيرة البشرية والاقتصادية بسبب استمرار الحرب، وهو يعني، في الوقت نفسه، أنه جولة أولى في مواجهة مع بوتين، انتهت لصالحه نظريا، ولكنها من الناحية الفعلية، هزّت صورته، وقللت من هيبته حاكما قويا مطلق الصلاحيات، يسيطر على كامل مفاصل السلطة في البلاد، وهي بذلك أول تحدٍّ فعلي واجهه حكمه منذ أكثر من عقدين.
العربي الجديد
—————————–
هل ساعدت واشنطن تمرّد فاغنر؟/ باسل الحاج جاسم
تتواصل ردود الفعل الدولية إعلامياً وسياسياً، بعد تمرّد قائد مجموعة فاغنر العسكرية الخاصة، يفغيني بريغوجين، على قيادة الجيش الروسي، والذي استمرّ 24 ساعة. وعلى الرغم من أنها ساعات قليلة بين إعلان التمرّد والتراجع عنه، إلا أنها كانت كافيةً لإحداث هزّة في الدائرة المقرّبة من الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، وتثير التكهنات بشأن جنرالات الجيش الروسي، وبين العواصم العالمية التي التزمت الصمت في الساعات الأولى، وبعضها اكتفى بالقول إنهم يراقبون عن كثب ما يجري في شأن داخلي روسي.
وكانت وكالات الاستخبارات الأميركية قد التقطت معلوماتٍ في منتصف الشهر الماضي (يونيو/ حزيران) تفيد بأن بريغوجين كان يخطّط لعملٍ مسلحٍ ضد مؤسّسة الدفاع الروسية، التي اتهمها، منذ فترة طويلة، بإفشال الحرب في أوكرانيا، وأبلغت البيت الأبيض والوكالات الحكومية الأخرى، على وجه السرعة، بذلك، بحسب صحيفة واشنطن بوست.
وقال مسؤولون أميركيون عديدون، مع الساعات الأولى لإعلان بريغوجين التمرّد، إنهم لم يُفاجأوا، وإن التوقيت الدقيق لخطط بريغوجين لم يتّضح إلا قبل وقت قصير من استيلائه المذهل على مقر القيادة العسكرية الروسية في مدينة روستوف، في حين قال وزير الخارجية الروسي، سيرغي لافروف، بعد إنهاء التمرّد، إن السفيرة الأميركية لدى موسكو “أعطت إشارات” إلى أن الولايات المتحدة ليست متورّطة في التمرّد، وإنها تأمل في سلامة الترسانة النووية الروسية.
وإذا كان من الصعب، أو ربما من المبكّر، الحديث عن دور أميركي غربي مباشر في تمرّد فاغنر، الا أن هناك عوامل عديدة غير مباشرة، ساهم الغرب فيها بتمرّد فاغنر، وتسبّب في صدع بين “فاغنر” والمؤسّسة العسكرية الروسية، فالدعم الغربي العسكري، الذي جعل القوات الروسية تواجه مقاومةً شرسة في أوكرانيا، كشف عن أخطاء عملياتية كثيرة لدى الجيش الروسي، وجعل الصراع والسجال بين “فاغنر” ووزارة الدفاع يخرج عن السيطرة، وبلغ ذروته مع إعلان بريغوجين تمرّده.
وقال قائد “فاغنر”، بعد أيام من إنهاء تمرّده بوساطة رئيس بيلاروسيا، إن قواته “تعتبر الأكثر خبرة في روسيا وربما في العالم”، مضيفاً أنها “تنفذ مهام عديدة لمصلحة روسيا”. وأضاف في تسجيل صوتي: “مجموعتنا تنفذ مهام في أفريقيا والدول العربية ومناطق مختلفة في العالم، حققنا نتائج جيدة في أوكرانيا”، و”لم يرغب أي مقاتل من مجموعتنا التوقيع مع الدفاع الروسية لمعرفتهم مسبقاً من سير العملية العسكرية أنهم سيخسرون قدراتهم، وعدد من وقّع لا يتعدى 2%، كنّا دوما ضد العمل تحت لواء وزارة الدفاع”.
وقد تكون أبرز العوامل التي شجّعت تحركات بريغوجين وسرّعتها، وجعلته يتجاوز كل الخطوط الحمراء، انحياز بوتين لصالح المؤسّسة العسكرية الروسية الرسمية، عندما وافق على قرار وزير الدفاع توقيع كل المتطوّعين، بمن فيهم عناصر “فاغنر” عقودا مع وزارة الدفاع، وتحديد مهلة حتى الأول من يوليو/ تموز، بالإضافة إلى أنه قد تكون هناك أطراف داخل الأجهزة وبين الجنرالات الروس تدعم تحرّكات بريغوجين. والعامل الرئيسي انشغال الجيش الروسي بالهجوم الأوكراني المضاد، وتقييده بحيث من الصعب ترك الجبهات، لمواجهة تمرّد فاغنر داخل روسيا.
تفيد تقديرات بامتلاك “فاغنر” خمسة آلاف مقاتل على الأقل في أفريقيا وحدها، معظمهم جنود روس سابقون وبعض المحكومين من السجون الروسية، وهناك عناصر أجنبية أخرى كلهم مقاتلون بالأجر. وعلى المستوى الرسمي، لا صلة لهم بروسيا التي لا يوجد فيها قانون يسمح بتشكيل مجموعاتٍ مسلحة. ولا يدعم انتشار “فاغنر” بهذه الصورة فقط النفوذ الروسي، بل يقدّم فرصة أيضا للكرملين بتقليل خسائر القوات الروسية في أي نزاع تتورّط فيه، لأنه لن يتم الربط رسميا بين قتلى “فاغنر” والقوات الروسية الرسمية، ووفر نفي روسيا علاقة الحكومة بفاغنر إمكانية عدم تحمّل المسؤولية عن أفعال عناصرها في كل مكان.
ﻭﺑﻌﺪ ﺍﻟتمرّد، ﺍﻋﺘﺮﻑ ﺑﻮﺗﻴﻦ ﺑﺘﻤﻮﻳﻞ ﺍﻟﺪﻭﻟﺔ ﺸﺒﻜﺔ فاغنر، بينما، ﻓﻲ ﺍﻟﺒﺪﺍﻳﺔ، ﻛﺎﻧﺖ ﻣﻮﺳﻜﻮ ﺗﺮﻓﺾ ﺍﻻﻋﺘﺮﺍﻑ ﺑﻮﺟﻮﺩ “ﻓﺎﻏﻨﺮ” ﺃﺳﺎﺳﺎً، ﺛﻢ ﺗﺤﻮّﻟﺖ ﺇﻟﻰ ﻧﻔﻲ ﻋﻼﻗﺔ ﺍﻟﺤﻜﻮﻣﺔ ﺑﻬﺎ، ﻗﺒﻞ ﺃﻥ ﺗﻐﻴﺮ ﺍﻟمعارك في أوكرانيا ذلك كله. ﻭﻟﺴﻨﻮﺍﺕ، ﻛﺎﻥ ﺍﻟﻨﻔﻲ الروسي ﻳﻮﻓّﺮ ﻃﺮﻳﻘﺔ ﻟﻠﻤﺤﺎﻓﻈﺔ ﻋﻠﻰ ﺍﻟﻨﻔﻮﺫ ﺍﻟﺬﻱ ﺗﻮﻓﺮﻩ “ﻓﺎﻏﻨﺮ” لموسكو، ﻣﻊ ﺇﻣﻜﺎﻧﻴﺔ ﺇﻧﻜﺎﺭ ﺍﻟﻤﺴﺆﻭﻟﻴﺔ ﻋﻦ ﺃﻓﻌﺎﻟﻬﺎ. وﻟﻜﻦ ﺑﻌﺪ ﺍﻟﺘﻄﻮﺭﺍﺕ التي استجدّت أﺧﻴﺮا، نكون أمام واقع وحقائق مختلفة. وهذه “ﻭﺍﺷﻨﻄﻦ ﺑﻮﺳﺖ” ترى ﺇﻥ ﻓﺸﻞ ﺑﻮﺗﻴﻦ ﻓﻲ ﺍﺗﺨﺎﺫ ﻣﻮﻗﻒ ﺻﺎﺭﻡ ﺿﺪ ﺍﻟﻤﺮﺗﺰﻗﺔ، ﺃﻭ ﻣﻌﺎﻗﺒﺔ ﺍﻟﻤﺘﻮﺭّﻃﻴﻦ ﻓﻲ ﺍﻟﺘﻤﺮّﺩ، ﻳﻀﺮ ﺑﺎﻟﺼﻮﺭﺓ ﺍﻟﺘﻲ ﻳﺮﻭّجها عن ﻨﻔﺴﻪ، ﺃﻧﻪ ﺍﻟﻤﺘﺤﻜّﻢ ﺩﺍﺋﻤﺎ ﻓﻲ ﺍﻷﺣﺪﺍﺙ. ﻭﻟﻬﺬﺍ، قد تفيد ﺍﻟﺴﻴﻄﺮﺓ ﻋﻠﻰ “ﻓﺎﻏﻨﺮ” ﺑﻮﺗﻴﻦ ﺑﺎﺳﺘﻌﺎﺩﺓ ﺛﻘﺔ الدول التي توجد فيها هذه الشبكة ﺑﺎﺳﺘﻘﺮﺍﺭ ﻧﻈﺎﻡ ﻣﻮﺳﻜﻮ. والسؤال الكبير اليوم يتعلق بما إذا كان ﻣﺼﻴﺮ ﻋﻤﻠﻴﺎﺕ ﻓﺎﻏﻨﺮ يتوقف ﻋﻠﻰ قدرة ﺍﻟﻜﺮﻣﻠﻴﻦ ﻋﻠﻰ إبعاد ﺑﺮﻳﻐﻮﺟﻴﻦ، مع ﺍﻟﺤﻔﺎﻅ ﻋﻠﻰ ﺍﻹﻣﺒﺮﺍﻃﻮﺭﻳﺔ ﺍﻟﺘﻲ ﺑﻨﺎﻫﺎ ﻓﻲ ﺛﻼﺙ ﻗﺎﺭّﺍﺕ.
يبقى القول، في ظل تشابك المصالح وتعدّد المهام، إن الغموض يكتنف مصير فاغنر، وصحيح أن تمرّدها جرى طي صفحته الأولى، إلا أن صدى ما حدث سيتردّد طويلاً.
العربي الجديد
—————————–
“فاغنر” والنووي في بيلاروسيا/ بيار عقيقي
تمدّدت مجموعة “فاغنر”، في 24 من الشهر الماضي (يونيو/ حزيران)، من الجنوب الروسي في روستوف إلى فورونيج (نحو 500 كيلومتر من العاصمة موسكو). لم ينتبه كثيرون في خضمّ الضجيج الروسي إلى وصول المجموعة إلى منشأة فورونيج النووية. لم يكن الأمر تفصيلاً. مجموعة مرتزقة تمرّدوا على الكرملين والجيش، وتمكّنوا من الوصول إلى موقع نووي في روسيا، المتفاخرة بامتلاكها أكبر عدد من الرؤوس النووية في العالم. لم يركّز الجميع على هذا الفعل، بل تمحورت الفرضيات حول احتمالات سقوط الرئيس الروسي فلاديمير بوتين وانزلاق روسيا إلى مستنقع حربٍ أهلية، وإلى إمكانية استغلال أوكرانيا الوضع المستجدّ بأفضل طريقة ممكنة، وإلى ابتكار نظرياتٍ مؤامراتية من نوع “التمرّد مسرحية ناجمة عن تفاهم بوتين مع زعيم فاغنر يفغيني بريغوجين”، وغيرها من الفرضيات.
غير أن مجتمع الاستخبارات، غرباً وشرقاً، تنبّه إلى فكرة أن “روسيا الصلبة في الداخل” وأقوى الدول النووية، بدت هشّة وسهلة الاختراق بصورة أكثر مما كانت عليه في تسعينيات القرن الماضي، التي تخلّلها انهيار الاتحاد السوفييتي ونشوء الطبقة الأوليغارشية، وصولاً إلى محاولة بيع العصابات الروسية إحدى الغوّاصات لعصابةٍ تعمل في مجال تهريب المخدّرات. تذكّر بعض منهم كلاماً سابقاً للرئيس السابق دميتري ميدفيديف حين حذّر من احتمال تفكّك روسيا إلى دويلات، لكل منها سلاح نووي. لكن ميدفيديف، نائب رئيس مجلس الأمن القومي الروسي حالياً، لم يتخيّل لحظة وصول مجموعة مسلحة، ليست من الجيش حتى، بهذه السلاسة إلى المنشآت النووية، وضمن “روسيا الموحّدة”.
للحظة، بدا وكأن بوتين “ضمانة” لعدم حصول الفوضى في الداخل الروسي. قد تكون الغرائز مع تراكمات نحو ثلاثة عقود من “الاستقرار” تحت سلطة نظام مركزي في موسكو والعلاقات السابقة بين الغرب والكرملين، قد أوحت بهذه النظرية. لكن المسألة النووية لم تدُم سوى ساعات قليلة، ففي ليل 24 ـ 25 يونيو/ حزيران الماضي، تم الاتفاق على أن تستقبل بيلاروسيا عناصر “فاغنر” وقائدهم، مع منحهم قاعدة يتدرّبون ويدرّبون الجيش البيلاروسي فيها. إلا أن تزامن وصول “فاغنر” إلى معاقل ألكسندر لوكاشينكو، مع وصول الأسلحة النووية التكتيكية الروسية إلى بيلاروسيا، أفسح المجال أمام قضيةٍ أكثر خطورة مما حصل في الـ36 ساعة من التمرّد المسلح.
هناك في بيلاروسيا دولة مترامية الأطراف مع جيشٍ صغير نسبياً غير قادر فعلياً على إدارة الأسلحة النووية من دون مشاركة مستشارين من موسكو، ما يتيح الفرصة لبريغوجين، المعروف بأنه شخصٌ من الصعب التنبؤ بتصرّفاته، للعمل على السيطرة على هذه الأسلحة. وفي هذه النظرية رعبٌ حقيقي، يتجاوز ما حصل في روسيا، وقبلها في سوليدار وباخموت الأوكرانيتين، وفي دول أفريقية عديدة. وجود “فاغنر”، ولو بعددٍ لا يتجاوز ثمانية آلاف عنصر في بيلاروسيا، لا يعني تجاهل خطرهم على الداخل البيلاروسي، قبل محيطه. وهو ما يمكن أن يُنشئ وضعاً لن يتمكّن لوكاشينكو من السيطرة عليه، ما لم يسمح للروس بدخول أراضيه للانتهاء من “فاغنر” نهائياً. كان لوكاشينكو يخشى تورّطه في الحرب الأوكرانية، عالماً بعجز جيشه عن خوض أي معركة، فكيف الآن مع وصول “فاغنر” والأسلحة النووية إلى أرضه؟
لا أحد يمكن أن يتصوّر بما كان يفكّر به لوكاشينكو، لكن يمكن التأكّد من أن بوتين لم يقل إنه لن يغتال بريغوجين، بل فقط قال إنه يضمن وصوله إلى بيلاروسيا. وهناك لا ضمانات ولا تعهدات، بل حجّة مولودة من رحم وجود الأسلحة النووية، تسمح بالتصرّف بحرّية أكثر ضد قائد “فاغنر” وعناصره. أساساً، عملية تحجيم المجموعة والسيطرة على أعمالها مؤشّر إلى أن نهايتها لن ترحم بريغوجين. ألا يعلم زعيم “فاغنر” ذلك؟ بالطبع، فهو مثل بوتين يدرك أن عليك، في أي صراع محتم، توجيه الضربة الأولى. وهناك في مينسك حساباتٌ كثيرة ستُصفّى، باسم النووي المنتشر في بيلاروسيا.
العربي الجديد
————————-
خسائر بوتين وروسيا من تمرد بريغوجين/ بكر صدقي
مبدئياً «تمكّن» رئيس بيلوروسيا لوكاشينكو من نزع فتيل الحريق وسحب زعيم مجموعة فاغنر إلى عاصمته مينسك بانتظار تقرير مصيره النهائي من قبل بوتين. وانتهت بذلك الأربع وعشرين ساعة التي هزت الكرملين، إذا أردنا استعارة عنوان الكتاب الشهير «عشرة أيام هزت العالم» الذي أرخ فيه الصحافي الأمريكي جون ريد لبداية الثورة البوليشفية في العام 1917.
استعادة هذه الثورة ليست اعتباطية أو قائمة على تشابه شكلي بين الحدثين، فقد اعتبر بوتين أن تلك الثورة التي قلبت موازين القوى العالمية وافتتحت حقبة جديدة في التاريخ العالمي «طعنة في ظهر روسيا» لحرمانها من ثمار انتصاراتها في الحرب العالمية الأولى. وكذلك يعتبر بوتين حركة الغلاسنوست والبيروسترويكا التي أطلقها الزعيم السوفييتي الراحل غورباتشوف طعنة ثانية في الظهر أدت إلى تفكك الإمبراطورية السوفييتية، وأخيراً وصف بوتين تمرد فاغنر بالمثل، أي كطعنة ثالثة في الظهر، استطاع إجهاضها ببرودة أعصابه وعدم انجراره لمواجهة عسكرية كان من شأنها أن تؤدي إلى ضعضعة وضع نظامه بصورة جدية، وبخاصة أن الأمر يجري أثناء الحرب على أوكرانيا.
غير أن الخسائر الكبيرة وقعت، على رغم تجنب المواجهة مع مجموعة فاغنر. فصورة بوتين كرجل روسيا القوي المسيطر على كل شيء قد اهتزت بشكل جدي، ليضاف إلى صورة الجيش الروسي كـ»أقوى جيش في العالم» التي تمرغت في أوحال المغامرة الأوكرانية الصعبة، حتى لا نقول الفاشلة فقط لأنها لم تنته بعد. فقبل كل شيء لم يأتِ تمرد بريغوجين كعاصفة غير متوقعة في سماء صافية، بل إن الرجل رفع من نبرة انتقاداته العنيفة لقيادة الجيش الروسي طوال الأشهر الماضية، ولم يحرك بوتين ساكناً تجاه ذلك، ربما لأنه توقع أن تجاهل تلك الانتقادات سيؤدي إلى خبوّها مع الزمن، من غير أن يتكلف فيتدخل لتهدئة غضب الرجل الذي كان من أقرب مقربيه. كان واضحاً للقاصي والداني أن الصعوبات العسكرية التي تعاني منها «العملية العسكرية الخاصة» هي السبب في تبادل الاتهامات بتحميل المسؤولية بين القادة العسكريين، وبصورة رئيسية بين قائد مجموعة فاغنر من جهة ووزير الدفاع شويغو ورئيس الأركان غيراسيموف من جهة أخرى، وكان عدم حسم بوتين لهذا الجدل المتواصل عاملاً مهماً في وصول الأمور إلى حد تمرد فاغنر، وبخاصة بعدما اشتدت ضغوط وزير الدفاع عليه لتفكيك مجموعة فاغنر وضم أفراده إلى الجيش الروسي، في الوقت الذي يرى فيه بريغوجين، بحق، أن مجموعته من المرتزقة هم أبطال الانتصارات العسكرية الجزئية في الحرب، وبخاصة في معارك منطقة باخموت.
ثم جاء إعلان بريغوجين تمرده زاعماً أن الجيش الروسي قام بقصف قواته في باخموت، وأطلق ما أسماه «مسيرة العدالة» فاجتازت قواته الحدود إلى الداخل الروسي، وخلال ساعات قليلة سيطر بلا قتال على مواقع مهمة للجيش والاستخبارات في مدينة روستوف التي تقاد منها الحرب على أوكرانيا، ومضى من هناك شمالاً في اتجاه موسكو، وبوتين يلزم الصمت! في حين أن صورة القدرات الأمنية للجيش وأجهزة الاستخبارات قد تمرغت أمام مسيرة قوات فاغنر التي وصلت إلى بعد مئتي كيلومتر فقط عن العاصمة موسكو خلال بضع ساعات! هذه أيضاً خسائر معنوية صافية لبوتين ونظامه الدكتاتوري الحديدي.
ثم أرسل بوتين ضابطين رفيعي المستوى من الجيش والاستخبارات لإقناع بريغوجين بالتراجع عن مسيرته وتمرده، وقد عاملهما قائد المرتزقة بازدراء ظهر في مقطع فيديو انتشر على وسائل الإعلام. ليضطر بوتين لتوسيط الرئيس البيلاروسي الذي قدم له مخرجاً أقنعه بالتراجع. ولا أحد يعرف، إلى الآن، بنود الاتفاق الذي انتهى بموجبه التمرد. لكن المعلن هو إسقاط الاتهامات بالخيانة والتمرد التي واجهها في البداية. هذه أيضاً لحظات ضعف تسجل على بوتين «القوي» حتى لو أن مصير بريغوجين النهائي قد يكون الاغتيال، إذا أخذنا بنظر الاعتبار سوابق بوتين مع من يعارضونه. ويمكن، بهذه المناسبة، التذكير أيضاً بمصير صهري الرئيس العراقي الراحل صدام حسين أثناء حرب الخليج الأولى، حين قام أزلامه بقتلهما بأعصاب باردة بعد عودتهما إلى العراق عاقبةً لثقتهما بوعود حميهما بأنه قد سامحهما على خيانتهما. والأرجح أن بوتين لن يكون أكثر سخاء من صدام، ولن يحترم وساطة لوكاشينكو كما لم يحترم صدام وساطة الملك الأردني.
أما مصير مجموعة المرتزقة المجرمين خريجي السجون فقد حدده بوتين بالانحياز التام إلى مشروع شويغو في ضمهم كأفراد إلى الجيش الروسي، والاستيلاء على ممتلكات الشركة وأموالها. غير أن هذا الانحياز لا يعني أن بوتين قد لا يلجأ إلى التخلص من شويغو وغيراسيموف أيضاً، ولكن ربما بعد أشهر لكي لا يظهر بمظهر من رضخ لمطالب بريغوجين. فلا بد أن بوتين الذي غاب طويلاً عما يدور حوله قد تنبّه أخيراً لكل ما تفوّه به بريغوجين في الساعات الأربع وعشرين التي استغرقها التمرد، ومنه مثلاً إخفاء قادة الجيش عنه الأرقام الحقيقية لعدد قتلى الجيش الروسي في الحرب الأوكرانية، وتقديم معلومات مضللة بشأن سير العمليات العسكرية وغيرها. ويمكن فهم سبب هذا السلوك من قادة الجيش بالمرض الشائع في الأنظمة الفردية وهي أن من يحيطون بالدكتاتور يقدمون له المعلومات التي يرغب بسماعها، ويخفون عنه حقائق لا يرغبون بسماعها. بل إن بريغوجين قد ذهب، في بعض تصريحاته، أبعد من ذلك حين اتهم قادة الجيش والاستخبارات بفبركة تقارير عن استعدادات حلف الأطلسي للهجوم على روسيا من خلال أوكرانيا، لإقناع بوتين بإطلاق حربه، مشككاً بذلك في دوافع تلك الحرب ذاتها. هذا لا يعني طبعاً تبرئة بوتين من المسؤولية، بل تحميل هذه لنمط النظام الذي أسسه ويقوده.
هذه فقط بعض خسائر معنوية من التمرد الذي تم إجهاضه بـ«حكمة» بوتين وبرودة أعصابه، لكن تداعياته على مسار الحرب في أوكرانيا قد لا تكون معنوية فقط بل ربما تتجاوز ذلك إلى خسائر عسكرية وسياسية أكبر مما تكبدته روسيا بوتين إلى الآن.
كاتب سوري
القدس العربي
———————–
القلق الغربي من انهيار الدولة الروسية/ جلبير الأشقر
خلافاً لما قد يتبادر إلى الذهن، في وهلة أولى على الأقل، فإن أهل الحكم في أهم العواصم الغربية، لاسيما عواصم أوروبا الغربية كبرلين وباريس وبدرجة أقل لندن، لكن أيضاً في واشنطن كما في طوكيو، إن أهل الحكم في العواصم المذكورة لا بدّ أنهم تنفّسوا الصعداء إثر ما بدا وكأنه نهاية سلمية للأزمة الخاطفة والخطيرة التي شهدتها روسيا يوم السبت الماضي.
أما سبب تلك المفارقة، فهو ذاته السبب الذي جعل الإدارة الأمريكية تخشى انهيار الدول العربية في «الربيع العربي» عام 2011 وتدعو إلى «الانتقال المنظَّم» للسلطة في بلدان الانتفاضات. كان لهذا السبب آنذاك اسمٌ هو «درس العراق» أي العبرة مما يرون فيه خطأ فادحاً ارتكبته سلطات الاحتلال الأمريكية في العراق عندما حلّت القوات المسلّحة وضعضعت سائر مؤسسات الدولة العراقية سعياً وراء «اجتثاث البعثيين» منها، فانتهى الأمر إلى أن دبّت حالة من الفوضى عمّت البلاد مع تصاعد نفوذ شتى الجماعات المسلّحة غير الحكومية، سواء أكانت متعاونة مع الاحتلال أم محاربة له. وقد غرق العراق إثر ذلك في أتون حرب أهلية وكادت أوضاعه تفلت تماماً من سيطرة المحتلّ، الأمر الذي حدا بهذا الأخير إلى تغيير تكتيكه مع اعتماد «استراتيجية خروج» جرى استكمالها في نهاية عام 2011.
ثم انضاف درسٌ آخر في عام «الربيع العربي» ذاته، عزّز الدرس العراقي، هو ما شهدته ليبيا إثر انهيار نظام القذّافي ومعه الدولة التي قولَبها على خاطره. فبعد أن حاولت العواصم الغربية تسيير الانتفاضة الليبية بحيث تُبقيها تحت سقف التفاوض الأوروبي الذي كان جارياً مع سيف الإسلام القذّافي من أجل تحقيق «انتقال منظَّم» للحكم من أبيه إليه، فلتت الأمور من سيطرتها وأدّى الانهيار إلى استشراء حالة من الفوضى المسلّحة، لا زالت ليبيا تعاني منها حتى هذا اليوم.
هذا وتجدر اليوم إضافة حالة ثالثة إلى حالتي الانهيار المذكورتين، هي حالة السودان، وهي الأقرب إلى ما تهدّد روسيا خلال يوم كامل بدا طويلاً جداً. فإن التشابه بين الحالتين السودانية والروسية جليّ في أن البلدين شهدا كلاهما تعايشاً بين قوات مسلّحة نظامية وجماعة عسكرية غير نظامية رعاها النظام القائم، نظام عمر البشير في السودان ونظام فلاديمير بوتين في روسيا، وذلك من أجل القيام بمهام قتالية في ساحات خارجية يصعب زجّ القوات النظامية فيها تحت أنظار العالم، كما من أجل تشكيل درع إضافي للنظام في حال تعرّضه لمحاولة انقلابية.
وكانت النتيجة في الحالتين أن انقلب السحر على الساحر: فإن قوات الجنجويد في السودان، التي نشأت من خلال حرب الإبادة التي خاضها حكم البشير في دارفور، ثم أعيدت تسميتها «قوات الدعم السريع» ارتدّت على راعيها وشاركت في الإطاحة به إلى جانب الانقلابيين من القوات النظامية، بما سمح بتصاعد أزرها في عموم البلاد على خلفية المواجهة بين العسكر والحراك الشعبي. هذا إلى أن حاول الجيش النظامي ضبطها وفرض انضوائها تحت لوائه، فأبت ذلك وانفجر نزاعٌ مسلّح بين الطرفين لا زال جارياً بكلفة بشرية واقتصادية باهظة، بل وينذر بالاستدامة في حرب أهلية كارثية.
أما في روسيا فإن «خدمة فاغنر العسكرية» تلك القوات الخاصة التي أُنشئت في الحرب التي دارت في شرق أوكرانيا في عام 2014، ثم رأى فيها بوتين أداة لسياسته في سوريا وليبيا والسودان وساحات أفريقية أخرى جنوبي الصحراء، أُعيد استخدامها في غزو أوكرانيا في عام 2022 بما سمح بتصاعد أزرها داخل روسيا بالذات. هذا إلى أن حاول الجيش النظامي ضبطها وفرض انضوائها تحت لوائه، فارتدّت عليه وعلى قائده الأعلى بوتين وكادت تدخل في نزاع مسلّح مع الجيش، كان من شأنه لو تمّ أن يخلق حالة من الفوضى المسلّحة تعمّ البلاد وتؤدّي إلى انهيار الدولة، بما في ذلك تفكّك مكوّناتها القومية والإقليمية.
أما الفارق العظيم بين السودان وروسيا، وهو بيت القصيد، فهو أن الثانية دولة عظمى من حيث القوة العسكرية، بل ودولة حائزة على أكبر ترسانة من الأسلحة النووية في العالم. فبينما يكترث «المجتمع الدولي» بالكاد للمأساة الجارية في السودان، يكفي أن نتخيّل ما كان يمكن أن يحصل لو وقعت روسيا في حالة شبيهة بما حلّ بليبيا أو بالسودان لندرك كم كان قلق العواصم الغربية عظيماً إزاء أحداث يوم السبت الماضي وكم أن أهل الحكم فيها ارتاحوا بالتأكيد لاستتباب الأمور على ما انتهت إليه، وهو خير الخواتم في نظرهم. (صدر يوم الثلاثاء تقريرٌ في صحيفة «فايننشال تايمز» يؤكد ما سبق، بل ويشير إلى أن واشنطن حذّرت أوكرانيا من انتهاز فرصة ما كان يجري في روسيا يوم السبت للتوغل في الأراضي الروسية، خوفاً من مفاقمة الأزمة) ذلك أن الدولة الروسية ظلّت واقفة، بَيد أن نظام بوتين اهتزّ بشكل واضح، بما سوف يُضعفه على الأرجح في الحرب على أوكرانيا كما في مواجهة المعارضة الداخلية الضاغطة من أجل التخلّص من الرجل الذي يحكم البلاد منذ ما يناهز ربع قرن. وهذا ما من شأنه أن ييسّر ذلك «الانتقال المنظّم» للحكم في روسيا الذي تتمناه العواصم الغربية، أما انهيار الدولة الروسية الكامل فكابوسٌ لا يسع أن يتمناه سوى أشدّ الغلاة في العداء لروسيا دولة وشعباً، لاسيما في بلدان المحيط الروسي التي عانت تاريخياً من اضطهاد الإمبراطورية الروسية بأشكالها المتعاقبة تاريخياً.
كاتب وأكاديمي من لبنان
القدس العربي
————————
متوازيات الانقلابات نصف المخبوزة/ مالك التريكي
ثمة اختلاف في تعيين الحدث التاريخي الأدعى للمقارنة، أو المشابهة، مع الحمّى الفاغنرية التي انتابت مؤسسات الحكم الروسي بين 23 و24 يونيو: هل يعود هذا الحدث إلى تاريخ روسيا الحديثة أم إلى تاريخ روسيا القيصرية؟ صحيح أن بوتين، المعروف بولعه بالتاريخ الروسي، قد أدلى بدلوه في المسألة قائلا في خطابه الأول إن ما فعله مقاتلو فاغنر الخونة إنما هو طعنة في ظهر بلادنا وشعبنا، تماما مثلما حصل عام 1917 لما تم الإيقاع بالوطن في أتون حرب أهلية. ولكن المتابعين لاحظوا أن بوتين لم يوضّح: إذا كانت أحداث أواخر يونيو 2023 شبيهة بأحداث 1917، فما هو موقعه هو بالضبط: هل هو في وضع نيقولا الثاني الذي أسقطته ثورة فبراير، أم في وضع كيرينسكي الذي أضعفه تمرد الجنرال كورنيلوف (واعتزامه الزحف على موسكو في أغسطس) قبل أن يزيحه البلاشفة في أكتوبر؟
ومع ذلك فإن الإحالة البوتينية إلى واقعة من أخطر وقائع التاريخ الروسي الحديث تؤكد خطورة ما أحدق بالطاغية شخصيا لمدة ثمان وأربعين ساعة أو يزيد.
أما المؤرخون فمنهم من يرى أن الواقعة التي تقرب، في دوافعها ومغزاها، من هبّة يفغيني بريغوجين وأتباعه من المرتزقة المجرمين والسجناء العتقاء إنما هي الانتفاضة التي قادها ييملان بوغاتشوف من عام 1772 إلى 1774 ضد الإمبراطورة كاثرين (التي اعتلت العرش بعد أن أطاحت زوجها بطرس الثالث عام 1762). كان بوغاتشوف ضابطا في الجيش القيصري وخاض حرب السنوات السبع، من 1756 إلى 1763، والحرب التي انتهت عام 1774 بانهزام الجيش العثماني ووقوع عدد من الأراضي العثمانية، بما فيها شبه جزيرة القرم، في منطقة النفوذ الروسي.
وفي 1773 تزعم انتفاضة ضد كاثرين سرعان ما اتسع نطاقها وشعبيتها. ومن الطريف أنه ادعى أنه بطرس الثالث زوج كاثرين (الذي قتل في السجن بعد أيام من خلعه عن العرش) ولا يعلم إن كان الفلاحون وأهل الأرياف صدقوا زعمه هذا، إلا أنهم ساندوا مطالبه بإلغاء الرق (نظام الأقنان) ووعوده بالإصلاح. لهذا تمكن من تجريد جيش سرعان ما غزا كامل المنطقة بين نهر الفولغا وجبال الأورال، نظرا إلى أنه كان مزودا بالمدفعية ومسلحا أفضل تسليح. ولكن رغم انتصار جيشه في سلسلة من المواقع، فقد اندحر آخر الأمر في أغسطس 1774. وفي 14 سبتمبر غدر به أنصاره من القوزاق وأسلموه إلى عدوه. فما كان من قادة الجيش القيصري إلا أن حبسوه في قفص معدني وأرسلوه إلى موسكو حيث أعدم ثم مثّل بجثته.
وعندي أن الحدث الأنسب للمقارنة والأقرب للموازاة مع هبّة بريغوجين، التي هي أجدر من الغزوة البوتينية بذلك الاسم الشهير: «العملية الخاصة» هو محاولة انقلاب أغسطس 1991. وجه الشبه الأول أن الذي أثار غضب بريغوجين هو قرار وزارة الدفاع، بمباركة من بوتين بكل تأكيد، حل جماعة فاغنر ودمج عناصرها في صلب الجيش؛ أما في 1991 فقد تنصّت الكي جي بي يوم 29 يوليو على مكالمة أخبر فيها غورباتشوف خصمه السياسي بوريس يلتسن (الذي انتخب في يونيو رئيسا للجمهورية الروسية) باعتزامه إقالة وزير الداخلية السوفييتي بوريس بوغو ورئيس الكي جي بي فلاديمير كريوتشكوف. ولهذا كان الاثنان ضمن زمرة الثمانية التي قادها غنادي ياناييف (نائب غورباتشوف) والتي أعلنت يوم 19 أغسطس أنه «نظرا إلى أن غورباتشوف عاجز لأسباب صحية عن أداء مهامه» (بينما كان الرجل في صحة جيدة، باستثناء ألم أسفل الظهر!) فإن «لجنة حكم» قد شكلت للغرض وقررت فرض حالة الطوارئ وحل الأحزاب ومنع المظاهرات وإعادة الرقابة على الإعلام. وجه الشبه الثاني أن الاستخبارات الأمريكية علمت باستعداد فاغنر للتحرك أسبوعين قبل الحدث؛ أما عام 1991 فقد أخبر بوش غورباتشوف منذ 20 يونيو (أي قبل شهرين) بأن مؤامرة تحاك ضده.
وجه الشبه الآخر أن في الانقلاب في الحالتين تردّدا وفتور عزم، لهذا أتى «نصف مخبوز». فقد كان بريغوجين ينوي الزحف على موسكو، ثم إذا بمجرد مهاتفة من لوكاشينكو تكفي لتثبيطه! أما عام 1991 فقد كان مظهر المنقلبين في المؤتمر الصحافي عجيبا: كانت يدا ياناييف ترجفان، وكانت أجوبته متناقضة حتى أن الصحافيين تجاسروا على السخرية منه على الملأ. ولا عجب، فقد كان زعيم الانقلاب مخمورا!
كاتب تونسي
القدس العربي
———————-
«الفقاعة» و«الدولة الحديدية»: فاغنر في مواجهة روسيا/ إبراهيم نوار
تثير المواجهة المثيرة بين جماعة مسلحة غير حكومية مثل «فاغنر» ودولة المنشأ «روسيا» علامات استفهام كبيرة، حول حدود دور مثل تلك الجماعات، ليس في العلاقات داخل النظام الدولي فقط، ولكن أيضا في العلاقات السياسية داخل الدولة الواحدة، خصوصا في فترات أو مراحل تآكل دور الدولة، وغيرها من الفترات والمراحل المفصلية، مثل حالات الحروب، وبناء السلام، وإعادة بناء الدولة، ومراحل الغليان السياسي. وليس من الصعب أن نشير إلى أن تنوع دور الجماعات المسلحة غير الحكومية في منطقة الشرق الأوسط، يقدم لنا ثروة من الوقائع والأنساق والعلاقات والتطورات الدرامية، التي تمكننا في حال دراستها بعناية أن نستخلص منها الكثير من الدروس والعبر. وليس من قبيل الصدفة أن تكون «فاغنر» واحدة من هذه الجماعات في الشرق الأوسط؛ فهي موجودة في السودان وليبيا وتشاد، ولعبت دورا محوريا في سوريا، كما إنها على علاقة قوية بجماعات محلية من جنسها.
في الشرق الأوسط تمكنت جماعات مسلحة غير حكومية من إسقاط حكومات، كما حدث في ليبيا عام 2011، وكما فعل الحوثيون في اليمن عام 2014. كما استطاعت جماعات مسلحة غير حكومية أن تصبح فاعلا سياسيا يتحكم في عملية اتخاذ القرار للدولة، مثل تنظيمات «الحشد الشعبي» في العراق، وتنظيم «حزب الله» في لبنان. وفي حالات أخرى تلعب التنظيمات المسلحة غير الحكومية دورا رئيسيا في قيادة حركات انفصالية تهدد وحدة الأراضي الوطنية للدولة، مثلما حدث مع «داعش» في العراق عام 2014، وما حاولت منظمة «أنصار بيت المقدس» أن تفعله في شمال سيناء في مصر عام 2014، وما يحدث في الصحراء المغربية، وفي المناطق الكردية في تركيا والعراق وسوريا.
كما أن الصراع الحالي في السودان يكشف عن الدور الذي يمكن أن تلعبه الجماعات العسكرية غير الحكومية، وشبه الحكومية في إضعاف الدولة، وتسهيل تقسيمها إلى أقاليم متناحرة. وتكشف تجارب الشرق الأوسط أن التساهل في تطبيق مبدأ حصر استخدام السلاح في أيدي الدولة، أو ضعف الدولة إلى درجة انتشار استخدام السلاح بواسطة جماعات غير حكومية، يضع الأساس لصراعات طويلة، تترافق مع خسائر كارثية، مثلما حدث ويحدث حاليا في دارفور والخرطوم.
لكن ما حدث يوم 24 يونيو في روسيا، عندما سيطرت قوات «فاغنر» على مدينة «روستوف» في غرب روسيا، حيث يوجد المركز الرئيسي لقيادة العمليات العسكرية الروسية في أوكرانيا، ثم انطلقت منها قوة مدججة بأسلحة ثقيلة، تشمل دبابات وعربات مدرعة ومدفعية ثقيلة، بصحبة تشكيلات من الجنود، صوب العاصمة الروسية موسكو، كان في حقيقة الأمر يمثل مشهدا فريدا في تاريخ الدولة الروسية، ربما لم نشهد مثله، من حيث مكوناته، وكل الظروف المحيطة به، منذ المواجهة التاريخية بين الجيش الأحمر بقيادة «البلاشفة» و»الجيش الأبيض» المكون من تحالف واسع ضم «المناشفة» وأنصار النظام القيصري في نهاية الحرب العالمية الأولى. ورغم أن قوات «فاغنر» توقفت على بعد حوالي 100 كم من العاصمة الروسية، بعد اتفاق بوساطة ألكسندر لوكاشينكو رئيس جمهورية روسيا البيضاء، أي قطعت مسافة تقرب من 900 كم، من دون قتال تقريبا، فإن موسكو كانت تحت تهديد فعلي. وهو ما أدى إلى اتخاذ إجراءات احترازية تضمنت تفعيل حالة الطوارئ.
الخلافات بين فاغنر والجيش
تأسست فاغنر كشركة أمنية خاصة، لممارسة أنشطة خارجية، خارج نطاق القانون، وإن كانت تتمتع بنوع من الحماية الخفية غير المعلنة من الدولة، ومنذ تأسيسها عام 2014 لعبت أدوارا مهمة في شبه جزيرة القرم، بعد ضمها إلى روسيا، وفي سوريا منذ عام 2016، وفي بلدان أخرى في افريقيا أهمها جمهورية افريقيا الوسطى، وجمهورية مالي، وتشاد، والسودان، وجنوب السودان. وكان نشاط «فاغنر» في سوريا ثم افريقيا على وجه الخصوص، خطوة كبيرة لتوسيع مجال الأنشطة التي تقوم بها في النواحي الاقتصادية، بدءا من حماية آبار النفط في شمال شرق سوريا، إلى حماية مناجم الذهب والتنقيب عنه في افريقيا الوسطى والسودان.
وعلى الرغم من أن معظم الجماعات المسلحة غير الحكومية تحصل على مساعدات مباشرة وغير مباشرة من أطراف أخرى محلية أو خارجية، إلا إنها بوجه عام تسعى إلى تحقيق أقصى قدر ممكن من الاستقلال المالي، حتى تكون قادرة على تمويل نفسها بغير حدود. وقد لاحظنا في تشكيل تنظيم «داعش»، أن أحد أركان بقائه كان يتمثل في وفرة مصادر التمويل الذاتي، مثل الضرائب والرسوم والأنشطة التجارية وبيع النفط، وسرقة البنوك والمتاجر. وقد حققت مجموعة «فاغنر» استقلالها المالي من خلال أنشطة قانونية، مثل أعمال الحراسة والحماية والتدريب، وغير القانونية مثل التنقيب عن الذهب واستخراجه وبيعه عن طريق شبكات تهريب تضم حكومات، تمارس أنشطة تبييض الأموال والثروات المنهوبة، إضافة إلى تجارة السلاح، وتهريب الأفراد والمخدرات، وتقديم الخدمات غير المشروعة مثل تنفيذ الاغتيالات.
الحصول على غنائم
بعدما تم استدعاء «فاغنر» للمشاركة في القتال في أوكرانيا، لعبت دورا رئيسيا في السيطرة على منطقة «دونباس»، كما لعبت أخيرا الدور الرئيسي في معركة «باخموت»، وتسببت المعركة الأخيرة، في انفجار توتر كان قائما ومتصاعدا بالفعل بين نظامين للعمل العسكري، من الصعب أن يتعايشا في مكان واحد. ويبدو لي من متابعة الأحداث والتعليقات والهوامش المرتبطة بها، أن قوات فاغنر حصلت على وعود بمكافآت سخية في حال اقتحام «باخموت» وتأمينها، وتضمنت المكافآت كذلك توزيع أوسمة ونياشين على المقاتلين الذين أظهروا كفاءة متميزة في أعمال القتال. وبعد دخول «باخموت» فإن ضباط الجيش والقوات الرسمية هم الذين حصلوا على التكريم، وليس «فاغنر» حسب رواية بريغوجين، وهو ما أثار غضبه، وغضب جنوده عليه، وربما اعتاد مقاتلو «فاغنر» في عملياتهم، سواء في سوريا أو افريقيا الحصول على مكافآت كبيرة في نهاية كل معركة، وربما على «نصيب من الغنائم»، وهو ما لم يحدث بعد «باخموت»؛ فاستغل بريغوجين غضب الجنود، وألقى اللوم على الجنرال شويغو وزير الدفاع، والجنرال غراسيموف رئيس الأركان، قائد القوات المشتركة المحاربة في أوكرانيا، واشترط إبعادهما. وربما ترك ذلك الأمر انطباعا بأنه أراد لنفسه أحد المنصبين، باعتباره بطل معركة دونباس، ومعركة «باخموت». وقد بالغ بريغوجين بشدة في تقدير قوته، وقرر دخول اختبار مستحيل، تراجع عنه في 24 ساعة، في خسارة ساحقة، تعني صراحة إبعاده عن روسيا، وحل قواته، وربما تصفية شركته داخليا، وإعادة قواته التي لم تتورط في التمرد إلى معسكراتها الأصلية في الخارج. وهناك سبب آخر ينبغي عدم تجاهله، هو أحد أهم أسباب الخلاف بين بريغوجين، وكل من شويغو وغراسيموف، يتعلق بتحكم الجيش في إمدادات الأسلحة إلى قوات «فاغنر»، من حيث النوع والكمية. ومن المعروف عسكريا أن أهم مصادر قوة الجماعات المسلحة غير الحكومية، تتمثل في حرية الوصول إلى الأسلحة. ولما كانت هذه الحرية مقيدة بواسطة الجيش، على عكس ما اعتادت عليه «فاغنر» في افريقيا، فإن وجود غراسيموف على رأس القيادة، جرد «فاغنر» من حرية الحصول على الأسلحة التي تريدها، وهو أمر يعلمه فلاديمير بوتين ويفهم مبرراته.
إسقاط إمبراطورية «فاغنر»
في نهاية الأمر تحولت «فاغنر» إلى مجرد فقاعة صغيرة في أوكرانيا، لأنها أقدمت على تحدي «الدولة الحديدية»، ولا شك في أن عدم اعتراض قوات «فاغنر» وهي في طريقها إلى موسكو كان يعكس عاملين: الأول هو اطمئنان بوتين إلى أمن وسلامة موسكو، وأن قواته تستطيع تصفية القوة التي تحركت صوب العاصمة بأقل قدر ممكن من الخسائر. والثاني هو أن بوتين لم يغامر بالدخول في حرب داخلية في روسيا، بينما كييف تستعد لشن هجوم مضاد جديد بعد فشل هجومها الأول. في الحرب، لضمان التعرض لأقل قدر من الخسائر، وتحقيق أكبر قدر من النجاح، يتعين على القيادة تركيز المجهود الرئيسي في اتجاه محدد، إما تحقيق هدف محدد، أو منع العدو من تحقيق هدف محدد. وأظن أن بوتين نجح في تركيز المجهود الرئيسي للقوات الروسية في اتجاه صد الهجوم المضاد الأوكراني، وتعزيز مواقع قواته على خطوط المواجهة. الدولة الحديدية في روسيا تمكنت من أن تفقأ فقاعة «فاغنر» داخليا، لكن هذه الفقاعة تحتاج إلى مواجهة حاسمة في بلدان مثل السودان وليبيا وتشاد وافريقيا الوسطى ومالي، فهل يمكن لتلك الدول، تحت بعض الشروط، إثبات أن «فاغنر» وغيرها من الجماعات العسكرية المسلحة غير الحكومية، هي مجرد فقاعات صغيرة، يمكن للدول المعنية، حتى إن كان البعض منها مجرد فقاعة كبيرة، أن تبتلع الفقاعة الصغيرة وتقضي عليها؟ إمبراطورية «فاغنر» لم تسقط بعد.
كاتب مصري
القدس العربي
————————
طبّاخو السُّم في موسكو/ محمود الريماوي
لم يدم تمرّد يفغيني بريغوجين، طبّاخ الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، 24 ساعة سرعان ما مضت وانقضت، غير أن بواكيره غير المعلنة تعود إلى بضعة أشهر، وجدت تتويجا لها في العودة بقواته، من الأراضي الأوكرانية، بغير استئذان، إلى الأراضي الروسية والزحف من مدينة روستوف إلى موسكو من دون أن يعترضها معترض. قاد الرجل منذ العام 2014 فرقة فاغنر التي أقيمت على غرار “بلاك ووتر” الأميركية، وباستلهام هذه الأخيرة، وذلك جرياً على طريقة روسية في استلهام ما هو سيئ في النظام الأميركي، وبمباركة من الرئيس بوتين، وبغير أن تكون للرجل خبرة عسكرية. وكانت موسكو تزهو بما تصنعه مجموعته التي تضم مرتزقة في الأساس، في بلدانٍ مثل سورية وليبيا والسودان ومالي وأفريقيا الوسطى، من خوض الحرب بلا قواعد، وتحقيق أهداف موسكو في مناصرة المستبدّين ونهب ما يمكن نهبه من ثروات الآخرين، وبغير أن تتحمل تبعات ارتكاباته. وحين طالت معركة الاستيلاء على باخموت الأوكرانية، وخسرت القوات الروسية أعداداً مهولة من جنودها، تفتّق ذهن بريغوجين عن فكرة زجّ المساجين في المعركة مع إغرائهم بما يشبه لعبة قمار خطيرة: من يبقى حياً بعد انتهاء المعركة ينال حرّيته، ومن يقضي فإنه يذهب شهيداً، وبالطبع، من دون أن يكون لهم رأي في الصفقة التي أبرمت من جانب واحد. غني عن القول إن هذه الفكرة تخالف المبادئ القانونية، فالسجين بحكم القانون يقضي فترة عقوبة في محبسه، وينال بعدئذ حريته، ولا يمكن توقيع عقوبة أخرى عليه.
ولا مفر من الاستطراد هنا، فقد أصدر الكرملين، قبل أيام، قرارا يتيح ما سُمّي تجنيد المساجين، وهو قرارٌ يستكمل ما بدأه الطبّاخ من زجّ السجناء والسجينات قسرياً في معركة لم يقرّروا بملء إرادتهم خوضها. وتلا ذلك قرار آخر من أعلى المستويات في موسكو، تم فيه رفع سن التجنيد إلى 70 عاما، بما يؤهل بعض المقيمين في دور المسنّين للانضمام إلى التجنيد. ولما قيل إن معركة باخموت انتهت بالنصر من غير أن تظهر فيديوهات عن حال المدينة وتموضع القوات الغازية فيها، فقد عنى النصر تهديم المدينة على طريقة تهديم غروزني الشيشانية في مطالع هذا القرن، وتشريد غالبية سكانها وتعدادهم كان 70 ألف نسمة. وقد شعر حينها طبّاخ بوتين بأن طبخته نضجت، وأنه قد حقّق نصرا عسكريا مؤزّرا لم يتأت لوزير الدفاع، سيرغي شويغو، ولرئيس الأركان، فاليري غيراسيموف. وقد تعرّض المسؤولان الأرفع رتبة في المؤسّسة العسكرية إلى وابل من الشتائم المقذعة من بريغوجين، وأطلق بحق كل منهما، وعلى مدى أسابيع، اتهامات تبدأ من الخيانة، وحتى قبل أن يبلغ الرجل مشارف انتصاره المهزوز هذا. وقد ابتلعت مؤسّسة الحكم هذا الخروج السافر عن القوانين التي تنظم احترام التسلسل الهرمي للمراتب العسكرية، حتى أن الرجل لم يوفر سيّده بوتين حين أطلق عليه ذات مرة وصف “الجد السعيد”، قاصداً بذلك التقليل من مدى إدراك سيد الكرملين ما يحدث من حوله وتصويره أنه هانئ بغفلته.
على هذا النحو، بدأ التمرّد قبل أسابيع من دون أن يوضَع حدٌّ له. وفي تفسير ذلك أن القيادة كانت بحاجةٍ إلى المتمرّد، بما تمثله قواته من كتلة بشرية قابلة للتضحية بها، وتشكّل درعاً تحمي القوات النظامية. كما مثلّت تهجّمات الرجل فرصة للضغط على القيادة العسكرية العليا، كي تحسّن أداءها، مع إرجاء محاسبة الرجل على تجاوزاته إلى ما بعد انتهاء “العملية العسكرية الخاصة”، ولا شك أنها عملية خاصة جدا، إذ تستغرق من الزمن سنوات. ولهذا قيل في دوائر موسكو إنه لم يتم وضع حد للرجل في الوقت المناسب. وفي المحصلة، بدا طبّاخ بوتين في مرآة نفسه قائداً عسكرياً مغواراً وبالفطرة، يبزّ القادة العسكريين خرّيجي الكليات العسكرية وأصحاب السجل العسكري الحافل في الحروب والنزاعات المسلحة. وإذ سبقت تمرّداته التمرّد الذي قاده محمد حمدان دقلو (حميدتي) قائد مجموعة التدخّل السريع في السودان، فإنه يسهل العثور على المشتركات في سلوك الرجلين، فكلٌّ منهما تمرّد على سيده وقائده، وقد تميز حميدتي في ذلك بأمرين: أنه تمرّد مرّتين، على سيده عمر البشير، ثم على رئيسه في مجلس السيادة، عبد الفتاح البرهان. وأنه لم يكتف بإعلان التمرّد، بل ارتقى به إلى محاولة انقلابٍ عسكريٍّ على العسكر… لكن مع حفظ الفوارق، فإن تمرّد متزّعم فرقة فاغنر اتّجه إلى دولة حديدية ذات جيش عرمرم، وليس إلى دولة ضعيفة كما الحال في السودان. غير أن المشترك الكبير بين الحالتين أن إنشاء المليشيات قد تم من الدولة، إما لعدم الثقة الكافية بالقوات المسلحة، كما هو حال البشير في السودان الذي سمح بإنشاء قوات التدخل السريع، كي تتدخّل على جناح السرعة، إذا ما تعرّض مركزه للخطر. بينما في حال روسيا، أريد التذاكي بإنشاء مجموعة شبه عسكرية (شركة عسكرية خاصة)، كي تقوم بما لا يسع القوات النظامية فعله بغير مساءلة، كالاستيلاء على مناجم الذهب بالتعاون مع حميدتي في السودان، أو التنكيل بمن يعترض طريقهم كما في أفريقيا الوسطى ومالي، أو الوقوف إلى جانب طرف طامح للسلطة يسعه تقديم خدمات لموسكو، كما في حالة دعم الجنرال خليفة حفتر في ليبيا. وبهذا، سمح القائمون على الدولة في الحالتين بانشاء فرق مسلحة موازية للجيش، بما يمسّ من مكانة الدولة ومؤسّساتها ولمصلحةٍ يرتئيها النظام لنفسه، وقد سبق لسورية أن شهدت ذلك بصورة فاقعة بتشكيل فرق ومليشيات الشبّيحة التي حملت، في ما بعد، تسمية جيش الدفاع الوطني.
في ضوء ما تقدّم، كانت ظاهرة بريغوجين صنيعة للحكم في موسكو، وقد ارتدّ السحر فيها على الساحر، وقد استغرق تمرّد صاحبها أزيد من مائة يوم، وشكّل صدعاً في تماسك النخبة السياسية والعسكرية الحاكمة، وألقى بذور التمرّد في أجواء ساخنة محتقنة، ونستذكر هنا أن 52 مدينة روسية قد شهدت تظاهرات احتجاجية (قبل سحقها) ضد الحرب على أوكرانيا، وهي الحرب التي سخر طبّاخ بوتين من مبرّراتها الرسمية القائلة إن أوكرانيا، ومن ورائها حلف الناتو، كانت تعدّ لعدوان على روسيا، ناعتاً تلك المبرّرات بأنها “قصة جميلة”. وقد قيل في المأثور إن طبّاخ السُّم يتذوقه، وقد تبين أن في موسكو أكثر من طبّاخ، وكل منهم كان يطبخ لنفسه لا لغيره.
العربي الجديد
————————–
تمرّد فاغنر الذي أظهر المرض الروسي/ مالك ونوس
لم تتأخّر التوقعات كثيراً بشأن توجهات قائد قوات فاغنر الروسية الخاصة، يفغيني بريغوجين، هذا الجنرال الغاضب دائماً بسبب تعامل القيادة معه ومع قواته، واعتبارهما درجة ثانية، على الرغم من الخدمات الجمّة التي قدّمها للكرملين في أوكرانيا وأفريقيا وسورية، وغيرها من مناطق التمدّد الروسي الجديدة. من الطبيعي أن تنعكس فترة السنة ونصف السنة من قتال القوات الروسية العبثي في أوكرانيا، على هذا البلد، وتجعل تداعيات غزوها إياه تظهر إلى العلن تباعاً، وهي التي ظهرت بدايةً على شكل انتكاساتٍ ألمّت بالجيش والاقتصاد الروسيين. ولا يأتي تمرّد قوات فاغنر على الكرملين، ليشير إلى ما يمكن أن يؤدّي إليه اعتماد دولة بحجم روسيا على مليشيا من المرتزقة، بقدر ما يشير إلى الضعف التكويني الذي يؤدّي بهذه الدولة إلى استمرار في الاعتماد على المليشيا.
نظراً إلى الإجراءات السريعة التي اتّخذتها الحكومة المركزية في موسكو وغيرها من المناطق، والتي شملت إعلان تفعيل نظام مكافحة الإرهاب في العاصمة، وتقييد الحركة والنقل على الطرقات العامة وفي نهر موسكو، ثم التي تبعها انتشار قوات في العاصمة وإقامة حواجز فيها وإرسال تعزيزاتٍ أمنية مكثفة إلى مداخلها، يمكن الاستنتاج أن القيادة عرفت أن ثمة تهديدا جدّيا. وبعد الكلمة التي ألقاها بوتين واتهم فيها فاغنر بخيانة روسيا، ربما لا يكون لدى موسكو مخاوف من قوات بريغوجين وحدها، بل من المحتمل أن لديها شكّا في إمكانية انضمام قوات أو جنرالات غاضبين آخرين إلى قواته، ومن إمكانية اتفاقهم على الترتيب مع “فاغنر” لمرحلة ما بعد إطاحة القيادة في الكرملين، والتي أفصح عنها بريغوجين، عندما قال: “بوتين أخطأ، وقريباً سيكون لنا رئيس جديد”، غير أن وساطة بيلاروسيا تاليا هدّأت من كل هذه المخاوف، وأتاحت أفقا لتسوية مرتقبة، وأوقفت انزلاقا إلى اقتتال واسع.
هل من الممكن أن يكون قد غاب عن بال بوتين أن أي جيش أو مليشيا توظفها في حربك الخارجية ستعود إلى الوطن وفي جعبتها مطالب كثيرة تتناسب مع حجم التضحيات التي قدّمتها؟ مطالب تنحصر، في حالاتٍ كثيرة، في المطلب الأوحد؛ كرسي الحكم الذي تعدّه حقها بعد ما قدّمته للبلاد. ولكن، في حرب أوكرانيا اقترف بوتين الخطأ الذي لا يمكن أن يُغتفر، وهو جعل هذه الحرب تتواصل وتستمرّ لتصل إلى المدى الذي يجعل تداعياتها تفوق التوقّعات الذي وضعها هو ومن شاركه في هندستها. وفي حالته هذه، فسحت إطالة الحرب التي لم تحقّق أي نتائج تُذكر، المجال لظهور الغضب الذي وإن كنا لم نره إلا في حالة بريغوجين، فذلك لا يعني أنه ليس مكبوتاً لدى جنرالاتٍ آخرين، يخافون إن أظهروه أن يقع عليهم غضب الكرملين الذي يعرفون حجمه والآلام التي قد يسببها لهم.
كانت رسائل بريغوجين المتلفزة، الغاضبة وشبه اليومية، التي كان يرسلها خلال المعارك في أوكرانيا تلخيصا لحال روسيا والجيش الروسي، وكذلك لسخطه على القيادة، والذي تطوّر حتى وصل إلى مرحلة التمرّد عليها. ولم تكن التحذيرات والشكايات التي كان يبثّها سوى إشارة إلى الوضع الحقيقي الذي بات هذا الجيش يعيشه والمعاناة التي عايشها، والتي عكست حقيقة الدولة الروسية، ومكامن الضعف فيها، وحقيقة الحرب التي ربما أراد منها الكرملين أن تكون سبيله لتصدير أزماته أو محاولة التخلّص منها. ولم يقيّض لأحدٍ سابقاً أن انتقد القيادة الروسية بالجرأة التي فعلها بريغوجين وهو يتحدّث عن الفساد في توجيه السلاح لقواتٍ روسية ومنعه عن أخرى. وقد أراد أن يوحي، في رسائله، وكأن له ثقلا يوازي ثقل القوات الأساسية عسكرياً، وثقل القيادة في الكرملين سياسياً حين أظهر نفسه الوحيد القادر على انتقادها. وجاءت رسائله لتؤكد الأنباء التي كانت تخرج بين الفينة والأخرى حول نقص السلاح من قذائف وصواريخ وطائرات من دون طيار، ما يفضح الموقف في روسيا، ويثير الجدل حول قرار الحرب الذي اتخذته القيادة، ثم قرارها في مواصلتها على الرغم من العجز الذي باتت عليه قواتها، والضعف الذي أصاب اقتصادها بسبب العقوبات الغربية والحصار المفروض عليها بسبب الغزو والاستنزاف الذي يتطلبه استمرار المعارك.
تبيّن بعد غزو أوكرانيا أن روسيا تعاني أزمةً تكوينية، تكمن أسبابها في القيادة الديكتاتورية التي تحكّمت بالبلاد أكثر من عقدين، وصادرت القرار السياسي والاقتصادي طوال هذه الفترة، وأسّست لدكتاتوريتها التي حرصت على منع أي صوت معارض. من هنا، تبيّن أن الاقتصاد الروسي، والمصنف ريعياً، لم يستطع التطوّر عبر توظيف فائض الثروة التي كانت تتراكم بفضل تصدير النفط والغاز والسلاح في التنمية المستدامة، وتنويع مصادر الدخل عبر صناعاتٍ متطوّرةٍ يملك الاقتصاد الروسي البنية التحتية والإمكانات البشرية والمادّية للتفوّق فيها. وإذا كانت لدى الاقتصاد الروسي تلك القابلية قبل الحرب، فإن هذه القابلية قد انعدمت بعدها، ووصل هذا الاقتصاد إلى نقطة اللاعودة مع ظهور إلى التمرّدات العسكرية على يد بريغوجين، والتي يمكن أن تظهر لدى جنرالات آخرين في أي لحظةٍ إذا ما لمسوا ضعفاً لدى بوتين.
ولكن، ألا يحمل خطاب بوتين الذي تحدّث فيه عن التمرّد ضعفاً؟ في الخطاب قلقٌ كبير بدا واضحاً حين تحدّث عن التمرّد الذي حصل سنة 1917 ضد القيصر، وهو التمرّد الذي تكلّل بانتصار ثورة أكتوبر. فهل بوتين على قناعة أن نظامه ضعيف، ويمكن لأي حركة تمرّد منظّمة أن تهزّه أو تُحدث فوضى كبيرة أو حتى تؤدّي إلى سقوطه؟ وفي كل الحالات، لم يكن للأمور أن تصل في روسيا إلى ما وصلت إليه هذه الأيام، وتظهر فيها قوتان عسكريتان متعارضتان، إلا بسبب الدكتاتورية التي منعت أي صوتٍ معارض للحرب، وقبل ذلك، أي صوتٍ معارض لأسلوب الحكم الذي أضعف روسيا واقتصادها، وجعلها على شاكلة الخطاب المهتز الذي خرج به بوتين حين أقرّ بالخطر.
العربي الجديد
————————–
قوات فاغنر صورة بوتين ونظامه/ محمود الوهب
لا يمكن فهم ما جرى في روسيا يوم السبت 24 تموز 2023 دون الرجوع إلى العهد البوتيني، ومحاولة قراءة أبعاده وعمقه. فما جرى يعكس طبيعة ذلك النظام القائم منذ ثلاث وعشرين سنة، وإن ارتبط مجيئه بالعمل على استعادة قوة الاتحاد السوفييتي السابق ومجده.. دون تحديد الطريق إلى ذلك أو معرفته.. فما الذي كانت تحتاجه روسيا، وريثة الاتحاد السوفييتي الذي انهار عام 1991؟! وهل كان بوتين قد فهم فعلاً ما يجب عليه ونظامه أن ينطلقا منه، أم إنه لم يقتنع بالحقائق الكثيرة التي أكَّدها العلماء السوفييت في أبحاثهم عن سبب الانهيار؟! ودونما الدخول في التفاصيل، وهي كثيرة ومتشعبة، يمكن إيجازها بكلمة واحدة هي: الديمقراطية التي افتقدها الاتحاد السوفييتي على مدى سبعين عاماً، وكانت سبباً في انهياره رغم قوته العسكرية/النووية التي خلقت نوعاً من توازن إيجابي بين عالمين متناقضين في التوجه والأساليب..
فالديمقراطية التي ترسم أسس التعبير عن الحريات بمعانيها كافة.. وعن غايتها الإنسانية في حياة الشعوب وإبداعها، وفي تنمية بلدانها وتقدمها.. فقد غابت كلياً على مدى الحكم السوفييتي لتسبب في النهاية تخلفاً في أهم سمات حضارة اليوم، وهي التكنولوجيا الرفيعة.. وهذا ما كشفه علماء الاتحاد السوفييتي الذين انبروا لدراسة أسباب السقوط المدوي لدولتهم وتفككها عام 1991، ودعوا إلى تجاوزه، لكنَّ الرئيسين اللذين جاءا بعد الانهيار وهما: بوريس يلتسين، وفلاديمير بوتين، لم ينتبها إلى ذلك، وبالتالي لم يحققا الإصلاح الذي سعى إليه ميخائيل غورباتشوف صاحب فكرة “البريسترويكا” (إعادة البناء) إذ لم يسمح له الانهيار الدراماتيكي الذي بدا وكأنه كان ينتظر إشارة ما..
وحين تسلم بوريس يلتسين أمين منظمة موسكو للحزب الشيوعي قيادة روسيا، وكان أن أفشل انقلاب الضباط الأربعة على غورباتشوف، لكنه لم يستطع إيقاف الفوضى التي سادت خلال سنوات حكمه العشر، وأسفرت عن تخريب معظم البناء السابق، وسرقة معامله وأدواته ومواده ممن عرفوا بالفئات الأوليغارشية..
استعان يلتسين بـ “بوتين” رجل المخابرات، وأحد رجال الدولة العميقة المنهارة.. ولم يكن ليؤمن بغير مصدر وحيد للقوة هو القمع دون النظر إلى روح العصر، فلم يلتفت إلى استنتاج العلماء بل حاول تقمُّص شخصيات روسية قوية أمثال “بطرس الأكبر”، و”ستالين” اللذين ساهما بتوسع دولة روسيا وبسط نفوذها وأحياناً هيمنتها الكاملة على دول الجوار.. ولم يدرك أن ستالين عندما تقاسم مع روزفلت وتشرشل في مؤتمر يالطا بتاريخ 4- 11- 1945 كان الجيش الروسي قد علق العلم الأحمر فوق “الرايخستاغ” (البرلمان الألماني) بعد أن فقد نحو 26 مليون قتيل في الحرب العالمية الثانية.. كذلك لم ينتبه إلى أنَّ بطرس الأكبر كان يرى في أوروبا الغربية نموذجه، إذ “أراد تغيير أذواق الروس وتعريفهم بالتراث الثقافي الأوروبي.. فأمر رجال حاشيته ومستشاريه الملتحين بحلقها (تقليداً للأوربيين)، فلمَّا امتعضوا، استدعى اثنين من الحلاقين وراح يقصُّ اللحى بنفسه.. كما رعى بطرس الأكبر إرسال الطلبة الروس إلى الجامعات الأوروبية”، كان ذلك في القرن الثامن عشر..
وعلى العكس مما تقدَّم، عمل بوتين على التخلص من فوضى حكم سابقه، بـ “عقد صفقة كبرى مع الطبقة الأوليغارشية (لصوص الدولة الكبار)” بين أعوام 2000 و2004 وكان جوهر الصفقة أن ترك لهؤلاء معظم ممتلكاتهم وسلطاتهم، مقابل دعمهم له من خلال حزب روسيا الموحدة.
وبذلك يكون بوتين قد أعاد سيرة الاتحاد السوفييتي على نحو أكثر عبثية ومهزلة، إذ أخذ يلعب بالديمقراطية، ويخدع الشعب مستعيناً بأجهزة الأمن، وكان عند الحاجة يلجأ إلى الاغتيالات.. إذ “اغتالت أجهزته الأمنية الصحفية آنا بوليتكوفسكايا، لأنها كشفت عن حال الفساد في الجيش الروسي وسلوكه في الشيشان، فقُتِلت في بهو مبنى شقتها يوم 7 أكتوبر 2006، وهو يوم ميلاد بوتين. وأثار مقتلها انتقادات دولية، واتهام بوتين بعدم حماية وسائل الإعلام المستقلة في البلاد. ما دعا بوتين نفسه للقول إن وفاة الصحفية سببت للحكومة مشكلات أكثر من كتاباتها”.
ما حدث في روسيا البوتينية أمر كثير الحدوث في بلدان العالم الثالث، (بقايا النظم الإقطاعية) وربما يكون النظام السوري نموذجه، فهو الأكثر مهزلة سواء في تزوير الانتخابات، أو من خلال الترشح الصوري لبعض عملاء الأجهزة الأمنية الذين لا يخجلون من أنفسهم..
لا شك في أن انفجار يفغيني بريغوجين قائد قوات “فاغنر”، على ذلك النحو أمر مثير للدهشة ويدعو للسؤال عن خلفياته! وسواء تعلق الأمر بوزير الدفاع، أو برئيس الأركان أو بالرئيس بوتين بالذات. فهو يكشف عن عمق أزمة نظام الدولة الروسية ويمكن الإشارة إليها بما يلي:
أولاً- أنَّ “يفغيني بريغوجين” يعرف “البير وغطاه” وهو الذي يقدِّم الدم ليحقق الانتصار لبوتين، وقد خذله وزير الدفاع، ويبدو أنه لا يريد أن يرتبط أي نصر بالميليشيا، بل بالجيش الذي يقوده! حتى وإن كان على حساب تقدُّم الجيش الأوكراني بردِّه المعاكس، وهذا ما حدث بالفعل..
ثانياً- إن الحرب الروسية على أوكرانيا كشفت عورات النظام السياسية والعسكرية والاقتصادية ففي السياسة يعاني نظام بوتين الكثير من المشكلات.. فمن معارضات حقيقية تستمر رغم شدَّة القمع.. فهو يعتقل المعارضين ويتخلص منهم بالاغتيال أو التسميم.. ولا يخجل من إنزال مؤيدين مدفوعي الأجر تأييداً له، تماماً كما النظام السوري.. أما من الناحية العسكرية فيكفيه أنه غرق في هذا المستنقع الاستنزافي منذ نحو خمسمئة يوم دون تحقيق أي انتصار يعتَدُّ به.. أما الاقتصاد الروسي فلم يزل متخلفاً عن اقتصاديات معظم الدول الكبرى رغم امتلاك روسيا للكثير من ثروات النفط والغاز والمعادن الثمينة وبيع السلاح الذي يأتي بعد الولايات المتحدة الأميركية..
ثالثاً- إن الأزمة التي فجَّرها يفغيني بريغوجين مفتوحة على المدى المجهول، فلا أحد يقدِّر نتائجها، فهي تعكس واقع الدولة الروسية وضعف بنيتها، فعلى الرغم من قوتها العسكرية الفائقة، وغنى ثرواتها الطبيعية، لم تستطع السلطات التي تناوبت عليها خلال مئة عام بناء دولة عصرية تستثمر إمكانات شعبها..
أخيراً لعلَّ نتائج الأزمة منوطة بأمرين متداخلين فيما بينهما. أولهما تأثر الأوضاع الداخلية القابلة للانفجار بما حدث، وثانيهما نتائج حرب بوتين على أوكرانيا التي تلوح بغير ما كان يفكر به بوتين ويحلم..
تلفزيون سوريا
————————
الرّوح الرّوسية الميتة وصدمة «الماتشو»/ وسام سعادة
«الشعب الروسيّ اشتراكي بالغريزة وثوريّ بالفطرة». كلمات ميخائيل باكونين (1814 ـ 1876) أحد أبرز وجوه الحركة الثورية الروسية والأوروبية في القرن التاسع عشر، والمنظّر الأبرز للفوضوية أو اللاسلطويّة، والندّ اللدود لكارل ماركس في زمن «الأممية الأولى» يصعب تلمّسها في حال الرّوس اليوم.
لكن الرّوح الروسيّة المتمرّدة التي قارعت الإمبراطورية القيصرية إلى أن أطاحت بها، في ثورة فبراير 1917، كان يمكنها أن تزوّد كلمات باكونين هذه برصيد دلالي حقيقي، لمدة غير قصيرة. اذ تمثّلت هذه الرّوح بالنارودنية (الشعبيّة الرّوسيّة) تيارها الأبرز في القرن التاسع عشر، قبل أن تزاحمها الاشتراكية ـ الديموقراطية بفرعيها البلشفي والمنشفي.
وكان النارودنيك يرون في عناصر تأخر روسيا مفاتيح تحررها إن أفلحت الأنتلجنتسيا الثوريّة «في الذهاب للشعب». ذلك من خلال التعويل على المشاعة الريفية والروح التعاونية بين الفلاحين الروس لبناء الاشتراكية دون الحاجة للعروج إلى الرأسمالية.
هذا بخلاف الاشتراكيين – الديمقراطيين الروس، الماركسيين، الذين ساجلوا مطولاً ضد أوهام تفادي الرأسمالية وبناء الاشتراكية الفلاحية لا العمّالية. هذا قبل أن يعود الماركسيّون الروس فينقسموا فيما بينهم، بين فئة (المناشفة) تسلّم بضرورة المرور بحقبة تقودها البرجوازية، على أنقاض الحكم القيصري والعلاقات الإقطاعية، وبين فئة (البلاشفة) التي وإن كانت لا ترى سبيلاً لتفادي الرأسمالية، الا أنها راحت تمنّي النفس بالعروج السريع عليها، وبأن يكون هذا العروج على أية حال تحت قيادة الطبقة العاملة المتحالفة مع الجماهير الفلاحية، لا البرجوازية. وهذا يجعل علاقة النارودنيّة بالبلشفية أكثر تعقيداً من إقامة التضاد على طول الخطّ بينهما.
لقد أثرت الروح التمرّدية الرّوسية تراثاً لا ينتهي من المناقشات والسجالات على امتداد مراحلها، وبين مختلف تجلياتها وتياراتها، قبل أن تتشارك كل تيارات هذه الرّوح التمردية في صناعة ثورة فبراير 1917 ثم تدخل من بعدها، وفي إثر انتفاضة أكتوبر 1917 البلشفية في حرب أهلية فيما بينها، متداخلة مع الحرب الأهلية ضد جنرالات النظام القديم.
صحيح أنّ فئات عديدة داخل الحركة الثورية الروسية لم تكن لتوافق على مقولة باكونين «الشعب الروسي اشتراكي بالغريزة وثوريٍّ بالفطرة» وبالذات البلاشفة الذين كانوا يحملون بقساوة على مظاهر تأخر هذا الشعب في الأرياف، إلا أنّ الحركة الثورية الروسية بالمجمل، بين الربع الأخير من القرن التاسع عشر والربع الأول من القرن العشرين، أعطت بالفعل دلالة حقّة لكلمات باكونين هذه.
فالوثبات الثورية كانت توقفت في أوروبا الغربية مع سحق كومونة باريس بالحديد والنار أواخر مايو 1871. ولم تُبعَث فكرة «الثورة» في التاريخ العالمي مجدّداً، وعلى نحو مدو، إلا مع ثورة 1905 الشعبية الرّوسية، التي لم تلبث أن امتدت عدواها إلى إيران 1905 والصين 1911 قبل أن تعود فتطيح بعرش آل رومانوف في روسيا نفسها.
لم تكن الرّوح التمرّدية الرّوسيّة على موجة واحدة. لكنها أوجدت نمطاً من الأشخاص يصعب توفّره بهذا الزخم والتصميم. بهذا الجمع بين النظر والعمل. بهذا التأليف المجنون بين «دور الفرد في التاريخ» وبين نوع من النظرة السحرية المطلقة لتاريخ لا يتفردن. بهذا الوصل بين نموذج الصوفي الأرثوذكسيّ الزاهد في عالم الروح، والمُراقِص كشامان سحيق للأرواح الخفية التي تستوطن الأبدان والأمكنة.
في هذه الرّوح التمّردية الرّوسية تجلّت نماذج لا عدّ لها ولا حصر. جد متباينة فيما بينها. منها سيرغي نيتشاييف «العدميّ» الذي ذهب الى أنه على الثوري أن يزيد عذابات شعبه كي يجرّه الى الخروج على الاستبداد، وقد استوحى الروائي فيودور دوستويفسكي رواية «الشياطين» من نموذج نيتشاييف وصحبه، وفي معرض التحامل عليهم. وأيّاً كانت القراءة الممكنة لرواية دوستويفسكي، بين من يراها مشايعة للاستبداد القيصريّ، وبين من يرى فيها تنبؤاً مبكراً بتنبّت التوتاليتاريّة الشيوعيّة على الأرض الرّوسيّة، وبين من بإمكانه إدراجها في سياق الدعاية البوتينية الحالية حيال أي معترض على النظام القائم، إلا أنّها تظهر بشكل أو بآخر، هذا العنصر العدميّ الذي من دونه ما كان مقدّراً للروح الرّوسيّة التمرّدية أن تكون ما كانت عليه من خزّان ثوريّ يعجّ بالأفكار والأخيلة والوجوه والحكايات، في زمن تقوّضت فيه مساحة الحركة الثورية الأوروبية، ولم تكن فيها الحركات التحررية الثورية الكبرى في المستعمرات قد قفزت الى المسرح الأول للأحداث بعد.
هذه الرّوح الروسية المتمرّدة هل قضت نحبها مع فظائع الحرب الأهلية الرّوسية 1918-1921؟ هل زُهِقَت يوم قمع ليون تروتسكي بشكل دامي انتفاضة بحارة كرونشتاط؟ أم يوم تمكّن ستالين من تصفية جيل بلشفي بأكمله وصولاً الى اغتيال تروتسكي نفسه؟ هل يمكن احتساب ستالين من خارج هذه الرّوح التمرّدية الرّوسية أساساً؟ هل يمكن القول إن هذه الرّوح تجدّدت مع الحرب الوطنية العظمى ضد الاجتياح النازي؟ أو أنها ازدهرت في موضع آخر، وفي سياق نزع الستالينية، مع أدب ونقاشات مرحلة «ذوبان الثلوج» في أواخر الخمسينيات؟ ألا يمكن عدّ المنشقين السوفيات جزءاً من استمرارية هذه الحركة التمرّدية، الجدلية بامتياز، التي تقفز بشكل مدهش بين نقائضها؟ ألا يمكن اعتبار الحيوية التي عاشها المجتمع السوفياتي مجدداً منتصف الثمانينيات، في أول عهد البيروسترويكا، بمثابة وثبة جديدة لهذه الروح التمردية؟ يصعب، تقريباً يستحيل، كتابة تاريخ لهذه الرّوح التمرّدية الرّوسية التي لعبت الدور الأبرز في التعلّق بروسيا، بتاريخها، وأدبها، ومغامرات الفكر على أرضها، لقرن ونيّف. في المقابل، ما يصعب أقل، هو الإقرار بأنّه منذ زوال الإتحاد السوفياتي يظهر أن الرّوح التمرّدية الرّوسية، بل روح الحياة في المجتمع الرّوسي، ذهبت معه!
ما الذي حلّ في المقابل؟ بدل «المحترف الثوري» حلّ البحث عن «الماتشو» المفتول بعضلاته، والمرتعب في الوقت نفسه إن ذهبت عضلاته هذه أن يُقال على الدنيا السلام! على هذا النحو سعت الدعاية الرسمية لتصوير فلاديمير بوتين، كبطل في الجودو والسباحة والصيد. كذلك فعل رمضان قاديروف في الشيشان. يصارع الحيوانات المفترسة ويرفع أعتى الأثقال. وفي البين بين، يظهر «مفكر» لهذه الحالة، ألكسندر دوغين. هذا لم يرفع أثقالاً ولم يصارع نموراً ولا تسبّح في نهر نصف متجمد. لكنه أفتى عام 2007 بأن الحل للتراجع الديموغرافي في البلاد بأن يستعيد الروس إيمانهم بالإمبراطورية! إمبراطورية تشاد بماذا؟ بالتأمل في الجيوبوليتيك بأسلوب سحري من قبله، وبالتعويل على نماذج «ماتشية» لقيادة المجتمع والدولة. النتيجة كانت، أن هذه النزعة الماتشية وجدت تعبيرها الأمضى في مقاتلي شركة فاغنر. ولعل الصدمة الحقيقية ليوم تمرّد فاغنر يكمن هنا: إنه اليوم الذي تمرّدت فيه النزعة الماتشية على رموز لم تعد توحي بأي ماتشيّة في المجتمع الروسي، بدءاً من فلاديمير بوتين ووزير دفاعه شويغو. بوتين والحال هذه، جهد للانتقال من نموذج «الماتشو» الى نموذج «الأب». لكن هيهات. أن تبيع صورة الماتشو بعد أن تصدّعت وتشتري بها صورة أبويّة فهذه تجارة خائبة. في الوقت نفسه، تمرّد فاغنر لم يحدث إلا في مجتمع اندثرت فيه الروح التمرّدية الروسية منذ ثلاثة عقود. اندثرت فيه الى الدرجة أنه ليس هناك من تمرّد إلا الماتشية ـ الإمتثالية في حركة استدارتها حول نفسها، وضد نفسها. روسيا اليوم تكتشف ما هو أخطر عليها من التعثر في الحرب الأوكرانية. تكتشف أن «الماتشية المترهلة» هو أسوأ ما يمكن أن يصيب الاجتماع السياسي. منذ سنوات، وبوتين يلتهي بلعبة الدفاع عن القيم العائلية المحافظة في مواجهة «الغرب». لكن هذه السنوات كانت تمر، وتجلب معها المزيد من التصدّع لصورة «الماتشو» الذي أقام عليها بوتين نظامه. هذه الصورة بدأت أواخر العام 1999 بزياراته الميدانية الى غروزني. لكن الصورة منذ عام ونيف هي لرئيس قابع في مكتبه بعيداً عن خطوط الجبهة الأمامية من الدونباس الى خرسون. في الفارق بين الصورتين، نهضت فاغنر وخرجت على مهندسها الأول، وهو بوتين نفسه، ثم انزوت على أعتاب ماتشو آخر، لوكاتشينكو، تاركة المجال لمزيد من التداعيات في مجتمع غادرته الروح التمردية منذ تقود، وتصدّعت فيه في السنوات الأخيرة الأوثان – الأبدان، لعالم «الماتشو».
لكن باكونين كان يقول بأن الشعب الروسي ثوري بالفطرة. أين هي هذه الفطرة؟ مطمورة بركام الزمن السوفياتي؟ اللافت أن بوتين في أول رد له على تمرد فاغنر كان عبّر عن خشيته بأن تعود هذه الروح التمرّدية، فتبعث من جديد، كما في العام 1917. خشية بوتين وحدها من شيء من هذا القبيل لا تكفي للذهاب بعيداً في هذا الرجاء.
كاتب من لبنان
القدس العربي
————————–
ما يقوله التاريخ عن روسيا بعد هزائمها/ نبيل الخوري
ذاقت روسيا مرارة الهزيمة العسكرية في أكثر من حرب. يسجّل التاريخ عددا غير قليل من هزائم الروس. أبرزها في حرب القرم (1854 – 1856)، والحرب الروسية – اليابانية (1904 – 1905)، والحرب العالمية الأولى (1914 – 1918). واليوم، يحاول الغرب، بقيادة الولايات المتحدة، إلحاق هزيمة بروسيا في حرب أوكرانيا التي أشعلها الرئيس فلاديمير بوتين في 24 فبراير/ شباط 2022.
بانتظار نتيجة هذه الحرب، يبقى السؤال مطروحاً بشأن مصير روسيا بعدها. كيف ستخرُج منها في حال الهزيمة أو في حال عدم قدرتها على تحقيق انتصار ساحق، وسط تخبّطها ما بين ثغراتٍ ظهرت في أداء جيشها، وتمرّد قائد مجموعة “فاغنر”، يفغيني بريغوجين، أخيراً على القيادة العسكرية الروسية؟ ألن يمثّل عجزها عن فرض إرادتها وكل شروطها على الأوكرانيين بواسطة القوة العسكرية فشلاً ذا انعكاساتٍ جيوسياسية داخل روسيا وعلى علاقتها مع الخارج؟ لا بد لهذا السؤال أن يؤرّق روسيا ما دامت حربها ضد أوكرانيا لم تُحْسَم لمصلحتها بعد. وهي التي عانت، عبر تاريخها، من عواقب الهزائم. فماذا يقول التاريخ عن هذه الهزائم؟ هل تدفعها تجاربها المأساوية إلى الخوف من مصيرٍ متهالك؟ من التراجع والضعف؟ من تآكل القوة والمكانة الدولية؟ من خطر اندلاع حربٍ أهلية؟ والتفكّك؟ أم أن بعض الدروس المستخلصة تعلّمها الحفاظ على الثقة بقدرتها على إعادة النهوض والبقاء قوة لا يستهان بها ولا يمكن تجاهلها على الساحة الدولية؟
بمعنى آخر، ماذا حلّ بروسيا بعد خسارتها في ثلاث حروب: حرب القرم والحرب الروسية -اليابانية والحرب العالمية الأولى؟ ما هي انعكاسات الانتكاسات العسكرية على وضعها الداخلي، وعلى مكانتها الدولية وعلى سياستها الخارجية؟ وهل يمكن للتاريخ أن يعيد نفسه في ضوء حرب أوكرانيا وما بعدها؟
آثار الهزيمة في حرب القرم
يُقاس وقْع الهزيمة في حرب القرم التي أطلقها القيصر نقولا الأول، سنة 1854، ضد السلطنة العثمانية، ليس فقط بعجز الإمبراطورية الروسية عن تحقيق أهدافها التوسّعية في أراضي السلطنة، بل أيضاً بفقدانها أراضي كانت استحوذت عليها في فترات سابقة وأوراقا رابحة عدة كانت تمتلكها على المستوى الاستراتيجي.
انتهجت روسيا، في القرن التاسع عشر، سياسة تهدف إلى التوسّع في آسيا وتسهيل وصول أساطيلها الحربية والتجارية إلى البحر الأبيض المتوسط مروراً بالبحر الأسود ومضائق البوسفور والدردنيل. كانت تتطلّع إلى السيطرة على أراضي السلطنة العثمانية. لهذه الغاية، حاولت عقد صفقةٍ مع بريطانيا لتقاسم “التركة” المفترضة لـ”رجل أوروبا المريض”. رفضت لندن “التآمر” مع موسكو، لأن بسط نفوذ الأخيرة في المضائق والبحر المتوسط يهدّد مصالحها، خصوصاً طريق الحرير نحو الهند. لكن القيصر نيقولا الأول لم يتراجع. قاد “سياسة هجومية” ضد تركيا. وأجّج الصراع معها عندما طالبها سنة 1852 بأن تضطلع روسيا بحماية الأماكن المقدسة الأرثوذكسية في فلسطين. ثم عندما وجّه “إنذاراً” إليها، مطالباً بحماية روسية للأرثوذكس في البلقان. رفضت تركيا الابتزاز، فاجتاحت روسيا المحافظات الرومانية، ودمّرت الأسطول العثماني في البحر الأسود.
وردّاً على التقدّم الروسي، شكّلت بريطانيا وفرنسا تحالفاً عسكرياً مسانداً للعثمانيين. بعد إنزال عسكري في منطقة دبروجة، جنوب شرقي رومانيا، أُجْبِر الروس على الانسحاب. ثم بدأ حصار سيفاستوبول في شبه جزيرة القرم من سبتمبر/ أيلول 1854، حتى سبتمبر 1855. إلى أن شن الفرنسيون هجوماً ناجحاً في مالاكوف، أدّى، في نهاية المطاف، إلى إلحاق هزيمةٍ عسكريةٍ بروسيا. خلال الحرب، توفي القيصر نيقولا الأول، في الثاني من مارس/ آذار 1855، فخلفه ألكساندر الثاني الذي وافق على شروط السلام في إطار مؤتمر باريس، في 25 يناير/ كانون الثاني 1856. هذه خلاصة ما ترويه كتب تاريخ العلاقات الدولية عن مجريات تلك الحرب التي أدّت إلى نتائج وتداعيات متعدّدة الأبعاد.
وخسرت روسيا كل رهاناتها بشأن أقاليم البلقان والشرق الأوسط والبحار الدافئة. في البرّ، اضطرت للانسحاب من الأراضي التركية التي احتلتها. ومُنِحَت كل من مولدافيا وفالاشيا حكماً ذاتياً، واضطرّت روسيا للتخلي عن جنوب بيسارابيا لصالح مولدافيا، بإصرار من النمسا. وفُرِض عليها أيضاً مبدأ تحييد البحر الأسود وحظر استخدامه لأغراض عسكرية، فحُرِمَت روسيا من نشر أسطول عسكري وقواعد فيه. هكذا، وضعت حرب القرم حدّاً لسياسة روسيا الهادفة إلى الهيمنة على المضائق وفتحها أمام أساطيلها. وبعدها، حافظ البريطانيون على توازن قوى ملائم لهم في منطقة البحر المتوسط.
يذكر المؤرّخ البريطاني، أورلاندو فيجيز (Orlando Figes)، في كتابه عن حرب القرم، أن البريطانيين حاولوا فرض تنازلاتٍ إضافيةٍ على روسيا لحرمانها من نفوذها في القوقاز وآسيا الوسطى. لكن روسيا لم تخسر هناك سوى منطقة قارص في شمال شرق تركيا. كذلك، يروي فيجيز أن فكرة استقلال بولندا عن روسيا طُرِحَت في الأوساط الفرنسية، لكن العامل الذي حال دون توسيع دائرة الخسائر الجغرافية الروسية آنذاك يتمثّل في أن فرنسا كانت تريد كسب دعم روسيا لها في سياستها تجاه المسألة الإيطالية بوجه إمبراطورية النمسا – المجر، ما دفعها إلى إبداء بعض الليونة معها في مؤتمر باريس.
وزعزت حرب القرم المكانة الدولية لروسيا، التي هي واحدة من القوى الأوروبية الأربع التي هزمت فرنسا وتحكّمت بالنظام الدولي بعد مؤتمر فيينا، سنة 1815. لكن هزيمة القرم لم تحُل دون إعادة مد الجسور بينها وبين الطرف الذي ساهم في خسارتها (فرنسا). وكان القيصر الجديد، ألكساندر الثاني، منفتحاً على فرنسا وراهن على التعاون معها. فهو، بحسب فيجيز، أطلق “ورشة إصلاحات عسكرية” لتحديث الجيش الروسي “وفق نموذج الجيوش الغربية”. لقد كان هناك إذاً حاجة متبادلة بين موسكو وباريس للتقاطع بعد الحرب، مع أن تعاونهما تعثر عندما دعمت فرنسا التمرّد البولندي ضد الروس سنة 1863.
كذلك، لم تشكّل هزيمة القرم ضربة “قاتلة” لسياسة روسيا التوسعية. على العكس، استفادت من “دروس” تلك الحرب خلال خوضها “حروبها المتواصلة في القوقاز”، وعملت على “توسيع نفوذها في القوقاز وآسيا الوسطى” ردّا على تراجعها في أوروبا، وفق فيجيز. وتُرْجِم ذلك بتصعيد حملتها ضد الشيشانيين الذين هزمتهم في صيف 1859، ناهيك بالانخراط في منافسة قوية مع بريطانيا في آسيا الوسطى.
على الصعيد الداخلي، تراجعت مصداقية القوات المسلحة الروسية بعد الهزيمة. وسادت نقمة في أوساط الرأي العام والمعارضة ضد إخفاقات حكم نيقولا الأول. اكتشف الروس مدى تخلّف روسيا مقارنة بالدول الغربية. ناهيك بالفساد وضعف البنى التحتية. ردّاً على ذلك، طرح ألكساندر الثاني نفسه بوصفه إصلاحياً، لكن سياساته (إنهاء العبودية، والإصلاح الزراعي) لم تؤدّ إلى بناء مجتمع أفضل، واتسم حكمه بـ”الأوتوقراطية” والقمع، إلى أن اغتيل سنة 1881.
قد لا تتطابق نتائج حرب أوكرانيا اليوم كلياً مع تلك التي خلصت إليها حرب القرم منتصف القرن التاسع عشر. فروسيا، إنْ هُزِمت، وأُجْبِرَت فقط على الانسحاب من الأراضي الأوكرانية التي احتلتها، تكون قد عجزت عن توسيع أراضيها إنما من دون خسارة أراضٍ أخرى مثل جيب كالينينغراد. لكن إذا توسّع نطاق الحرب، ثم انتهت بـ”هزيمة استراتيجية” لها، لن يكون تغيير حدودها مستبعداً. أما في ما يتعلق بوضعها الداخلي، فالتشابه بين الحربين واضح، لجهة المنحى الاستبدادي للنظام، فضلاً عن النقمة على أداء الجيش الروسي. وما تمرّد “فاغنر” الأخير سوى خير تعبير عن هذه النقمة وعن محدوديةٍ يعاني منها الجيش أيضاً.
على الرغم من تأخّرها الاقتصادي مقارنة بالدول الصناعية الأوروبية، ظلت روسيا واحدة من القوى العظمى التي صنعت التاريخ في القرن العشرين، مع أن بداياته جلبت لها الويلات. المحنة الأولى كانت مع اليابان بين عامي 1904 و1905.
نتائج الهزيمة أمام اليابان
بدأت ملامح الصراع ترتسم أواخر القرن التاسع عشر، وهو صراعٌ بين روسيا المصمّمة على التوسّع في الشرق الأقصى لآسيا، واليابان الصاعدة، التي كانت كانت تطمح، بعد انتصارها على الصين سنة 1895، للتوسّع الإمبريالي في البر الآسيوي. بعد سيطرتها على مرفأ آرثر وشبه جزيرة لياودونغ، اعتباراً من عام 1894، ثم على كامل منطقة منشوريا شمال شرق آسيا في عام 1900، كانت روسيا تطمح إلى قضم مزيدٍ من المساحات هناك، وصولاً إلى شبه الجزيرة الكورية، التي كانت محميّة يابانية. أطماع روسيا شكلت إذاً تهديداً أمنياً واقتصادياً وتجارياً لليابان. تعاملت الأخيرة مع مسألة كوريا خطّا أحمر لم تكن لتسمح بتجاوزه، لأن سيطرة روسيا عليها كان سيمنحها تفوقاً عسكرياً على اليابان في حالة الحرب. كذلك، تقاطعت مصالح طوكيو ولندن ضد مشروع التوسع الروسي في الشرق الأقصى. فعَقدَ الطرفان تحالفاً في عام 1902، التزمت بموجبه بريطانيا بالتدخّل العسكري لصالح اليابان، إذا دخلت في حرب مع الروس وفي حال حصل هؤلاء على دعم عسكري من دول أخرى، مثل فرنسا حليفة روسيا منذ أواخر 1893.
حاولت طوكيو إبرام تسويةٍ مع موسكو. عرضت عليها اتفاقاً يقوم على الاعتراف بمصالح روسيا في منشوريا مقابل الاعتراف بمصالح اليابان في كوريا. رفضت روسيا العرض، وكانت تعتقد بـ”تفوقها العسكري” على اليابان، فقرّرت التصعيد واجتاحت كوريا. هكذا أعلنت اليابان الحرب على روسيا في 8 فبراير/ شباط 1904. كانت حسابات روسيا خاطئة. استخفّت بقدرات اليابان التي طوّرت قدرات جيشها وعزّزت جهوزيّته على القتال، فتوالت خسائر القوات الروسية على الجبهات. بمبادرة من الرئيس الأميركي، تيودور روزفلت، وافق القيصر نيقولا الثاني على الاستسلام، بموجب معاهدة بورتسموث في 5 سبتمبر/ أيلول 1905. هذا ما يرويه مؤرّخو العلاقات الدولية، من بينهم الأكاديمي فيل وادسورث (Phil Wadsworth)، في أحد كتبه الصادر سنة 2019.
صحيحٌ أن روسيا رفضت، خلال المفاوضات، مطالب اليابان بشأن تسديد تعويضات الحرب والتنازل عن كامل جزيرة ساخالين، كما يذكر الباحث البريطاني الراحل جيفري جوكس (Geoffrey Jukes)، في كتاب له عن تاريخ الحرب الروسية – اليابانية، صدر سنة 2002. لكن هذا لا يخفّف من وقْع خسائرها الجيوسياسية، فبعد الهزيمة، فقدت روسيا سيطرتها على نصف جزيرة ساخالين، وخسرت نفوذها في منشوريا، وأخلت مرفأ آرثر وشبه جزيرة لياودونغ. والأهم من ذلك، استعادت اليابان هيمنتها على كوريا.
وتزامنت هذه الحرب مع اضطرابات اجتماعية داخلية في روسيا، أو ما يعرف بثورة 1905. وبحسب جوكس، حجبت هذه الأحداث الأضواء عن تلك الهزيمة في حربٍ لم تحظ باهتمام كبير من سكان ساخطين، فقدوا الثقة بالسلطة. لم يسقط النظام القيصري، لكن نيقولا الثاني اضطرّ لتقديم تنازلات للمعارضين. وأقدم على خطوة إصلاحية بإنشاء مجلس النواب (الدوما) ومنح المواطنين حقوقاً مدنية، بغض النظر عن التفافه عليها لاحقاً لصالح مزيد من الاستبداد.
تهميش روسيا والتوازن الأوروبي
يصف هنري كيسنجر في كتابه “النظام العالمي” (2014) هذه الهزيمة المذلة لروسيا بأنها “أول هزيمة لبلد غربي (أوروبي) أمام بلد آسيوي في الحقبة الحديثة”. وهي ساهمت بتراجع مكانتها الدولية أو بـ”اختفاءٍ مؤقت للقوة الروسية”، وفق توصيف الأكاديمي بيير غروسيه (Pierre Grosser) في كتاب له عن آسيا والصراعات الدولية، صدر سنة 2017. وقد أثّر تهميشها على التوازن الأوروبي، فاعتباراً من 1906، عزّزت الإمبراطورية النمساوية – المجرية تدخلاتها في شؤون البلقان، وضمّت البوسنة والهرسك سنة 1908. وبعدما كانت بريطانيا قد أبرمت تفاهماً ودّياً مع فرنسا، في إبريل/ نيسان 1904، عادت ومنحت الفرنسيين ضماناتٍ عسكرية إثر هزيمة روسيا أمام اليابان، فهي أدركت أنه لم يعد بإمكان فرنسا الاعتماد على حليفتها روسيا في حال وقعت حرب فرنسية – ألمانية، وأن من شأن هزيمة فرنسا أنْ تؤدّي إلى تعزيز هيمنة ألمانيا على القارّة الأوروبية.
كذلك، وفي ظل المنافسة بين ألمانيا وحليفتها النمسا – المجر من جهة، وفرنسا وبريطانيا من جهة ثانية، وعلى وقع مؤشّرات اختلال التوازن الأوروبي لصالح ألمانيا، بدت الظروف ملائمة لبلورة تفاهم بريطاني-روسي بتشجيع فرنسي. وبدت روسيا وكأنها قادرة على إعادة تسويق نفسها بوصفها حاجة للغرب. وهو مشهد من الممكن أن يتكرر بعد حرب أوكرانيا. وبدت الظروف الداخلية الروسية مشجّعة على الذهاب في هذا الاتجاه، فبعد هزيمة وثورة 1905، بات النظام القيصري يخشى من أن يؤدّي أي تورّط في صراع خارجي إلى “تجدّد الاضطرابات الداخلية”، كما يلاحظ الباحث ديفيد ماكدونالد (David McDonald) في مساهمته عن تأثير هزيمة روسيا على سياستها الخارجية، في كتابٍ جماعيٍّ عن تلك الحرب، بإشراف جون ستينبرغ (John Steinberg)، صادر سنة 2005. وساهمت هذه الخشية في مضي الدبلوماسية الروسية نحو التقارب مع “عدوّها القديم”، بريطانيا، في عام 1907، والاتفاق معها على تقاسم النفوذ في آسيا. وهي التي تفسّر كذلك تعاطي روسيا بـ”تقاعس غير مألوف” مع عملية ضم النمسا – المجر للبوسنة والهرسك في 1908، ثم مع الأزمات الناتجة عن الحروب البلقانية في 1912 و1913، كما يذكر ماكدونالد. ففي الحالتين، لم تنخرط روسيا في حربٍ مع النمسا دفاعاً عن حلفائها الصرب. وهو واقع من الماضي يمكن إسقاطه على الحاضر بالتساؤل عمّا إذا كان من الممكن أن يعيد نفسه، فتلتزم روسيا نوعاً من الحياد، ولو المؤقت، في صراعات دولية مقبلة بين حلفاء لها وأعدائها الأميركيين؟ وكيف سيتأثر توازن القوى الأوروبي في حال أدّت مغامرة روسيا المكلفة، أو نكستها المفترضة في أوكرانيا، إلى “اختفائها مؤقتاً”؟ ألن تكون ألمانيا المستفيد الأول أوروبياً؟
أياً يكن الجواب الذي ستحمله الأيام المقبلة، يبقى أن تقاعس روسيا في الماضي لم يدُم طويلاً. بينما أعلنت النمسا – المجر الحرب على صربيا في 27 يوليو/ تموز 1914، لأن الأخيرة رفضت تدخّل الأجهزة النمساوية في التحقيقات الصربية بشأن اغتيال ولي عهد النمسا، فرانز فرديناند، في سراييفو قبل شهر على يد أحد القوميين الصرب، أتى الردّ الأول من روسيا حين أعلنت التعبئة العسكرية دعماً للصرب، في 30 يوليو/ تموز. وهذا ما دفع ألمانيا إلى إعلان الحرب عليها مطلع أغسطس/ آب. فانزلق العالم إلى حرب عالمية أولى. بتحالفها مع فرنسا وبريطانيا، واتخاذها قرار دعم الصرب، عادت روسيا لاعباً أساسياً على الساحة الدولية المشتعلة، لكن هذه العودة الروسية لم تعمّر، فالحرب العالمية أدّت إلى زوال ثلاث إمبراطوريات: العثمانية والنمساوية – المجرية والروسية. حينها، كانت روسيا مسرحاً لقطيعة استراتيجية.
ماذا حصل بعد الحرب العالمية الأولى؟
لم تخرج الإمبراطورية الروسية من هذه الحرب كما دخلتها، فهي ارتدّت عليها بخسائر مكلفة. أدّت الحرب العالمية الأولى إلى عواقب وخيمة على الاقتصاد الروسي، وتسبّبت بتفاقم المعاناة الاجتماعية للطبقة العاملة والفقراء. في خضم المعارك، شهدت روسيا اضطراباتٍ اجتماعية سرعان ما تحوّلت إلى ثورة عمّالية بقيادة لينين والشيوعيين الذين استلموا السلطة في خريف 1917.
كان إرث الحرب ثقيلاً. من أولى الخطوات التي أقدمت عليها السلطة الشيوعية وقف الحرب. في هذا المضمار، يروي المؤرّخ البريطاني، بيتر هارت (Peter Hart)، في كتابه عن تاريخ الحرب العالمية الأولى، الصادر سنة 2013، أن القوات الروسية أدّت دوراً مهماً في محاربة التحالف الألماني – النمساوي، بين عامي 1914 و1917. وأثبتت قدرتها على استعادة زمام المبادرة بعد سلسلة من الهزائم العسكرية، ما أربك الألمان. لكن الهزيمة النهائية لروسيا أتت نتيجة “تناقضات داخلية” شكّلت فرصة للألمان الذين استفادوا منها ولو متأخّرين، حسب قول هارت. لقد فرضوا على روسيا استسلاماً مذلاً بموجب معاهدة “بريست ليتفوسك”، في 3 مارس/ آذار 1918.
شكّلت هذه المعاهدة هزيمة جيوسياسية كبرى لروسيا، فقد خسرت بموجبها مساحاتٍ واسعةً من إمبراطوريتها: بولندا، ليتوانيا، قسم من أراضي بيلاروسيا ولاتفيا، أستونيا، فنلندا، أوكرانيا، بيسارابيا، جورجيا، وأجزاء أخرى من القوقاز. هكذا فقدت روسيا مناطق كانت تضمّ نسبة كبيرة من “أفضل الأراضي الزراعية الروسية، والمواد الخام والصناعات الثقيلة في روسيا”، كما يشير المؤرّخ وادسورث، قبل أن يحدّد أن روسيا خسرت في النتيجة “25% من سكانها و25% من صناعتها و90% من مناجم الفحم”.
إذا كان تورُّط روسيا في الحرب قد أدخلها في نفقٍ مظلم، فإن تبعات إطاحة النظام القيصري على يد الشيوعيين، وردات الفعل الداخلية والخارجية على الثورة، قد أدّت إلى إطالة أمد البقاء في هذا النفق حتى عام 1922. وذلك بسبب حرب أهلية اندلعت أواخر 1917، نتيجة رفض بعض قادة الجيش ومناصري القيصر الخضوع للسلطة الشيوعية، بالتوازي مع قيام حركة فلاحية معارضة في الأرياف. وانتهت هذه الحرب الدموية في خريف 1922، بعدما تسبّبت بخسائر بشرية بالملايين وفوضى أمنية وسياسية واجتماعية واقتصادية ومالية، ومجاعة ومزيد من الفقر.
وفي أثنائها، تحوّلت روسيا إلى ميدان لتدخلات خارجية داعمة لـ”الروس البيض” المتمرّدين ضد “الجيش الأحمر”، فالدول الغربية، في مقدمتها الولايات المتحدة وفرنسا وبريطانيا، لم تعترف بالحكومة الشيوعية. وفضّلت سقوطها للتخلّص من هاجسٍ كان يؤرّقها، وهو موجة الثورات الشيوعية المحتملة في الغرب. كذلك، أثارت معاهدة بريست ليتوفسك قلق الغربيين، لأن وقف الحرب على الجبهة الروسية يسهّل للألمان عملياتهم العسكرية على الجبهات الأخرى معهم. في كتابه عن تاريخ العلاقات الدولية من 1919 حتى 1945 (الصادر للمرّة الأولى سنة 1953)، يسرُد المؤرّخ الفرنسي، جان – باتيست دوروزيل (Jean-Baptiste Duroselle)، كيف تدخّل الفرنسيون والبريطانيون عسكرياً من جهة الجنوب في أوكرانيا وفي جورجيا وكذلك من شمال شرق روسيا لمؤازرة “الروس البيض”.
الصورة
كادر الصليب الأحمر يعتني بالجنود الروس خلال الحرب العالمية الأولى في 1915 (Getty)
(عنصران من الصليب الأحمر يعتنيان بجنديين روسيين خلال الحرب العالمية الأولى في 1915 (Getty)
لم تكن الخسائر الجغرافية لروسيا في الشرق الأقصى قليلة أيضاً، فالفوضى الناتجة عن الحرب الأهلية التي اندلعت بسبب الثورة ساهمت في إضعاف روسيا إلى درجة لم تعد قادرة على الاستمرار ببسط سيطرتها على مناطق حيوية في شمال منشوريا. هذا ما يقوله الكاتب الأميركي روبرت د. كابلن (Robert D. Kaplan)، في كتابٍ له مختص في الجغرافيا السياسية للصراعات، صدر سنة 2012. هكذا، سيطرت كل من الصين واليابان والولايات المتحدة على أجزاء من سكّة حديد شرق الصين “العابرة لسيبيريا بين بحيرة بايكال في الغرب وميناء فلاديفوستوك في الشرق”، فضلاً عن احتلال اليابان منطقة “فلاديفوستوك بين عامي 1918 و1922″، بحسب كابلن.
وفرضت الدول الغربية عزلةً على روسيا الشيوعية سنوات. وهي عزلة تجسّدت من خلال: الامتناع عن إقامة علاقات دبلوماسية مع الحكومة الشيوعية؛ وعدم دعوتها للمشاركة في مؤتمر الصلح في باريس بين عامي 1919 و1920، والذي رسم خريطة عالم ما بعد الحرب وكرس تأسيس الدول المستقلة ومن ضمنها دول كانت خاضعة لسيطرة الإمبراطورية الروسية؛ وعدم انضمامها إلى “عصبة الأمم” التي تأسّست لإدارة النظام الدولي الجديد، فهي لم تصبح عضواً فيها إلا سنة 1935. بين التدخّل الخارجي في الحرب الأهلية والعزلة الدولية، عاشت روسيا الشيوعية وضعاً لا تُحسد عليه، فكيف تصدّت لهذه الخسائر والأضرار؟ تظهر الوقائع أن السلطة الشيوعية استخدمت، أولاً، أداة نفوذ لا يستهان بها في السياسة الخارجية. يتعلق الأمر بتأسيس منظمة “الكومنترن”، أو ما يُعرَف بالأممية الثالثة سنة 1919، بهدف تعميم الثورات الشيوعية في أوروبا والعالم.
العودة
على المستوى الإقليمي، استعادت روسيا سيطرتها على مناطق واسعة في جوارها. بعد هزيمة ألمانيا أمام الحلفاء واستسلامها، نوفمبر/ تشرين الثاني 1918، تخلت روسيا الشيوعية عن معاهدة بريست ليتوفسك، وألغت بعض مفاعيلها مع غزو الجيش الأحمر لأوكرانيا وروسيا البيضاء ودول البلطيق. وفي الداخل، اعتباراً من مايو/ أيار 1919، بدأت جيوش “الروس البيض” تتقهقر، إلى أن حسم “الجيش الأحمر” الحرب لصالحه في المحصلة. لاحقاً، اتبعت الحكومة الشيوعية سياسة توسعية مشابهة لتلك التي كانت تتبعها روسيا القيصرية. حصل ذلك بعد إدراكها، بحسب كابلن، المخاطر الجيوسياسية الناتجة عن كبر مساحة الأراضي الروسية المترامية الأطراف وما يمثله هذا الواقع الجغرافي من تهديدات من الجوار أو من قبل الدول الاستعمارية الأخرى، مثل بريطانيا التي كانت تحتلّ الهند. وهذا ما دفع موسكو إلى بسط نفوذها بواسطة الأيديولوجية الشيوعية وصولاً إلى تأسيس الاتحاد السوفييتي في 30 ديسمبر/ كانون الأول 1922، والذي ضمّ، في البداية، كلا من روسيا وبيلاروسيا وأوكرانيا وأذربيجان وأرمينيا وجورجيا. ولاحقاً، اعتباراً من 1924، توسّعت “الإمبراطورية السوفييتية” لتضم مولدافيا في الشرق، وكازاخستان وأوزبكستان وتركمانستان وقيرغيزستان وطاجيكستان في آسيا الوسطى (…). هكذا، وكما يلاحظ كابلن، تكون روسيا السوفييتية قد استعادت سيطرتها على امتدادها الآسيوي، بوصفه منطقة حيوية ومحورية بالنسبة لـ”وجود روسيا”.
التعاون مع ألمانيا
بعد الحرب الأهلية، وتمكين حكم الشيوعيين في روسيا، طبّق لينين سياسة انفتاح وتعايش سلمي وتعاون اقتصادي مع الخارج. ونجحت روسيا في فكّ عزلتها تدريجياً، خصوصاً من البوابة الألمانية، من خلال “معاهدة رابالو” (في إيطاليا) في 16 نيسان/أبريل 1922، كما يروي دورزيل. والمعاهدة نصت على تخلي موسكو وبرلين عن الديون وعن تعويضات الحرب، إضافة إلى عدم مطالبة ألمانيا باستعادة شركاتها في روسيا، والتي جرى تأميمها بموجب النظام الاشتراكي. والأهم أنه بموازاة “معاهدة رابالو” وقبلها حتى، “كان هناك اتفاقات عسكرية رسمية وسرّية” بين الألمان والجيش الأحمر، إذ أراد الروس “الاستفادة من الدعم التقني للمهندسين الألمان (لتطوير) صناعاتهم العسكرية”، وتم فتح “بعض المصانع الحربية الألمانية في روسيا، فضلاً عن إقامة معسكرات تدريب على الدبابات والطيران، والغاز الحربي، في روسيا، لأن الألمان أرادوا، من جهة، طي صفحة معاهدة فرساي (المهينة لهم والتي حرمتهم من إعادة التسلح)، ومن جهة ثانية، إجراء تجارب على أسلحة ممنوعة وتدريب جنودهم على استخدامها من خلال استخدام أراض روسية”، كما يؤكد دوروزيل.
أثار هذا التقارب الروسي – الألماني قلق بقية الغربيين الذين لم تستمر مقاطعتهم موسكو طويلاً، ففي 1924، استأنفت كل من بريطانيا وفرنسا وإيطاليا العلاقات الدبلوماسية مع الاتحاد السوفييتي، وهو أمر امتنعت واشنطن عن القيام به حتى سنة 1933.
ماذا لو أعاد التاريخ نفسه؟
تسلّط السردية التاريخية عن تداعيات الحرب العالمية الأولى على روسيا الضوء على إشكالاتٍ من غير المستبعد بروزها من جديد بعد حرب أوكرانيا. تتعلق المسألة الأولى بنتيجة الحرب. يجري الحديث اليوم عن أن الجيش الروسي اتّعظ من المرحلة الأولى من الحرب، وسدّ الثغرات التي واجهها في عام 2022، ما قد يخوّله تجنّب الهزيمة أمام الجيش الأوكراني، على غرار ما حصل مع روسيا بين 1914 و1917، وفق رواية بيتر هارت. لكن الرواية نفسها تضيف إن عوامل داخلية عادت وساهمت في خسارة روسيا أمام ألمانيا آنذاك. وهذا ما حذّر منه بوتين في ردّ فعله على تمرّد “فاغنر” أخيرا. وترتبط المسألة الثانية بأن تؤدّي أي هزيمة محتملة لروسيا إلى اشتعال حربٍ أهلية، قد تقود من جديد إلى تدخّلات خارجية، وصولاً إلى تفكّك الاتحاد الروسي، مع ما يعنيه ذلك من خسارة روسيا أراضٍ ومناطق نفوذ كثيرة، يُقال إن عيون اليابان والصين وبولندا وآخرين عليها.
أما المسألة الثالثة فمتشعبة، وتتعلق بفرضيات نقيضة، مفادها بأن انتكاسة روسيا ستكون محدودة، وستتسبب بتهميش مؤقت لها على الساحة الدولية، فتتقاعس عن تأدية أي دور فعال في صراعات دولية مقبلة. وتكفّ عن التدخل في شؤون داخلية لدول جوارها وفي أزمات ومناطق ساخنة. قبل أن تعود على وقع تعميق تحالفها مع الصين أو عبر إعادة تسويق نفسها حاجة أو بلدا لا يمكن الاستغناء عنه بالنسبة للاقتصاد والأمن في جوارها القريب وفي العالم عموماً. وقد تكون هناك مصالح للغرب لكي يستأنف علاقاته مع روسيا في المستقبل. وربما يشهد العالم مفاجأة مشابهة للتي حصلت بعد الحرب العالمية الأولى، إذا ما تم استئناف العلاقات الألمانية – الروسية وتوطيدها من جديد. وهو أمر لم يستبعده مؤسّس “المعهد الفرنسي للعلاقات الدولية”، تييري دومونبريال (Thierry de Montbrial)، في مقابلة له مع صحيفة ليزيكو، الفرنسية، في 10 أكتوبر/ تشرين الأول 2022، عندما حاول استشراف مرحلة ما بعد الحرب الأوكرانية، متحدّثاً عن احتمال عودة ألمانيا إلى فكرة “الشمال – الشرق المهيمن” في أوروبا و”انتقال مركز الثقل في أوروبا باتجاه الشمال والشرق”، فأي مصير ينتظر روسيا والعالم معها؟
مراجع:
Geoffrey Jukes, The Russo-Japanese War 1904-1905, Oxford: Osprey Publishing, 2002; Henry Kissinger, World Order, New York, Penguin Books, 2014; Jean-Baptiste Duroselle, Histoire des relations internationales, de 1919 à 1945, Paris, Armand Colin, 2001; John Steinberg, The Russo-Japanese War in Global Perspective, Leiden, The Netherlands, Brill, 2006; Orlando Figes, The Crimean War: A History, New York, Metropolitan. Books, 2010; Peter Hart, The Great War: A Combat History of the First World, Oxford University Press, 2013; Phil Wadsworth, International History, 1870-1945, Cambridge University Press, 2019; Pierre Grosser, L’histoire du monde se fait en Asie. Une autre vision du XXe siècle, Odile Jacob, 2017; Robert D. Kaplan, The Revenge of Geography: What the Map Tells Us About Coming Conflicts and the Battle Against Fate, New York Random House, 2012.
العربي الجديد
————————–
دافعوا عن وطن بوشكين و تولستوي/ عادل بن حمزة
“دافعوا عن وطن بوشكين وتولستوي” بهذه العبارة الشاعرية استنهض ستالين الشعب الروسي في خطاب على أثير الإذاعة للمقاومة، والنازيون على أبواب موسكو، لم يفعل ذلك الرئيس فلاديمير بوتين يوم السبت الماضي عندما كانت قوات “فاغنر” على بعد 100 كلم من العاصمة موسكو، بالتأكيد ليست هناك مقارنة بين جحافل هتلر وقوات “فاغنر”، لكن الخطر الوجودي الذي كان يتهدد بنية النظام السوفياتي هو نفسه ما شهدته روسيا بوتين في ساعات حبست الأنفاس، وكان متعذراً فهم ما ستعرفه روسيا بعدها
لم يكن المشهد الروسي أكثر عبثية مما ظهر عليه نهاية الأسبوع الماضي، إذ بدا توغل قوات “فاغنر” داخل الأراضي الروسية واقتراب قوافلها العسكرية من العاصمة موسكو، مشهداً سوريالياً لا يصدق، زادته تعقيداً التصريحات التي كان يدلي بها زعيم المجموعة العسكرية الخاصة بريغوجين والتي كانت تتهجم صراحة وبوضوح على النظام الحاكم في موسكو
تمرد قوات “فاغنر” على بنية النظام في موسكو يمثل تطوراً لافتاً في ما تعيشه روسيا داخلياً، ويبدو أن هذا التمرد العسكري كشف كثيراً من الضعف، سواء على مستوى القيادة السياسية أم العسكرية، ذلك أن التوتر بين قوات “فاغنر” والجيش الروسي ظهر منذ شباط (فبراير) الماضي، عندما أعلن قائد المجموعة أن الجيش الروسي يريد القضاء على مجموعته، وقد أظهرت معركة “باخموت” ذلك بوضوح، ففي آذار (مارس) كشفت “فاغنر” أن الشرطة الروسية منعت وصول متطوعين إلى مناطقها، بل إن بريغوجين أكد في أكثر من تصريح مصور في شهر أيار (مايو) من هذه السنة، أن الجيش الروسي يمتنع عن تزويده بالذخائر، بل ذهب أبعد من ذلك عندما اتهم القوات الروسية بتلغيم المناطق الخلفية لقوات “فاغنر”، وذلك لتعقيد عمليات انسحابها، إضافة إلى عدم انخراط الطيران الروسي بفعالية في التغطية على معارك المجموعة مع القوات الأوكرانية. التوتر بين “بريغوجين” وموسكو بلغ حد قوله يوم 24 أيار (مايو) إن روسيا قد تشهد ثورة مثيلة لثورة 1917 وتخسر الحرب، وهي الإحالة نفسها التي وظفها بوتين في خطابه المندد بتحرك قوات “فاغنر” داخل التراب الروسي، مضافة إليها تصريحات قائد المجموعة صديق بوتين، تطابق الإحالتين يوضح حجم الهشاشة التي تحيط بالنظام في موسكو
الصورة إذاً توضح أن تمرد بريغوجين لم يأت بالصدفة، بل هو نتيجة تراكم سوء اعتبار له ولمجموعته من قيادة القوات الروسية، ويتأكد ذلك بوضوح في الأزمة الأخيرة، إذ كان وزير الدفاع سيرغي شويغو وقائد الأركان فاليري غيراسيموف مستهدفين مباشرةً من قبل قائد فاغنر، وما يعزز تورط القائدين الروسيين هو اختفاؤهما الكامل طيلة مرحلة الأزمة، ليس فقط على المستوى السياسي والإعلامي، بل أيضاً على المستوى العملياتي، إذ اقتحمت قوات “فاغنر” مقار قيادات الجيش في مناطق عدة من دون مقاومة، بل وصلت قواتها إلى أقل من 100 كلم عن العاصمة موسكو
من المؤكد أن استبعاد أمر الحسم العسكري في مواجهة “فاغنر” اتُّخذ من طرف الرئيس بوتين شخصياً بوصفه القائد العام للجيش، لكن غياب أي أثر لوزير الدفاع ورئيس الأركان في أكبر أزمة تعرفها روسيا منذ انهيار الاتحاد السوفياتي، يطرح أكثر من علامة استفهام
سيناريو الحوادث يؤكد وجود صراع عميق في محيط بوتين على خلافته في المرحلة المقبلة، ويمكن اعتبار أن استقدام بريغوجين وقواته “فاغنر” إلى أوكرانيا، كان بمثابة فخ نصبه وزير الدفاع وقائد الأركان للقضاء على بريغوجين سياسياً وعسكرياً، ويبدو أن الانتقادات التي وجهها بريغوجين منذ شباط الماضي، لم يُستمع إليها جيداً في موسكو، وأن تطور الحوادث أوضح أنه تم التغرير بقوات “فاغنر” التي قدمت منذ وصولها إلى الجبهات مع أوكرانيا أداءً أفضل من القوات الروسية، وهذا الأمر كان أيضاً في دونيتسك سنة 2018 وفي شبه جزيرة القرم سنة 2014، لذلك أضحى بريغوجين شخصاً مزعجاً وغير مرغوب فيه بالنظر إلى ما يشكله من مخاطر سياسية وعسكرية على كل الطبقة المتحلقة حول بوتين في الكرملين، لكنه لا يقدم الإضافات التي يقدمها هو نفسه لمصالح روسيا كما يحدث مثلاً في أكثر من بلد أفريقي، وربما هذا الأمر هو ما يفسر اختيار الرئيس بوتين تدبير الأزمة بأقل قدر من المواجهة والخسارة المادية والمعنوية في مواجهة تمرد “فاغنر”، بل إن قبول بوتين بالتسوية التي اقترحها الرئيس البيلاروسي ألكسندر لوكاشينكو ومنها إسقاط أي متابعة جنائية، سواء بالنسبة إلى بريغوجين أم إلى أفراد قواته، لا يعكس الطابع الصارم والحاد لشخصية الرئيس الروسي والتي حرص على إظهارها دائماً، بخاصة في مواجهة تمرد عسكري من هذا الحجم، ولعل تعامله مع خصومه السياسين كاف للتحقق من هذا الأمر، يمكن تفسير ذلك باقتناع الرئيس بوتين بوجود مؤامرة من حوله، وربما هذا ما يفسر أيضاً حجبه كلاً من وزير الدفاع وقائد الأركان في انتظار عزلهما النهائي، أم أن بوتين قدر أن ظهوره منفرداً في مواجهة تمرد “فاغنر” من شأنه أن يرسخه قائداً وحيداً، وهنا بالضبط تكمن مشكلة بوتين ونظامه، إذ يعيد الرئيس الروسي كثيراً من الأعطاب البنيوية التي كانت أحد أسباب انهيار الاتحاد السوفياتي، وعلى رأسها الطابع الفردي للحكم، بل الصور اليوم أكثر سوءاً في ظل غياب بديل واضح لبوتين، بينما كانت اللجنة المركزية للحزب الشيوعي السوفياتي تعج بالأسماء التي كان بإمكانها تولي القيادة وتقديم المشورة والرأي. وعن الموضوع يقول جوزيف ستالين سنة 1931 جواباً عن سؤال للكاتب والصحافي الألماني إميل لودفيك في موضوع إدارة الدولة وما إذا كانت القرارات تتخذ فردياً، إن “الأفراد بأشخاصهم لا يقررون، إذ إن القرار الفردي هو دائماً وحيد الجانب (لا يعالج المسألة المطروحة من جوانبها المختلفة)، تجربتنا المستخلصة من ثلاث ثورات تؤكد أن 90% من القرارات الفردية التي لم تحاكم جماعياً كانت وحيدة الجانب. وبالنسبة إلى هيئتنا القيادية، وهي اللجنة المركزية التي توجه المنظمات السوفياتية والحزبية، فهي تضم سبعين عضواً بينهم أفضل رجال الصناعة وأفضل قادة العمل التعاوني وأفضل المديرين والعسكريين. إن حكمة حزبنا تتركز في هذه الهيئة العليا”، والظاهر اليوم أن “بوتين يفتقد هذا الأمر بل إن كثيراً من التقارير كانت قد أفادت بأن الرئيس بوتين يعيش معزولاً بصفة كلية عن الوسائل التقنية بحجة الخوف من اختراق مكالماته ومحادثاته، لكن هذه العزلة وفي إطار ما يحمله التاريخ من دروس دسائس الحاشية وصراعات الأجهزة، يمكن أن تقرأ قراءة مختلفة، بخاصة في بنية تتسم بالفساد وغياب الشفافية وضعف الشرعية وقلة الوازع الأيديولوجي”
يقول أحد أعضاء المجلس الأوروبي للعلاقات الخارجية متحدثاً عن الوضع في روسيا بوتين، إن “الفساد هو وسيلة فعالة للحفاظ على السيطرة على النخب الاقتصادية والسياسية والبلدية ووسائل الإعلام وحتى المثقفين…ففي هذا النظام القائم على المحسوبية، تتم المكافأة على أساس الولاء وليس الجدارة، والحصول على ثروة مكتسبة بطرق غير مشروعة هو مكافأة وكذلك ضمان لولاء لا يتزعزع”
أحد جوانب تمرد قوات “فاغنر” أيضاً، يتمثل في رغبة حلف الناتو في نقل المعركة داخل التراب الروسي، لكن من دون تورط مباشر للقوات الأوكرانية، وقد تابعنا في أيار الماضي ظهور ما يسمى بميليشيات “حرية روسيا” التي تنشط داخل الأراضي الروسية ولا تخفي رفضها للنظام في موسكو، فهل ينجح الغرب في استثمار تناقضات النظام في موسكو؟ أم أن بوتين سينجح في منع تحول بريغوجين إلى حميدتي روسي؟
وهل صحيح أن روسيا لا تفهم بالعقل كما يقول، المثل الروسي؟
النهار العربي
———————-
النظام السوري وطاقية فاغنر../ عبد القادر المنلا
لم تكن الفرصة سانحة أمام النظام السوري لإيجاد تخريجات مقنعة فيما يتعلق بتمرد مجموعة فاغنر الروسية، فاجأه الحدث وأربكه، وقبل أن يستوعب الصدمة، ثم جاء خبر التراجع عن التمرد، وبات عليه أن يبحث عن موقف تجاه الحدثين من خلال أكذوبة متقنة لا تثير غضب بوتين، فوقع كالعادة في مصيدة التناقضات والسفسطة والمماحكة ولكن بشكل أكثر فجاجة هذه المرة.
ورغم خبرته الطويلة في الكذب وصناعته، ورغم أنه لم يحترف سوى الكذب في تعاطيه مع السياسة، إلا أنه لا يزال يعتمد الكذب الفج، الكذب المكشوف المحمي بالوقاحة، وليس الكذب السياسي المتعارف عليه لدى كل الأنظمة السياسة.
تشترط الكذبة السياسية المستخدمة في الدعاية لنظام سياسي ما، والتي تستهدف التملص من شبهة أو تبرير موقف، أو غسل جريمة، أن تكون متأسسة على منطق متساوق مع منطق الكذب نفسه -إن كان للكذب منطق- منطق قادر -في الحد الأدنى- على إقناع المتماثلين والمتشاركين في التهمة بوجهة النظر التي تحاول الكذبة الدفاع عنها، وبالحد الأدنى أيضاً أن تكون قادرة على خداع الأتباع، أو إجهاد الخصوم قليلاً في تفنيدها وإيجاد الطرق المفحمة للرد عليها.
غير أن النظام السوري لا يفرق بين مفهوم الكذب السياسي ومفهوم الوقاحة والصفاقة اللذين حددا أسلوبه المتكرر في طريقة تبرير أفعاله ومواقفه خاصة بعد اندلاع الثورة السورية.
ورغم أكثر من اثني عشر عاماً من صراع النظام على البقاء وعمله الدعائي القائم على مصنع الكذب في تعامله السياسي مع الداخل والخارج أو خطابه في وسائل إعلامه، إلا أنه لم يتعلم كيف يصنع كذبة متقنة وكيف يسوق لأكاذيبه بطريقة احترافية.
ويبدو أن السبب الأساسي لذلك، لا يعود فقط لافتقاره للفعل السياسي، بل أيضاً لثقته بأنه غير مضطر لبذل الجهد في تحسين شكل أكاذيبه، فهو يعتمد على القوة وحدها في إقرار الحقائق متسلحاً بقدرته على اعتقال أو قتل كل من لا يصدق كذبه، سواء جاهر بذلك، أو استبقاه في سره، فللنظام جواسيسه المتخصصون بمراقبة نوايا المواطنين وأسرارهم ومعرفة إن كانوا لا يصدقون كذبه لإحالتهم على الفور إلى الجهات المختصة.
يعتمد النظام على الإنكار والتلفيق والتزوير المعلن، فإن قتل أحداً أو ارتكب مجزرة، يقوم بالإنكار حتى وإن كانت جريمته مسجلة بالصوت والصورة، وعلى المواطنين الخاضعين لسلطته أن يصدقوه ويكذبوا الوقائع التي رأوها، وإن لفّق تهمة خيانة لمواطن ما، أو لملايين المواطنين، فعلى السوريين القابعين تحت سلطته أن يروّجوا لتلفيقاته وكأنها الحقيقة الوحيدة التي لا تقبل الشك مهما كان الزيف واضحاً، فعقوبة عدم تصديق كذب النظام وعدم تبني تلفيقاته ونشرها هي عقوبة معروفة مسبقاً للمواطن الذي بات سقف حلمه أن يتجنب إغضاب النظام أو إثارة شكوكه.
أما على مستوى الخارج، فإن كذب النظام وتلفيقه سيكون مدعوماً بقوة الحليف، ولهذا كله لا يلقي النظام بالاً للفضائح التي تناله من خلال هشاشة الكذب الذي يمارسه.
لا يفهم النظام السياسة إلا على أنها مزيج من العنف والتوحش والهمجية، ومن خلال ذلك وحده يفرض روايته ووجهة نظره، ولا تزال كل أكاذيبه وصياغاته السياسية لتلك الأكاذيب لا تتجاوز سقف الواقعة الشهيرة التي برر فيها خروج الناس إلى الشوارع في مظاهرة حاشدة، بأنهم خرجوا يشكرون الله على نعمة المطر.
يظهر الغباء الإعلامي في صناعة الكذب بشكل أكثر فجاجة في الأحداث التي تفاجئ الماكينة الإعلامية للنظام والتي يضطر للتعليق عليها بشكل فوري، حدث ذلك كثيراً، ولكن حادثة تمرد فاغنر، أظهرت شكلاً غير مسبوق فيما يتعلق بازدراء النظام لأتباعه وحلفائه من خلال التناقض الصارخ في طريقة رتقه للثقوب السياسية التي تتكاثر في ثوبه الملطخ بكل أنواع الارتكابات.
سيطرت حالة من الرعب والارتباك على إعلام النظام خلال ساعات التمرد القصيرة، ولكنه واجه مشكلة أكبر بعد عودة الهدوء إلى روسيا، مشكلة تتمحور في البحث عن التخريجات الأقل تناقضاً، فإدانة التمرد ستوقعه في مأزق، وعدم إدانته ستوقعه في مأزق أكبر، ولم يكن أمامه سوى العودة إلى مرجعيته الأساسية والمتمثلة في الصفاقة وحدها.
ورغم إجماع الدول -بمن فيها داعمو مجموعة فاغنر والمؤيدون لنشاطها الإجرامي- على تصنيف تلك القوات على أنها مجموعة مرتزقة، ورغم إقرار المجموعة نفسها بشكل غير مباشر بأنها كذلك، إلا أن النظام السوري أبى إلاّ أن يصنفها -وعلى مدار سنوات طوال- على أنها مجموعة عسكرية وطنية تقوم بمهمات عظيمة وتحارب الشر الموجود حول العالم، وكان على مدار السنوات السابقة يشيد بعملها و”أخلاقياتها” و”بسالتها” التي لا تقل عن بسالة جيشه.. وبلمح البصر، كان على النظام السوري أن يغير رأيه إلى النقيض في مجموعة فاغنر التي لا تزال أعداد كبيرة من عناصرها تعمل في سوريا لحسابه وحساب بوتين، دون أن يجرؤ على اتخاذ قرار بطرد عناصرها أو التعرض لهم، الأمر الذي أوقعه في وحل جديد من التناقض الذي لا يجدي معه أسلوب الوقاحة التقليدي.
وإلى أن يجد التخريجات الأقل تناقضاً، لم يكن أمام النظام إلا اتباع الإعلام الروسي والقيام بالقص واللصق لآراء الأبواق الإعلامية الروسية وتحليلاتهم، الأمر الذي أظهر بوضوح شديد صورته الممسوخة، والعاجزة عن خلق خطاب يصلح حتى للاستهلاك الداخلي.
وفي هذا السياق، راح إعلام النظام يطلق على مجموعة فاغنر كل التوصيفات التي كان يستخدمها خصومه، فبدا وكأنه يلتقي مع أولئك الخصوم في ذات الرأي حول قضية محددة، مما زاد من تشويه صورته المشوهة أصلاً.
ورغم كل ذلك الارتباك، فإن النظام السوري لم يستطع أن يخفي سعادته بالنهاية الرومانسية للتمرد العسكري الذي حدث في روسيا، بل ظهر -في الواقع- أكثر سعادة حتى من النظام الروسي ذاته، ظهر ذلك واضحاً على حالة إعلاميه وأبواقه الذين راحوا يعبرون بحماسة عن تلك الفرحة، من خلال إعلان الشماتة بالغرب الذي عول كثيراً -على حد رأيهم- على انقلاب في روسيا يغير المعادلة الدولية برمتها لصالح أعداء بوتين، وما إلى ذلك من الشعارات المحفوظة.
كشف النظام أيضاً -ومن خلال الخطاب الكيدي الذي قدمه إعلامه-، عن أنه كان الأكثر رعباً وقلقاً أثناء حدوث ذلك التمرد القصير، فما يعني النظام بالدرجة الأولى هو مصيره الشخصي ومصير أفراده والمجموعة المرتبط وجودها بشكل أساسي باستمرار القوة والهمجية الروسية ونظامها المافيوي، فأي تصدع في المنظومة الروسية ستكون له ارتداداته على واقع العصابة الحاكمة في دمشق، أما كل حديثه عن المعادلات الدولية والسياسة الدولية والمتغيرات الدولية المحتملة على خلفية التمرد، فهي محض تشدق.
يقف النظام السوري اليوم على قدمين اصطناعيتين مستعارتين إحداهما في موسكو والأخرى في طهران، ولذلك نجده سباقاً في إدانة أي حدث يشكل خطراً على إحدى الدولتين، كما حدث مثلاً أثناء المظاهرات الحاشدة التي شهدتها إيران منذ أشهر، والتي انبرى النظام لإدانتها وتجريمها باندفاع أشد من اندفاع النظام الإيراني نفسه، وكذلك كل ما يتصل بإيران وإشكالياتها مع المجتمع الدولي، فهو يسارع إلى معاداة من يعادي إيران والتحالف مع من يحالفها، فالنظام السوري يدرك وجوده الهش والمرمم كيفما اتفق، والمستند على قوة غيره.
غير أن لروسيا وقعاً آخر لدى النظام، فالقدم الاصطناعية التي يقف عليها في طهران تبقى هشة وعرجاء ولا تكفي وحدها للحفاظ على الجسد واقفاً، ورغم كل السطوة الإيرانية على مستوى المنطقة والدور الذي تلعبه على مستوى السياسة الدولية، إلا أن النظام يعول بشكل أكبر على موسكو الأقوى والأرسخ، ولكنه في كل الأحوال يعلن من خلال تصرفاته وخطابه عن قبوله بأن يكون مجرد مومياء، مجرد جثة متعفنة تقتات على الآخرين، ويعلن -دون أن يدري- أن أي انهيار لمحنّطيه يعني تفسخ جثته وانحلالها وتلاشيها
لا يمكن للنظام أن يدين فاغنر بشكل حقيقي، فهو لا يختلف عنها في شيء، بل هو جزء أصيل من منظومة الارتزاق التي تعمل لصالح قوى أخرى، ربما كان الاختلاف الوحيد أن فاغنر لم تعمل لصالح جهتين في وقت واحد كما يفعل نظام الأسد.
لا يزال النظام السوري يرتدي طاقية فاغنر ويحاول أن يسلخ جلده عن عظمها، وهي مهمة مستحيلة جديدة تضاف إلى كل مستحيلاته التي يحاول أن يجعلها واقعية بلا جدوى.
تلفزيون سوريا
—————————————
فاغنر..حزب الله الروسي/ بسام مقداد
من المبكر جداً الحديث عن “نتائج” تمرد بريغوجين على قيادة عسكريي الكرملين، والجزم بآثار محددة على روسيا وسلطتها والحرب الأوكرانية. المؤكد حتى الآن هو أن التمرد أظهر جوانب ضعف وتصدعات كثيرة في سلطة بوتين. وأهم مراكز البحث الغربية المتخصصة بالشأن الروسي، لم تأخذ على عاتقها بعد تحديد مدى عمق هذه التصدعات وتاثيرها على التطور اللاحق لنظام الحكم في روسيا. وحتى أجهزة المخابرات الغربية، والبريطانية الأكثر عراقة بينها في الشأن الروسي، لم تجازف بعد بالجزم بما هو محدد في هذه العواقب.
كما أكد التمرد ما هو مؤكد منذ إعلان بوتين حربه على أوكرانيا، بأن الآمال التي عقدها كثيرون على إنتفاض الشعب الروسي، أو على حركات إعتراضية ما على الحرب، هي محض أوهام و”جهل” لطبيعة الشعب الروسي وعلاقته بسلطة الدولة مهما كانت طبيعتها. والقول بهذا “الجهل” ليس محاباة لما يتفاخر به الروس من أن روسيا وشعبها عصيان على فهم الآخرين لحقيقتهم، بل للإشارة إلى أن هذا الفهم يتطلب جهوداً بحثية علمية متشعبة الإتجاهات حتمت إنشاء مراكز بحث علمي بالشأن الروسي في الغرب خلال مواجهته التاريخية مع روسيا.
ضراوة المواجهة مع نظام بوتين القمعي الذي حوّل روسيا إلى مجتمع حرب، قد تبرر بعض إستنتاجات المعارضة المتعجلة من أن التمرد ــــ نهاية بوتين، أو أن نظامه يتلاشى. لكن ليس من مبرر لما يتعجل البعض بقوله عن حتمية مقتل بريغوجين ونهاية مجموعة مرتزقة “فاغنر”. فالمجموعة أسسها ضابط قوات خاصة روسية، ويمولها الكرملين من ميزانية الدولة ويمدها بالسلاح الثقيل الحديث، وعهد بها لاحقاً إلى”طباخه”، وأوكل إليها المهمات القذرة في سوريا وليبيا والسودان والدول الإفريقية الأخرى وفنزويلا. وليس من مؤشر على أن الكرملين بوارد التخلي عن مهمات “فاغنر” هذه في الخارج، ولا عن ما وظّفه فيها من جهود وإستثمارات. بل قد تتعرض المجموعة لإعادة هيكلتها كما توحي مقاربة بوتين للتعاطي معها إثر التمرد. كما يشير إلى إعادة الهيكلة هذه قرار دمجها بالجيش الروسي الذي يصبح نافذاً في الأول من الجاري، وقد يكون بمبادرة من وزارة الدفاع، وهو ما أثار حفيظة بريغوجين وزعم بأنه سبب تمرده.
قرار إنتقال بريغوجين، أو نقله، إلى بيلوروسيا مع أكثر من 8 آلاف من مقاتليه أثار قلقاً أوروبياً شديداً، حيث يتخوف الأوروبيون من إعادة توجيه عمل “فاغنر” نحو أعضاء في الإتحاد الأوروبي. كما يوحي القرار أيضاً بإعادة هيكلة دور بيلوروسيا في المواجهة الروسية الغربية.
التمرد ليس “زوبعة في فنجان” كما أخذت تردد بروباغندا الكرملين، بل حدثٌ جللٌ لما سيتركه على تطور روسيا اللاحق وسلطتها. وهو يحمل من الأسئلة أكثر بكثير من الأجوبة التي لا يحتمل الرد عليها التخمين واجتراح التوقعات، بل يشترط مرور الوقت، والذي قد يقصر أو يطول. وهذا ما نصح به تقرير خلية الدراسات الإستراتيجية التابعة لمجلس الإتحاد الأوروبي، والذي وضع على طاولة الزعماء الأوروبيين.
موقع الخدمة الروسية في إذاعة “صوت أميركا” نشر في 27 المنصرم نصاً استضاف فيه خبراء من من معهد هيدسون الأميركي حاولوا تقييم عواقب تمرد بريغوجين على موسكو، وكيف ينبغي على الولايات المتحدة والغرب التعاطي معه . قدّم الموقع لنصه بوصف التمرد بالخطوة “المروعة” لبريغوجين، وبأن المعلومات ضئيلة عن صفقة نهايته، وبأنه فاجأ الكرملين. وقال بأن التمرد ليس سوى البداية الأولى للصراع على السلطة داخل روسيا. ولكن منذ الآن بدأ الكثيرون في الولايات المتحدة وحلف شمال الأطلسي في التفكير في كيفية تأثير حرب أهلية محتملة أو أعمال شغب داخل روسيا على البلدان المجاورة والوضع العالمي.
الباحث في المعهد وصاحب عدد من النصوص عن مجموعة “فاغنر” كان كاسابوغلو قارن مجموعة مرتزقة بريغوجين بحزب الله اللبناني وقوات الرد السريع السودانية. ورأى أن المجموعة أصبحت أكبر من كونها شركة عسكرية خاصة، وذلك لأن قيادتها تتم في إطار إقتصاد زمن الحرب، ولأن أوكرانيا ليست مركز نشاطها وسبب إنضمام المرتزقة إلى صفوفها.
يرى الباحث أن طريقة عمل “فاغنر” وجدية تسلحها يبرر إمكانية تسميتها “حزب الله الروسي”. وما يميزها عن حزب الله وسواه من التشكيلات الخاصة المسلحة، هو أن أفرادها لا يتقاضون رواتب، بل حصة من الألماس والذهب المستخرج، مقابل تأمين الحماية وأمن البنى التحتية المهمة في بلدان تواجدهم.
في رفض غير مباشر لمقولة تغاضي الجيش والتشكيلات العسكرية الروسية المختلفة عن مسيرة “فاغنر” إلى موسكو، يقول الباحث بأن القدرات القتالية التي تمتعت بها المجموعة في مسيرتها إلى العاصمة، جعلت كل التشكيلات المذكورة عاجزة عن صدها. ويشير إلى أن المجموعة تضم وحدة تشكلت في المعارك في سوريا، وهي وحدة مقاتلين محترفين تستخدم المجندين من مجرمي السجون كوقود في المعارك. ويقول بأن مجرد إمتلاك “فاغنر” حق تجنيد السجناء من المجرمين السابقين ومنحهم العفو يجعل من “فاغنر” شركة عسكرية خاصة غير إعتيادية.
رئيس تحرير مركز كارنيغي موسكو ألكسندر باونوف نشر في 24 المنصرم نصاً بعنوان “الحرب في الداخل. ما الذي يعتمد عليه بريغوجين”. استهل باونوف نصه بالقول بأن تمرد بريغوجين خلق تأويلات كثيرة ـــــ من القول بأنه إحتدامٌ للصراع بين أبراج الكرملين، إلى أنه مسرحية إحتاجها بوتين إما لإقالة شويغو، وإما إلى الإنتقال إلى ديكتاتورية كاملة. وينفي الكاتب حاجة بوتين إلى حجة لتبديل الكادرات، كما أن سطوة النظام الأمنية تتعاظم تدريجياً دون الحاجة للتحجج بأعمال إرهابية أو سواها.
يرى باونوف أن سبب ما حصل يكمن في شروع إختلال التوازن الداخلي بسبب هزائم الحرب على أوكرانيا. كثيرون في روسيا حددوا لأنفسهم السبب الرئيسي لهزائم روسيا على الجبهة، ورأوا أنه يعود إلى تردد وخيانة النخبة التي لا تريد أن تحارب كما ينبغي. كما يعود إلى عدم ملاءمة القيادة والبناء الإقتصادي لمتطليات زمن الحرب. الهزائم على الجبهة أدت إلى تفاقم العداء للنخبة، والتي حولت الحرب جزئياً إلى الداخل عملاً بمقولة: لربح الحرب الخارجية، ينبغي أولاً ربح الحرب الداخلية.
يرى الكاتب أنه تعزز موقف أولئك من الروس الذين يعتبرون أن الدولة الروسية الحالية، هي دولة وسطية وغير متكاملة، تعيش حياة غير طبيعية غريبة عليها تحت قيادة نخبة بورجوازية مغرقة في عالميتها. الهزائم على الجبهة أحيت الطلب على تأميم الإقتصاد وعلى عودة إدارة الدولة ورقابتها إلى عهود زمنية بعيدة. هذا الطلب يبدو واضحاً في الكرملين، حيث بدأوا يتحدثون عن شكل جديد لروسيا كنسخة محسنة من الاتحاد السوفيتي دون عيوبه الاقتصادية.
بريغوجين ذهب إلى أبعد من ذلك في برنامجه للمستقبل، حيث لا يتحدث إلا عن نسخة أكثر صرامة من الاتحاد السوفيتي – كوريا الشمالية العملاقة مع تعبئة عامة للمواطنين والاقتصاد ، على الأقل حتى النصر.
يفسر باونوف طول المدة التي سمحوا فيها لبريغوجين بمهاجمة النخبة بما كان يقدمه للجبهة ولبوتين. ويعتبر أن بوتين كان يرى في بريغوجين فزاعة للنخبة تجعلها تلتف حوله، بما فيها المناهضة للحرب. لكنه يرى أن بريغوجين قرر تنفيذ وظيفته في معاداة النخبة على نحو لم ينل إستحسان سيده.
ويستنتج الكاتب بأن الحرب التي قفزت من الجبهة إلى داخل روسيا، خلقت موجة من القمع، وتحولت الآن إلى مجابهة عسكرية مسلحة من إجل إعادة تشكيل روسيا تحت قيادة بريغوجين.
—————————
بريغوجين يقود ثالث انقلاب في تاريخ روسيا الحديث/ سوسن مهنا
هل سينعكس تمرد “فاغنر” على مسار الحكم المستمر منذ 1999؟
24 ساعة كانت كافية لتبدل مزاج يفغيني بريغوجين قائد مجموعة “فاغنر” من إعلانه، مساء الجمعة 23 يونيو (حزيران)، أن شر “القيادة العسكرية الروسية يجب أن يتوقف”، وأن مقاتلي “فاغنر” سيقودون “مسيرة من أجل العدالة” ضد الجيش الروسي ويستعدون للذهاب “إلى أبعد مدى” في معارضتهم للجيش، إلى رسالة صوتية نهار السبت 24 يونيو، بعد أن كانت قوات “فاغنر” قد وصلت إلى بعد 200 كيلومتر من العاصمة موسكو، قال فيها “كتائبنا تستدير ونغادر في الاتجاه المعاكس للمعسكرات الميدانية وفقاً للخطة”، إدراكاً منه لـ “المسؤولية الكاملة” و”حقناً للدماء الروسية التي ستراق على أحد الجانبين”. تلك الـ24 ساعة كانت كفيلة أيضاً بتغيير موقف الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، فبعد استيلاء “فاغنر” على مقر القيادة الجنوبية للجيش الروسي في روستوف صرح قائلاً “إن الخونة سيتحملون المسؤولية أمام الدولة، والأجهزة الأمنية تلقت أوامر صارمة بمكافحة الإرهاب، وإعادة الوضع إلى طبيعته”، واصفاً ما حدث بـ”خيانة وطعنة في الظهر”، وأن من نظموا التمرد المسلح وصوبوا سلاحهم على رفاقهم في القتال خانوا روسيا، ولن يفلتوا من العقاب، إلى إعلان الكرملين أنه سيسقط الدعوى الجنائية ضد بريغوجين الذي سيغادر إلى بيلاروس بناءً على اتفاق توصل إليه الرئيس البيلاروسي ألكسندر لوكاشينكو بالتنسيق مع نظيره الروسي.
وبين الموقفين حبس العالم أجمع أنفاسه من أن تسيطر المجموعة شبه العسكرية على الدولة الروسية، التي تمتلك 5977 رأساً نووياً حربياً، وفقاً لتقديرات اتحاد العلماء الأميركيين لعام 2022، وأثار تقدم “فاغنر” السريع باتجاه موسكو قلقاً دولياً كبيراً وصل إلى حد الاستنفار السري لعدد من الدول الكبرى خشية حصول ما ليس بالحسبان، وفقاً للإعلام.
بريغوجين شعر بانحياز بوتين لوزارة الدفاع
تناقلت وسائل الإعلام والصحافة العالمية والعربية في تلك الساعات المعدودة تصريحات وتحليلات وسيناريوهات عما جرى بين الرجلين، بوتين وبريغوجين. خلال الأشهر القليلة الماضية ظهرت خلافات إلى العلن بين وزير الدفاع سيرغي شويغو ورئيس هيئة الأركان المشتركة الجنرال فاليري غيراسيموف من جهة، وبين بريغوجين من جهة ثانية، حول عديد من الأمور كإمداد قوات الأخير بالسلاح والعتاد وتأمين التغطية النارية اللازمة له، وغيرها من الأمور العملياتية واللوجيستية التي أدت، بحسب زعمه، إلى تكبد قواته خسائر فادحة في الأرواح والمعدات.
وتمثل قوات بريغوجين أو “طباخ بوتين”، رأس الحربة في الهجوم الروسي على أوكرانيا، أو “العملية العسكرية الخاصة”، كما تصفها موسكو. ويشن الرجل منذ أشهر طويلة انتقادات لاذعة لقيادات الجيش الروسي، وصلت إلى حد وصفهم بأنهم “حثالة”، ومتهماً وزير الدفاع وأكبر جنرال عسكري في البلاد بالخيانة، عبر رسائل صوتية تحمل عبارات نابية نشرها عبر مواقعه في وسائل التواصل الاجتماعي. وقالت وثيقة سرية صادرة عن الاستخبارات الأميركية سربت عبر الإنترنت في أبريل (نيسان) الماضي، أن حدة النزاع قد تفاقمت إلى درجة أنها وصلت إلى بوتين بصفة شخصية، داعياً بريغوجين وشويغو إلى اجتماع يعتقد أنه عقد في 22 فبراير (شباط) الماضي، وفقاً لصحيفة “نيويورك تايمز”.
مسرحية
جاء في الوثيقة المسربة أنه “من شبه المؤكد أن الاجتماع كان يتعلق، بصفة جزئية في الأقل، باتهامات بريغوجين العلنية وما نتج منها من توتر مع شويغو”، وذلك باستخدام كلمات بديلة (استنساخ) لاسم الوزير. ومن وجهة نظر بعض المراقبين أن التفسير الأكثر شيوعاً لصبر بوتين على انفعالات وإهانات “طباخه” لجنرالاته هو أن الرئيس الروسي يستخدم “فاغنر” وزعيمها “كقوة موازية” لقيادات الجيش كي لا يفكر أي منهم في الانقلاب. وتعتبر وجهة نظر أخرى أن بريغوجين شعر أخيراً بأن بوتين ينحاز لدعم وزارة الدفاع، وذلك بعد إعلان الأخيرة بداية شهر يونيو، أن شويغو أمر جميع “وحدات المتطوعين” بتوقيع عقود مع وزارته بحلول نهاية الشهر، وهي خطوة قالت إنها ستزيد من فاعلية الجيش الروسي. وعلى رغم أن الوزارة لم تذكر “فاغنر” في بيانها، فإن وسائل إعلام روسية ذكرت أن تلك محاولة من شويغو لإخضاع المقاتلين لسيطرته. ومع اقتراب الموعد النهائي لإخضاع “فاغنر” الأول من يوليو (تموز)، أدرك بريغوجين أن الوقت قد حان للتحرك. وبين وجهات النظر العديدة الأكيد أن هناك قطبة مخفية، وقد تتضح معالم شبه الانقلاب أو التمرد الذي حصل، أو سيبقى الغموض مسيطراً، علماً أن عديداً من المحللين وصف الأمر بـ”المسرحية”.
“بوتين خرج ضعيفاً”
وفي مقالين منفصلين لصحيفتي “لو باريزيان” و”ليبراسيون” الفرنسيتين، اعتبرتا أنه إذا كان الرئيس الروسي قد تجنب الأسوأ من خلال تجنبه المعارك بين الأشقاء بالأسلحة الثقيلة في قلب موسكو، فإنه خرج من أخطر تحدٍّ واجه حكمه حتى الآن ضعيفاً بشكل لا يصدق، ومع ذلك فإن بداية انقلاب مجموعة “فاغنر” تكفي لإضعاف الدفاع الروسي في وقت كانت فيه كييف في خضم هجوم مضاد لاستعادة أراضيها. ووصفت “ليبراسيون” هذا اليوم بالمجنون، وأن محاولة انقلاب لها ما بعدها من التأثير في حكم بوتين القائم منذ عام 1999، وعلى الحرب في أوكرانيا. وتساءلت: هل كان الأمر خداعاً أم ضغطاً أم جنوناً أم مجرد انقلاب؟ مستنتجة أنه مهما كانت طبيعة ذلك فإنه أغرق روسيا في الحيرة، بل حتى عدم الاستقرار. وناقشت “لو باريزيان” دوافع بريغوجين إلى شن هذا الانقلاب، مشيرة إلى وجود صراع على السلطة والنفوذ كان ينتظر شرارة لإشعاله، ولعل تلك الشرارة هي ما عانته قواته، التي جند معظم أعضائها من السجون مقابل العفو، خلال معركة باخموت “المظفرة”، من تقصير في حقها من قبل وزارة الدفاع التي اتهمها الرجل صراحة بالفساد وعدم إرسال المعدات والذخيرة الكافية له، وبأنها تسببت في تأخير تقدم قواته بسبب أمور البيروقراطية. واعتبرت أن هذا التمرد أخطر تحدٍّ لحكم بوتين الطويل وأخطر أزمة أمنية في روسيا منذ وصوله إلى السلطة.
الانقلاب الثالث
في مستهل مقال للكاتب ديفيد إغناتيوس نشر بصحيفة “واشنطن بوست” الأميركية، يقول “نظر الرئيس الروسي يوم السبت إلى الهاوية وأغمض عينيه، بعد أن تعهد الانتقام مما سماه تمرداً مسلحاً، ثم وافق على حل وسط”. ويضيف أن بوتين ربما يكون قد أنقذ نظامه يوم السبت، لكن “هذا اليوم سيذكر كجزء من تفكك روسيا بصفتها قوة عظمى، وسيكون الإرث الحقيقي لبوتين”. ورجح أن يكون اتفاق بوتين مع بريغوجين بمنزلة هدنة مؤقتة في أحسن الأحوال، واصفاً ما حدث بأنه كان انقلاباً حقيقياً، وبأن بوتين وبريغوجين اختارا أن يلعبا “لعبة الدجاج”، حيث يتعاركان بلا هدف محدد ويتوقفان فجأة من دون سبب واضح، لافتاً إلى أن المجانين وحدهم هم من يقفزون إلى الهاوية في مثل هذه المواقف، والرجلان ليسا بمجنونين. في خطابه بعد حصول التمرد ذكر بوتين بما عاشته روسيا عام 1917، حيث طعنت في ظهرها فيما كانت تخوض الحرب العالمية الأولى، لسرقة النصر منها. وأكد أن روسيا لن تسمح بتكرار ذلك، وستحمي شعبها ودولتها من أي تهديد، وأي خيانة داخلية. فما الذي عاشته روسيا منذ ذلك التاريخ؟
شهدت روسيا محطات مفصلية، ومنذ العقد الأول من القرن العشرين، ابتداءُ بالثورة البلشفية عام 1917، مروراً بانهيار الاتحاد السوفياتي، ثم الحرب على أوكرانيا، وصولاً إلى “تمرد بريغوجين”. ترتبط صورة روسيا بالقوة العسكرية، والمساحة الجغرافية الشاسعة، والتي سيطرت من بعد الحرب العالمية الثانية على غالبية أوروبا الشرقية ووسط آسيا. وامتد نفوذ الاتحاد السوفياتي ليشمل الشرق الأوسط وأميركا اللاتينية، إضافة إلى أفريقيا، في ما كان يسمى المعسكر الشرقي. ويطلق مصطلح الثورة الروسية عن سلسلة من الاضطرابات الشعبية حدثت في روسيا فبراير (شباط) عام 1917، والتي كان لها الدور الأبرز في تغيير مجرى التاريخ، وفي تشكيل صورة روسيا الحديثة. وقامت بها الجماهير الروسية الجائعة، منهيةً بذلك الحكم القيصري، بعد إعدام الأسرة الروسية الإمبراطورية رومانوف، آخر القياصرة نيقولا الثاني، وزوجته ألكسندرا وأولادهم الخمسة، ومقيمة مكانه حكومة موقتة، أفضت إلى إنشاء الاتحاد السوفياتي.
ومن ثم اندلعت الثورة الثانية “البلشفية” في أكتوبر (تشرين الأول) من العام نفسه، بقيادة حزب العمل الاشتراكي بقيادة فلاديمير لينين، أزال على أثرها البلاشفة الحكومة الموقتة واستبدلوا بها حكومة اشتراكية، في أول ثورة شيوعية، وتشكل ما يعرف بروسيا الاتحادية الاشتراكية. تلا ذلك الفصل الأخير من الثورة، وهو الحرب الأهلية الروسية، ما بين الأعوام 1917 و1922، لتنتهي بتشكل الاتحاد السوفياتي. واعتبر الاتحاد السوفياتي، وبعد أن توسعت مساحته بعيد الحرب العالمية الثانية، أكبر بلد في العالم، وأحد قطبي العالم سياسياً.
استمر الاتحاد السوفياتي حتى عام 1991، إذ قاد شيوعيون محافظون معارضون لإصلاح الاتحاد السوفياتي انقلاباً في شهر أغسطس (آب) 1991، ضد رئيسه ميخائيل غورباتشوف، مطلق مصطلح “البيريسترويكا” (الإصلاح) و”الغلاسنوست” (الانفتاح)، والذي كان يمضي إجازة بشبه جزيرة القرم، لكن محاولتهم أحبطت بفضل المقاومة التي قادها رئيس روسيا الاتحادية بوريس يلتسين، ووجهت تلك المحاولة الضربة القاضية لـ70 عاماً من الشيوعية، وحسمت مصير الاتحاد السوفياتي. وكان تفكك الاتحاد السوفياتي إشارة إلى انتهاء الوجود القانوني لدولة اتحاد الجمهوريات السوفياتية الاشتراكية. وقد حدث ذلك التفكك في 26 ديسمبر (أيلول) 1991، عقب اعتراف مجلس السوفيات الأعلى باستقلال الجمهوريات السوفياتية السابقة، وإنشاء رابطة الدول المستقلة لتحل محل الاتحاد. قبل يوم من ذلك الإعلان وفي 25 ديسمبر (كانون الأول) 1991 قام الرئيس الأخير للاتحاد السوفياتي والحاكم الثامن له منذ إنشائه، ميخائيل غورباتشوف بإعلان استقالته في خطاب وجهه إلى الشعب عبر التلفزيون الرسمي للاتحاد.
وأشار في الخطاب إلى أن مكتب رئيس اتحاد الجمهوريات السوفياتية الاشتراكية قد ألغي. وأعلن تسليم جميع سلطاته الدستورية، بما فيها السلطة على الأسلحة النووية الروسية، إلى الرئيس الروسي بوريس يلتسين. واتسم جزء كبير من عصر يلتسين بانتشار الفساد، وعانت روسيا التضخم والانهيار الاقتصادي ومشكلات سياسية واجتماعية هائلة نتيجة استمرار انخفاض أسعار النفط والسلع الأساسية خلال التسعينيات، وهو ما أثر في روسيا والدول الأخرى بالاتحاد السوفياتي السابق. وفي غضون سنوات قليلة من رئاسته، بدأ عديد من مؤيديه بانتقاد قيادته، وندد نائب الرئيس ألكسندر روتسكوي بالإصلاحات، واصفاً إياها بأنها “إبادة اقتصادية”. وصلت المواجهات المستمرة مع مجلس السوفيات الأعلى ذروتها في الأزمة الدستورية الروسية 1993، إذ أمر يلتسين بحل البرلمان السوفياتي الأعلى من دون أي أساس شرعي لقراره، ونتيجة لذلك حاول البرلمان عزله من منصبه.
وفي أكتوبر (تشرين الأول) 1993، أوقفت القوات الموالية ليلتسين انتفاضة مسلحة خارج مبنى البرلمان، مما أدى إلى وقوع عدد من القتلى، ثم ألغى يلتسين الدستور الروسي القائم، وحظر المعارضة السياسية، وعمق جهوده لتحويل الاقتصاد. أعلن يلتسين استقالته في 31 ديسمبر 1999 في ظل ضغوط داخلية هائلة، وترك الرئاسة لخليفته المختار، وهو رئيس الوزراء آنذاك فلاديمير بوتين.
شغل بوتين منصب رئيس روسيا أربع فترات بداية من 2000 إلى 2004، ومن 2004 إلى 2008، ومن 2012 إلى 2018، ومن 2018 إلى الوقت الحالي. ويعد صانع روسيا الجديدة، حيث استعادت في عهده قوتها ودورها على الساحة الدولية مع اقتصاد قادر على المنافسة.
—————————-
تمرد بريغوجين من منظور واشنطن… عناصر مفقودة لـ”الانقلاب المثالي“
لم تكن مسيرة رجال مجموعة “فاغنر” للمرتزقة الروس، باتجاه موسكو، أول من أمس السبت، والتي فشلت، خبراً سيئاً بالنسبة للولايات المتحدة، لكنها لم تكن خبراً ساراً كذلك بكل ما للكلمة من معنى. فلأكثر من عقد، وربما أطول، ظلّت مجموعة “فاغنر” تشكّل صداعاً بالنسبة لواشنطن، التي فشلت في لجم نفوذ هذه المجموعة وقائدها يفغيني بريغوجين، الذي كان يتنامى في أكثر من دولة، خصوصاً في أفريقيا، وبات ليس فقط جزءاً من ديناميات نظام حكم فلاديمير بوتين في موسكو، بل أصبحت “فاغنر” بمثابة إمبراطورية من المال والأعمال والعسكر، وتمكنت من إقناع أكثر من دولة، بالشراكة الأمنية بديلاً عن الغرب، فيما كانت ولا تزال تنهل من ثروات عدد من البلدان، بحسب الاتهامات الغربية.
هذا الوضع، أي أن تقود “فاغنر” محاولة انقلاب في روسيا، ليس بالتأكيد ما كانت تشتهيه واشنطن، وذلك لاعتبارات عدة، منها أن أي انقلاب ناجح تنشده الولايات المتحدة في الدول المتخاصمة معها، أو ضد قيادات كمثل بوتين، هو في الوضع المثالي بالنسبة لها، حين يتم تنصيب بديل موالٍ للغرب، الذي عمل جاهداً طوال عقود على محاولة التغلغل في الجمهوريات السوفييتية السابقة.
“طعنة” بريغوجين تفضح ضعف بوتين
ولكن بالرغم من ذلك، فإن ما شهدته روسيا طوال يوم السبت الماضي، بعدما قاد بريغوجين “تمرداً” (فاشلاً حتى اللحظة) لإطاحة مسؤولي وزارة الدفاع، والتي هو على خلاف مكتوم ثم معلن معها منذ سنوات، سيظل محل مراقبة أميركياً، على اعتبار أن “طعنة الظهر” التي تلقاها بوتين، فضحت ضعفه، وأن بريغوجين الذي كان يعوّل ربما على التحاق وحدات من الجيش الروسي به، قد فتح الباب أمام “انقلاب” حقيقي تقليدي مستقبلي، يخرج بوتين من الكرملين، والنخبة الروسية الحاكمة من السلطة، في وقت كان الغرب لا يزال يعدّ العدة لسنوات إضافية طويلة من الحرب في أوكرانيا، مع ما يستوجب ذلك من ضخّ أموال لدعم كييف وإعادة بناء ما دمّرته الآلة الحربية الروسية.
وتوخّت الولايات المتحدة، ومعها حلفاؤها، الحذر، في التعليق أو التعاطي مع مسألة “تمرد” بريغوجين، السبت، وربما كان ذلك بانتظار معرفة مداه، والجهات في الداخل الروسي التي من الممكن أن يكون على تواصل معها، على اعتبار أن اندفاعة زعيم “فاغنر” للوصول إلى موسكو، لم تكن وليدة لحظة غضب، بل تحمل أكثر من تفسير، ومنها أنه قد يكون نسّق تحركه مع مسؤولين في الجيش أو مع جهات خارجية.
وبغضّ النظر عن انعكاس التطور الروسي على سير المعركة في أوكرانيا، وحجم فائدته بالنسبة للهجوم المضاد الأوكراني، وهي مسألة ستكون محل مراقبة خلال الأيام المقبلة، لمعرفة وضع الجبهات وتموضعات القوات الروسية ومقاتلي “فاغنر”، فإن الولايات المتحدة ومعها حلفاؤها، من دون شك، عاشوا يوماً “صادماً” آخر، رأوا فيه “هيبة” الجيش الروسي والكرملين وقد أصيبت بضربة قوية، وذلك بعد صدمة سابقة، وقعت مع بداية الغزو الروسي لأوكرانيا، في 24 فبراير/شباط 2022، حين كان الاعتقاد بأن القوة العسكرية الروسية ستكون قادرة على إسقاط نظام حكم كييف، وسريعاً.
معلومات مسبقة عن التمرد
وكشف الإعلام الأميركي، أمس الأحد، أن الولايات المتحدة كانت لديها معلومات قبل أيام معدودة من “التمرد”، أن بريغوجين يحضّر لأمر ما، وهو ما أثار خشية لدى صنّاع القرار في واشنطن، من انحدار دولة تملك مخزوناً هائلاً من الأسلحة النووية نحو الفوضى.
وبحسب صحيفة “نيويورك تايمز”، فإن مسؤولي الاستخبارات الأميركية أطلعوا نظراءهم في الإدارة ووزارة الدفاع الأميركية، يوم الأربعاء الماضي، بأن بريغوجين يحضّر للتحرك عسكرياً ضد مسؤولين كبار في وزارة الدفاع الروسية، وذلك بحسب مسؤولين مطلعين على الموضوع تحدثوا للصحيفة. وقال هؤلاء إن وكالات الاستخبارات الأميركية كانت تملك إشارات قبل أيام من “التمرد” بأن زعيم “فاغنر” كان يخطّط لأمر ما، وهي كانت تعمل على جمع المعلومات التي بحوزتها لإنجاز تقييم نهائي.
وبحسب الصحيفة، فإن هذه المعلومات تُظهر أن الولايات المتحدة كانت على علم بأن أحداثاً وشيكة سوف تحصل في روسيا، مشابهة لكيفية تحذير الاستخبارات الأميركية في أواخر 2021، من أن بوتين كان يخطّط لغزو أوكرانيا. ولكن بعكس تلك المرة، حين قام المسؤولون الأميركيون بنشر المعلومات التي في حوزتهم في محاولة لمنع الغزو، فإنهم التزموا الصمت، الأسبوع الماضي، حول تحضيرات بريغوجين.
وقالت “نيويورك تايمز”، نقلاً عن مصادرها، بأن الصمت الأميركي جاء لأن المسؤولين الأميركيين شعروا بأنهم إذا ما تكلموا، فإن بوتين قد يتهمهم بتحضير انقلاب، كما أنهم لم يكونوا مهتمين أبداً بمساعدة بوتين لتجنب انشقاق في جدار الدعم الذي يستند إليه.
فضلاً عن ذلك، فإن المعلومات التي كانت بحوزة واشنطن كانت مثيرة للقلق، بقدر ما كانت صلبة، إذ أن بريغوجين معروف بوحشيته، وفي حال تمكّن من إطاحة أعدائه، فإنه سيكون زعيماً يصعب التنبؤ بكيفية حكمه، بحسب الصحيفة، التي أضافت أن احتمال انحدار دولة نووية بحجم روسيا منافسة للولايات المتحدة، إلى الفوضى، يحمل معه مخاطر عدة.
وبحسب الصحيفة، فإن مسؤولي الاستخبارات ظلّوا لأشهر عدة، يتابعون تفاصيل الخلاف بين بريغوجين ووزارة الدفاع، وأمضوا وقتاً في تحليله، ليصلوا إلى خلاصة بأن ذلك يشكّل إشارة واضحة حول التوترات الداخلية الناجمة عن الحرب في أوكرانيا، ونتاج لمعاناة روسيا في تزويد جيشها بالعتاد بطريقة ملائمة. وقال مسؤول للصحيفة إنها أيضاً دليل على أن الحرب تسير بشكل سيئ لـ”فاغنر” وللجيش النظامي معاً.
رغم ذلك، طغى العامل النووي على اعتبارات واشنطن حين نفّذ بريغوجين تمرّده. وهذه ليست المرة الأولى التي تتعرض فيها روسيا لخضّات، إذ حتى مع سقوط الاتحاد السوفييتي لم يكن الهاجس “النووي” ماثلاً لدى الغرب بالقدر الذي بدا أول من أمس، أو أقلّه بالقدر الذي أظهره الإعلام. فمن منطلق عام، يقول متابعون إن أعداء روسيا لا يريدون رؤيتها قوية، بل ضعيفة، ولكن ليس أن تغرق في الفوضى، وهو رأي يدخل فيه العامل النووي بقوة كأحد الضوابط لعدم الرغبة في رؤية قيادة روسية على نسق زعيم كوريا الشمالية، كيم جونغ أون.
المخاطر النووية في الحسابات الأميركية
وفي تقرير مطول لها، تطرقت وكالة “رويترز” إلى المخاطر النووية التي قد تنجم عن أي فوضى في الداخل الروسي. إذ حتى مع انسحاب مقاتلي “فاغنر” من روستوف، حيث كانوا سيطروا لساعات على مقر القيادة العسكرية الجنوبية الروسية، وهي المعنية بالحرب الأوكرانية، فإن ما حصل أثار القلق من حصول صراع كبير داخل روسيا، لأن فصل بريغوجين أعطى علامة على أن قبضة بوتين بدأت تضعف.
وقال مسؤولون استخباريون أميركيون سابقون، للوكالة، إن صور الدبابات في الشوارع الروسية، أعادت إلى الأذهان محاولة الانقلاب الفاشلة من قبل المتشددين الشيوعيين في أغسطس/آب 1991 (ضد حكم ميخائيل غورباتشوف) والذي كان أثار الخشية حول وضع الترسانة النووية السوفييتية وإمكانية أن يقوم أحد قادة الانقلاب المارقين من سرقة رأس نووي”. ولفت المسؤول السابق في وكالة الاستخبارات المركزية “سي آي إيه”، مارك بوليميروبولوس، لـ”رويترز”، إلى أن “المجتمع الاستخباري الأميركي سينصبّ تركيزه بقوة على الترسانة النووية الروسية”.
وقال المسؤول الآخر السابق في “سي آي إيه”، دانيال هوفمان: “عليك أن تعرف من المسيطر على الأسلحة النووية، لأن هناك قلقا من أن تصل إلى يد الإرهابيين أو الرجال الأشرار، مثل (الزعيم الشيشاني رمضان) قاديروف، وذلك بسبب الرافعة التي سيؤمّنها لهم السلاح النووي”. لكن المسؤولين الأميركيين أكدوا أنهم لم يروا خطراً فوراً محدقاً بأمن الأسلحة الروسية الاستراتيجية والتكتيكية. وقال متحدث باسم مجلس الأمن القومي الأميركي: “لم نلحظ أي تغييرات على وضعية القوة النووية الروسية”، مشدداً على “المسؤولية” الروسية في حماية هذه الترسانة وإدارتها والتأكد من عدم ممارسة أي أفعال تعرّض الاستقرار الاستراتيجي.
وتعد ترسانة روسيا النووية الأكبر في العالم، وكانت مقدرة العام الماضي بـ5 آلاف و977 رأساً نووياً من قبل فيدرالية العلماء الأميركيين، مقارنة بـ5 آلاف و428 رأساً نووياً تملكها الولايات المتحدة.
ولطالما كان جمع المعلومات من قبل وكالات التجسس الأميركية عن هذه الترسانة أولوية لها، بحسب المسؤولين الاستخباريين السابقين الذين تحدثوا للوكالة، لكنه مسعى أصبح أكثر صعوبة العام الماضي، حين قرّر بوتين تعليق العمل بمعاهدة “ستارت الجديدة” للحد من الأسلحة الاستراتيجية، والموقّعة مع الولايات المتحدة، ما جعل الأخيرة منذ ذلك الحين تعتمد على أقمار التجسس الاصطناعية لتقييم أمن مواقع الأسلحة النووية الروسية وتحرك الرؤوس الحربية، كما على اختراق الاتصالات لمراقبة “ولاء” القادة الروس، وذلك بحسب المسؤول السابق في الاستخبارات الأميركية، مارك بوليميروبولوس.
في غضون ذلك، قرّرت الولايات المتحدة تأخير فرض عقوبات جديدة على مجموعة “فاغنر” بعد تمرد بريغوجين، وذلك خشية أن يصبّ ذلك في مصلحة بوتين. ونقلت صحيفة “وول ستريت جورنال”، أمس، عن كاميرون هادسون، كبير الموظفين السابق للمبعوث الأميركي إلى السودان، قوله إن واشنطن “كانت لديها استراتيجية لاستهداف وعزل وإضعاف نمو فاغنر في أفريقيا، لكن المضي بهذه المقاربة قد يضع إدارة الرئيس جو بايدن في موقع صعب، ليبدو وكأنه يدعم بوتين”. لكن وفيما كانت الخزانة الأميركية تتحضر للإعلان عن حزمة عقوبات جديدة ضد “فاغنر”، أكد مسؤول كبير في إدارة بايدن، لـ”وول ستريت جورنال”، أن أي عقوبات مخطط لها لم ترفع أو تؤجل بسبب الأحداث في روسيا.
أميركياً أيضاً، ألقى تمرد بريغوجين بثقله على مشهد الحرب في أوكرانيا، وذلك قبل إعلان بريغوجين انسحابه بصفقة رعتها بيلاروسيا. إذ بحسب موقع “بوليتيكو”، فإن المسؤولين الأميركيين كانوا توصلوا ليل الجمعة – السبت، إلى قناعة مبدئية، أن التمرد سيشغل بال الكرملين، ما قد يشكّل فرصة منتظرة جداً لأوكرانيا لقلب الطاولة والدفع أكثر بخطتها للهجوم المضاد. ولكن بينما لا تزال إدارة بايدن في مرحلة تقييم أثر التمرد على سير المعركة، فإن المسؤولين الأميركيين دعوا إلى الحذر في بناء الاستنتاجات.
———————————
تمرد بريغوجين لم يبدأ من أوكرانيا..بل في حقل”كونيكو”في سوريا؟
اعتبرت صحيفة “واشنطن بوست” أن تمرّد مجموعة فاغنر الروسية، بدأ من سوريا، عندما تعرضت المجموعة لمذبحة هائلة بواسطة الطائرات الأميركية في 2018، عقب محاصرتها أفراداً من القوات الخاصة الأميركية في أحد حقول النفط شمال شرق سوريا.
صراع النفط
وقالت الصحيفة الأميركية في تقرير، إن مذبحة 2018 كانت الاشتباك الأكثر دموية بين الولايات المتحدة وروسيا منذ الحرب الباردة، إذ وجدت قوة صغيرة من مشاة البحرية الأميركية و”القبعات الخضراء” نفسها محاصرة في حقل كونيكو قرب دير الزور، من قبل مجموعات كبيرة من قوات النظام السوري إلى جانب مجموعة كبيرة من “المرتزقة الروس”.
وأوضح التقرير أن سرية من قوات النظام قوامها بين 300 و500 عنصر مزودة بدبابات ومدرعات، تقدمت داخل الحقل، في معركة استمرت قرابة 4 ساعات، حاصر على إثرها المهاجمون القوات الأميركية تحت وابل من قذائف المدفعية والهاون.
وبحسب روايات أفراد القوة الأميركية المحاصرة، فإن المجموعة عاشت رعباً خلال تقدم الدبابات الروسية، كما لم يكن لديها أي سلاح يمكنه أن يوقف تقدم المهاجمين، قبل أن يتدخل سلاح الجو الأميركي وينفّذ “مذبحة هائلة” للقضاء على قدرة القوة المهاجمة.
وشارك في الضربات الجوية طائرات أميركية من دون طيّار من طراز “إم كيو9-ريبر” إضافة إلى طائرات “إف-22” وقاذفات “بي-52” ومروحيات “أباتشي” الحربية، ما أدّى إلى تدمير الجزء الأكبر من الدبابات الروسية، فضلاً عن مقتل مئات المقاتلين السوريين والروس.
دور فاغنر الضخم
وقالت الصحيفة إن تسليط الضوء على هذه الحادثة بعد 5 سنوات، يرجع إلى أن المرتزقة المتورطين في الهجوم ينتمون إلى مجموعة “فاغنر”، والتي قاد زعيمها يفغيني بريغوجين تمرداً ضد القيادة العسكرية الروسية، قبل أن يوقف التمرد ويتم نفيه إلى بيلاروسيا.
وتعكس الواقعة، الدور الضخم والغامض الذي لعبته “فاغنر” في السياسة الخارجية للرئاسة الروسية، حيث عزز الدور مصالح موسكو في المناطق الساخنة في أوكرانيا وسوريا والصراعات في إفريقيا، فيما ردت روسيا بقسوة وبدرجة إنكار معقولة حول علاقتها بالمجموعة.
كما قدمت مؤشراً مبكراً عن التوترات القادمة بين القيادة العسكرية الروسية، وبين بريغوجين الذي قال إن الخسارة الواضحة لعشرات المقاتلين من “فاغنر” في ليلة واحدة في سوريا، أثارت غضبه، من خلال ما نشره في وقت سابق عن روايته لواقعة 2018.
الدعم لم يأتِ
وتقول رواية بريغوجين، إنه كان المفترض أن تقدم القوات الروسية دعماً جوياً لمجموعة “فاغنر” للتقدم والسيطرة على حقل كونيكو في سوريا، إلا أن هذا الدعم لم يأتِ أبداً، وترك وزير الدفاع الروسي ورئيس هيئة الأركان المجموعة كي تصبح وقوداً للمدافع الأميركية.
وفي 2018، قال مسؤولون أميركيون إن الروس نفوا مشاركتهم بالهجوم، ووافقوا على استخدام القوة الجوية الأميركية في الموقع، كما أعرب مسؤول أميركي عن دهشته من “سرعة استجابة الروس للنأي بأنفسهم”، وذلك خلال وصفه للعملية بأنها “تحت القيادة السورية واستجابة للتوجيهات السورية”.
وكان وزير الدفاع الأميركي قد قال خلال شهادته في مجلس الشيوخ في نيسان/إبريل 2018، إن” القيادة العليا الروسية في سوريا أكدت لنا بأن المهاجمين ليسوا من قواتها”، مضيفاً حينها، أنه وجّه رئيس هيئة الأركان المشتركة الجنرال جوزيف ف.دنفورد من أجل القضاء على القوة المهاجمة.
لكن، وبعد أسابيع قليلة من المعركة، تبيّن أن بريغوجين كان على اتصال وثيق مع الرئاسة الروسية، وأنه كان ينسق العمليات مع مسؤوليه، وذلك على الرغم من النفي الروسي.
المدن
——————————
إحكام بوتين قبضته على السلطة في روسيا محل تساؤل بعد تحدي مجموعة فاغنر
روستوف- روسيا: ثارت تساؤلات اليوم الأحد عن مدى إحكام الرئيس الروسي فلاديمير بوتين لقبضته على السلطة بعد يوم من انسحاب مجموعة فاغنر العسكرية الخاصة من مدينة روستوف في جنوب روسيا ووقف زحفها نحو العاصمة الروسية موسكو بموجب اتفاق أنهى تحديا لم يسبق له مثيل لسلطة بوتين.
وبموجب الاتفاق، الذي توسط فيه رئيس روسيا البيضاء ألكسندر لوكاشينكو، عاد مقاتلو مجموعة فاغنر إلى قواعدهم في وقت متأخر مساء أمس السبت مقابل ضمانات لسلامتهم، في حين سينتقل زعيمهم يفغيني بريغوجينغ إلى روسيا البيضاء مما أنهى تمردا قصير الأمد.
وأشار وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن اليوم الأحد إلى أن الاضطرابات في روسيا لم تنته بعد على الأرجح وقد تستغرق أسابيع أو شهورا. وقال وزير الخارجية الإيطالي إن هذا التمرد حطم “أسطورة” وحدة روسيا.
ولم يدل بوتين بأي تصريحات علنية منذ إبرام الاتفاق لتهدئة الأزمة التي أثارت تساؤلات كبرى إزاء مدى إحكام بوتين قبضته على بلد يحكمه بيد من حديد منذ ما يزيد على عقدين.
وبث التلفزيون الروسي الرسمي اليوم الأحد مقتطفات من مقابلة قال فيها بوتين إنه يعطي أولوية قصوى للصراع في أوكرانيا وإنه على اتصال دائم بوزارة الدفاع. لكن المقابلة كانت مسجلة قبل وقوع التمرد فيما يبدو، إذ لم يشر خلالها إلى الأحداث التي وقعت أمس السبت.
وأضاف التلفزيون الرسمي أن بوتين سيحضر اجتماع مجلس الأمن الروسي بعد أيام دون الخوض في تفاصيل. وقالت وكالة بيلتا للأنباء في روسيا البيضاء إن لوكاشينكو تحدث هاتفيا صباح اليوم الأحد مع بوتين بعد أن تحدث الزعيمان مرتين على الأقل أمس السبت.
وشوهد بريجوجن البالغ من العمر 62 عاما وهو يغادر المقر العسكري في منطقة روستوف الواقعة على بعد مئات الأميال إلى الجنوب من موسكو في ساعة متأخرة من مساء أمس السبت في سيارة رياضية متعددة الاستخدامات، لكن لم يتضح حتى الآن مكان وجوده اليوم الأحد.
وقال بريغوجين، الحليف السابق لبوتين الذي سبقت إدانته وخاضت مجموعته أشرس المعارك في حرب أوكرانيا المستمرة منذ 16 شهرا، إن قراره الزحف نحو موسكو كان يهدف إلى طرد القادة الروس الفاسدين وغير الأكفاء الذين يلومهم على إفشال الحرب في أوكرانيا.
تصدعات ظاهرة للعيان
عبر زعماء غربيون عن قلقهم حيال الاضطرابات في روسيا التي تملك أكبر ترسانة نووية في العالم.
وقال بلينكن لبرنامج (ميت ذا بريس) على شبكة (إن.بي.سي) اليوم الأحد “نرى المزيد من التصدعات في روسيا. من السابق لأوانه معرفة ما ستفضي إليه أو موعد ذلك. ولكن من المؤكد أن لدينا كل أنواع التساؤلات الجديدة التي سيتعين على بوتين إيجاد حلول لها في الأسابيع أو الأشهر المقبلة”.
وتابع قائلا “تركيزنا ينصب بلا هوادة وبتصميم على أوكرانيا لنتأكد من أن لديها ما تحتاج إليه للدفاع عن نفسها واستعادة الأراضي التي احتلتها روسيا”.
وقال وزير الدفاع الأوكراني أولكسي ريزنيكوف إنه ناقش الاضطرابات في روسيا في اتصال هاتفي مع نظيره الأمريكي لويد أوستن اليوم الأحد، ووصف السلطات الروسية بأنها “ضعيفة” مشيرا إلى أن الأمور “تسير في الاتجاه الصحيح”.
وكتب ريزنيكوف على تويتر يقول “نرى أن السلطات الروسية (باتت) ضعيفة وأن انسحاب القوات الروسية من أوكرانيا هو الخيار الأفضل للكرملين”.
ولم تشر الصين، وهي حليف أساسي لبوتين، في البداية علنا للاضطرابات لكنها في النهاية قالت بعد محادثات مع دبلوماسي روسي كبير في الصين اليوم الأحد إن بكين تدعم حفاظ روسيا على استقرارها الوطني.
وبعد السيطرة على روستوف، مركز الإمداد والتموين الرئيسي لعمليات الغزو، توجه مقاتلو مجموعة فاجنر سريعا شمالا أمس فيما سماه بريغوجين “المسيرة من أجل العدالة”. وأظهر مقطع مصور المقاتلين وهم ينقلون الدبابات والشاحنات المدرعة ويحطمون الحواجز التي أقيمت لمنعهم قبل التوصل إلى اتفاق انسحابهم.
وأظهرت مقاطع مصورة على وسائل التواصل الاجتماعي من روستوف خلال الليل انسحاب قوات فاغنر من المدينة في رتل من العربات المدرعة والدبابات والحافلات على أصوات هتافات “فاجنر” ووسط إطلاق نار تعبيرا من السكان عن فرحتهم.
وتمكنت رويترز من التحقق من موقع المقاطع المصورة لكن لم يتسن لها التحقق من تاريخ تصويرها.
وصاحت امرأة “اعتنوا بأنفسكم“.
وبرز إظهار الدعم لتمرد فاغنر قصير الأمد صادما في بلد ليس به تسامح يذكر مع الانتقاد العلني لبوتين وحكمه.
وساد الارتياح المزاج العام في شوارع روستوف اليوم الأحد.
وقال أحد السكان “كان الأمر مخيفا… الجميع سعداء بعدم وقوع أمر سيء… ولم يصل الأمر لحد اشتباك مسلح… هناك مشكلات عويصة في البلاد تحتاج إلى حلول”.
وفي موسكو، لم يكن هناك اليوم الأحد مؤشرا يذكر على تشديد الإجراءات الأمنية وعبر البعض عن تفهمهم إلى حد ما لموقف بريغوجين.
وقال أحد السكان “آراء شخص له ثقل معين في المجتمع يجب على الأرجح أن تلقى آذانا صاغية من السلطات”.
وأُعلن يوم غد الاثنين عطلة في العاصمة الروسية لإتاحة الوقت لتسوية الأمور.
التوصل إلى الاتفاق
بموجب الاتفاق المبرم في وقت متأخر من مساء أمس السبت، قال المتحدث باسم الكرملين دميتري بيسكوف إن الدعوى الجنائية بحق بريغوجين وتتهمه بالتمرد المسلح ستُسقط بموجب الاتفاق، وسينتقل إلى روسيا البيضاء، ولن يواجه مقاتلو فاجنر الذين انضموا إلى المسيرة أي إجراء تقديرا لخدمتهم السابقة لروسيا.
وقال بيسكوف إن لوكاشينكو عرض التوسط بعد موافقة بوتين لأنه يعرف بريغوجين شخصيا منذ نحو 20 عاما.
وكان بوتين قد قال في خطاب بثه التلفزيون أمس السبت إن التمرد يعرض وجود روسيا ذاته للخطر وتعهد بمعاقبة المسؤولين عن التمرد.
واتهم بريغوجين وزير الدفاع الروسي سيرغي شويغو وكبار القادة العسكريين على مدى أشهر بانعدام الكفاءة وحرمان قواته من الذخيرة وهي تحارب من أجل السيطرة على باخموت في أوكرانيا.
وتحدى بريغوجين هذا الشهر أوامر بتوقيع عقد يضع قواته تحت قيادة وزارة الدفاع، وبدأ التمرد يوم الجمعة بعد أن قال إن الجيش قتل بعضا من رجاله في ضربة جوية. ونفت وزارة الدفاع ذلك.
تضم مجموعة فاغنر آلاف المجندين من السجناء الروس السابقين، ووسعت المجموعة نشاطها عالميا، إذ باتت لها مصالح في قطاع التعدين ومقاتلين في أفريقيا والشرق الأوسط.
وقالت مارينا ميرون من قسم دراسات الدفاع في كينجز كوليدج في لندن لرويترز إن العثور على بديل لتلك العمليات سيستغرق وقتا وبالتالي قد يبقى بريغوجين ليواصل قيادتها لبعض الوقت.
وأضافت أنها ترى أن النهاية السريعة للاضطرابات تشير إلى أن حكم بوتين لن يتعرض للإضعاف والتقويض بتلك الأحداث وحدها.
لكن زعماء غربيين اعتبروا أن أحداث أمس السبت أضعفت بوتين وقوة بلاده القتالية في أوكرانيا. وقال وزير الخارجية الإيطالي أنطونيو تاياني في مقابلة مع صحيفة إل ميساجيرو الإيطالية إن بوتين هو من هيأ الظروف للأحداث التي وقعت أمس من خلال السماح لبريغوجين على مدى سنوات عديدة ببناء مثل هذا الجيش الخاص الهائل.
وكتب تاياني “أسطورة وحدة روسيا في عهد بوتين انتهت. أحدث هذا التصعيد الداخلي انقساما عسكريا روسيا. إنها النتيجة الحتمية عندما تدعم وتمول فيلقا من المرتزقة”.
(رويترز)
————————–
مدير CIA السابق يحذر طباخ بوتين من الاغتيال: احذر الشبابيك المفتوحة!
حذر المدير السابق لوكالة المخابرات المركزية ديفيد بتريوس، زعيم ميليشيا فاغنر من محاولة النظام الروسي اغتياله بعد محاولة التمرد ضد الجيش التي قادها يفغيني بريغوجين السبت 24 يونيو/حزيران 2023.
وفي مقابلة على CNN الأمريكية قال بتريوس إن بريغوجين فقد السيطرة على فاغنر بعد أن شن تمرداً ضد الحكومة الروسية، وإنه يجب أن يخشى محاولات الاغتيال.
وقال بتريوس: “إن الانتفاضة التي حدثت في أواخر الأسبوع الماضي تظهر أنه من الواضح أن بوتين ضعيف وحكومته ضعيفة”.
وقال بتريوس إن الأزمة بأكملها هزت الحكومة الروسية وجعلت بوتين أكثر عرضة للخطر من أي وقت آخر خلال فترة حكمه للبلاد التي استمرت 23 عاماً.
كما قال الجنرال السابق في سلاح الجو إن بريغوجين ربما احتفظ بحياته، على الأقل في الوقت الحالي، بعد أن أبرم صفقة مع رئيس بيلاروسيا، لكنه “يجب أن يكون حذراً للغاية حول النوافذ المفتوحة في محيطه الجديد”، في إشارة واضحة إلى الطريقة التي مات بها بعض السياسيين ورجال الأعمال الروس في السنوات الأخيرة.
بحسب صحيفة Wall Street Journal الأمريكية فقد سقط عدد من الروس، بمن فيهم بعض الذين انتقدوا الحرب في أوكرانيا من فوق أسطح المنازل، ومن خلال النوافذ الشاهقة، حيث توفي النائب الروسي بافيل أنتوف في 2022، بعد سقوطه من سطح فندق في الهند.
وفي العام الماضي أيضاً، توفي المدير التنفيذي للنفط الروسي رافيل ماجانوف إثر سقوطه من نافذة أحد المستشفيات في موسكو. كان ماجانوف رئيساً لشركة Lukoil PJSC، ثاني أكبر شركة للنفط والغاز في البلاد، إحدى الشركات الروسية القليلة التي دعت علانية إلى إنهاء الحرب الروسية في أوكرانيا.
نهاية تمرد فاغنر
وسبق أن قال المتحدث باسم الرئاسة الروسية، دميتري بيسكوف، إن القضية الجنائية المرفوعة ضد مؤسس مجموعة “فاغنر” العسكرية، يفغيني بريغوجين سيتم إسقاطها، ويغادر إلى بيلاروسيا.
وأضاف في تصريح للصحفيين أن الرئيسين الروسي فلاديمير بوتين والبيلاروسي ألكسندر لوكاشينكو، أجريا مباحثات هاتفية حول تمرد مجموعة فاغنر العسكرية ضد السلطات الروسية.
وأشار بيسكوف إلى أن الرئيسين اتفقا على وساطة سيقوم بها لوكاشينكو لإيجاد حل للوضع القائم، مضيفاً “نقدر عالياً دعم لوكاشينكو لمعالجة هذه القضية”. وأوضح أن لوكاشينكو يعرف بريغوجين منذ ما يقرب من 20 عاماً، مضيفاً: “هذا العرض كان شخصياً من لوكاشينكو، وقبل بوتين العرض”.
وتابع: “نحن ممتنون لرئيس بيلاروس لمحاولاته إيجاد حل للوضع دون خسائر وقبل أن يرتفع مستوى التوتر”. وأكد أنه تم الاتفاق على عودة “فاغنر” إلى معسكراتها، مع إتاحة الفرصة أمام بعض مقاتليها ممّن رفضوا منذ البداية الانخراط في التمرّد المسلّح، للتعاقد مع وزارة الدفاع.
أما فيما يتعلق بعناصر “فاغنر” الذين انخرطوا في التمرد المسلح، قال بيسكوف إن هؤلاء لن يخضعوا لأي ملاحقة قانونية، وسيتم احترامهم إزاء البطولات التي أظهروها في المعارك السابقة.
وعن مصير “بريغوجين” قال المسؤول الروسي إنه سيغادر بموجب الاتفاق إلى بيلاروسيا، إلى جانب إغلاق القضية الجنائية بحقه.
—————————-
ما بعد تمرد “فاغنر”: أسئلة حول ضعف بوتين ومستقبل روسيا
لن يشكل انتهاء تمرد مجموعة “فاغنر”، مساء أول من أمس السبت، بوساطة بيلاروسية، واستعادة المدن الروسية أجواء الهدوء تباعاً، أمس الأحد، مع انسحاب المتمردين من الشوارع، نهاية الأزمة غير المسبوقة التي تفجرت داخل روسيا ووضعتها على شفير حرب أهلية، بحسب تصريحات المسؤولين الروس أنفسهم.
وإذا كانت الكثير من التفاصيل التي رافقت التمرد وحتى لحظة الإعلان عن الاتفاق على سحب المرتزقة من الشوارع وعدم معاقبتهم لا تزال غامضة، إلا أن تداعيات مرحلة ما بعد التسوية بين الرئيس فلاديمير بوتين ومؤسس “فاغنر” يفغيني بريغوجين لن تتأخر في الظهور، بحسب الكثير من التوقعات، خصوصا بعد أن كان يوما الجمعة والسبت الماضيين الأكثر خطورة بالنسبة لبوتين، القابض على السلطة في موسكو منذ عام 2000، إذ تصرّف بشكل غير معهود، مثيراً الشكوك حول احتمال تراخي قبضته في الكرملين.
تساؤلات وشويغو
وإذا كانت الأزمة فجرت الكثير من التساؤلات حول وضع بوتين قبل وبعد التمرد، فإن علامات الاستفهام تطرح أيضاً حول موقع وزير الدفاع سيرغي شويغو والعديد من النخب الروسية في المرحلة المقبلة، في ظل تكهنات بفصول أخرى للأزمة لن تتأخر في الظهور، وهو ما ألمح إليه وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن أمس الأحد بقوله “لم نر بعد الفصل الأخير من قصة تمرد فاغنر على روسيا، والأزمة في روسيا قد تستمر لأسابيع أو أشهر”.
ومن شأن ما جرى في الأيام الماضية، وأي تداعيات مرتبطة به بالأيام المقبلة، أن ينعكس على عدد كبير من الملفات، أهمها الحرب الروسية في أوكرانيا من جهة والتي أكد بوتين أمس أنها تتصدر أولوياته، والنفوذ الروسي في العديد من الدول خصوصاً في أفريقيا والشرق الأوسط، حيث كانت فاغنر تؤدي، طيلة السنوات الماضية، أدوراً عدة، بغطاء من موسكو وخدمة لمصالح الأخيرة.
كما أن مصير بريغوجين سيبقى الملف الأكثر حساسية في المرحلة المقبلة، خصوصاً أن خروجه إلى بيلاروسيا وإسقاط التهم الجنائية عنه لن يعني انتهاء نفوذه داخل روسيا أو خارجها. ونحو 12 ساعة فصلت بين خطاب بوتين صباح أول من أمس السبت، الذي وصف فيه التمرّد الذي قادته “فاغنر” بـ”الخيانة”، وبين التراجع مساء اليوم نفسه ومنح بريغوجين ضمانات شخصية للذهاب إلى بيلاروسيا.
وتُشكّل هذه التحولات نقطة مفصلية في سلوك بوتين وفي كيفية التعامل مع مرحلة ما بعد انتهاء التمرد، إذ أنه من الواضح أنها لن تكون مرحلة مستقرة، خصوصاً أن وساطة الرئيس البيلاروسي ألكسندر لوكاشينكو، جعلت من بريغوجين نداً مساوياً لبوتين في الداخل، وهو أمر يحصل للمرة الأولى مع الرئيس الروسي، المعتاد على الحكم بصورة منفردة.
وكان لافتاً أن بوتين بدا بمظهر الضعيف في الداخل، بدءاً من عدم تنفيذ تعهده بسحق التمرد في المهد، أي حين أعلن بريغوجين مساء الجمعة أنه سيتوجه إلى موسكو، بل على العكس، استيقظ سكان مدينة روستوف الجنوبية، صباح السبت، على سيطرة عناصر “فاغنر” على مدينتهم، وعلى مقر القيادة العسكرية الجنوبية، التي تقود الحرب في أوكرانيا.
وبدت صورة بوتين مغايرة للرجل الذي أمر باقتحام مسرح موسكو في عام 2002، ومدرسة بيسلان في 2004 لحلّ أزمة رهائن فيهما، حيث سقط أكثر من 500 قتيل في الموقعين. وفي حين توقع الروس خصوصاً، أنه سيُقدم على ضرب “فاغنر” ومنع عناصرها من التوجه إلى موسكو، بناء على خطابه صباح السبت، إلا أنه تصرّف بصورة مغايرة في مساء اليوم عينه، بالعفو عن أفعال “فاغنر”، وترك الباب مفتوحاً لانضمام عناصر منهم إلى وزارة الدفاع الروسية بموجب عقود.
نقاط ضعف في الكرملين ووزارة الدفاع
ورأى مركز “معهد دراسة الحرب”، ومقره الولايات المتحدة، أن تمرد بريغوجين “كشف نقاط ضعف شديدة” في الكرملين ووزارة الدفاع. واعتبر أن الكرملين كافح لتقديم رد متماسك على التمرد، وأن أحد الأسباب كان “على الأرجح تأثير الخسائر الروسية الفادحة في أوكرانيا”. وأضاف المعهد في تقرير: “كان من المحتمل أن تصل قوات فاغنر إلى ضواحي موسكو لو اختار بريغوجين ذلك”.
ورأى المعهد أن دور الزعيم البيلاروسي كان “مهيناً لبوتين، وربما يكون قد ضمن للوكاشينكو مزايا أخرى”. وهو ما يطرح تحديات حول قدرة الرئيس الروسي على الإمساك بمفاصل القرار في البلاد، قبل عام تقريباً على موعد الانتخابات الرئاسية.
وأيضاً تبرز تساؤلات حول سيطرته على الجيش، الذي لم يتحرك فعلياً لضرب قافلة “فاغنر” المتجهة إلى موسكو. وكان لافتاً، في خضمّ التمرد، توقيعه قوانين رفع فيها سن التجنيد حتى عمر الـ70 عاماً، وإشراك السجناء في القتال، وإعفاء الجنود من المحاكمات الجنائية.
ومن شأن التساؤلات المطروحة أن تؤثر على مستقبل روسيا البوتينية، إذ أن سلوك الرئيس تجاه “فاغنر” مؤشر لبروز إرهاصات أخرى، ليس أولها اكتساب أوكرانيا زخماً ميدانياً يتيح لها تسريع وتيرة الهجوم المضاد، الذي بدأته منذ نحو 3 أسابيع. كما قد تعود الأفكار الانفصالية إلى الواجهة في أقاليم شمال القوقاز، ولو أن الزعيم الشيشاني رمضان قديروف لا يزال يوالي بوتين.
وقد يسمح إظهار بوتين ضعفه، في بدء حراك سياسي في جورجيا لاستعادة إقليمي أبخازيا وأوسيتيا الجنوبية، اللذين سيطرت عليهما روسيا في حرب عام 2008. ومن شأن الضعف الداخلي أن يفسح المجال لدول آسيا الوسطى، خصوصاً كازاخستان، في الخروج من العباءة الروسية. وسيدفع هذا الضعف الدول الحليفة لروسيا، من كوريا الشمالية وبيلاروسيا والصين وإيران وفنزويلا والنظام السوري على وجه التحديد، إلى التفكير في ما إذا كان بوتين قادراً على الصمود في المرحلة المقبلة، أو القيام برد فعل يزيل فيه صورة الضعف في التصرف مع تمرد “فاغنر”.
ويبدو هنا مصير وزير الدفاع سيرغي شويغو في بالغ الأهمية، خصوصاً أنه إلى جانب رئيس الأركان فاليري غيراسيموف، كانا عرضة لهجمات بريغوجين، بسبب “خيانتهما” و”بيروقراطيتهما” و”منعهما وصول الذخائر إلى قواته”، كما ردد مراراً على موقعه على منصة “تليغرام”. وخلال التمرد غاب شويغو عن الظهور العلني، ولم يدلِ بأي موقف.
سيرة سياسية
يفغيني بريغوجين.. كيف تحوّل “طباخ بوتين” إلى “خائن”؟
غير أن وكالة “فرانس برس” ذكرت في تقرير أمس، أنه في”12 يونيو الحالي، تمت مشاركة مقطع فيديو على نطاق واسع، حيث حضر بوتين وشويغو تسليم ميداليات في مستشفى عسكري، وظهر الرئيس الروسي وهو يدير ظهره لوزير الدفاع في ازدراء واضح”. وتطرقت الوكالة إلى مسيرة شويغو في روسيا ما بعد الاتحاد السوفييتي ووجوده في مراكز السلطة في موسكو قبل وجود بوتين نفسه.
ولا يشكل شويغو خطراً في الأساس على بوتين، لتحدّره من أقلية عرقية غير روسية من منطقة توفا في جنوب سيبيريا، كما أن تعيينه وزيراً للدفاع في عام 2012، حصل بهدف معالجة فضيحة فساد تسبب فيها سلفه أناتولي سيرديوكوف.
وقاد شويغو، الذي لا يملك خبرة عسكرية، الجيش الروسي للتدخل في سورية في عام 2015. لكن على الرغم من علاقة الصداقة مع بوتين، إلا أن الحرب الأوكرانية تؤثر سلباً على نفوذ شويغو في الكرملين. ومن بين الأسباب التي أوردها بريغوجين للدعوة إلى إقالة شويغو من منصبه، هو أن أليكسي ستولياروف، زوج كسينيا ابنة شويغو، مدرب لياقة بدنية ابتعد عن المشاركة في الحرب. كما ذكرت وسائل إعلامية روسية معارضة بأن ستولياروف أُعجب بمنشور على وسائل التواصل رافض للحرب في أوكرانيا.
وفي وقتٍ لم يظهر بعد أي عملية تغيير في المناصب العسكرية في روسيا، نقلت “فرانس برس” عن قنوات “تليغرام” روسية، أن بديل شويغو جاهز، وهو حاكم تولا، أليكسي ديومين، الذي سبق أن شغل مناصب عليا في الجيش والأمن الرئاسي.
وأمس الأحد، تحدث بوتين من دون الإشارة إلى الاتفاق، وقال في تصريحات صحافية إن العملية العسكرية الخاصة في أوكرانيا (الاسم الروسي لغزو أوكرانيا) تتصدر أولوياته “منذ بداية يوم عمله وحتى نهايته”. وأوضح أن زيادة وتيرة وحجم إنتاج الأسلحة لتلبية متطلبات العملية العسكرية، يجب ألا تؤثر على الالتزامات الاجتماعية تجاه المواطنين”.
وقال: “نبحث دائماً الدعم المالي، حتى يتم إنتاج الأسلحة والذخائر بالسرعة المناسبة والحجم المناسب والجودة المناسبة، وفي نفس الوقت، حتى نفي بكل التزاماتنا الاجتماعية تجاه الوطن والشعب وحل المشاكل الاجتماعية”، بما يشمل القطاع الصحي وقطاعات البناء والطرق والتعليم.
وأضاف بوتين أنه “يجب أن يسير كل شيء بانسجام، وجهودنا لتعزيز القدرات الدفاعية للبلاد يجب ألا تضر بما هو الأهم والأساس، وهو الاقتصاد”. وذكر التلفزيون الرسمي الروسي أمس أن الرئيس فلاديمير بوتين سيشارك في اجتماع لمجلس الأمن الروسي في الأسبوع الحالي، من دون تأكيد ما إذا كان سيُعقد الجمعة، كما هو معتاد، أم في موعد سابق.
بريغوجين أذلّ بوتين
وعلى الرغم من الاتفاق، اعتبرت كييف أن بريغوجين أذلّ بوتين. وقال مساعد الرئيس الأوكراني ميخايلو بودولاك إن “بريغوجين أذلّ بوتين/الدولة وأظهر أنه لم يعد هناك احتكار للعنف”. ولم يكن وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن بعيداً عن التساؤل عن المرحلة المقبلة في روسيا، تحديداً بقوله أمس الأحد: “لم نر بعد الفصل الأخير من قصة تمرد فاغنر على روسيا، والأزمة في روسيا قد تستمر لأسابيع أو أشهر”.
وكان مساء السبت قد شهد تدخل الرئيس البيلاروسي ألكسندر لوكاشينكو على خط الأزمة الداخلية في روسيا، معلنا تواصله مع بوتين وبريغوجين، قبل الكشف عن اتفاق لإنهاء التمرد.
ونقلت وكالة “روسيا اليوم” عن المتحدث باسم الكرملين دميتري بيسكوف، تفاصيل الاتفاق، الذي يشمل مغادرة بريغوجين باتجاه بيلاروسيا، وعودة عناصر “فاغنر” إلى معسكراتهم. وجاء في الاتفاق أن بعض مقاتلي “فاغنر”، ممّن رفضوا منذ البداية الانخراط في “حملة” بريغوجين، ستتاح أمامهم إمكانية الانضمام لصفوف القوات المسلحة الروسية والتعاقد مع وزارة الدفاع.
أما الذين شاركوا في التمرد فلن يخضعوا لأي ملاحقة قانونية. وأكد وقف أي ملاحقة قضائية بحق مقاتلي المجموعة الذين “لطالما احترمنا أعمالهم البطولية على الجبهة” في إشارة إلى قتالهم في أوكرانيا. وأوضح بيسكوف أن بوتين ولوكاشينكو، اتفقا على وساطة مينسك في عملية التسوية، لافتاً إلى أن الوساطة “كانت مبادرة شخصية من رئيس بيلاروسيا، من منطلق تجنب إراقة الدماء والمواجهة الداخلية”.
وقال: “ممتنون لرئيس بيلاروسيا على جهوده… المحادثة المسائية بين الرئيسين كانت طويلة جداً”. وشدّد بيسكوف على أن السماح لبريغوجين وقواته بالرحيل من دون عقاب، يأتي ضمن “الهدف الأسمى” لبوتين، الذي كان “تجنب إراقة الدماء والمواجهة الداخلية بنتائج غير متوقعة”.
وأفاد المكتب الرئاسي في بيلاروسيا بأن لوكاشينكو توسط في التوصل إلى اتفاق لوقف التصعيد من جانب مقاتلي “فاغنر” في روسيا، بعد حصوله على موافقة بوتين مقابل ضمانات لسلامتهم. وبعد إتمام الاتفاق، قال بريغوجين إنه قرر التراجع لتجنب “إراقة الدماء الروسية”، قبل أن يغادر في سيارة دفع رباعي تليها شاحنة كبيرة، واستقبله الناس وركض البعض لمصافحته.
كما غادر عناصره مدن روستوف وفورونيج وليبيتسك على طول طريق “أم 4” الممتد من كراسنودار باتجاه العاصمة موسكو. وأعلن حاكم منطقة فورونيج ألكسندر غوسيف، أن “تحرك وحدات فاغنر في منطقة فورونيج هو في طور الانتهاء… الأمر يتمّ بشكل طبيعي ومن دون حوادث”، مؤكداً أن القيود التي تمّ فرضها، السبت، على حركة التنقل سترفع بمجرد “حل الوضع بشكل نهائي”.
“نظام مكافحة الإرهاب”
وفي موسكو، بقي “نظام مكافحة الإرهاب” قائما رغم الاتفاق. ويعزز هذا “النظام” صلاحيات الأجهزة الأمنية ويسمح لها بالحد من الحركة، كما يمكن بموجبه القيام بعمليات تفتيش مركبات في الشوارع والتحقق من الهوية، ويسمح أيضا بتعليق مؤقت لخدمات الاتصالات إذا لزم الأمر.
وواصلت دوريات للشرطة انتشارها في جنوب العاصمة على طول الطريق السريع الرئيسي بين موسكو والمناطق الواقعة إلى جنوبها. وعلى الرغم من إعلان وكالة “إنترفاكس” الروسية أمس، عودة حركة المرور على جميع الجسور المغلقة في منطقة موسكو، غير أن وكالة “آفتودور” المسؤولة عن الطرق السريعة في روسيا، أكدت أن القيود على التنقل على الطريق بين موسكو ومدينة روستوف لا تزال قائمة.
وأفادت وكالة “تاس” نقلا عن ضابط بكتائب “أحمد” الشيشانية، بأن “القوات الخاصة في الكتائب تنسحب من منطقة روستوف”. وكانت موسكو قد استعدت لوصول قوات “فاغنر” السبت، من خلال إقامة نقاط تفتيش بمركبات مدرعة وقوات على الحافة الجنوبية للمدينة.
وأفاد التلفزيون الشيشاني الرسمي أنه تم سحب حوالي 3 آلاف جندي شيشاني من القتال في أوكرانيا، وتم نقلهم بسرعة إلى العاصمة الروسية، في ساعة مبكرة من صباح السبت.
وأقامت القوات الروسية المسلحة بالبنادق الآلية نقاط تفتيش على المشارف الجنوبية لموسكو. وحفرت أطقم أجزاء من الطرق السريعة لإبطاء المسيرة. وتقدمت قوات فاغنر على بعد 200 كيلومتر فقط من موسكو، وفقاً لبريغوجين.
(العربي الجديد، قنا، الأناضول، رويترز، أسوشييتد برس، فرانس برس)
العربي الجديد
——————————
أوكرانيا تجري سلسلة اتصالات مع الحلفاء بعد تمرد “فاغنر” وارتياح في روستوف
ليتوانيا تدعو إلى تعزيز الجناح الشرقي لـ”الأطلسي” إذا استضافت بيلاروس بريغوجين
قال الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي ووزير دفاعه أوليكسي ريزنيكوف إنهما أجريا سلسلة من الاتصالات مع حلفاء كييف، أمس الأحد، لمناقشة “ضعف” الرئيس الروسي فلاديمير بوتين والخطوات الهجومية المضادة المقبلة لأوكرانيا. وجاءت الاتصالات الهاتفية بعد تمرد وجيز غير مألوف من قبل رئيس مجموعة “فاغنر” العسكرية الخاصة الروسية يفغيني بريغوجين الذي أثار تساؤلات حول قبضة بوتين على السلطة في الوقت الذي تضغط فيه أوكرانيا بهجوم مضاد في جنوب وشرق البلاد.
وقال زيلينسكي بعد اتصال هاتفي مع الرئيس الأميركي جو بايدن “ناقشنا مسار الأعمال القتالية والأحداث الجارية في روسيا. يتعين على العالم الضغط على روسيا لحين استعادة النظام الدولي”.
ووفقا لبيان من البيت الأبيض، ناقش الزعيمان “الهجوم المضاد المستمر لأوكرانيا، وأكد الرئيس بايدن دعم الولايات المتحدة الثابت”.
وأضاف زيلينسكي أنه ناقش مع بايدن توسيع التعاون الدفاعي مع التركيز على الأسلحة بعيدة المدى والتنسيق قبل قمة حلف شمال الأطلسي في فيلنيوس (ليتوانيا)، الشهر المقبل، والاستعدادات “لقمة السلام العالمي” التي روج لها، ونقل البيان عن زيلينسكي قوله “أحداث الأمس كشفت عن ضعف نظام بوتين”.
وفي سياق منفصل، قال زيلينسكي إنه أبلغ رئيس الوزراء الكندي جاستن ترودو في اتصال هاتفي عن “الوضع الخطر” في محطة زابوريجيا للطاقة النووية التي تحتلها روسيا في أوكرانيا.
وحذر زيلينسكي، في وقت سابق هذا الأسبوع، من أن روسيا تدرس القيام بعمل “إرهابي” يتضمن إطلاق إشعاع في المحطة، وهو ادعاء نفته روسيا.
الهجوم المضاد
وقال وزير الدفاع الأوكراني إنه ناقش مع نظيره الأميركي لويد أوستن الهجوم المضاد لأوكرانيا والخطوات التالية لتعزيز القوات، وكتب ريزنيكوف على “تويتر” “الأمور تسير في الاتجاه الصحيح”.
وبينما قال المسؤولون الأوكرانيون إن الفوضى الروسية تعمل لصالح كييف، يبقى أن نرى ما إذا كان زيلينسكي وجيشه يمكن أن يستفيدوا من الاضطرابات في موسكو لاستعادة الأراضي التي تحتلها روسيا الآن.
وقال المتحدث باسم القيادة العسكرية الشرقية لأوكرانيا سيرهي تشيرفاتي إن الجيش الأوكراني تقدم بما بين 600 و1000 متر عن اليوم السابق بالقرب من باخموت، المدينة التي استولت عليها قوات “فاغنر” في مايو (أيار) بعد أشهر من القتال.
مغادرة “فاغنر”
في هذا الوقت، أبدى سكان في روستوف في جنوب روسيا، الأحد، ارتياحهم بعد مغادرة قوات “فاغنر” مدينتهم، معربين في الوقت نفسه عن تعاطفهم مع تمرد اليوم الواحد الذي نفذته الحركة المسلحة.
وأول من أمس السبت انتشر في المدينة مقاتلون من مجموعة “فاغنر” حاملين بنادقهم الرشاشة وبجوارهم دبابات ومدرعات.
وفي إطار تمردها، أعلنت المجموعة سيطرتها على مقر قيادة الجيش في المدينة – وهو مركز رئيس لإدارة الحملة الروسية في أوكرانيا – في حين كانت جموع من مقاتليها تزحف إلى موسكو، لكن “فاغنر” أنهت تمردها، مساء أول من أمس السبت، بعد إبرام اتفاق مع الكرملين يسمح لزعيمها يفغيني بريغوجين بالذهاب إلى بيلاروس، حليفة روسيا، ووقف الملاحقات القضائية بحق عناصر المجموعة وقائدها.
وبدأ عناصر “فاغنر” الانسحاب تدريجاً من روسيا بعدما قرر بريغوجين وقف تمرده ضد موسكو.
وأحبط التمرد بموجب اتفاق تم بين قائد “فاغنر” والكرملين بوساطة من مينسك. ويقضي لاتفاق بمغادرة بريغوجين إلى بيلاروس، من دون أن يعرف موعد هذه المغادرة، الأشبه بالنفي، ولا المكان الذي يتواجد فيه قائد المجموعة.
وتقول رينا أبراميان، وهي طبيبة تبلغ 28 سنة، إنها تشعر “بالارتياح” لهذه النتيجة. وتضيف “عندما يتغير شيء روتيني في مدينتك، ولا تفهم حقاً ما يحدث، تشعر بالقلق الشديد وبعدم الأمان. لذلك شعرت بالارتياح”.
وصباح أمس الأحد كانت آثار الدبابات لا تزال بادية على الطريق في وسط المدينة، فيما أغلقت المناطق التي كانت تقف فيها المركبات المدرعة، وعادت حافلات النقل المشترك إلى عملها الطبيعي.
“لا يوجد أعداء هنا”
وكتب على لافتة زرقاء كبيرة في حديقة المدينة “أيها الإخوة، دعونا لا نسمح بإراقة الدماء، لا يوجد أعداء هنا، لا يمكننا الانتصار إلا سوياً”. وأمس الأحد خرج السكان للاستمتاع بأشعة الشمس بعدما بقوا في منازلهم في اليوم السابق استجابة لطلب السلطات المحلية. وتقول تاتيانا، وهي معلمة تبلغ 76 سنة، إنها كانت “مستاءة للغاية” عندما سمعت لأول مرة عن التمرد. وتتابع “لم أخرج لأنهم قالوا إنه من الأفضل عدم الخروج. لقد تابعت الأخبار طوال اليوم وكنت قلقة حقاً، لذلك أنا سعيدة بأن كل شيء سار على ما يرام”.
أما ديمتري فيليانين، وهو أخصائي نفسي يبلغ 35 سنة، فيقول إنه شعر بالخوف عندما حدث التمرد، وبالارتياح عندما سمع عن الاتفاق بين “فاغنر” والكرملين بعد وساطة الرئيس البيلاروسي ألكسندر لوكاشينكو، لكنه يضيف “ما زالت هناك أشياء غامضة. لماذا تم ذلك؟ ومن حرض عليه؟”. ويتابع “لا يزال هناك لبس، لكن الوضع أصبح بطريقة ما أكثر هدوءاً”.
من جهته، يؤكد المتقاعد بوريس كودريافتسيف أنه “يحترم” عناصر “فاغنر”. ويضيف “أتفهمهم قليلاً”، معرباً عن اعتقاده بأنه كان ينبغي عليهم تسوية خلافاتهم مع القادة العسكريين الروس بشكل مختلف.
ويردف السائق السابق “لقد جاؤوا مسلحين. كان من الممكن أن تحدث فوضى حقيقية”، مضيفاً أن فلاديمير بوتين يجب أن “ينتبه” للقيادة العسكرية الروسية “المسنة”.
ومنذ بدء الهجوم في أوكرانيا، انتقد بريغوجين القادة العسكريين الروس بعبارات شديدة، واتهمهم بالتقاعس وعدم الكفاءة والفشل في تزويد قواته بالذخيرة الكافية.
وتمرد “فاغنر” هو أخطر أزمة أمنية في روسيا وأكبر تحدٍّ واجهه بوتين منذ توليه السلطة في نهاية عام 1999.
ماكرون: تمرد بريغوجين يظهر الانقسامات
واعتبر الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، أمس الأحد، أن تمرد قائد مجموعة “فاغنر” “يظهر الانقسامات الموجودة داخل المعسكر الروسي، وهشاشة جيوشه وقواته الرديفة”.
وغداة تمرد بريغوجين الذي تم إحباطه، قال ماكرون في مقابلة أجرتها معه صحيفة “لا بروفانس” اليومية الفرنسية “لقد تابعت الأحداث ساعة بساعة، وتواصلت مع الشركاء الرئيسين لفرنسا”، مشدداً على أن “الوضع لا يزال قيد التبلور”.
وتابع الرئيس الفرنسي “كل ذلك يستدعي أن نكون أكثر يقظة، ويبرر تماماً ما نقدمه من دعم للأوكرانيين في مقاومتهم” للهجوم الروسي.
لوكاشينكو يحادث بوتين
قالت وكالة “بلتا” للأنباء في بيلاروس إن الرئيس ألكسندر لوكاشينكو تحدث هاتفياً صباح أمس الأحد مع نظيره الروسي.
وتحدث الزعيمان مرتين في الأقل، السبت. وتوسط لوكاشينكو في اتفاق بين موسكو وبريغوجين الذي وافق على خفض تصعيد الموقف والذهاب إلى بيلاروس.
بكين تؤكد دعم موسكو
أكدت الصين، أمس الأحد، أنها تدعم روسيا في “حماية الاستقرار الوطني”، وذلك في أول تعليق رسمي لبكين على الأحداث في روسيا.
وجاء في بيان لوزارة الخارجية الصينية أن الصين بصفتها “جارة صديقة وشريكة في حقبة جديدة من التعاون الاستراتيجي الشامل، تدعم روسيا في حماية الاستقرار الوطني وتحقيق التنمية والازدهار”. وشدد البيان على أن بكين تعتبر أن المسألة “شأن داخلي” روسي.
وكانت الصين قد امتنعت حتى ليل الأحد عن التعليق على الأزمة التي شهدتها روسيا في نهاية الأسبوع، والتي وافق بريغوجين في إطار تسويتها على الانتقال إلى بيلاروس بعدما وافق بوتين على صفقة تعهد فيها عدم ملاحقة قائد المجموعة.
وأمس الأحد، استقبل وزير الخارجية الصيني تشين غانغ في بكين نائب وزير الخارجية الروسي أندري رودينكو. وأعلنت بكين أن المحادثات تناولت “العلاقات الصينية – الروسية” و”القضايا الدولية والإقليمية ذات الاهتمام المشترك”.
وفي بيانها حول المحادثات، أشارت موسكو إلى أن بكين أعربت عن “دعمها لجهود قادة روسيا الاتحادية من أجل استقرار الوضع في البلاد”.
وفي السنوات الأخيرة توطد التعاون الاقتصادي والتواصل الدبلوماسي بين موسكو بكين، وقد تعززت الشراكة الاستراتيجية بينهما منذ بدأ الهجوم الروسي – الأوكراني. وتؤكد بكين أنها على الحياد في الحرب الدائرة في أوكرانيا، لكنها تعرضت لانتقادات غربية بسبب عدم إدانتها موسكو وقربها من روسيا. ويقول محللون إن الصين هي الطرف الأقوى في العلاقات مع روسيا، وإن نفوذها آخذ في التنامي مع تزايد العزلة الدولية لموسكو.
ليتوانيا تدعو إلى تعزيز الجناح الشرقي لـ”الأطلسي”
اعتبر الرئيس الليتواني غيتاناس ناوسيدا، أمس الأحد، أنه سيتعين على حلف شمال الأطلسي “تعزيز” جناحه الشرقي إذا استضافت بيلاروس زعيم مجموعة “فاغنر”.
وليتوانيا الواقعة على بحر البلطيق متاخمة لكل من روسيا وبيلاروس، وتستضيف الشهر المقبل قمة حلف شمال الأطلسي.
وأدلى الرئيس الليتواني بتصريحه هذا بعد ترؤسه اجتماعاً لمجلس الأمن القومي خصص للبحث في تمرد اليوم الواحد الذي نفذته “فاغنر” من مساء الجمعة حتى مساء السبت، وزحف خلاله مقاتلوها نحو موسكو.
وقال غيتاناس نوسيدا للصحافيين “إذا انتهى الأمر ببريغوجين أو جزء من مجموعة (فاغنر) في بيلاروس من دون خطط أو نوايا محددة، فهذا يعني أنه سيتعين علينا تعزيز أمن حدودنا الشرقية”. وأضاف “أنا لا أتحدث فقط عن ليتوانيا اليوم، ولكن بالتأكيد عن حلف الأطلسي ككل”. وأوضح نوسيدا أن ليتوانيا ستخصص مزيداً من الموارد لأجهزة الاستخبارات لتقييم “الجوانب السياسية والأمنية لبيلاروس”. كما أكد أن بلاده ما زالت تخطط لاستضافة قمة حلف شمال الأطلسي المقررة الشهر المقبل، وأن الإجراءات الأمنية المحيطة بالفعالية لا تحتاج إلى تغيير بعد الأحداث الأخيرة في روسيا.
واعتبر نوسيدا أن نظيره الروسي بوتين سيواجه صعوبات أكبر بعد تمرد “فاغنر”.
مقتل اثنين في دونيتسك
من جانب آخر، قال رئيس بلدية مدينة دونيتسك الذي عينته روسيا على “تيليغرام” إن اثنين من المدنيين لقيا حتفهما، الأحد، في قصف نفذته القوات الأوكرانية.
وقال أليكسي كوليمزين إن شاباً يبلغ من العمر 18 سنة وامرأة عمرها 67 سنة قتلا جراء نيران معادية.
وفي وقت سابق، الأحد، قال حاكم مدينة خيرسون إن مدنياً لقي حتفه خلال قصف للقوات الروسية على المدينة الواقعة بجنوب أوكرانيا.
بريطانيا ودول حليفة دربت 17 ألف مجند أوكراني
دربت بريطانيا وحلفاء لها أكثر من 17 ألف مجند أوكراني خلال العام الماضي لمساعدة كييف في محاربة الهجوم الروسي، وفق ما أعلنت وزارة الدفاع البريطانية، الإثنين. وخضع المجندون لبرنامج “شاق” مدته خمسة أسابيع، قالت الوزارة إنه حولهم “من مدنيين إلى جنود”.
وبدأت بريطانيا وتسع دول شريكة، هي كندا وأستراليا ونيوزيلندا والنروج وفنلندا والسويد والدنمارك وليتوانيا وهولندا، هذه المبادرة لتجنيد متطوعين جدد في القوات المسلحة الأوكرانية في يونيو العام الماضي.
ويهدف برنامج التدريب الذي تقوده المملكة المتحدة وأطلق عليه اسم عملية “إنترفليكس” إلى تعليم المجندين الذين لديهم خبرة عسكرية قليلة أو معدومة، مهارات مختلفة بما في ذلك التعامل مع الأسلحة والإسعافات الأولية في ساحة المعركة وتكتيكات الدوريات.
وقال وزير الدفاع البريطاني بن والاس “ستواصل المملكة المتحدة وشركاؤنا الدوليون تقديم هذا الدعم الحيوي ومساعدة أوكرانيا في الدفاع ضد العدوان الروسي، طالما تطلب الأمر ذلك”.
وعرضت بريطانيا في البداية تدريب ما يصل إلى 10 آلاف جندي أوكراني على مهارات ساحة المعركة بناءً على التدريب الأساسي الذي يتلقاه الجنود في المملكة المتحدة. وقد تم حالياً توسيع البرنامج لتدريب نحو 30 ألف مجند بحلول عام 2024 وفق وزارة الدفاع البريطانية.
وقالت الوزارة إن التدريب أحدث “فارقاً كبيراً في الفاعلية القتالية” بأوكرانيا. وأضافت “القوات المسلحة البريطانية تبقي على اتصال وثيق مع أوكرانيا لتحسين الدورة التدريبية وتطويرها بناءً على المهارات التي تشتد الحاجة إليها في ساحة المعركة”.
—————————-
تمرد “فاغنر”.. تداعيات أخطر الساعات في حكم بوتين
انسحبت القوات الروسية المنتشرة لحماية العاصمة، اليوم الأحد، بعد إعلان قوات فاغنر الانسحاب. لكن التمرد الذي لم يدم طويلا قد يكون له عواقب طويلة المدى على قبضة الرئيس فلاديمير بوتين على السلطة لمدة عقدين من الزمن وحربه في أوكرانيا.
كانت صورة بوتين كقائد صلب قد تأثرت بشدة نتيجة لحرب أوكرانيا، التي دامت 16 شهرا، وحصدت أرواح أعداد ضخمة من القوات الروسية.
وقال العديد من المحللين إن مسيرة قوات فاغنر التي يقودها يفغيني بريغوجين، أمس السبت، باتجاه موسكو، كشفت عن العديد من نقاط الضعف. كما تعني أيضا سحب بعض أفضل القوات التي تقاتل في صفوف القوات الروسية في أوكرانيا من ساحة المعركة تلك: قوات فاغنر التابعة لبريغوجين والقوات الشيشانية التي جرى إرسالها للتصدي لهم.
بعد الدعوة إلى تمرد مسلح يهدف إلى الإطاحة بوزير الدفاع الروسي سيرغي شويغو، بدا أن بريغوجين ومقاتليه يسيطرون على مقر قيادة الجيش الروسي في روستوف أون دون الذي يشرف على القتال في أوكرانيا.
بعد ذلك، تقدم مقاتلو فاغنر نحو موسكو دون عوائق إلى حد كبير، لكن وسائل إعلام روسية ذكرت أنهم أسقطوا مروحيات وطائرة اتصالات عسكرية عدة، دون تعليق من وزارة الدفاع.
لم يوقفهم سوى اتفاق لانتقال بريغوجين إلى بيلاروسيا، التي دعمت الغزو الروسي لأوكرانيا، وإعلان المتحدث باسم الكرملين ديمتري بيسكوف إسقاط التهم الموجهة إليه بشن تمرد، وأمر بريغوجين قواته بالعودة إلى ثكناتهم ومواقعهم.
أعلنت الحكومة أيضا عدم توجيه اتهامات لمقاتلي فاغنر الذين شاركوا في التمرد، في الوقت الذي سيتلقى فيه الأفراد غير المشاركين في التمرد دعوة للانضمام إلى الجيش الروسي.
ورغم تعهد بوتين في وقت سابق بمعاقبة الضالعين في الانتفاضة المسلحة، دافع بيسكوف عن هذا التوجه، قائلا إن “الهدف الأسمى لبوتين هو تجنب إراقة الدماء والمواجهة الداخلية بنتائج غير متوقعة”.
أدرك المتابعون على وسائل التواصل الاجتماعي يوم السبت أن بريغوجين يتهرب من الملاحقة القضائية، بسبب تمرد مسلح في الوقت الذي هاجم فيه العديد من الروس الحرب في أوكرانيا، وصدرت ضدهم أحكام بالسجن لمدد طويلة.
بوتين الخاسر على المدى الطويل
ويرى محللون أن الاتفاق الذي أنهى الأزمة الحالية قد يتسبب في اندلاع أزمة طويلة الأجل.
وقال أستاذ الدراسات الاستراتيجية في جامعة سانت أندروز في اسكتلندا، فيليبس أوبراين: “بالنسبة إلى ديكتاتورية بُنيت على فكرة سلطة بلا منازع، كان هذا بمثابة إذلال شديد، ومن الصعب أن ترى مارد الشك يُجبر على العودة إلى القمقم. لذا، إذا كان بريغوجين قد خسر على المدى القصير، فمن المرجح أن يكون بوتين هو الخاسر على المدى الطويل”.
ظل بريغوجين، الذي أرسل سلسلة من الرسائل الصوتية والفيديوهات خلال تمرده، صامتا منذ إعلان الكرملين عن الاتفاق. لم يتضح ما إذا كان في بيلاروسيا بعد، أو ما إذا كان أي من جنود فاغنر سيتبعونه.
وردا على أسئلة “أسوشييتد برس”، أجاب المكتب الصحافي لبريغوجين بأنه لا يمكنه الرد على الفور، ولكنه “سيجيب عن الأسئلة عندما يحصل على اتصال عادي”.
وأظهر مقطع فيديو في روستوف أون دون الأفراد يهتفون لقوات فاغنر أثناء مغادرتهم. وركض البعض لمصافحة بريغوجين، الذي كان يركب سيارة دفع رباعي.
وقال حاكم المنطقة في وقت لاحق إن جميع القوات غادرت المدينة. كما ذكرت وكالات الأنباء الروسية أن سلطات ليبيتسك أكدت أن قوات فاغنر غادرت تلك المنطقة التي تقع على الطريق المؤدية إلى موسكو من روستوف.
بدت مدينة روستوف هادئة صباح اليوم الأحد، إلا من آثار الدبابات على الطرق فقط، في تذكير بوجود مقاتلي فاغنر.
وقال أحد السكان، ويدعى سيرغي، الذي وافق فقط على ذكر اسمه الأول: “انتهى كل شيء، الحمد لله، بأدنى قدر من الضحايا. عمل جيد”، مشيرا إلى أن “جنود فاغنر كانوا بالنسبة لي أبطالا، لكنهم لم يعودوا كذلك الآن، لأنه ما كان ينبغي أن يفعلوا ما فعلوه”.
في منطقة ليبيتسك، بدا السكان غير منزعجين من الاضطرابات. تقول ميلينا غوربونوفا لوكالة “أسوشييتد برس”: “لم يعطلوا أي شيء. وقفوا بهدوء على الرصيف ولم يقتربوا أو يتحدثوا إلى أي شخص”.
وصنعت حفر في الطريق السريع لإبطاء مسيرة قوات فاغنر، ولكن بحلول اليوم الأحد أعيد رصف الطرق وتعبيدها مجددا.
ومع تحرك قوات فاغنر شمالا باتجاه موسكو، أقامت القوات الروسية المسلحة بالبنادق الآلية نقاط تفتيش على أطراف المدينة. وأعلن التلفزيون الشيشاني الرسمي سحب حوالي 3000 جندي شيشاني من الجبهة في أوكرانيا لنقلهم سريعا إلى هناك في ساعة مبكرة من صباح يوم السبت.
بحلول بعد ظهر اليوم الأحد، انسحبت القوات من العاصمة، ونزل الأفراد إلى الشوارع وتوافدوا على المقاهي. وعادت حركة المرور إلى طبيعتها، وأزيلت الحواجز ونقاط التفتيش، لكن الميدان الأحمر ظل مغلقا أمام الزوار.
على الطرق السريعة المؤدية إلى موسكو، أصلحت أطقم العمل الطرق المتضررة بعد ساعات من المخاوف.
وأعلن مذيعو محطات التلفزيون الرسمية الاتفاق الذي أنهى الأزمة بأنه أحد مظاهر “حكمة بوتين”، وبثوا لقطات لجنود فاغنر وهم ينسحبون من روستوف أون دون، وعودة الطمأنينة إلى قلوب السكان المحليين الذين يخشون معركة دامية للسيطرة على المدينة. وأشاد الأشخاص الذين قابلتهم القناة الأولى هناك بطريقة تعامل بوتين مع الأزمة.
لكن معهد دراسة الحرب، ومقره الولايات المتحدة، حذر من أن “الكرملين يواجه الآن توازنا غير مستقر للغاية”. وكتب المعهد الذي يتابع الحرب في أوكرانيا عن كثب منذ البداية أن “الاتفاق ليس سوى حل قصير الأمد، وليس حلا طويل الأمد”.
وكان بريغوجين قد طالب بالإطاحة بوزير الدفاع سيرغي شويغو، الذي يوجه إليه قائد فاغنر سهام الانتقادات منذ فترة طويلة، بسبب الطريقة التي أدار بها الحرب في أوكرانيا.
وأشارت تقارير سبقت التمرد إلى أن الولايات المتحدة تلقت معلومات استخبارية تفيد بحشد بريغوجين قواته بالقرب من الحدود مع روسيا لبعض الوقت. لكن ذلك يتعارض مع ادعاء بريغوجين بأن تمرده كان ردا على هجوم شنه الجيش الروسي على معسكراته الميدانية في أوكرانيا يوم الجمعة، والذي قال إنه قتل عددا كبيرا من رجاله. ونفت وزارة الدفاع مهاجمة المعسكرات.
وكان الدافع المحتمل لتمرد بريغوجين هو أوامر وزارة الدفاع، التي يؤيدها بوتين، توقيع جنود الشركات الخاصة عقودا معها بحلول الأول من يوليو/ تموز. لكن بريغوجين رفض القيام بذلك.
(أسوشييتد برس)
—————————–
فاغنر.. ما مصير المرتزقة الروس في الشرق الأوسط وأفريقيا؟
قال مسؤولون إن الولايات المتحدة تعكف على دراسة مدى تأثير تمرد مجموعة فاغنر القصير الأمد ضد المؤسسة العسكرية الروسية على عمليات تلك الميليشيات في الشرق الأوسط وأفريقيا.
وكان زعيم فاغنر، يفغيني بريغوجين قد أذهل العالم بقيادته تمردا مسلحا، السبت، وذلك بعد أن نقل مقاتليه من الحدود الأوكرانية إلى مسافة 200 كيلومتر من موسكو قبل أن يوقف تحركه فجأة.
ويتهم صانعو السياسة الأميركيون تلك الميليشيات الروسية الخاصة بارتكاب انتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان، كما وقع اشتباك مباشر بين الجيش الأميركي وقوات فاغنر في سوريا في العام 2018، وأسفر عن مصرع المئات من المرتزقة.
وقال مسؤول أميركي إن من بين الاحتمالات التي يدرسها محللو السياسة هو أن استعداد قادة الدول الأفريقية لتوظيف مقاتلي المجموعة قد يتراجع بعد مشاهدة بريغوجين ينقلب على رعاته.
وقال المسؤول الذي تحدث شريطة عدم الكشف عن هويته “إذا تم استيعاب قوات فاغنر هذه في الجيش الروسي بين عشية وضحاها، فقد تكون هناك مشكلة، فالعديد من هذه الدول لم تكن تطلب وجودا عسكريا روسيا عندما طلبت قوات فاغنر”.
وقال المسؤول إن بعض هؤلاء الزعماء الأفارقة قلقون بشدة من الخصوم الداخليين، وإن مسيرة فاغنر صوب موسكو قد تغذي مخاوفهم.
“تأثير مزعزع للاستقرار”
على الرغم من أن مجموعة فاغنر ليست جزءا رسميا من الجيش الروسي، فإنها مهمة لبوتين لأنها يمكن أن تعزز أولويات سياسته الخارجية وبسطها بجزء بسيط من التكلفة، حيث قال زعيم الكرملين، الثلاثاء، إن المجموعة كانت “ممولة بالكامل” من ميزانية الدولة.
ونشرت المنظمة قوات بالآلاف في أفريقيا والشرق الأوسط. وأقامت علاقات قوية مع عدد من الحكومات الأفريقية على مدار العقد الماضي من خلال عمليات في دول من بينها مالي وجمهورية أفريقيا الوسطى وليبيا.
ولعبت المجموعة دورا محوريا في الغزو الروسي لأوكرانيا، وخاضت الكثير من أكثر المعارك دموية ضد القوات الأوكرانية.
وفي البنتاغون، رفض المتحدث باسم وزارة الدفاع الأميركية، البريغادير جنرال باتريك رايدر، التكهن بمستقبل فاغنر، لكنه أدان تصرفات المجموعة في أفريقيا وغيرها.
وقال رايدر إن لمرتزقة فاغنر “تأثير مزعزع للاستقرار في تلك المنطقة وبالتأكيد يشكلون تهديدا، ولهذا السبب تم إعلانهم منظمة إجرامية عابرة للحدود”.
من جانبه، قال وزير الخارجية الروسي، سيرغي لافروف، لوسائل إعلام روسية، الاثنين، إن نشاط فاغنر في جمهورية أفريقيا الوسطى سيستمر.
وقال المسؤول الأميركي إنه على الرغم من تصريحات لافروف، فإن الولايات المتحدة تتطلع لمعرفة ما إذا كانت الدول في أفريقيا تثق في هذه الوعود.
وتحدى بريغوجين، وهو حليف سابق لبوتين، أوامر هذا الشهر بوضع قواته تحت قيادة وزارة الدفاع الروسية.
وبعد التمرد، قال بوتين، الاثنين، إنه سيفي بوعده بالسماح لمقاتلي فاغنر بالانتقال إلى بيلاروسيا إذا أرادوا ذلك، أو توقيع عقود عسكرية رسمية، أو العودة إلى عائلاتهم.
وقال المسؤول الأميركي إن الكثير في هذا الصدد سيعتمد على مصير بريغوجين ومدى النفوذ الذي سيحتفظ به مع قواته في أفريقيا.
واتفق مايكل مولروي، وهو مسؤول كبير سابق في البنتاغون، مع فكرة أن أحداث مطلع الأسبوع يمكن أن تضر فاغنر في أفريقيا.
وقال مولروي: “سيُنظر إليهم على أنهم غير مستقرين للغاية وربما يشكلون تهديدا للقيادة في تلك البلدان”. وأضاف “لقد كادوا أن يبدأوا انقلابا في (بلادهم)”.
وقال مسؤول أميركي ثان إنه على الرغم من المخاطر الواضحة على منظمة بريغوجين، هناك فرصة لاستفادة المجموعة من تمردها. فقد تؤدي مسيرة فاغنر المفاجئة نحو موسكو، التي لم تواجه مقاومة تذكر، إلى تعزيز سمعتها، مما يؤدي إلى المزيد من الأعمال في أفريقيا.
وقال المسؤول الأميركي الثاني “إنه يتعامل في أمور العنف وهذا أمر جيد للترويج له”.
رويترز
———————-
مأزق “الاستقرار”… حلفاء بوتين يعيدون تقييم العلاقة
قبل فترة قصيرة من ظهوره في خطاب الاثنين، كان الرئيس الروسي فلاديمير بوتين يتلقى اتصالات من حلفاء موسكو القلقين بسبب محاولة قائد مرتزقة فاغنر، يفغيني بريغوزين، الانقلابية.
وتقول صحيفة نيويورك تايمز إن بوتين تلقى اتصالات من قادة إيران وقطر ودول صديقة أخرى، و”تلقى تعبيراتهم عن الدعم بينما وعد بالعودة إلى الاستقرار”.
ويعتقد محللون تحدثوا للصحيفة أنه فيما قد يكون من المستبعد أن يتخلى أصدقاء موسكو عنها، فإن من المرجح أن “يراهنوا بحذر” على مستقبل روسيا واستقرارها.
ونقلت الصحيفة عن مايكل أ. ماكفول، السفير الأميركي السابق في روسيا قوله “إذا كان هدفك هو الاستقرار، فيجب أن تكون قلقا بشأن قدرة بوتين على توفير هذا الاستقرار”.
وأضاف ماكفول إن تمرد يفغيني بريغوزين قدم لأوكرانيا وحلفائها فرصة جديدة لإقناع القادة الأجانب، من بكين إلى برازيليا، بأن دعم روسيا، أو البقاء على الحياد، كان رهانا خاطئا.
الصين
تعتبر الصين، وفقا للصحيفة، روسيا عاملا مهما في حملتها لإضعاف الولايات المتحدة.
والإثنين، أكدت وزارة الخارجية الصينية دعمها لروسيا، واصفة إياها بأنها “جار صديق وشريك استراتيجي شامل للتنسيق في العصر الجديد”.
مع هذا فإن الرئيس الصيني لم يتحدث مع نظيره الروسي منذ انطلاق المحاولة الانقلابية.
وقال إيفان ميديروس، أستاذ الدراسات الآسيوية في جامعة جورج تاون للصحيفة “أسوأ سيناريو لشي هو بوتين ضعيف يخسر الحرب ويطاح به في النهاية”، مضيفا أن “روسيا ضعيفة تحرم الصين من حليف في منافستها مع الولايات المتحدة، وربما الأسوأ من ذلك، تترك شي معزولا عالميا وتحت ضغط من الديمقراطيات”.
الشرق الأوسط
وتقول الصحيفة إن مزيجا مماثلا من الدعم والشكوك بدا واضحا في الشرق الأوسط.
وفيما حافظت السعودية ودول الخليج الأخرى على علاقاتها مع روسيا رغم الحرب في أوكرانيا، غالبا بسبب “نظرتها بشكل متزايد إلى بوتين كمصدر بديل للأمن في منطقة مضطربة حيث ينظر إلى الولايات المتحدة على أنها تنسحب”.
وتلقى بوتين، وفقا للصحيفة، اتصالات من أمير قطر ورئيس الإمارات وولي العهد السعودي.
وأعرب ولي العهد السعودي، محمد بن سلمان، الثلاثاء عن دعمه “للخطوات التي اتخذتها روسيا للدفاع عن النظام الدستوري”، وفقا للكرملين.
وتقول الصحيفة إن هذا الخطاب “يغطي على التوترات بين المملكة العربية السعودية وروسيا”، حيث تبيع موسكو النفط بقوة بأسعار منخفضة، في الوقت الذي تحاول فيه المملكة العربية السعودية دعم السعر.
وتنقل الصحيفة عن مارتن إنديك، زميل مجلس العلاقات الخارجية الأميركي، قوله إن الرياض وعواصم الخليج الأخرى “اعتقدت أن بإمكانها تحقيق التوازن بين الولايات المتحدة غير الموثوقة وروسيا الأكثر موثوقية” مستدركا “لكنهم الآن يواجهون روسيا غير موثوقة وربما غير مستقرة”.
إيران
تحدث الرئيس الإيراني، إبراهيم رئيسي، إلى بوتين الاثنين لتقديم “دعمه الكامل”، وفقا للكرملين، فيما أعلنت إيران أن قائد شرطتها، العميد أحمد رضا رادان، سيسافر إلى موسكو بدعوة من المسؤولين الروس لتوسيع التعاون الأمني، بما في ذلك مكافحة الجريمة المنظمة.
وتنقل الصحيفة عن إنديك ترجيحه لأن يكون “ضعف بوتين مفيدا لإيران في بعض النواحي، لأنه يجعله أكثر اعتمادا على الطائرات من دون طيار والصواريخ التي تنقلها طهران إلى روسيا، كما أنه يمنح إيران حرية أكبر في سوريا”.
ولكن حتى في طهران، كانت هناك أصوات متفرقة تدعو إلى إعادة تقييم العلاقة في أعقاب تمرد بريغوجين، وفقا للصحيفة.
وبالنسبة لبعض البلدان، مثل الهند، فإن هناك عواقب اقتصادية كبرى لإعادة ضبط العلاقات مع روسيا.
وبرزت الهند، التي لا تزال محايدة في الصراع، كواحدة من أكبر مشتري النفط الروسي، مستفيدة من سقف الأسعار المفروض على صادرات النفط الروسية من قبل الولايات المتحدة وحلفائها.
وخلال زيارة الدولة التي قام بها مؤخرا إلى واشنطن، لم يظهر رئيس الوزراء الهندي ناريندرا مودي أي مؤشر يذكر على أنه يعتزم التخلي عن هذه السياسة.
نهاية فاغنر؟
وتقول الصحيفة إن روسيا حصلت في بعض الأحيان على الدعم نتيجة لنشاطات فاغنر في بعض الدول، مثل مالي التي يعتقد أن مجموعة المرتزقة تقود نشاطات عسكرية بالتعاون مع الحكومة لمقاتلة متمردين.
و في فبراير كانت مالي واحدة من سبع دول فقط – من بينها بيلاروسيا وكوريا الشمالية – تصوت ضد قرار الأمم المتحدة الذي يطالب بانسحاب القوات الروسية من أوكرانيا.
وفي غياب فاغنر، من غير المعروف كيف ستعيد تلك الدول رسم علاقاتها مع روسيا.
ولم يعلق المسؤولون في مالي بعد على الأزمة في روسيا، مما يؤكد “مأزقهم” وفقا للصحيفة.
————————
تحليل لـCNN: كيف حاول بوتين إعادة تأكيد سيطرته على روسيا بعد تمرد فاغنر؟
لمدة يومين بعد أن ألغى زعيم شركة فاغنر العسكرية الروسية يفغيني بريغوجين تمرده الفاشل، لم يقل الرئيس الروسي فلاديمير بوتين شيئا بشكل علني، بعد أن واجه أكبر تحد لسلطته منذ 23 عاما، وكاد أن يشهد انزلاق بلاده نحو حرب أهلية، بينما توقع الكثيرون أن يرد الرئيس الروسي بصوت عال وغاضب.
قد يهمك أيضاً
لوكاشينكو: أخبرت بريغوجين أن قوات فاغنر سوف “تُسحق مثل حشرة” إذا سارت إلى موسكو
وبدلا من ذلك، كُسر الصمت أولا من قبل خصمه، ففي رسالة صوتية مدتها 11 دقيقة نُشرت عبر قناته على تلغرام، زعم بريغوجين أنه قام فقط بتنظيم احتجاج، وليس انقلابا، في محاولة “لتقديم كبار الضباط العسكريين الروس للعدالة جراء أخطائهم أثناء العملية العسكرية الخاصة”، في إشارة إلى غزو أوكرانيا.
وعندما خاطب بوتين الأمة الروسية أخيرا، يوم الاثنين، كان لطيفا بشكل ملحوظ، وفي المرة الأخيرة التي شوهد فيها يوم السبت، أخبر الروس بأن تمرد بريغوجين كان “طعنة في ظهر بلدنا وشعبنا”، ووعد بمحاسبة المتمردين، والآن، شكر المتمردين على “قرارهم الصحيح” بوقف تقدمهم، وعرض عليهم عقودا للانضمام إلى وزارة الدفاع الروسية، كما زعم أن “التمرد المسلح كان سيتم قمعه على أي حال”، دون أن يحدد كيف.
وبالنسبة لزعيم مشهور بتقديم أطروحات تاريخية كبرى في خطابات مدتها ساعة، كان خطاب يوم الاثنين مقتضبا، ولم يستمر سوى بضع دقائق، وترك أسئلة أكثر من الإجابات، مثل لماذا سُمح لبريغوجين بالفرار إلى بيلاروسيا؟، ولماذا لم يعاقب المتمردون؟، وكيف يحاول بوتين إعادة تأكيد سلطته؟
التهدئة أولا ثم العقاب
في 36 ساعة غريبة وفوضوية، قاد بريغوجين قواته لمسافة 800 ميل من حدود أوكرانيا باتجاه موسكو، واستولى على قيادة عسكرية إقليمية، واقتحم مدينة كبيرة، وادعى أنه أسقط طائرة هليكوبتر عسكرية.
وتوقع الكثيرون أن يكون رد بوتين سريعا ووحشيا، وقال في خطابه للروس، يوم السبت، إن “خيانة فاغنر كانت خيانة لبلدهم”.
وقال دميتري ألبيروفيتش، العضو في المركز البحثي “هوم لاند سكيورتي”، لشبكة CNN: “بوتين يقدر الولاء قبل كل شيء، يمكنك أن تسرق، أن تقتل، أن تكون مجرما، لكن الشيء الوحيد الذي لا يمكنك أن تفعله هو الخيانة”.
وبالنظر إلى ذلك، بدا إحجام بوتين الواضح عن معاقبة المتمردين محيرا، ولكن، وفقا لما ذكره كيريل شاميف، الزميل في المجلس الأوروبي للعلاقات الخارجية، فإن الأولوية الأولى لبوتين ستكون “نزع سلاح مجموعة فاغنر وتسريحها”، قبل تطبيق أي عقوبة محتملة.
وقال شامييف، لـCNN: “على المستوى التكتيكي، من المهم التهدئة قليلا، وجعل الأمور هادئة، وإعطاء بعض الأمل والفوائد لمرتزقة فاغنر العاديين والقيادة العليا، لتقليل دوافعهم للعمل”.
ويعمل بوتين حاليا على تحقيق التوازن، ربما كان يميل إلى الاستجابة بسرعة، لإثبات أنه لن يتم التسامح مع التمرد ولإظهار قوته، ولكن إذا تحرك بسرعة كبيرة، فإنه يخاطر بإثارة تمرد آخر وإعطاء انطباع بالذعر.
وقال شاميف: “إذا كان رد فعلك سريعا جدا، فيمكن أن يُظهر للنخب أنك خائف”، ومن المفارقات أن اتباع نهج “الرجل القوي” يمكن أن يكشف الضعف بدلا من ذلك.
ووفقا لشامييف، “يجب أن يكون بريغوجين عبرة، لكن هذه مسألة دقيقة تتعلق بالتوقيت، فحرب أوكرانيا تدخل مرحلة غير مؤكدة، وربما تكون بداية هجوم كييف المضاد متعثرة، لكن وحدة القوات الروسية ومعنوياتها أصبحت موضع تساؤل منذ فوضى نهاية الأسبوع الماضي”.
وإذا كان الكرملين قد أبعد بطريقة ما بريغوجين على الفور، وانهارت القوات الروسية في أوكرانيا، فقد تثبت انتقادات رئيس فاغنر صحتها.
وتابع المحلل: “سيبدو الأمر، لقد كان بريجوجين على حق، وفي الواقع، لقد كان محقا فيما يتعلق بالجيش، وكان محقا بشأن مدى عدم استعداد الجنرالات وعدم درايتهم والآن قاموا بقتله، إنه موقف سيئ للكرملين”.
ومن ثم، فإن رد فعل بوتين إلى حد ما قد يكون حكيما، وقد ظهر بشكل أكبر يوم الثلاثاء، حيث شكر ضباط الأمن على دورهم الواضح في قمع التمرد، وقال للمسؤولين: “لقد أوقفتم الحرب الأهلية”.
وأضاف: “لقد تصرفتم بوضوح وبطريقة منسقة بشكل جيد، في موقف صعب، وأثبتم بالفعل ولاءكم لشعب روسيا وللقسم العسكري وأظهرتهم المسؤولية عن مصير الوطن ومستقبله”.
كما قال جهاز الأمن الفيدرالي الروسي (FSB)، يوم الثلاثاء، إنه أسقط القضية ضد مجموعة فاغنر لأن “المشاركين فيها أوقفوا أفعالهم التي تهدف بشكل مباشر إلى ارتكاب جريمة”، وفقا لوكالة أنباء “ريا نوفوستي” الروسية.
كما كسر الرئيس البيلاروسي ألكسندر لوكاشينكو صمته، الثلاثاء، مؤكدا أن بريغوجين سافر إلى بيلاروسيا بموجب شروط “صفقة” توسط فيها (الرئيس البيلاروسي)، مما سمح له بمغادرة روسيا دون مواجهة تهم جنائية.
وزعم لوكاشينكو أنه أخبر بريغوجين أنه سوف “يُسحق مثل الحشرة” إذا واصل تقدمه نحو موسكو، وأقنعه بالدعوة إلى التمرد لكن بينما كشف عن بعض تفاصيل المفاوضات، ولم يقل لوكاشينكو الكثير عن مستقبل بريغوجين.
نقص الدعم الشعبي
ويعد وجود رؤية خلال إدارة الأزمة، أمرا مهما، والآن بعد أن تلاشى الغبار بعد عطلة نهاية أسبوع فوضوية، يحاول بوتين إظهرا سيطرته لكنه لم يتمكن من الدعوة إلى طريقة أخرى لإعادة تأكيد السيطرة التي استخدمها القادة الآخرون بعد مواجهة تحديات مماثلة لسلطتهم: حشد الدعم السياسي.
فعندما واجه الرئيس التركي رجب طيب أردوغان محاولة انقلاب في عام 2016، كان رده سريعا ولا هوادة فيه، وسُجن الآلاف في غضون أيام، وأعلن أنه يفكر في إعادة العمل بعقوبة الإعدام، وحتى بعد مرور عام، كان غضبه واضحا، وقال: “سنقطع رؤوس هؤلاء الخونة”.
وطوال الأزمة، بالكاد ترك أردوغان موجات الأثير، فقد حضر جنازات من قتلوا في التمرد، وحشد المتظاهرين لدعمه، ونظم مظاهرات حاشدة مؤيدة للحكومة في المدن الكبرى.
هذه المشاهد كانت غائبة في روسيا، كانت مظاهرات الدعم العامة الوحيدة لبريغوجين أثناء طرده من روستوف أون دون مساء السبت، اصطف الناس في الشوارع للتعبير عن فرحتهم، مثل المشجعين الذين ينتظرون خارج الملعب لإلقاء نظرة على نجمهم الرياضي المفضل.
وتعتمد قوة الكرملين بشكل كبير على نزع الطابع السياسي عن غالبية الروس، وقال شاميف: “عدم تسييس طوعي ومستقل، حتى لا ينزل الناس إلى الشوارع بمفردهم”.
وبسبب هذا التكتيك المُطبق منذ فترة طويلة، لا يمكن لبوتين أن يتوقع من ملايين الروس أن يحتشدوا للدفاع عنه، كما في حالة أردوغان.
وفي الوقت الحالي، يتعلق الأمر بوقته قبل أن يقرر كيف ومتى يعاقب بريغوجين، لكن خلال هذا التأخير، قد تتزايد الشكوك في روسيا.
وقال ألبيروفيتش: “إذا لم يُسجن، إذا لم يقتله بوتين، فسيبعث ذلك بإشارة إلى الجميع بأن بوتين أضعف مما كانوا يعتقدون، ويمكنك الإفلات”.
وأضاف: “ليس هناك شك في أن قوته الآن ضعفت، وأن الكثير من الناس في جميع أنحاء البلاد- النخب والحكام وأشخاص في الأجهزة الأمنية – ربما يسألون أنفسهم: إذا كان بإمكان بريغوجين حقا الإفلات من هذا، مع سلطة دولة صعبة مثل تلك، فما الذي يمكن أن يحدث لنا لو فعلنا مثله؟”.
———————-
تساؤلات أميركية بشأن أنشطة “فاغنر” في الشرق الأوسط وأفريقيا
قال مسؤولون إنّ الولايات المتحدة تعكف على دراسة مدى تأثير تمرد مجموعة “فاغنر” للمرتزقة القصير الأمد ضد المؤسسة العسكرية الروسية على عمليات المجموعة العسكرية الخاصة في الشرق الأوسط وأفريقيا.
أذهل زعيم “فاغنر” يفغيني بريغوجين العالم بقيادته تمرداً مسلحاً، يوم السبت، نقل مقاتليه من الحدود الأوكرانية إلى مسافة 200 كيلومتر من موسكو قبل أن يوقف تحركه فجأة.
وينظر صانعو السياسة الأميركيون إلى المجموعة من منظور التنافس مع روسيا على النفوذ في أفريقيا والشرق الأوسط، ويتهمونها بارتكاب انتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان. واشتبك الجيش الأميركي بشكل مباشر مع قوات “فاغنر” في سورية.
وقال مسؤول أميركي إن من بين الاحتمالات التي يدرسها محللو السياسة هو أن استعداد قادة الدول الأفريقية لتوظيف مقاتلي المجموعة قد يتراجع بعد مشاهدة بريغوجين ينقلب على رعاته. وكان أحد الخيارات التي قدمها الرئيس الروسي فلاديمير بوتين لأعضاء “فاغنر” هو توقيع عقد مع القوات المسلحة الروسية.
وقال المسؤول الذي تحدث شريطة عدم الكشف عن هويته: “إذا تم استيعاب قوات فاغنر هذه في الجيش الروسي بين عشية وضحاها، فقد تكون هناك مشكلة. العديد من هذه الدول لم تكن تطلب وجوداً عسكرياً روسياً عندما طلبت قوات فاغنر”.
وقال المسؤول إن بعض هؤلاء الزعماء الأفارقة قلقون بشدة من الخصوم الداخليين، وإن مسيرة “فاغنر” صوب موسكو قد تغذي مخاوفهم.
على الرغم من أن مجموعة “فاغنر” ليست جزءاً رسمياً من الجيش الروسي، فإنها مهمة لبوتين لأنها يمكن أن تعزز أولويات سياسته الخارجية وبسطها بجزء بسيط من الكلفة. وقال بوتين، يوم الثلاثاء، إن المجموعة كانت “ممولة بالكامل” من ميزانية الدولة.
نشرت المجموعة قوات بالآلاف في أفريقيا والشرق الأوسط، وأقامت علاقات قوية مع عدد من الحكومات الأفريقية على مدار العقد الماضي من خلال عمليات في دول، من بينها مالي وجمهورية أفريقيا الوسطى وليبيا.
ولعبت المجموعة دوراً محورياً في الغزو الروسي لأوكرانيا، وخاضت الكثير من أكثر المعارك دموية ضد القوات الأوكرانية.
وفي البنتاغون، رفض المتحدث باسم وزارة الدفاع الأميركية باتريك رايدر التكهن بمستقبل “فاغنر”، لكنه أدان تصرفات المجموعة في أفريقيا وغيرها.
وقال رايدر “لهم تأثير مزعزع للاستقرار في تلك المنطقة وبالتأكيد يشكلون تهديدا، ولهذا السبب تم إعلانهم منظمة إجرامية عابرة للحدود”.
وقال وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف لوسائل إعلام روسية، يوم الاثنين، إن نشاط “فاغنر” في جمهورية أفريقيا الوسطى سيستمر.
وقال المسؤول الأميركي إنه على الرغم من تصريحات لافروف، فإن الولايات المتحدة تتطلع لمعرفة ما إذا كانت الدول في أفريقيا تثق في هذه الوعود.
تحدى بريغوجين، وهو حليف سابق لبوتين، أوامر هذا الشهر بوضع قواته تحت قيادة وزارة الدفاع الروسية. وبعد التمرد، قال بوتين، يوم الاثنين، إنه سيفي بوعده بالسماح لمقاتلي “فاغنر” بالانتقال إلى بيلاروسيا إذا أرادوا ذلك، أو توقيع عقود عسكرية رسمية، أو العودة إلى عائلاتهم.
وقال المسؤول الأميركي إن الكثير في هذا الصدد سيعتمد على مصير بريغوجين ومدى النفوذ الذي سيحتفظ به مع قواته في أفريقيا.
واتفق مايكل مولروي، وهو مسؤول كبير سابق في البنتاغون، مع فكرة أن أحداث نهاية الأسبوع الماضي يمكن أن تضر “فاغنر” في أفريقيا.
وقال مولروي “سيُنظر إليهم على أنهم غير مستقرين للغاية وربما يشكلون تهديدا للقيادة في تلك البلدان”، وأضاف “لقد كادوا أن يبدأوا انقلاباً في (بلادهم)”.
وقال مسؤول أميركي ثان إنه على الرغم من المخاطر الواضحة على مجموعة بريغوجين، هناك فرصة لاستفادة المجموعة من تمردها. فقد تؤدي مسيرة “فاغنر” المفاجئة نحو موسكو، التي لم تواجه مقاومة تذكر، إلى تعزيز سمعتها، وهو ما يؤدي إلى المزيد من الأعمال في أفريقيا.
وقال المسؤول الأميركي الثاني “إنه يتعامل في أمور العنف وهذا أمر جيد للترويج له”.
(رويترز)
——————-
هجوم إلكتروني يعطّل نظام اتصالات بالأقمار الاصطناعية يخدم الجيش الروسي: ما علاقة “فاغنر”؟
تعطّل نظام اتصالات عبر الأقمار الاصطناعية يخدم الجيش الروسي، نتيجة هجوم إلكتروني في وقت متأخر من يوم الأربعاء، وظلّ معظمه معطلاً يوم الخميس، وفق ما ذكرت “واشنطن بوست”، في حادثة تذكّر بهجوم على نظام مماثل استخدمته أوكرانيا في بداية الحرب الروسية عليها.
وأفادت الصحيفة الأميركية، الجمعة، نقلاً عن أستاذ الفضاء السيبراني في جامعة الدفاع الوطني جاي دي وورك، بأن شركة “دوزور تيليبورت”، المشغلة لنظام الأقمار الاصطناعية، قامت بتحويل بعض المستخدمين إلى شبكات أرضية أثناء الانقطاع.
بدوره، قال المحلل دوغ مادوري، من شركة “كنتيك”، والذي يراقب حركة الإنترنت، إن شركة “أمتيل-سفياز”، وهي الشركة الأم لشركة “دوزور”، تمكّنت من استعادة إحدى الشبكات المستهدفة، فيما بقيت ثلاث شبكات أخرى معطّلة.
A satellite communications system serving the Russian military was knocked offline by a cyberattack and remained down on Thursday, in an incident reminiscent of an attack on a similar system used by Ukraine at the start of the war between the countries. https://t.co/3N1NxWDq74
— The Washington Post (@washingtonpost) June 30, 2023
وفي وقت لم تصدر الشركة أي بيان بشأن العطل الذي حدث، أعلنت مجموعتان على الأقلّ مسؤوليتهما عن الهجوم، إحداها تصف نفسها بأنها منظمة قرصنة، والثانية كجزء من مجموعة “فاغنر” العسكرية الروسية الخاصة، والتي قادت الأسبوع الماضي تمرّداً على القيادة العسكرية الروسية، انتهى بوساطة بيلاروسية.
وادّعى المهاجمون أنهم أرسلوا برامج ضارة إلى محطات الأقمار الاصطناعية، ما أدّى إلى تشويش وصعوبات في وصول خبراء الأمن لمراكز المراقبة.
رصد
مدير المخابرات الأميركية يزور كييف سراً: خطط لدفع روسيا إلى التفاوض
وأكدت مصادر مطلعة على جهود القراصنة للصحيفة، أن العديد من القراصنة الذين يدّعون أنهم يعملون بشكل مستقل، هاجموا مواقع إلكترونية وبنية تحتية حيوية في روسيا وأوكرانيا منذ بدء الحرب، لكنّ العديد منهم ينسّقون مع القوات العسكرية في كلا البلدين، أو يعملون كغطاء لها.
ولفتت الصحيفة إلى أن ربط الهجوم بمجموعة فاغنر قد يكون مزيفاً، لخلق مزيد من الانقسام في روسيا، لكن حقيقة حدوث ذلك قد يكون أكثر إثارة للاهتمام، إذ يظهر أن تمرّد “فاغنر” قد يستمرّ في الفضاء الإلكتروني حتى ولو توقف على الأرض.
وسيعتمد تأثير العطل على مدته، وما إذا كان عملاء الشركة لديهم وسائل أخرى موثوقة وآمنة للتواصل، إذ يُعتبر التواصل عبر الأقمار الاصطناعية بمثابة الدعم، في حين أن الوحدات العسكرية المتحركة قد تجده أكثر أهمية.
وفي هذا السياق، شكّك مدير مؤسسة “سيكيور وورلد فاونديشن” المعنية بشؤون الفضاء بريان ويدن، بأن يكون هذا العطل معوّقاً، إلا في حال كان هذا خيار الاتصال الوحيد لبعض العملاء، على حدّ قوله.
وفي وقت لم يرد متحدث باسم الجيش الأميركي على طلب للتعليق، قال شخص مطلع على العمليات الغربية التي تدعم أوكرانيا في الفضاء الإلكتروني، إنه لم يتضح من يقف وراء الهجوم الأخير.
والعام الماضي، اتهمت الحكومة الأوكرانية، روسيا، بالمسؤولية عن هجوم إلكتروني أدى إلى تشويه مواقع إلكترونية حكومية، بعد إعلان شركة مايكروسوفت عن إصابة العشرات من أنظمة الكمبيوتر، في عدد غير محدّد من الوكالات الحكومية الأوكرانية، ببرامج ضارة مدمرة متخفية في صورة برامج فدية.
———————–
استهداف جسر الشغور… هل تجوّع روسيا الشمال السوري؟/ مصعب الياسين
أسفر قصف الطائرات الحربية الروسية لسوق الخضار في جسر الشغور شمال سوريا، عن مقتل 9 مدنيين وإصابة 30 آخرين بحسب حصيلة غير نهائية لـ”الدفاع المدني السوري” العامل في شمال غربي سوريا. فهل تسعى روسيا لتجويع الشمال السوري المنكوب ؟
تنتظر الطفلة أحلام القدور العيد على أحرّ من الجمر، إذ وعدها والدها بشراء ثوب جديد من سوق مدينة جسر الشغور (غرب محافظة إدلب)، حين يزوره لبيع محصوله من البندورة في سوق الخضار.
أحلام التي ترافق والدها إلى عمله، تراقب الثوب المعروض على واجهة أحد المحلات، بانتظار اللحظة التي سترتديه فيها، إلا أن القصف الروسيّ قتل لهفة أحلام ووالدها ومزارعين آخرين، إذ استهدفت سوق الخضار الطائرات الحربية الروسية في 25 حزيران/ يونيو.
أحلام وردية اختلطت بالدم
يخبرنا نعمان القدور، شقيق أحلام، كيف استيقظت صباح يوم الأحد على صوت سيارة والدها، تريد الذهاب معه لشراء الثوب بعد بيع محصول البندورة، يضيف نعمان لـ”درج”: رفض والدي في ذلك اليوم اصطحاب أحلام أو أي فرد من العائلة معه، لتبقى أحلام جالسة على مصطبة المنزل تنتظر عودته بصحبة الثوب، وبتمام الساعة التاسعة والنصف من صباح ذلك اليوم هز المنطقة صوت قصف بصواريخ شديدة الانفجار تلاه بدقائق معدودة ضجة كبيرة وصوت بكاء ونحيب في قريتنا التي يعمل معظم سكانها في زراعة الخضار”.
يقول نعمان إنه لم يعرف كيف وصل إلى السوق ليفاجأ بمشهد من الصعب أن يمحى من ذاكرته، يصف ما رآه قائلاً :”كان الدم يملأ المكان اختلط لونه بلون ثمار البندورة الحمراء التي لطالما بذلنا من أجل الوصول لحصادها الغالي والنفيس، ولم نكن نعلم أن الطائرات الروسية ستناصبنا العداء لعملنا في الزراعة وتقتل والدي وتمزق جسده لأشلاء، عُدت وجثمان والدي في ذلك اليوم إلى المنزل، حيث كانت أحلام منتظرة الفرحة بالثوب وبعودة أبي، وها هو أبي عاد جثة هامدة ولم يفِ بوعده لطفلته التي حرمتها طائرات روسيا من الفرحة بالعيد والهدية المنتظرة منذ شهور”.
أسفر قصف الطائرات الحربية الروسية عن مقتل 9 مدنيين وإصابة 30 آخرين بحسب حصيلة غير نهائية لـ”الدفاع المدني السوري” العامل في شمال غربي سوريا.
يقول عضو إدارة الدفاع المدني أحمد يازجي: عملت الطائرات الحربية الروسية على استهداف نقاط عدة يومها في محافظة ادلب ومحافظة حماة، كان منها سوق خضار مدينة جسر الشغور الواضح للعيان، لتموضعه في منطقة برية مكشوفة بدون أي جدار أو سقف، وعلى مساحة تقدر بخمسة دونمات، كان المزارعون والتجار يعملون بالبيع والشراء كعادتهم، قبل أن تنقض عليهم طائرة حربية روسية وتقصفهم بأربعة صواريخ توزعت على غارتين”.
يضيف يازجي واصفاً غارة مماثلة لطائرة حربية روسية استهدفت مزرعة بمحيط مدينة إدلب، أدت لمقتل مدنيين اثنين من عائلة واحدة واصابة آخرين، ولم تقف الطائرات الحربية الروسية يومها عند ذلك، بل وسعت دائرة القصف إلى منطقة أريحا وقرية الكبينة شمال محافظة اللاذقية، حيث سقط 11 مدنياً وأكثر من 35 آخرين بيوم واحد، إضافة إلى انتشار الذعر والخوف بين السكان المحليين والذين فر منهم البعض باتجاه المخيمات خوفاً من التصعيد الروسي.
تدمير سلة الغذاء
تواصل قوات النظام وروسيا استهداف المشاريع المختلفة في شمال غربي سوريا على الرغم من صغرها وتواضعها. وعلى رغم من اتفاق آذار/ مارس 2020 بين الرئيسين التركي والروسي، الرامي إلى خفض التوتر في شمال غرب سوريا، وضمان الدولتين لأطراف الصراع، إلا أن الطائرات الحربية الروسية كانت على مدى السنوات الثلاثة الماضية تستهدف مشاريع البنى التحتية والغذاء للسوريين في شمال غربي البلاد، بحسب الناشط الحقوقي علي عثمان، إذ استهدفت الطائرات الحربية الروسية أكثر من مرة معمل الغاز في بلدة سرمدا، كان أبرزها في آذار/ مارس 2021، ما أفضى إلى انقطاع الغاز أكثر من شهر عن هذه المناطق.
يُعد سوق الخضار الذي تم استهدافه نقطة وصل مهمة بين مناطق الإنتاج الزراعي في سهل الغاب وسهل الروج من جهة، ومدن وبلدات الشمال التي تعتمد إلى حد كبير على مزروعات تلك المناطق وشرائها من خلال سوق خضار مدينة جسر الشغور من جهة أخرى، فيما تعمل قوات النظام على الأرض باستهداف سلة الغذاء من خلال استهداف المزارعين بصواريخ الكورنيت والمدفعية وراجمات الصواريخ، حتى وصل الأمر بقوات النظام أن تجرب صواريخ الكورنيت المطورة روسياً على أجساد المزارعين في منطقة سهل الغاب في كانون الأول/ ديسمبر 2020، ما أدى إلى مقتل 8 مزارعين وإصابة آخرين وتدمير 11 سيارة زراعية وجرار.
هذا الاستهداف المتكرر دفع الكثير من المزارعين حينها إلى العودة للخيام وترك أراضيهم قاحلةـ، خوفاً على حياتهم وحياة عائلاتهم من صواريخ النظام وروسيا، التي طاولت حتى حقول القمح وتسببت باحتراق مساحات تقدر بنحو 3 آلاف و500 دونم في موسم العام الحالي 2023.
يرى علي عثمان أن استهداف القمح يهدد الأمن الغذائي لسكان الشمال السوري، الذين يعتمدون بشكل كبير على محصول القمح لإنتاج رغيف الخبز، وما يعمل عليه النظام السوري وروسيا يوصف بجريمة حرب، وتجويع ممنهج للسكان المعارضين لحكم بشار الأسد، مطالباً “المجتمع الدولي والمحاكم العالمية بمحاكمة المجرمين الساعين لتدمير سلسلة الغذاء وتجويع السكان وحرمانهم من حقوقهم بالانتفاع من أراضيهم ومحاصيلهم الزراعية”.
“كان الدم يملأ المكان اختلط لونه بلون ثمار البندورة الحمراء التي لطالما بذلنا من أجل الوصول لحصادها الغالي والنفيس، ولم نكن نعلم أن الطائرات الروسية ستناصبنا العداء لعملنا في الزراعة وتقتل والدي وتمزق جسده لأشلاء…”
يحظر “القانون الدولي الإنساني” تجويع المدنيين كأسلوب من أساليب القتال، ويشير التقرير الصادر عن “اللجنة الدولية للصليب الأحمر” في 24 تشرين الأول/ أكتوبر 2022، إلى أن تعرض المحاصيل أو الأراضي الزراعية أو البنية التحتية الحيوية للأضرار أو التدمير بفعل القتال، قد يخلف تأثيراً فورياً على قدرة الأشخاص على الحصول على الغذاء. إلا أن الآثار الأوسع نطاقاً، مثل إغلاق طرق التجارة وانهيار الأسواق المحلية بسبب انعدام الأمن، حتى بعيداً عن الأماكن التي يدور فيها القتال، قد تؤدي إلى إحداث أضرار أكبر
زعزعة الأمن الغذائي وتهديد الأسواق
يعمل معظم السكان في منطقة جسر الشغور وسهل الغاب بالزراعة المتنوعة ومنها زراعة الخضروات المبكرة والموسمية، بحسب التاجر يحيى الجابر، والذي يصف مشاهد السوق بعد القصف الأخير، قائلاً لـ”درج”، “أدركنا أنه قصف استهدف السوق، وما أن ذهب الغبار حتى تكشّف مشهد محزن للغاية، عشرات الأشخاص كانوا مضرجين بالدماء لا يُميز منهم الحي من الميت، لتعود الطائرة بقصف الموقع ذاته بصاروخين آخرين، وبلحظات تحولت سيارات التجار من نقل الخضروات إلى نقل المصابين إلى المستشفيات القريبة، ونظرا للعدد الكبير للمصابين والقتلى تحول السوق إلى بقعة دم كبيرة ولم نعد نميز لون البندورة من الدم”.
رسائل روسيّة على أجساد الضحايا
عادات الطائرات الحربية الروسية لقصف منازل المدنيين في شمال غربي سوريا، بالتزامن مع حالة التوتر التي عاشتها روسيا والمتمثلة بإعلان ميليشيا فاغنر بزعامة يفغيني بريغوجين، عن عزمها على الوصول إلى موسكو وتهديها المباشر لقوات فلاديمير بوتين.
في مساء يوم الجمعة 23 حزيران، شنت الطائرات الحربية الروسية عدداً من الغارات من دون تسجيل إصابات بصفوف المدنيين، في حين قصفت قوات الأسد بسلاح المدفعية بلدة كفرنوران غرب حلب، ما أفضى إلى مقتل 4 مدنيين بحسب الناشط الميداني محمد هويش، الذي أكد أن يوم السبت الذي شهد توتراً بين ميليشيا فاغنر وقوات روسيا، صعدت الطائرات الحربية الروسية قصفها على محيط مدينة إدلب وعدد من قرى وبلدات جبل الزاوية.
يضيف هويش، “وصول بوتين وزعيم ميليشيا فاغنر يفغيني بريغوجين إلى تسوية مساء يوم السبت، نتج عنه أيضاً تصعيد الطائرات الحربية الروسية في صباح اليوم التالي قصفها بشكل مكثف على مدن وبلدات شمال غرب سوريا، ما تسبب بمقتل 11 مدنياً وإصابة أكثر من 35 آخرين”.
يفسر هويش تجدد القصف قائلاً: “المشهد لا يمكن تفسيره إلا بانتقام نظام بوتين من السوريين بعد صراعاته الداخلية مع ميليشيات فاغنر، وتصدير رسالة من روسيا للعالم على أجساد السوريين، بأنها ما زالت موجودة ويمكنها قصف أي مكان، ولإبراز تعافيها من التوترات الداخلية تقصدت روسيا ارتكاب المجزرة صباح يوم الاحد، لتعود إلى الساحة الدولية كطرف وتؤكد استمرار عملها العسكري، ولم تجد إلا المزارعين البسطاء في سوريا ضحية لتنفيذ غاياتها الاجرامية”.
لم تزدد شدة القصف الروسي للسوريين إثر توتر علاقة بوتين مع ميليشيا فاغنر فحسب، فقد عملت روسيا على ارتكاب الانتهاكات وقصف المدنيين منذ تدخلها في سوريا، كلما أرادت الحصول على امتيازات جديدة من الدول الضامنة للملف السوري مثل تركيا، إذ عملت الطائرات الحربية الروسية في شهر تشرين الثاني/ نوفمبر 2022 وقبل يوم واحد من اجتماع الدول الضامنة، ( روسيا – تركيا -ايران) على قصف عدد من المخيمات ومحيط “مشفى معبر باب الهوى” الحدودي مع تركيا، للضغط على تركيا للتراجع عن عمليتها العسكرية التي كانت أعلنت عنها ضد “قوات سوريا الديمقراطية”.
يشير الباحث السياسي تركي مصطفى إلى أن روسيا تصعد الهجوم على الحدود السورية- التركية مستهدفةً مخيمات النازحين، لتقول إنها قادرة على خلق موجة نزوح جديدة للسورين باتجاه تركيا، بمجرد تصعيد القصف عليهم وخلق حالة فوضى على الحدود. ينوه مصطفى إلى أن روسيا استخدمت أجساد السوريين لتصفية حسابات عالمية تارة ولإنعاش بيع أسلحتها تارة أخرى، ما يتطابق مع تصريح الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، في أكثر من مناسبة، إذ قال إن سوريا ليست سوى “مختبر” لإجراء تجارب لأسلحته على أراضيها وأهلها. وفي نيسان/ أبريل 2020 قال بوتين على الملأ إن الزيادة الحاصلة في تصدير الأسلحة الروسية إلى دول العالم، يقف وراءها الاختبار العملي لهذه الأسلحة في سوريا.
درج
———————————–
رغم كل شيء… هل ستواصل مجموعة «فاغنر» نشاطها؟
ترى المحللة مولي دونيغان أنه من المستحيل حلها كونها تمثل أهمية كبيرة للأهداف الجغرافية الاستراتيجية والقوة الاقتصادية لروسيا
شهد العالم الأسبوع الماضي مزيجاً من الخيال، والتوقع، والإثارة، والفزع، حين بدا أن مجموعة «فاغنر» الروسية تمثل تحدياً مباشراً لمؤسسة الجيش الروسي، المسلح نووياً. ومع ذلك، ليس من المحتمل تفكيك هذه المجموعة.
وتقول مولي دونيغان، وهي من كبار علماء السياسة لدى مؤسسة البحث والتطوير الأميركية (راند)، إن من المستحيل تقريباً تصور قيام القيادة الروسية بحل كامل لأساسيات شركة مجموعة «فاغنر» وكل المشاركين فيها، فهم يمثلون أهمية كبيرة للأهداف الجغرافية الاستراتيجية والقوة الاقتصادية الكبرى لروسيا.
وكان الرئيس الروسي فلاديمير بوتين صرح يوم الاثنين الماضي أنه سيلتزم بوعده بالسماح لجنود مجموعة «فاغنر» بالانتقال إلى بيلاروسيا، أو العودة لبلادهم ولعائلاتهم، أو توقيع عقود مع وزارة الدفاع الروسية.
و««فاغنر»» مجرد واحدة من الشركات العسكرية الروسية الخاصة الكثيرة المعروفة التي عملت، ولا تزال تعمل بالخارج، لكنها فريدة في نطاقها وحجمها، وقد تردد أنها نشرت خمسة آلاف مقاتل في ذروة الحرب الأهلية السورية خلال عام 2017، و50 ألفا في أوكرانيا مطلع العام الحالي. كما أن «فاغنر» لها نشاط في أنحاء أفريقيا، والشرق الأوسط، وأميركا اللاتينية، وغالبا ما تكون رأس الحربة الروسية في استعراض القوة في هذه المناطق.
وبالإضافة إلى ذلك، تعتبر «فاغنر» مصدر دخل كبير للكرملين، حيث إنها تمكن حكومة الكرملين من السيطرة سراً وبصورة مأمونة على مواقع التعدين واستخراج المعادن مقابل قدر كبير من الربح.
ومستقبل «فاغنر» التي قاتلت في أوكرانيا وتنشط في دول أفريقية وكذلك في سوريا، صار موضع تساؤل بعد التمرد الذي نفذته في روسيا بقيادة رئيسها يفغيني بريغوجين.
وأعلن وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف الجمعة أن مستقبل مجموعة «فاغنر» المسلحة في أفريقيا يعتمد على «الدول المعنية». وقال لافروف: «مصير هذه الترتيبات بين الدول الأفريقية ومجموعة «فاغنر» هو أولا وقبل كل شيء مسألة تخص حكومات الدول المعنية ما إذا كانت ستواصل هذا النوع من التعاون أم لا». بعد إنهاء بريغوجين التمرد بسرعة وتوجهه إلى المنفى في بيلاروسيا، بات يتعين على مقاتليه الاختيار بين اللحاق به أو الانضمام إلى الجيش الروسي النظامي أو العودة إلى الحياة المدنية، كما يجب على المجموعة تسليم معداتها وأسلحتها الثقيلة.
الاثنين، قالت جمهورية أفريقيا الوسطى، الدولة الأفريقية التي تنشط فيها «فاغنر»، إن روسيا ستواصل حضورها في البلد سواء بواسطة المجموعة المسلحة الخاصة أو بصيغة مغايرة. من جانبها، دعت فرنسا الأربعاء جميع الدول المعنية إلى النأي بنفسها عن «فاغنر»، وقالت إنها مستعدة لفرض عقوبات إضافية على خلفية الجرائم المنسوبة إلى المجموعة في مسارح عملياتها. كما أعلنت واشنطن عن عقوبات جديدة تطال المجموعة خصوصا على خلفية نشاطها في جمهورية أفريقيا الوسطى.
وتضيف دونيغان، مديرة برنامج الاستراتيجية والعقيدة والموارد بمركز أرويو التابع لراند، أنه ليس من الغريب أن أسس السوق الروسية الحالية بالنسبة للقوة تشكلها الشركات الخاصة التي ظهرت في فترة ما بعد الحرب الباردة لدعم الاحتياجات الأمنية لشركات الطاقة الروسية العملاقة، مثل «غازبروم»، و«تاتمبفتن» و«سترويترانسجاز»، و«زاروبيزنفت»، و«روزنيفت»، و«سورجوتين فتجاز».
وعلى مدار سنوات دأبت روسيا على الاستعانة ب«فاغنر» في ظل غموض استراتيجي: فما زالت العناصر العسكرية الخاصة غير قانونية في روسيا، مما يتيح قدراً كبيراً للغاية من الغموض إزاء نية الكرملين تجاه «فاغنر». وقد فضل بوتين أن يعامل بوجه خاص بريغوجين، قائد «فاغنر»، بصورة أبوية مثل أحد أبنائه، بينما يعامل وزارة الدفاع كابن، كالابن الآخر – ولم يرغب مطلقاً في إعلان أن أحدهما هو «الابن المفضل».
وتقول دونيغان إنها كشفت في كتابها «النصر للتأجير» أن المرتزقة يمكن أن يدعموا فاعلية الجيش عند استخدامهم بدلا من قوة عسكرية، ولكن في الحقيقة يمكن أن يضعفوا الجيش عندما يتم «نشرهم» إلى جانب القوات العسكرية النظامية. ومن الممكن أن تنجح عملية نشر المرتزقة وقوات الجيش معاً، ولكن فقط إذا تم تشكيل هيكل قيادة وتحكم واضح ومتسق ينصاع له الجميع.
وتشير دونيغان، وهي أحد كبار المحاضرين بمعهد السياسة والاستراتيجية التابع لجامعة كارنيغي ميلون، إلى أن بوتين عمل كل شيء عمدا لتجنب أن يكون هناك مثل هذا الهيكل الواضح والمتسق للقيادة والتحكم بين «فاغنر» والجيش، وكان يفضل بدلا من ذلك وضع وجهي العملة الخاص والعام في مواجهة كل منهما الآخر.
ويعتبر تمرد بريغوجين، بالاستعانة بــ25 ألف مقاتل روسي مستأجرين، مثالاً واضحاً تماماً على ما يحدث من خطأ عندما يتم نشر قوات خاصة وعامة في غياب وحدة هيكل القيادة.
لقد كان ذلك انقلاباً أو محاولة فعلية للاستحواذ على السلطة السياسية، لقد كان التمرد لعبة قوة مسرحية من جانب بريغوجين لإظهار أهميته بالنسبة للأطراف الأخرى في دائرة بوتين الداخلية.
وحدث ذلك مع محاولة وزارة الدفاع وضع مقاتلي «فاغنر» تحت سيطرتها المباشرة بعقود فردية مع نهاية شهر يونيو (حزيران)، مما يمثل فعليا تطويقاً لسيطرة بريغوجين في أوكرانيا ويعرض للخطر مشروعات «فاغنر» الكثيرة، والرابحة في أفريقيا، والشرق الأوسط، ومناطق أخرى بجنوب العالم. وكان ذلك مثالاً على استراتيجية حافة الهاوية للوقوف في وجه تهديد طويل الأمد لأعمال «فاغنر» من جانب القيادة العسكرية الروسية.
وسوف يتم تقدير خطوة روسيا التالية بعناية، وربما تتضمن تغيير اسم أو وصف مجموعة «فاغنر»، وإحلال شخص آخر محل بريغوجين كقائد لها، وربما يتم سحب مقاتلي «فاغنر» من أي أراض مجاورة لروسيا – بما في ذلك أوكرانيا – بسبب خطر وقوع تمرد آخر.
وأشارت دونيغان إلى أن قوات «فاغنر»، البالغ قوامها 50 ألف مقاتل، شكلت نسبة كبيرة من القوات البرية الروسية في الحرب مطلع العام الحالي، بالمقارنة بحوالي 169 ألفا إلى 190 ألفا من المقاتلين الروس الذين يعملون في أوكرانيا وحولها منذ فبراير (شباط) 2022 وفي ضوء أهمية أفراد «فاغنر» في العمليات الروسية بأوكرانيا واستعدادها للاستعانة بمقاتليها كوقود للمدافع في المهام الانتحارية، من الممكن أن يكون لهذا الخيار الخاص بالسحب التام لقوات «فاغنر» من أوكرانيا تداعيات كبيرة بالنسبة لقدرة روسيا على أن تخوض بفاعلية حربا برية هناك. واختتمت دونيغان تقريرها بالقول إنه لا يزال من غير المعروف ما إذا كان بوتين سوف يركز أساسا على الأساليب الجوية، والنووية وغيرها من الأساليب غير التقليدية عقب تنفيذ مثل هذا السحب لقوات «فاغنر»
الشرق الأوسط
——————–
هل تخرج «فاغنر» من سوريا والسودان؟/ عبد الرحمن الراشد
لا شيء في مغامرة تمرد «فاغنر» كان محل التنبؤ. لم يظن أحد أن قائدها يصرح ضد الحرب وأنها لم تكن ضرورية. ولم يكن متوقعاً قط أن يتجرأ ويعلن تمرده، وفعل. ولم يخطر ببال أحدٍ أن يعبر الحدود إلى بلاده ويحتل مدينة ثم يزحف باتجاه موسكو، وفعلها. ولم يقل الأمر غموضاً وغرابة عندما سلم يفغيني بريغوجين نفسه لرئيس بيلاروسيا، وصديق بوتين، ليكون تحت رحمة لوكاشينكو، وقد فعل. أصبحت «فاغنر» الحصان الجامح ومصدر التهديد، بعد أن كانت الحصان الرابح لروسيا في العالم.
ومع أن التمرد أُجهض سريعاً، فإن مستقبل «الشركة» في مهب الريح وأبرز نشاطها خارج أوكرانيا في دول مثل سوريا والسودان. وقد قال قائدها إن أحد أسباب غضبه عزم موسكو على التخلص من «فاغنر»، ربما بسبب تكرر انتقاداته وتهديداته خلال الشهرين الماضيين. وقبل هذه الفوضى التي أحدثها، كان بريغوجين «بطلاً» عند عامة الروس، بتسويق من القيادة الروسية نفسها. وحتى في غيابه، ستظل اعتراضاته متداولة وتشكيكه في جدوى غزو أوكرانيا مهيمناً، إذا كانت الحرب مستمرة. ولا ننسى أن روسيا شبه وحيدة تواجه دول الناتو، ومكاسبها الأرضية، منذ بداية الغزو قبل عام ونصف، فقط نحو 18في المائة من أوكرانيا. طروحات بريغوجين ستبقى حية ما لم تحقق موسكو انتصارات كبيرة، أو تتجه إلى القبول بحل سلمي. انتهى بريغوجين، على الأرجح، إلا أن مطالبه تتردد؛ حيث نجح في جعلها قضية عامة. الضرر الذي ألحقه تمرد قائد «فاغنر» بقضية غزو أوكرانيا، أعظم مما فعلته قوات الناتو منذ بداية الأزمة. اعتمدت القيادة الروسية على الشعور الوطني لدعم قراراتها في أوكرانيا ثم جاء من كانت تعتبره القيادة بطلاً قومياً ليشكك في أهداف الحرب ويتهم زملاءه بالخيانة بتوريط الرئيس بوتين والغدر بقواته التي هوجمت من الخلف. الروح الوطنية العالية في روسيا، والخطاب السياسي الدعائي دولياً، لدعم المجهود الحربي في أوكرانيا كانا ركنين أساسيين في ترتيبات الحرب واستمرارها.
بعد هذا الفصل الغريب لن يكون التفاوض بندية مع الغرب سهلاً، وكانت تقديرات العديد من المهتمين بالشأن الروسي أن موسكو تحتاج إلى انتصار يمهد للتفاوض وإنهاء الحرب سلمياً. ولا يبدو في الأفق انتصارات كافية تبرر الانسحاب في الأشهر المقبلة.
استمرار الحرب في أوكرانيا، والتخلي عن «فاغنر»، وإبعاد قادتها الأساسيين، وربما محاكمتهم لاحقاً، على اعتبار أن الحديث الأخير عن التغييرات يشمل إبعاد عدد من القادة الأساسيين الذين يقول الرئيس لوكاشينكو إنهم كانوا وراء تمرد بريغوجين وانتقاداته قادة الجيش، كلها عوامل ستؤثر على قرارات ونشاط روسيا العسكري خارج جغرافيتها.
كل ذلك سيمس نفوذ روسيا في كل مكان وصلت إليه قواتها الخاصة، في العالم، بما في ذلك سوريا والسودان. خروج روسيا من سوريا سيزيد من أهمية الدور الإيراني هناك، بعد أن كان يُعتقد أن تقليص ميليشيات إيران ونفوذها مطلب إقليمي.
من المستبعد، لكن قد تضطر موسكو إلى التفاوض لإنهاء الحرب بعد أن ينطفئ اللغط، ويتم تحميل القيادات العسكرية معظم اللوم لأنها من هوّن إمكانية النصر وفشلت في تحقيقه. خطأٌ الاحتمال الضعيف باستمرار موسكو في مغامراتها في أفريقيا وآسيا ضمن تحالفات إقليمية وتوازنات دولية.
الشرق الأوسط
——————————-
«فاغنر» وأخواتها واحتكار العنف/ مصطفى فحص
في كتابه «العلم والسياسة بوصفهما حرفة» يشدد عالم الاجتماع الألماني ماكس فيبر على أن أحد أهم شروط قيام الدولة «احتكار الاستخدام الشرعي للقوة البدنية»، فشرط الاحتكار هو سمة أساسية من أجل قيام الدولة التي يجب أن تحصر مبدأ «احتكار استخدام العنف» بمؤسساتها فقط، وأوضح فيبر أن الجيش والشرطة هما الأداتان الرئيسيتان الوحيدتان اللتان يناط بهما الاستخدام المشروع للقوة البدنية داخل إقليم معين ضمن حدود الدولة، ويعد أن هذا الاحتكار أحد أهم شروط نجاحها.
حتى فجر يوم الجمعة الفائت، كانت الدولة الروسية تحتفظ بكامل هيبتها وسيادتها الداخلية، إلى أن أعلن قائد ميليشيا «فاغنر» عن استيلائه على مدينة «روستوف» وبدأ زحفه نحو العاصمة، هذا الفعل الذي استمر لعدة أيام فقط كشف عن خطورة أن تسمح أي سلطة مهما كان مستوى هيمنتها على المجتمع والدولة لكيان موازٍ أن يقوم مقامها ويهدد استقرارها، ويعد أحد أهم مظاهر ضعفها كما في إيران وسوريا والعراق ولبنان واليمن، حيث هناك شرعيات مسلحة بعضها يمتلك غطاء قانونياً كاملاً وبعضها بات أمراً واقعاً وباتوا جميعاً في هذه الدول يقومون مقام الدولة لدرجة الاستيلاء عليها أو الهيمنة على قراراتها، أو التمرد على سلطتها كما جرى مع «فاغنر».
بالرغم من الانتهاء السريع لتمرد طباخ الكرملين، لكنه على الأرجح سيترك تداعيات سياسية وأمنية واجتماعية على الداخل الروسي، الذي كان يحظى باستقرار داخلي منذ انتهاء المرحلة الانتقالية ما بعد الاتحاد السوفياتي أي منذ تسلم بوتين السلطة سنة 2000 بعد تنحي الرئيس بوريس يلتسين. فمنذ ذلك التاريخ وبعدما تمكن بوتين من إزاحة كافة خصومه ومنافسيه الأقوياء في تلك المرحلة وحتى تاريخ 24 من الشهر الحالي لم يكن في روسيا إلا شخص واحد، وحرص الكرملين على ألّا يكون حتى هناك رجل ثانٍ، حيث كان من الصعب تحديد من يرث بوتين في السلطة إلى أن خرج يفغيني بريغوجين وتحدى هذه السلطة وجعل روسيا لساعات كأنها دولة برأسين وقوتين عسكريتين.
الأولى رسمية نفذت انتشاراً عسكرياً دخل العاصمة ومحيطها وقطعت الطريق الخارجية التي تؤدي إليها، أما الثانية فتصرفت كحركة تمرد سيطرت على مدينة استراتيجية وتحركت نحو العاصمة السياسية كأنها تنفذ انقلاباً على السلطة.
عملياً أدت هذه الأزمة إلى إزاحة بعض الغموض من داخل أسوار الكرملين، وأخرجت إلى العلن أزمة صُناع القرار وصراعاتهم، فزعيم «فاغنر» على الأرجح لم يكن وحيداً، فهناك حتماً من يؤيده، أما خصومه فلولا تدخل بوتين الشخصي من اللحظة الأولى للأزمة لم يكونوا قادرين على مواجهته، وهذا ما سيؤثر على صورة النظام داخلياً وخارجياً.
في الداخل باتت الأسئلة مشروعة ومشرّعة عن تماسك النظام وعن الحرب الأوكرانية، خصوصاً أن هذه الأزمة هي جزء من صراع بين معسكرين (معسكر الحرب ومعسكر التفاوض)، وكشفت أيضاً عن صراع داخل مجموعة القوة (الأمن والعسكر) المعروفة بـ«سيلافيكي»، وهذا الصراع يمثل ضربة قاسية لتماسك الجبهة الداخلية في دولة تخوض حرباً خارجية دفاعاً عن أمنها الوطني، أما خارجياً فإن المعسكر الغربي سيستغل هذه الأزمة من أجل إرباك روسيا عسكرياً واقتصادياً وسياسياً وجرّ الكرملين إلى مزيد من الاستنزاف في أوكرانيا التي أصبحت تثقل الداخل الروسي، كما أن الأزمة ضربت أحد أهم مبادئ الكرملين في السياسة الخارجية، فمن الثورات الملونة إلى الربيع العربي دافعت موسكو عن استقرار الأنظمة ورفضت التدخل الغربي في شؤون الدول الداخلية وبررت تدخلاتها الخارجية تحت ذريعة فرض الاستقرار فيما يرى الغرب وخصوصاً واشنطن أن روسيا الآن بحاجة إلى من يحافظ على استقرارها.
وعليه، فإن «فاغنر» تثبت أن ضوابط التعايش ما بين الدولة والميليشيات تبقى محدودة، وأن من يطبخ هذا السّم داخلياً أو خارجياً مُعرّض لتذوق عنفه.
الشرق الأوسط
————————-
تحليل حالة روسية خاصة للغاية/ أمير طاهري
في نهاية الأسبوع الماضي، عندما بدأ يفغيني بريغوجين محاولته الفاشلة للزحف نحو موسكو على رأس جيش ميليشيا «فاغنر»، لم يكن يعلم أنه في اليوم نفسه، 24 يونيو(حزيران) 1812، أطلق نابليون مسيرته البائسة نحو العاصمة الروسية. الأمر الآخر الذي لم يفهمه أمير الحرب أن «روستوف – أون – دون»، مسقط رأسه ومنصة انطلاق تمرده، كانت أيضاً المدينة التي بدأ منها القوزاق تمردهم ضد الإمبراطورة كاترين العظيمة قبل قرنين من الزمان.
لكن بريغوجين كان يعرف أمرين: أولاً، أن تغيير السلطة في روسيا يجري من خلال القوة فقط، وأن الانتقال السلس ينتمي إلى أوروبا الغربية «البالية». بعد ذلك، وفي الغرب تحديداً، لا سيما في أميركا، إذا كنت تملك المال يمكنك الحصول على السلطة، في روسيا يمكنك الحصول على المال فقط إذا كانت لديك السلطة. وبعبارة أخرى، فإن «الحادثة»، كما يروق للدعاية الروسية تسميتها، كانت حالة روسية بالغة الخصوصية.
كان الرئيس الروسي فلاديمير بوتين يدرك هذه الحقيقة تمام الإدراك؛ ولهذا السبب أصيب بالذعر في البداية، وشبه «الحادثة» بغيرها من الأحداث التي وقعت في أكتوبر (تشرين الأول) عام 1917، عندما استولى البلاشفة من حزب لينين على السلطة عبر إرسال بضع عشرات من الرجال المسلحين إلى بيتروغراد. ومن دون قصد، عبّر بوتين عن نفسه بوصفه ألكسندر كيرينسكي، راعي «النظام الدستوري» وبريغوجين بوصفه لينين. من الواضح أنه كان مرتبكاً إزاء أوجه الشبه التاريخية، حتى أنه تحدث عن «الحرب الأهلية»، وكأن «كولتشاك» و«رانغيل» قد عادا من بين الأموات على رأس الجيوش الملكية.
في غياب آلية قانونية لانتقال السلطة، يتكون التاريخ الروسي من سلسلة من الانقلابات في عهد الإمبراطورية السوفياتية. وفي معظم هذه «الحوادث» كان الانتقال من سيئ إلى أسوأ. وهذه هي النقطة التي يتعين على صناع القرار السياسي في كل مكان، لا سيما أولئك الذين يتعبدون ويعملون بُغية إنهاء حكم بوتين، أن يتأملوا فيها ملياً.
ميليشيا «فاغنر» ليست إلا وحشاً، وظل بوتين يُنكر وجوده طيلة عقد من الزمان، لكنه الآن تولى ملكية المخلوق المتوحش، ويحاول دمج جزء منه في الجيش الروسي النظامي مع الاحتفاظ بجزء آخر للمغامرات المربحة في الخارج.
جيوش المرتزقة موجودة منذ فجر التاريخ، وفي حالات كثيرة نجحت في الاستيلاء على السلطة لنفسها، بل أيضاً تأسيس سلالات حاكمة. لكن في عام 1990 فقط، ومع بداية العولمة، صارت فكرة خصخصة الحرب، مجدداً، من الأفكار المألوفة. وقد أنهت جميع الديمقراطيات الغربية خطط الخدمة الوطنية، واعتمدت على الجيوش المحترفة.
مع ذلك، كانوا يعرفون أن المستهلكين الجدد من البشر الذين أوجدوهم لا يحبون رؤية أبنائهم، وفي بعض الحالات، بناتهم يلقين حتفهن في ساحات القتال في الأراضي البعيدة. وهكذا، صارت خصخصة الحرب مشروعاً وتجارة مربحة للغاية. وفي الولايات المتحدة، برزت شركة «بلاك ووتر»، وهي شركة حربية خاصة، بوصفها أداة للاستخدام في مهام خطيرة بشكل خاص، بما في ذلك في أفغانستان والعراق. وفي بريطانيا، حققت مجموعة «إيجيس» وضعاً مماثلاً، ولو على نطاق أصغر. ومن المؤكد الآن أن بوتين كان يفكر في هذين النموذجين عندما قرر إنشاء جيشه الخاص: «فاغنر».
بيد أن الفارق كان أن «فاغنر» أسسها رئيس دولة وليس رجل أعمال خاصاً. في البداية كان بوتين يريد من «فاغنر» أن تكون وسيلة لإحياء النفوذ السوفياتي فيما يُعرف بـ«العالم الثالث». لهذا السبب لم تُمنح «فاغنر» وضعاً قانونياً قط في روسيا ذاتها، واحتفظت المجموعة بمركزها الأولي كمنظمة ثقافية مقرها سانت بطرسبرغ كواجهة. وفي وقت لاحق أضافت شركة جديدة تزود الجيش الروسي والكثير من المدارس في جميع أنحاء البلاد بالغذاء.
كان بوتين يعلم أن الحرب التي استمرت 10 سنوات في أفغانستان قد أسهمت في سقوط الإمبراطورية السوفياتية؛ لأن الأسر الروسية لم تفهم لماذا يجب أن يقضي أبناؤها نحبهم في جبال الهندوكوش.
وفي الوقت نفسه، ومع وجود الاتحاد السوفياتي، سقطت «أم الثورة» في مهالك التاريخ، إذ لم يعد بإمكان بوتين الاعتماد على الثوار المحليين للقيام بأعمال روسيا القديمة تحت راية الماركسية اللينينية. وفي غضون عقد من الزمان، تبخر النفوذ الروسي في أميركا اللاتينية وأفريقيا وآسيا، كما تتبخر الثلوج في شهر أغسطس (آب). فلم يكن هناك مقاتلون يحاربون في أميركا الوسطى، والقرن الأفريقي، وأنغولا، وموزمبيق، وظُفار، وبلوشستان الباكستانية، ناهيكم من زرع الفتنة في أكثر من اثني عشر بلداً آخر من بلدان «العالم الثالث». وبزعم أن روسيا تتمتع بموقع قوة عالمية، وليست «إقليمية» كما وصفها الرئيس الأميركي باراك أوباما، فإنها كانت في حاجة للظهور في بعض المناطق، حيث كان الاتحاد السوفياتي البائد لاعباً كبيراً.
من دون «فاغنر»، ما كان بوتين يتمكن من الظهور كلاعب كبير في أماكن مثل ليبيا، وجمهورية أفريقيا الوسطى، وموزمبيق، ومالي، ومؤخراً بوركينا فاسو، مع إمكانية التوسع في غرب أفريقيا وشرقها. وفي الآونة الأخيرة، حققت «فاغنر» أيضاً وجوداً في فنزويلا ونيكاراغوا، ما أعاد إحياء الذكريات في وقت كانت فيه روسيا، بوصفها الاتحاد السوفياتي، قادرة على إلحاق الأذى في الفناء الخلفي للولايات المتحدة.
لم يكن اختيار بوتين لواحد من أقرب حلفائه، بريغوجين، زعيماً لـ«فاغنر» مفاجئاً؛ إذ عرف الرجل الأوليغاركي (النخبوي فائق الثراء) بوتين منذ سانت بطرسبرغ، ويُقال إنه واحد من عدد قليل من المقربين الذين يعلمون موقع جزء على الأقل من ثروة الرئيس. برهن بريغوجين بأنه رجل أعمال داهية، وبارع في الاتصالات ومكائد القصر.
كل ذلك قد يفسر لنا لماذا كان بوتين، الذي أصابته «الحادثة» بصدمة شديدة، غير راغب في إطلاق صاعقة شديدة ضد بريغوجين و«فاغنر». وفي خطابه التلفزيوني الغريب يوم الأحد الماضي، لم يذكر حتى اسم بريغوجين، لكنه شكر «فاغنر» على «منع إراقة الدماء». وفي وقت لاحق، طمأن رجال «فاغنر» بأنه على الرغم من مشاركتهم في القتال فترة وجيزة ضد الجيش النظامي لن تُتخذ أية تدابير بحقهم.
لكن هل هذه أنباء سارة لكل من يرغب في رحيل بوتين عن السلطة؟ ليس بالضرورة. إن بديل بوتين لن يكون بالضرورة ليبرالياً مؤيداً للغرب. وفي الوقت نفسه، لن يستفيد أحد من الفوضى في روسيا، وهو الأمر الذي قد يؤثر على أوروبا بأكملها، وآسيا الوسطى، والشرق الأوسط، وما وراء ذلك.
الشرق الأوسط
————————-
بوتين أصابه الوهن لكن المرحلة النهائية للصراع قد تكون خطرة
من اللافت أن قائد مجموعة المرتزقة “فاغنر” بقي حراً طليقاً بيد أن الدلائل التاريخية بالنسبة إلى بوتين لا تبدو جيدة
افتتاحية اندبندنت
على رغم تخطي روسيا الأزمة المباشرة وخطر الحرب الأهلية، لكنها لحظة محفوفة بالمخاطر، ليس فقط بالنسبة إلى فلاديمير بوتين ولكن أيضاً بالنسبة إلى أوكرانيا وحلفائها في الغرب.
قد لا يستعيد الرئيس الروسي سلطته أبداً في أعقاب الأحداث الدراماتيكية التي وقعت السبت الماضي، وشهدت مسيرة يفغيني بريغوجين ومرتزقته من مجموعة “فاغنر” إلى منطقة تبعد نحو 125 ميلاً (200 كيلومتر) من موسكو وذلك للاحتجاج على إدارة القادة العسكريين الروس الحرب في أوكرانيا. وفي حين أن بريغوجين قام بإلغاء تمرده المسلح من أجل منع إراقة الدماء، كما وافق على الانتقال إلى بيلاروس بحسب ما أفاد به الكرملين، فإنه لم يكن هناك رابحون بشكل فوري في المواجهة غير العادية بين بوتين وبين من كان يعمل لديه ذات يوم طباخاً ومساعداً يقوم بإجراء الترتيبات الخاصة له.
ومع أن معظم الروس يستقون الأخبار من وسائل الإعلام التي تسيطر عليها الدولة، فإن بعضاً سيتساءل بالتأكيد لماذا بدا أن مقاتلي “فاغنر”، الذين اعتبروا “أبطالاً” بسبب دورهم في الحرب ضد أوكرانيا، أخذوا ينقلبون على الرئيس، الذي اتهمهم بالخيانة. ولعلهم سيدركون أيضاً أن أياً من هذه الفوضى لم تكن لتحدث من دون تدخل بوتين في أوكرانيا، مهما حاول أن يصوره [التدخل] على أنه ضروري للدفاع عن روسيا ضد القوى الخبيثة في الغرب، وبدا فجأة الرجل القوي ضعيفاً وقد تراخت قبضته الحديدية على بلاده.
في حين أن بريغوجين كان يستهدف سيرغي شويغو، وزير الدفاع، وفاليري غيراسيموف، رئيس هيئة الأركان العامة، فإن تمرده كان موجهاً أيضاً ضد القائد الأعلى للقوات المسلحة، أي ضد بوتين نفسه، الذي يضعه [التمرد] وجهاً لوجه أمام أكبر تحد تعرض له خلال السنوات الـ23 التي قضاها في السلطة.
إن استراتيجية “فرق تسد” التي اتبعها الرئيس، أي تفكيك جهاز الدولة والسماح للآخرين مثل الجيوش الخاصة بملء الفراغ، ارتدت عليه. ويروق له أن يلعب دور القائد الأعلى الذي يحل النزاعات، غير أنه سمح للخلاف بين بريغوجين وشويغو بالتفاقم والخروج عن نطاق السيطرة.
من اللافت للنظر أن يبدو بريغوجين لا يزال حراً طليقاً وأن يفلت المرتزقة الذين انضموا إلى مسيرته نحو موسكو من العقاب أيضاً. لقد سجن قادة الانقلابات السابقة في روسيا، أو تعرضوا لعقوبة أسوأ من الحبس. بيد أن التاريخ نذير شؤم بالنسبة إلى بوتين، إذ سرعان ما جاء تغيير جذري في أعقاب انقلابي عام 1917 و1991 (وأشار بوتين إلى الأول في خطابه العصبي بشكل غير عادي الذي وجهه إلى الأمة).
ومع ذلك، إذا كانت هذه هي بداية النهاية لنظام بوتين (وربما تكون كذلك فعلاً)، فإن المرحلة النهائية قد لا تزال خطرة.
على المدى القصير، يمكن للتطورات الدراماتيكية في روسيا أن توفر لأوكرانيا بعض الدعم الذي يأتي في الوقت المناسب، إذ يقترب هجومها المضاد الذي طال انتظاره من مرحلة حرجة. لقد كان التقدم بطيئاً حتى الآن، لذا فقد تكون هذه هي اللحظة التي تنشر فيها أوكرانيا القوات الاحتياطية التي تحتفظ بها بينما تحاول إحداث فجوة في الدفاعات الروسية المجهزة بشكل جيد. ومن نافل القول إن التمرد الذي جرى في نهاية الأسبوع لن يسهم بأي شكل في رفع الروح المعنوية لدى القوات الروسية التي تعاني سلفاً من الإحباط.
وفي حين أن الأزمة التي تواجه بوتين تنطوي على فرصة بالنسبة إلى فولوديمير زيلينسكي، إلا أنها قد تشكل تهديداً أيضاً. سيكون الزعيم الروسي أكثر استماتة من أجل وقف التقدم الأوكراني وربما يميل إلى الهجوم. وكانت هناك مخاوف في أوكرانيا منذ تدمير سد نوفا كاخوفكا من أن روسيا يمكن أن تهاجم محطة زابوريجيا النووية.
إن مكانة بريغوجين ودوره في بيلاروس، وهي الدولة الحليفة الأكثر ولاء لروسيا، غير واضحين. وستشعر أوكرانيا بالقلق من احتمال معاودته الظهور كقائد للهجوم على كييف من الشمال، مما سيجبرها على القتال على جبهة أخرى.
ويتعين على الغرب، شأنه شأن أوكرانيا، أن يتوخى الحذر في ما يتمناه. وينبغي على قادته، بمن فيهم جو بايدن، وإيمانويل ماكرون، وأولاف شولتز، وريشي سوناك، الذين تحدثوا جميعاً، السبت الماضي، الاستمرار في عدم الكشف عن موقفهم بما يعتبر شأناً داخلياً روسياً، بدلاً من تأجيج الموقف ومساعدة بوتين في محاولته المألوفة لإلقاء اللوم على الغرب في مشكلاته التي جلبها على نفسه.
الحقيقة المروعة بالنسبة إلى الغرب هي أن سقوط بوتين في نهاية المطاف يمكن أن يفتح الباب أمام وصول زعيم قومي أكثر تشدداً، قد يكون مستعداً لاستغلال حيازة بلاده أسلحة نووية من أجل التسبب في حصول قدر أكبر من عدم الاستقرار وعدم اليقين للعالم بأسره.
© The Independent
—————————-
بوتين نجح في التمسك بالسلطة لكن معركته بدأت للتو/ ماري ديجيفسكي
انتهى كل شيء أو لم ينته فعلياً، فبعد 24 ساعة من الدراما المثيرة التي شاركت فيها قوات من المرتزقة القوية قوامها 25 ألف رجل لشن ما بدا بشكل واضح جداً على أنه تحد مباشر للرئيس الروسي فلاديمير بوتين، وقافلة عسكرية وصلت إلى مسافة 200 كيلومتر من العاصمة موسكو، يبدو وكأن الهدوء يسود الجبهة الروسية حالياً. لكن ومن نواح كثيرة فإن مراكز القوة في داخل روسيا تغيرت، وهناك احتمال أيضاً بأن التغيير سيطاول الحرب الروسية – الأوكرانية.
الأسئلة الآن هي عن مدى جذرية التغيير هذا، وهل بات دائماً؟ وما هي الكلفة التي تترتب على بوتين نتيجة اتفاق الساعة الأخيرة الذي توسط فيه رئيس دولة بيلاروس ألكسندر لوكاشينكو وسمح باستدارة القافلة المتجهة نحو موسكو، وموافقة قائد المتمردين على البقاء في المنفى والحصانة من الملاحقة القضائية؟
إن جذور ما تحول لفترة قصيرة تمرداً مسلحاً ضد كبار المسؤولين في القيادة العسكرية الروسية تبدو متعلقة بمطالبة بوتين الأخيرة بضرورة تعاقد قوات “فاغنر” المرتزقة رسمياً مع القوات المسلحة الروسية، وبالتالي إخضاعها لإمرة القيادة الروسية.
قوات المرتزقة التي أسسها ويقودها يفغيني بريغوجين، وهو كان واحداً من المتعاونين السابقين مع بوتين في سان بطرسبرغ، ويقول بعضهم إنه أنقذ بوتين من مأزق خطر من خلال تحقيقه النصر في المعركة الطويلة للسيطرة على باخموت شرق أوكرانيا ولو بكلفة مرتفعة للغاية، قبل تسليمه المناطق لجنود تابعين للقوات المسلحة الروسية النظامية.
لكن ومن خلال عملية باخموت أصبح بريغوجين أكثر انتقاداً لكيفية إدارة روسيا للحرب الأوكرانية، وقام بنشر تسجيلات فيديو تندد بكل شيء، بدءاً مما اعتبره بمثابة رفض موسكو تزويد قواته بالسلاح والذخيرة الكافية إلى عدم كفاءة الجهود العسكرية الروسية في أوكرانيا، وتردد طبقة النخبة الروسية في القتال في سبيل وطنها، وكانت لهجته اللاذعة ازدادت حدة لدرجة بات يصعب نشر مضمونها في الإعلام، مما ترك الشعب الروسي والمراقبين الأجانب محتارين في كيفية السماح له بذلك من دون أي محاسبة.
لكن الأشهر التي مرت من دون تعرضه للمساءلة انتهت السبت الماضي في الصباح عندما قام الرئيس بوتين بتوجيه كلمة متلفزة غير مجدولة ينتقد فيها بريغوجين ومجموعة “فاغنر” بحدة من دون ذكرهم بالاسم، ويصفهم بخونة ومتمردين يقومون “بطعن روسيا في الظهر”، وقام بمناشدة الروس “كرئيس للجمهورية وقائداً أعلى للقوات المسلحة ومواطن من الشعب الروسي”، داعياً إياهم إلى الوحدة من أجل سيادة وأمن الدولة الروسية.
أما القشة التي قصمت ظهر البعير فيبدو أنها كانت قيام جماعة “فاغنر” بالاستيلاء على مراكز قيادة عسكرية ومن ضمنها مقر قيادة الحرب الأوكرانية ومطارها العسكري في مدينة روستوف على الدون الجنوبية، وهي المدينة التي انطلقت منها قافلة عسكرية في “مسيرة العدالة” متجهة نحو موسكو، ولم تكن هناك مقاومة من القيادة العسكرية في روستوف، أو بحسب ما بدت عليه الأمور، من مدن أخرى مثل مدينة فورونيج وإيليتس وليبيتسك، مع تقدم القافلة العسكرية الحثيث شمالاً.
ومع ازدياد التوقعات بأن تتمكن قوات المتمردين من الوصول إلى موسكو بحلول ليل ذلك اليوم، وضعت العاصمة في حال طوارئ قصوى واتخذت التدابير الدفاعية في مواقع عدة على مشارف المدينة، وانتشرت توقعات بأنه بشكل أو آخر فإن بوتين كان يمكن أن يخسر السلطة خلال ساعات، وأن روسيا كانت تواجه خطر اندلاع حرب أهلية فيها، وهو احتمال أشار إليه الرئيس بوتين خلال مناشدته.
في ضوء الأوامر التي أعطيت للقافلة من بريغوجين بأن تعكس مسارها وقبوله الظاهر بموافقته على الذهاب إلى المنفى “لتفادي إرقاء الدماء”، كان هناك رأي بأن بوتين قد انتصر، وربما في يوم من الأيام قد تثبت صحة هذا الرأي، ولكن الأمور لم تبدو كذلك في اليوم التالي.
انتظر بوتين لأسابيع قبل أن يعترف بوجود أي تهديد على الإطلاق من بريغوجين، على رغم تعليقات زعيم “فاغنر” الحادة واللاذعة التي انتهت بالتشكيك في الموقف الروسي الرسمي وقرار اجتياح أوكرانيا، وعندما قرر بوتين في النهاية إلقاء كلمته المتلفزة كان عليه الاعتراف بأن جزءاً من البلاد، وليس هامشياً، بل مدينة مهمة ومركز عسكري مهم خرج عن سيطرة موسكو، وهذا أمر ليس من السهل على أي زعيم وطني أن يختار القيام به، وإذا كان في إمكان الرئيس بوتين تفادي أو حتى إنهاء ما بدا أنه كان تمرداً من دون خروج الأمر إلى العلن، لكان ذلك أقل ضرراً بسلطته.
ويبدو الأمر أيضاً أن بوتين قد اضطر إلى الاستعانة بوساطة طرف ثالث أو كان عليه القبول بها من أجل إنهاء تهديد “فاغنر”، والذي يقترح أنه كان أبعد ما يكون عن قدرته على تحريك أصبعه مشيراً على بريغوجين بالانصياع إلى أوامره، ومن الصعب تحديد المستفيد من الاتفاق لأنه لم يظهر للعلن سوى تفاصيل قليلة جداً من التسوية، وهي توقف تقدم القافلة العسكرية ورحيل بريغوجين إلى المنفى، إضافة إلى التعاقد مع عناصر “فاغنر” وضمهم إلى القوات الروسية.
ما هي الفوائد التي جناها لوكاشينكو الذي كان دعمه لحرب بوتين في أوكرانيا قد بدا في أوقات مختلفة متردداً؟ وهل نجح في الحصول على تمويل من روسيا؟ وهل حصل على صفقة توريد للطاقة بتخفيضات مفيدة له؟ أو أنه حصل على وعد بمشاركته جزءاً من غنائم الحرب لو كتب النصر لروسيا على أوكرانيا؟ أم هل أصبح لدى لوكاشينكو بعض النفوذ على بوتين؟
ويمكن طرح السؤال حول ماذا تطلب الأمر لإقناع بريغوجين بالذهاب إلى المنفى؟ هل تطلب ذلك مناقشة حصوله على رشوة؟ وهل هذا هو كل ما تطلّبه الأمر؟ إن مطالب بريغوجين بدت أنها تتضمن إقالة وزير الدفاع والقادة العسكريين الكبار المسؤولين بحسب بريغوجين، عن سوء إدارة الحملة الأوكرانية، فهل نعرف إن كان هؤلاء الضباط ما زالوا في مناصبهم؟ وهل سنشهد تغييرات على مستوى القيادة خلال الأسابيع المقبلة؟ ولو حصل ذلك فماذا سيكون أثرها في جهود روسيا الحربية؟ وماذا سيكون انعكاس ذلك في سلطة بوتين إذا بدا وأن قراراته لتغيير موظفيه قد فرضت عليه من قبل شخص كان وصفه بالخائن؟
بعضهم يقترح بأن بريغوجين الآن شخص مستهدف وأن أيامه قد أضحت معدودة، وأنه ربما قد يختار مغادرة الساحة بشكل كامل للتركيز على نشاطات “فاغنر” في أجزاء من أفريقيا، ولكن، ومن جديد، ما هي الضمانات المتاحة هناك بأن بريغوجين سيبقى في المنفى أو بعيداً من المشهد الروسي، وهذا المشهد لا يقتصر على العمليات في أوكرانيا ولكن ينطبق أيضاً على أي مناورات سياسية قد تندلع في موسكو؟ أم أن بوتين ربما قام بلعب دور القائد القوي للغاية الذي هدد بقصف موكب قوات بريغوجين وتدميره بأكمله؟
إن أخطار هكذا خطوة على بوتين، عدا خطر التهديد بانقسام القوات المسلحة الروسية في حال قيام بعض الضباط برفض مثل تلك الأوامر، ربما من شأنه أن يعني تدمير بعض أكثر الوحدات العسكرية الروسية فعالية والتي تقاتل في أوكرانيا إلى جانب روسيا، لكن إلى أي مدى يمكن الركون إلى ولاء مقاتلي “فاغنر” بعدما جرى إذا فرض عليهم التوقيع على عقود للخدمة في صفوف الجيش النظامي الروسي؟
بتفادي أي خطر كان يمكن أن يشكله بريغوجين ولو لفترة موقتة، خرج بوتين [من المأزق] محتفظاً بسلطته كما هي ولكن ليس نفوذه، ولا ندري ما إذا كانت هذه الحادثة من شأنها، كما يقول بعضهم أو يتمنون، أن تضع حداً قريباً للـ 20 عاماً أو أكثر التي أمضاها بوتين على رأس السلطة في روسيا أم لا، لكنه يبقى أمراً صعب التيقن منه.
لم يقم بريغوجين يوماً بتهديد سلطة بوتين مباشرة، فهو كثيراً ما استهدف المؤسسة الدفاعية الروسية، وأي تحد منطقي لبوتين سيعتمد على وجود شخص قادر ومستعد لقيادة تلك العملية، وذلك غير متوفر بشكل واضح حالياً، وهناك حرب مستمرة في هذه الأثناء ولم تؤد بعد إلى إثارة حركة معارضة شعبية علنية لها حتى الآن.
إلى أي مدى ستؤثر الدراما التي شهدناها خلال الأيام الأخيرة في جهود الحرب الروسية؟
هذا أمر قد يظهر مع مرور الوقت، فمن جهة لن يقتصر الأمر على أفراد المرتزقة السابقة التابعين لبريغوجين والحاصلين على عقود جديدة والذين قد يغيرون رأيهم حيال استمرار القتال، لكن ذلك قد يصل إلى القوات النظامية الروسية أيضاً إذا شعرت بوجود انقسامات بين من يقومون بإدارة الحرب في موسكو، ومن جهة ثانية فلا بد من طرح السؤال عن الدرجة التي يمكن لأوكرانيا أن تستفيد بها من الضعف المستجد، ومن كون وجود زعيم في موسكو أصابه [سلطته] الضرر وربما الوهن، وقد يكون أقل انفتاحاً حتى على تقديم التنازلات مقارنة بالسابق.
© The Independent
———————————-
“فاجنر”.. أزمة عابرة؟/ طارق فهمي
لا تشير الأمور الأولية والوساطة من بيلا روسيا بين القوات المسلحة الروسية ومجموعة فاجنر إلى أن الأمور ستمضي في طريقها وستتم بصورة جيدة في الفترة المقبلة، والإشكالية ليست لها علاقة بإنصات مجموعة فاجنر إلى تعليمات وزير الدفاع وغيرها مما يساق، بل الأمر مرتبط بقدرة مجموعة «فاجنر» على العمل مجدداً في مسرح العمليات في أوكرانيا وخارجها.
فالشركة ليست شركة أمن أو دفاع، بل لديها قدراتها وإمكانياتها الكبيرة بما لديها من سلاح نوعي وقدرات حركية كبيرة تتجاوز شركات الأمن التقليدية التي تنتشر في إنحاء العالم، والتي بدأتها الولايات المتحدة من سنوات، وهذا يؤكد أن ما دار مؤخراً سيكون جزءاً من كل مرتبط بالفعل بحضور كبير لشركة فاجنر في الداخل الروسي وخارج روسيا، وأن صراعاتٍ كبرى تتم في سياقات كبيرة مرتبطة بعدم القدرة على تصفية الشركة أو إنهاء وجودها، فقد تجاوزت ذلك منذ سنوات طويلة، خاصة وأن الأمر سيحتاج إلى مراجعة علاقات الشركات والميليشيات الداعمة لروسيا في سياقها الكبير في الفترة المقبلة، ما يؤكد أن الخلافات الشخصية الكبيرة داخل المؤسسة العسكرية الروسية من الصعب حسمها وأن مهندس ما يجري هو الرئيس الروسي بوتين شخصياً والقادر على التعامل مع الجنرالات الكبار في الجيش الروسي، فالرجل الذي شغل من قبل مواقع استخباراتية عليا قادر على الحسم، ويستطيع القيام بتغييرات كبيرة في الفترة المقبلة، خاصة وأن الاستقرار الأمني مهم ومنشود داخل روسيا للتفرغ لسير العمليات في أوكرانيا، وهي الأساس خاصة مع حجم ما تواجهه روسيا من تطورات مفصلية وهجوم مضاد من أوكرانيا.
ومع اتساع نطاق العمليات العسكرية لصالح أوكرانيا بعد إعادة توجيه الدعم الغربي غير المسبوق للقدرات الأوكرانية، ستتجه روسيا لإعادة بناء شراكات متماسكة ليس مع مجموعة «فاجنر»، بل مع سائر المجموعات الأخرى التي التحقت بمسار المواجهات الراهنة، وعلى رأسها مجموعة «أحمد الشيشان»، والتي قد يكون لها دور رئيسي ومركزي في الفترة المقبلة، وفي ظل إعادة تصويب المسار داخل المؤسسة العسكرية الروسية والتي تتعامل من منطق مباشر ارتكاناً للحاجة للاستقرار الأمني داخل المؤسسة العسكرية الروسية بصرف النظر عن إجراء تغييرات أو تأجيلها لبعض الوقت.
وهناك تحفظات من داخل المؤسسة على ما يجري في مسار العمليات العسكرية بأوكرانيا واستمرارها، بل والمطالبة بإقامة مناطق آمنة وحسم الآمر من جانب واحد على غرار ما جرى مسبقاً في سيناريو ضم شبه جزيرة القرم، ما يعني في مجمله عدم المضي في سيناريو الحرب، الأمر الذي قد يواجه الكثير من الإشكاليات في ظل تمدد العمليات ودخولها مرحلة جديدة.
وبرغم الرهانات الروسية بالقدرة على التماسك وعدم الانقسام فإن كل الشواهد الغربية المتابعة تشير إلى عكس ذلك، ولكن ما جرى مع مجموعة فاجنر مرشح بقوة للتكرر مع المجموعات الأخرى، وأن الجيش الروسي سيدخل في مواجهات استباقية مفتوحة للسيطرة على المشهد الحالي، والذي ما زال هشاً في انتظار ما هو قادم من تطورات حقيقية ومفصلية ستحسمها سيناريوهات أخرى بصرف النظر عن التطورات الراهنة، ليس في مسرح العمليات في أوكرانيا، ولكن في مسارح أخرى، حيث تتواجد مجموعة فاجنر دفاعاً عن المصالح الروسية.
ومن المرجح أن تمضي المؤسسة العسكرية في اتجاه التهدئة مع هذه المجموعات وقد يقوم الرئيس بوتين بتبني حزمة إجراءات هيكلية حقيقية تتجاوز حسم الخلافات الشخصية الراهنة بين قيادات مجموعة «فاجنر»، والقادة الكبار في هيئة الأركان الروسية، والتي أبدت كثير من الملاحظات على خطط مجوعة فاجنر في أوكرانيا وخارجها، وفي كل الأحوال سيظل السؤال مطروحاً.. كيف سينعكس ما يجري على الحرب في أوكرانيا وما هو رد فعل الدول الأوروبية والإدارة الأميركية على ما يجري للتعرف على السيناريو القادم في روسيا بصرف النظر عن المقايضات الكبيرة التي تطرح وتساق في هذا الإطار وتشمل التكهن بما هو وارد في إطار علاقات مجموعة فاجنر بالمؤسسة العسكرية الروسية، والتي تملك ميراثاً كبيراً من الخبرات المتراكمة والقادرة على التعامل مع أية تطورات سلبية في هذا الإطار سواء مع مجموعة فاجنر أو غيرها.
وينبغي التأكيد على أن الخلاف الحقيقي كان مع الرجلين المسؤوليْن عن الحرب في أوكرانيا وزير الدفاع سيرغي شويغو وقائد القوات المسلحة فاليري غيراسيموف، وليس بين الرئيس بوتين وقائد فاجنر، مع التأكيد على أن هذا الموقف المتوتر يمثل إشكالية للجيش الروسي حتى مع انتهاء الأزمة الراهنة، ولو في مستواها الشكلي.
* نقلا عن “الاتحاد”
———————–
تمرد فاغنر وقوة بوتين الحقيقية/ كون كوخلين
هل نجا الرئيس الروسي فلاديمير بوتين من التمرد الذي أطلقه ربيبه السابق يفغيني بريغوجين؟ ربما. ولكن ذلك لا ينفي جملة من التساؤلات الجدية التي تطرحها محاولة زعيم مجموعة فاغنر للإطاحة بالقيادة العسكرية الروسية حول قدرة بوتين على البقاء في السلطة في نهاية المطاف.
لأكثر من 24 ساعة بعد أن أعلن بريغوجين الأخبار الدرامية بأن قواته تتجه صوب موسكو، اختفى الزعيم الروسي فعليًا عن الأنظار، مما أثار شائعات بأنه قد فرّ من موسكو لتأمين سلامته.
وعلى الرغم من نفي مسؤولي الكرملين اللاحق للشائعات وتأكيدهم أن بوتين بقي بالفعل في العاصمة طوال الأزمة التي تبين أنها لم تدم طويلا، إلا أن غياب الزعيم الروسي، في جوهره، خلال أخطر أزمة تعصف برئاسته طوال 23 عاما، ما كان ليعزز ثقة الشعب الروسي في قدرته على تقديم القيادة القوية التي يرغبون فيها.
بل إن اضطرار بوتين إلى التراجع عن إعلانه الأولي بأن بريغوجين كان خائنًا ويجب محاسبته على خيانته، يشير إلى عكس ذلك تماما، إذ يبدو أن بوتين يصارع الآن من أجل إعادة تأكيد سلطته. ولم يمنع وقوع حرب أهلية كاملة بين الجيش الروسي الرسمي ومرتزقة فاغنر التابعين لبريغوجين إلا بفضل تدخل ألكسندر لوكاشينكو، رئيس بيلاروسيا المجاورة، الذي تمكن من نزع فتيل الموقف من خلال تزويد بريغوجين ومقاتليه بخيار البحث عن المنفى في بلاده.
بعد ظهوره العلني مجددا، حاول بوتين أن يوحي بأن الحياة عادت لطبيعتها، وكأن أمن الدولة الروسية لم يتعرض أبدا للخطر. هكذا كانت طريقة بوتين في التعبير عن تجاوزه لأشد أزمة واجهها منذ توليه الرئاسة.
في خطاب قصير ألقاه بعد أن توسط لوكاشينكو في اتفاقه مع بريغوجين البالغ من العمر 62 عاما، حاول بوتين أن يبدي شهامته، فخيّر مقاتلي فاغنر بين الانضمام إلى الجيش الروسي، أو العودة إلى بيوتهم، أو الذهاب إلى المنفى في بيلاروسيا. ونظرا لأن العديد منهم مدانون سابقون أُطلِق سراحهم من السجن لغرض صريح هو القتال مع فاغنر في أوكرانيا، فمن المفهوم بالنسبة لهم أن يشكّكوا في أن السلطات الروسية ستسمح لهم حقا بالعودة إلى ديارهم والتمتع بحريتهم. وبالفعل، سرى حديث بين الدوائر الأمنية الروسية عن محاسبة أولئك الذين شاركوا في التمرد على أفعالهم، مما يشير، على الأقل، إلى أن المدانين السابقين الذين شاركوا في الانتفاضة سيعادون إلى زنازينهم.
أما بالنسبة لمصير بريغوجين، فلم يشر بوتين مباشرة إلى ربيبه السابق، وفضّل بدلا من ذلك أن يعلن أن منظمي الثورة خانوا الشعب الروسي.
وقال بوتين: “لديكم اليوم فرصة لمواصلة خدمة روسيا من خلال إبرام عقد مع وزارة الدفاع أو غيرها من وكالات إنفاذ القانون، أو العودة إلى عوائلكم وأصدقائكم، أما إذا أردتم الذهاب إلى بيلاروسيا، فالوعد الذي قطعته سيتحقق. أكرر: الخيار لك.”
كما استخدم بوتين خطابه ليعزز صورته التي تلطّخت كزعيم بعد أداء إدارته السيئ خلال الأزمة، حين بدا كبار المسؤولين والضباط عاجزين في مواجهة تمرد فاغنر. ولكنه، من خلال توجيه الشكر للشعب الروسي على إظهار الوحدة في مواجهة المحن، وشكر قادة وجنود مجموعة المرتزقة على تجنب إراقة الدماء، بدا أنه يؤكد الانطباع بأنه قد انحدر إلى مرتبة المتفرج العاجز أثناء الصراع، وليس الرجل القوي الحازم كما يحب أن يصور نفسه.
وبالتالي، فإن إعادة بناء سمعته باعتباره الرجل الأكثر تأهلاً لقيادة الشعب الروسي، سيكون غاية عسيرة لبوتين بعد الآن، خاصة وأن بريغوجين لا يُظهر أي علامة على التراجع فيما يتعلق بانتقاده المستمر لإدارة الكرملين للحرب في أوكرانيا.
وبعد أن نسب بريغوجين لنفسه الفضل في وقف زحف مجموعة فاغنر نحو موسكو، لم يُظهر أي رغبة في تخفيف حدة موقفه تجاه الكرملين، بل، على العكس من ذلك، تفاخر بأن قواته تظل أفضل المقاتلين في روسيا، وتباهى بأنه، من خلال شن غزوه المصغر لروسيا، قد علّم الجيش الروسي كيف كان ينبغي أن يدير حربه الأولية في أوكرانيا العام الماضي.
وفي تعليقاته بعد التمرد، زعم بريغوجين أن تمرده كان “درسا بليغا” في كيف كان يمكن لحرب روسيا على أوكرانيا أن تؤدي إلى سيطرة روسيا على أوكرانيا في غضون يوم واحد، لو كان هو المسؤول عنها.
في تعليقاته بعد التمرد، زعم بريغوجين أن تمرده كان “درسا بليغا” في كيف كان يمكن لحرب روسيا على أوكرانيا أن تؤدي إلى سيطرة روسيا على أوكرانيا في غضون يوم واحد، لو كان هو المسؤول عنها
ومع ذلك، فإن الانتقادات العلنية المستمرة من بريغوجين فيما يتعلق بطريقة تعامل الكرملين مع الغزو، ناهيك عن الصدمة المستمرة التي أصابت العديد من الروس بسبب التمرد الفاشل، تضع بوتين في موقف محفوف بالمخاطر. لقد تمكن بوتين، طوال فترة حكمه، من البقاء في السلطة في المقام الأول عن طريق قمع المعارضين السياسيين بلا رحمة، سواء من خلال نفي بعض أعضاء الأوليغارشية القوية مثل ميخائيل خودوركوفسكي إلى المستعمرات العقابية في سيبيريا أو التصريح باغتيال المعارضين البارزين مثل ألكسندر ليتفينينكو.
في المقابل، يشير فشل بوتين في اتخاذ إجراء ضد شخص مثل بريغوجين، الذي كان يعتبر في يوم من أشدّ المقربين إليه، إلى أن الزعيم الروسي قد لا يمتلك في الحقيقة تلك القوة التي يصورها للشعب الروسي.
وبالتأكيد، حين تشكك الصحافة، حتى التي كان الأشد تأييدا لبوتين مثل صحيفة موسكوفسكي كومسوموليتس اليومية، صراحة في قيادة الكرملين وتحذر من “العواقب السياسية العميقة” الناتجة عن الانقلاب الفاشل ، يصبح من الواضح بشكل متزايد أن أيام الرئيس الروسي بوتين قد تكون معدودة.
المجلة
———————-
تقرير: تمرد بريغوجين أحبط صفقة وشيكة لتحويل سوريا إلى أكبر قواعد “فاغنر” بالعالم
كشفت وسائل إعلام بريطانية عن مفاوضات متقدمة بين نظام بشار الأسد وقادة مجموعة “فاغنر” الروسية، قبل أسبوعين، حول صفقة لتحويل سوريا إلى أكبر قاعدة للمجموعة في العالم، ولكن تمرد الأخيرة أفشل المخطط.
وقالت شبكة “آي تي في
” البريطانية، الخميس الماضي، إن بشار الأسد وزعيم “فاغنر” يفغيني بريغوجين اقتربا من الموافقة على زيادة عدد “مرتزقة فاغنر” في سوريا من 4 آلاف إلى 70 ألفا خلال الأشهر المقبلة.
وأضافت، نقلاً عن مصادر دبلوماسية غربية، أن التمرد المسلح الذي قاده بريغوجين في روسيا السبت الماضي نسف المفاوضات المتقدمة بين نظام الأسد ومجموعة “فاغنر”.
بحسب التقرير البريطاني، كان الهدف من الخطة جعل سوريا القاعدة العالمية الرئيسية للتنظيم.
في 2015، استعانت القوات الروسية بعد تدخلها العسكري في سوريا بمجموعة “فاغنر” للقتال إلى جانبها، وأوكلت إليها عددا من المهام أبرزها حماية حقول النفط ومناجم الفوسفات وخاصة في البادية السورية.
إرضاءً للكرملين
أشار التقرير إلى نظام الأسد كان على استعداد للموافقة على زيادة عدد مقاتلي “فاغنر” في سوريا بأكثر من عشرة أضعاف، معتبراً هذه الخطوة طريقاً لتعزيز العلاقات مع الكرملين، لكنه فوجئ بمحاولة المجموعة القيام بانقلاب في موسكو.
وأوضح التقرير، قبل أقل من أسبوعين من اندلاع التمرد، كان ممثلو بريغوجين في دمشق يتفاوضون مع النظام السوري على اتفاقية جديدة من شأنها زيادة ترتيب قوات مجموعة “فاغنر” في سوريا في الأشهر المقبلة من نحو 4 آلاف مقاتل إلى ما يقرب من 70 ألفاً.
وبحسب التقرير، اشترط نظام الأسد على أن يتمركز نصف قوات “فاغنر” على الأقل في سوريا، للانتشار في المناطق الساخنة خاصة في شمال غربي البلاد، بينما سيتم إرسال البقية إلى أوكرانيا أو مالي أو جمهورية إفريقيا الوسطى.
ومثل نظام الأسد في المحادثات ياسر إبراهيم، وهو شخصية سياسية بارزة وُصِفت بـ “تابع الأسد” إلى جانب مسؤولين من القصر الرئاسي.
ولفت التقرير إلى أن الصفقة تم التخطيط ووضع حجر الأساس لها خلال زيارة قام بها بشار الأسد إلى الكرملين في آذار/مارس الماضي.
صفقة مربحة
وفقاً للتقرير، يهدف نظام الأسد من وراء الصفقة إلى كسب عقود تبلغ قيمتها ملايين الدولارات مع شركات يفغيني بريغوجين، إضافة لإرضاء الروس وعدم المخاطرة بالدعم العسكري المباشر الذي يتلقاه من موسكو.
وأشار التقرير إلى أن العقود الحالية تقدر بعشرات الملايين من الدولارات شهرياً، وتسمح لقائد القوات شبه العسكرية باستغلال بعض الموارد الطبيعية لسوريا، مثل صناعات النفط والغاز مقابل وجود قواته في ساحة المعركة.
فشل الصفقة
بعد ساعات من توقف زحف قوات “فاغنر” باتجاه موسكو، توجه نائب وزير الخارجية الروسي سيرجي فيرشينين إلى دمشق، وأبلغ الأسد شخصياً أن مجموعة “فاغنر” ستتوقف عن العمل بشكل مستقل في سوريا.
كما أشارت العديد من التقارير إلى أن الشرطة العسكرية الروسية في سوريا ألقت القبض على العديد من مقاتلي “فاغنر”.
يذكر أن بريغوجين نفذ، السبت الماضي، ما اعتبرته روسيا “تمردا مسلحا” عبر دخول قواته مدينة روستوف قبل التوجه إلى مدينتي فورونيج وليبيتسك.
لكنه أعلن مساء اليوم ذاته سحب مقاتليه إلى معسكراتهم “تجنبا لسفك الدماء الروسية” بناء على وساطة الرئيس البيلاروسي ألكسندر لوكاشينكو حليف بوتين وصديقه.
وبموجب الصفقة يتم كف البحث عن بريغوجين بعد نفيه إلى مينسك، وعودة مقاتليه إلى معسكراتهم بضمان من الرئيس فلاديمير بوتين، ووزارة الدفاع الروسية.
“فاغنر”.. جيش الظل في سوريا
وعرف السوريون “فاغنر” من خلال جرائم وحشية ارتكبها مرتزقتها في سوريا، بما في ذلك القتل والاعتقال والتنكيل بالجثث ونهب الآثار، ويؤكد أحد مقاتلي المجموعة المنشقين أن مؤسسها الأول، ديمتري أوتكين، أمر بتصوير مقاطع فيديو لعناصر يهشمون رؤوس الفارين من جيش النظام ونشرها لبث الرعب في نفوس عناصر الجيش ومنعهم من الانشقاق.
وسافر أوتكين إلى سوريا في أيلول من عام 2015، عقب التدخل العسكري الروسي في سوريا دعما لبشار لأسد.
واتهمت الأمم المتحدة ومنظمات حقوقية دولية ودول غربية مجموعة “فاغنر” بارتكاب انتهاكات لحقوق الإنسان في سوريا وجميع أرجاء إفريقيا.
وكان الباحث في المعهد الفرنسي للعلاقات الدولية بافيل باييف قد وصف “فاغنر” بأنها “جيش الظل” لروسيا من حيث انتشارها الواسع في الأراضي السورية، مشددا على أن “المشكلة مع مقاتلين مثل فاغنر أنه لا يمكن السيطرة عليهم على الدوام”.
أمس الجمعة، كشف فيلم وثائقي، بثته قناة الجزيرة، أسرارا تتعلق بمجموعة “فاغنر” وارتباطها بالكرملين وطرق التجنيد في صفوفها، ومناطق انتشارها في مختلف دول العالم.
وسلط الفيلم الضوء على انتهاكات مقاتلي فاغنر في سوريا من ضمنها شريط فيديو “تعذيب وحشي” يعود إلى حزيران/يونيو 2017 وتم تصويره في سوريا.
وأظهر الفيديو تعرض جندي منشق عن جيش النظام السوري للضرب بمطرقة ثقيلة قبل أن يقوم مقاتلو فاغنر بتقطيع أطرافه وتعليقه من رجليه ثم إشعال النيران في جسده.
——————————
هل انتهى تمرد ميليشيا فاغنر في روسيا؟/ فارس الذهبي
في اليوم الثالث بعد انتهاء تمرد يفغيني بريغوجين ودعوته قواته من المرتزقة إلى الزحف نحو موسكو العاصمة، قبل أن يعود الرجل ويطلب من قواته العودة إلى ثكناتها بعد إتمام صفقة مع رئيس بيلاروسيا.. خرج وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكين ليقول بأن الأحداث في روسيا لم تنته والوضع هناك ينتظر تطورات كبيرة.
أثار تصريح بلينكين الكثير من التحليلات حول دور أو معرفة سابقة للإدارة الأميركية فيما جرى في روسيا في ذلك اليوم. وهل استخبارات الناتو أو الدول الغربية على صلة ببريغوجين نفسه، لكن هذه التكهنات سرعان ما تلاشت بعد صمت روسي حكومي كبير في هذا الخصوص، ونحن نعلم جميعاً أن الحكومات التي تشبه نظام بوتين تسعى على الدوام إلى رمي المسؤولية عن أية فوضى داخل البلاد عادة على الخارج وتعليلها بعوامل مؤامراتية دوماً مما يسهل عليها تجنب أية مسؤولية أمام شعبها، وتعزز في ذات الوقت متانة فكرة أن (الوطن) مستهدف وبالتالي يمكن لتلك الحكومة فعل ما تريد من أجل حماية هذا الوطن.
في كل الأحوال تبدو المؤشرات على انتهاء الأزمة سابقة لأوانها، فزعيم عصابة فاغنر الذي انتقل بشكل غامض إلى الأراضي البيلاروسية، خرج من البلاد بعد أن قاد تمرداً على القوات المسلحة أودى بحياة عشرات الجنود والطيارين الروس، مضى دون مساءلة أو محاسبة، بل أسقطت جميع التهم الجنائية بحقه كذلك، وتتحدث الصحف الغربية عن تأمين ثروته في مكان طلبه سابقاً.. تقدر ثروة بريغوجين بمليارات الدولارات جناها من حراسة حقول النفط في سوريا وعقد صفقات مع “حكومة دمشق” بخصوص التنقيب عن الغاز في المتوسط، ومن حيازة وحراسة مناجم الذهب في السودان وإفريقيا. ضمن سلسلة نشاطات مشبوهة يقوم بها الرجل لحساب شخصيات متنفذة في موسكو.
تنتشر عصابات فاغنر في عدد كبير من الدول الإفريقية بشكل منفصل عن الحكومة الروسية، وفي سوريا كذلك. وبالتالي أي محاولة لحل أو تفكيك فاغنر أو قطع الموارد عنها سيؤدي حتماً إلى خروج تلك الدول من السيطرة الروسية غير المباشرة وخسارة نفوذ عانى بوتين من أجل الحصول عليه.
فضلا عن حوالي خمسين ألف عسكري مرتزق يعمل على الجبهات الأوكرانية والسورية وهم في جاهزية كاملة للقتال الميداني، وتفكيكهم أو الخلخلة بهيكلية الأوامر الهرمية لديهم المرتبطة ببريغوجين ستؤدي إلى اهتزاز الواقع غير المستقر في جبهات القتال هناك.
من جهة أخرى تبدو تصريحات رئيس بولندا أنجي دودا، العدائية تجاه انتقال رئيس فاغنر إلى بيلاروسيا غير مبشرة، فهو يعتبر أن ما جرى في روسيا في ذلك اليوم، هو مؤامرة بين بوتين وفاغنر، من أجل إرسال المرتزقة من جبهات أوكرانيا ونشرهم في حدود بيلاروسيا قرب بولندا.. ودعا من أجل هذا إلى نشر قوات خاصة وكتيبة دبابات ألمانية على الحدود مع بيلاروسيا.
أما على الصعيد الداخلي الروسي، حيث انتهكت السيادة الروسية من داخلها، وظهرت روسيا أمام العالم كدولة راعية للميليشيات التي تنقض على بعضها البعض، في مشهد يعكس ضعف وانهيار الجيش الروسي الأساسي، حيث يؤيد جزء من الشعب قوات فاغنر عبر فيديوهات مسجلة، وجزء آخر يؤيد فيلق روسيا الحرة المتمرد الذي يقوم بعمليات تخريبية في فترات متباعدة، في مواجهة ميليشيات أحمدوف الشيشانية التي تنتقل من القوقاز إلى روستوف وحدود أوكرانيا بسلاسة وتحت ضوء الشمس. بينما يظهر فلاديمير بوتين الذي كان حريصاً مذ توليه الحكم على تقديم نفسه في صورة الرجل الحاسم، الصارم، القوي، من يصارع الدببة ويغطس في ثلوج سيبيريا. والذي ينعت كل من يهدده أو يهدد حلفاءه بالإرهابي. بدا متسامحاً وهادئاً بل وحتى جزيلاً في شكر رئيس بيلاروسيا على وساطته التي أدت إلى إيقاف قوات فاغنر دون الدخول إلى موسكو.
من المؤكد أن التمرد الذي قاده زعيم ميليشيا فاغنر لم ينته، وبأن ارتداداته ستظهر على المدى المتوسط في عموم المنطقة، ومن المعروف بأن من يربي الوحش حري به أن يتوقع انقضاضه عليه حينما يجوع، وهذا حال الولايات المتحدة مع مجاهدي أفغانستان وأسامة بن لادن. فالتركيبة التي يعيش العالم فيها اليوم تعوم على بحر من القوات المرتزقة التي تقاتل بالنيابة عن الجيوش النظامية، وما الشرق الأوسط إلا نموذج لما يجري، ميليشيات في كل مكان من اليمن إلى العراق ولبنان وسوريا، في روسيا ووسط آسيا وإفريقيا وحتى حدود الصين. فهل سيجد بوتين الطريقة لإعادة المارد إلى القمقم. وهل ستقبل الصين بانفلات يؤثر على استقرار طرق التجارة الدولية، وما هو مصير الدول المركزية من كل هذه الفوضى.
——————————–
بعد تمرد “فاغنر”.. روسيا نحو مزيد من التهور أو مزيد من الانكسار/ مصطفى إبراهيم المصطفى
رغم أنه كان فيلما قصيرا لم يشبع نهم محبي أفلام الإثارة والتشويق؛ إلا أن أحداثه حملت الكثير من المعاني والإيحاءات. لم يكن التمرد العسكري الذي قاده مالك شركة “فاغنر” “يفغيني بريغوجين” حدثا عابرا لا يحتاج التوقف عنده، إنما هو علامة فارقة وحدث بارز زلزل روسيا ودمر ما تبقى من هيبة ومعنويات وثقة بالنفس لدى الروس ولدى القيادة الروسية.
نظريا؛ جرب “بريغوجين” أن يقود انقلابا يطيح بالنظام الروسي معتمدا على الشعبية التي حظيت بها قواته نتيجة تقدمها في “باخموت” في مقابل فشل الجيش الروسي في عدة مواقع. ورغم أنه لم يصرح بذلك علنا، إلا أن إعلانه التوجه بقواته نحو العاصمة لمحاسبة وزير الدفاع ورئيس الأركان، ودعوته المواطنين للنزول إلى الشارع ضاربا عرض الحائط بوجود رئيس وحكومة ليس له معنى آخر. إلا أن “بريغوجين” قبل وساطة الرئيس البيلاروسي وقرر التراجع عن مشروعه عندما لمس ضعفا في التجاوب مع دعواته، وهكذا انتهى كل شيء خلال ساعات معدودة.
أما من الناحية العملية؛ فإن ما حدث قد أسقط آخر ما تبقى من معالم الصورة الذهنية التي عملت روسيا من خلال دعايتها القوية والناجحة على طبعها في عقول الآخرين حول القوة العسكرية الروسية، وقوة زعيمها “فلاديمير بوتن”، أو الرجل الحديدي كما يلقبونه، فبعد الأداء العسكري المترهل خلال الحرب في أوكرانيا أظهر الجيش الروسي هشاشة قل نظيرها عندما اجتاح مقاتلو “فاغنر” الأراضي الروسية، إذ شاهد العالم بشرقه وغربه كيف أن قوات فاغنر استولت عل مقاطعة “روستوف” وسيطرت على كافة النقاط العسكرية فيها دونما أية مقاومة، كما شاهد العالم كيف قبل “بوتن” إسقاط التهم عن رجل متهم بالخيانة والصفح عنه مقابل إيقاف التمرد.
بالأمس قبيل عملية التمرد بأيام قليلة عقب وزير الخارجية الأميركي “أنتوني بلينكن” على مقولة الجيش الروسي ثاني أقوى جيش في العالم بقوله: إنه ثاني أقوى جيش في أوكرانيا. ترى لو سئل “بلينكن” اليوم نفس السؤال ماذا سوف يجيب؟! لقد سقطت مقولة إن الجيش الروسي ثاني أقوى جيش في العالم سقوطا مدويا، واستحالت صورة الرجل الحديدي إلى نمر من ورق. فرغم أنها ساعات معدودة، إلا أنها كانت كافية لتهشيم صورة الرجل الحديدي ووضعته أمام خيارين أحلاهما مر.
لعل الخيار الأول ينحصر في البحث عن طريقة للملمة أوراقه المبعثرة، وتجنيب نفسه وبلده المزيد من التدهور الذي دخل منعطفا خطيرا بعد “زلزال بريغوجين”. ويمكن مقاربة هذا الخيار عن طريق البحث عن حلول وسط للحرب الأوكرانية أولا، ولباقي القضايا الخلافية ثانيا. ورغم أن الانكفاء والتقوقع عن طريق اجتراح الحلول غير المذلة خيار قد يصطدم برفض الخصوم لما لمسوه من ضعف “بوتن” شخصيا، وضعف روسيا بالعموم إلا أنه يبقى خيارا لديه حظوظ لا بأس بها من النجاح.
إن التخوف الأميركي من السقوط المدوي لروسيا (لما له من تبعات وتداعيات اقتصادية وسياسية وأمنية) قد يدفع الإدارة الأميركية لدعم وتبني هذا النوع من المقاربات، أي البحث عن حلول وسط، إلا أن الأنظمة الدكتاتورية بسبب طبيعتها وبنيتها يصعب عليها أن تتبنى هذا النوع من البرغماتية السياسية؛ لأن تداعياته قد تكون أشد خطورة من الخيار الثاني حسب عقلية الدكتاتور.
أما الخيار الثاني، وهو الأقرب إلى عقلية الأنظمة الدكتاتورية، فهو أن يمتثل “بوتين” لمقولة “خير وسيلة للدفاع هي الهجوم” ويستنفر كافة موارد القوة الروسية لاستعادة الهيبة والظهور بمظهر من يستطيع الانتصار، وذلك عن طريق اللجوء للبطش داخليا وخارجيا. وهذا خيار محفوف بالمخاطر؛ لأن الحرب الأوكرانية أثبتت أن الجيش الروسي يفتقر إلى الكفاءة اللازمة، وأن المؤسسة العسكرية يعشعش الفساد في جنباتها.
بعد أن تم تحييد مجموعة “فاغنر” – ولو مؤقتا – سوف تنكشف سوءة الجيش الروسي أكثر وأكثر، فمقاتلو هذه المجموعة كانوا بمثابة القوة الضاربة التي اعتمد عليها “بوتن” للتغطية على ضعف الجيش الروسي وهشاشته. لذلك، قد يبدو خيار استنفار القوة الروسية اعتمادا على الجيش والاستغناء عن خدمات مجموعة “فاغنر” أشبه بسلوك التاجر المفلس الذي يحاول إخفاء إفلاسه فيغرق أكثر.
يحدثنا التاريخ القريب عن حرب وقعت عام 1939 بين الاتحاد السوفييتي بعظمته ودولة صغيرة اسمها “فنلندا”، اعتاد المؤرخون أن يسموا تلك الحرب “حرب الشتاء”، والتي انتهت بعد توقيع معاهدة موسكو للسلام تنازلت فنلندا بموجبها عن 9% من أراضيها إلى الاتحاد السوفييتي. لكن خسائر الجيش السوفييتي البشرية وصلت في تلك الحرب إلى ما يتراوح بين 70 إلى 170 ألف جندي حسب التقديرات المختلفة، وهو ما يعني أن الجيش السوفييتي زُجّ في مذبحة من أجل الحصول على النصر، لكنه نصر بطعم الهزيمة، فقد كانت الخسائر السوفييتية فادحة. وقد كان من تداعيات تلك الحرب أن تضررت سمعة البلاد الدولية، وطردت من عصبة الأمم، وتشجعت ألمانيا على غزو الاتحاد السوفييتي بعد أن اكتشفت ضعف جيشه.
ها هو التاريخ يعيد نفسه، فخسائر روسيا في حربها على أوكرانيا فاقت توقعات أشد المتشائمين الروس، وها هي روسيا تفقد هيبتها وسمعتها، وها هو “بريغوجين” يفتح الباب لمن يرغب بالتمرد أو التحدي. وروسيا التي زلزلت بتمرد “فاغنر” نحو مزيد من التهور أو مزيد من الانكسار.
تلفزيون سوريا
———————-
نحو واجهات جديدة.. ما مصير شركات “فاغنر” في سوريا
عنب بلدي
بعد أن أصبح قائد مجموعة “فاغنر” الروسية، يفغيني بريغوجين، في بيلاروسيا، وفق اتفاق بوساطة رئيسها أنهى تمرد المجموعة على الجيش الروسي، وحلّ “فاغنر” ككيان، وتحويلها إلى أفراد يمكنهم التعاقد مع الجيش الروسي، يبقى مصير استثماراتها في سوريا غير واضح.
وفي 24 من حزيران الحالي، انتهى تمرد المجموعة حين أعلنت بيلاروسيا، عن اتفاق برعاية الرئيس البيلاروسي، ألكسندر لوكاشينكو، بين الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، وبريغوجين، لإنهاء التوتر بين الطرفين.
وشمل الاتفاق الذي نشره “الكرملين” خمسة بنود، تحدث أولها عن إمكانية انضمام بعض أفراد “فاغنر” ممن رفضوا المشاركة بحملة التمرد إلى الجيش الروسي بعقود مع وزارة الدفاع.
كما شمل الاتفاق عدم خضوع أي فرد من المجموعة لأي ملاحقة قانونية، فيما تضمّن البند الثالث عودة “فاغنر” إلى معسكراتها.
وتشابه البند الرابع مع الأول، وتحدث عن عقود للأفراد غير الراغبين بالعودة إلى معسكرات “فاغنر” مع وزارة الدفاع.
فيما شمل البند الخامس إغلاق القضية، ومغادرة بريغوجين إلى بيلاروسيا دون أي ملاحقة قانونية.
ولم يدم تمرد المجموعة سريعًا، الذي بدأ مساء الجمعة 23 من حزيران، حين أعلن بريغوجين سيطرت قواته على المطار والمنشآت العسكرية في مدينة روستوف، المحاذية للحدود مع أوكرانيا، مهددًا بالتوجه نحو العاصمة الروسية.
كما وجه بريغوجين انتقادات حادة إلى قادة الجيش الروسي، متهمًا إياهم بشن هجوم صاروخي “مميت” على قواته في أوكرانيا، كسبب قدمه لبدء التمرد.
وكان بريغوجين قد اتهم وزير الدفاع الروسي ورئيس الأركان منذ شهور بعدم الكفاءة وحرمان “فاغنر” من ذخيرة ودعمها في معاركها في أوكرانيا.
“فاغنر” في سوريا
سيطر موقف ضبابي على المشهد في سوريا، إذ على غير العادة لم يصدر أي بيان يدين “فاغنر” ويقف مع الحكومة الروسية، من قبل حكومة النظام السوري، بالرغم من تبيان عدة دول موقفها من هذه الأحداث.
وسافر نائب وزير الخارجية الروسي، سيرجي فيرشينين، إلى دمشق في 26 من حزيران الحالي، لحث رئيس النظام السوري، بشار الأسد، على منع مقاتلي “فاغنر” من مغادرة سوريا دون إشراف موسكو ، حسبما قال أشخاص مطلعون على اللقاء الذي دار بينهما، لصحيفة “وول ستريت جورنال“، في تقريرها الصادر في 28 من حزيران.
وذكر بيان صادر عن حساب “رئاسة الجمهورية” في “فيس بوك” ذات اليوم بشأن الاجتماع، أن الأسد التقى مع فيرشينين، وأجريا مباحثات سياسية تناولت العلاقات بين سوريا وروسيا والتنسيق بينهما لا سيما في “ضوء الأحداث الأخيرة”.
وقال شخصان مطلعان للصحيفة الأمريكية، إن مقاتلي “فاغنر”، الذين عملوا بشكل مستقل إلى حد كبير في سوريا، تلقوا أوامر في اليوم التالي للقاء الأسد بنائب وزير الخارجية الروسي، بالذهاب إلى قاعدة “حميميم” في مدينة اللاذقية، التابعة لوزارة الدفاع الروسية، وأنهم امتثلوا لتلك التوجيهات.
وتملك “فاغنر” استثمارات بقطاعات النفط والغاز بسوريا، وذلك عن طريق صلة قائد “فاغنر” بشركتي “ميركوري” و”فيلادا”، اللتين حصلتا على عقود تنقيب عن النفط في سوريا، عبر مرسوم رئاسي نهاية العام 2019.
وحصلت الشركتان على حقول التنقيب في مواقع بالمنطقة الشرقية، وفي المنطقة الوسطى شمال العاصمة دمشق.
ووفق صحيفة “نوفايا غازيتا” الروسية المستقلة، فإن الشركتين تعودان لبريغوجين، ووفق تقرير لها نشر مطلع العام 2020، فإن شركات بريغوجين كانت تحصد حوالي 20 مليون دولار شهريًا في سوريا، خلال العام 2018.
وعرفت “فاغنر” في سوريا، بأدوارها في استعادة حقول النفط والغاز من مقاتلي تنظيم “الدولة الإسلامية”، بين عامي 2016 و2018، وتولت لاحقًا، مهام تأمين تلك الحقول، خاصة في ريف دير الزور، إلى جانب تأمين حقول الفوسفات في البادية السورية.
وفي عام 2018، وقّعت المؤسسة العامة للنفط السورية مع شركة “إيفروبوليس” الروسية، عقدًا يقضي بحصول الشركة على ما نسبته 25% من أرباح حقول النفط التي يتم استعادتها من التنظيم، وقد تأسست الشركة قبل أشهر فقط من توقيع العقد، كواجهة لنشاط “فاغنر” الاستثماري، بحسب وثائقي لصحيفة “وول ستريت جورنال”.
وفي عام 2021، صادق الأسد، على اتفاق مبرم مع شركة “كابيتال” الروسية، منحها حق التنقيب عن النفط والغاز في البحر المتوسط.
وجرى اكتشاف صلات بين “كابيتال” وبين “إيفروبوليس” التابعة لـ “فاغنر”، إذ اتضح أن المدير العام للأولى، مُدرج بوصفه كبير الجيولوجيين في الثانية، وتداخلات أخرى في هيكلية الشركتين، وفق تقرير لصحيفة “فورين بوليسي“، صدر في أيار 2021.
وبحسب تقرير مجلة “نيولاينز” الأمريكية، في نيسان 2022، فإن روسيا قدمت قرضين إجماليهما مليار دولار إلى النظام السوري بشرط السداد لشركات روسية محددة، منها شركة “إيفروبوليس” التابعة لـ “فاغنر”.
ما مصير الشركات والقروض؟
بعد حلّ “فاغنر” لا يزال مصير الشركات الروسية، التي تعد واجهة للمجموعة، غير معلوم، فيما يرى مدير البرنامج السوري في “مرصد الشبكات السياسية والاقتصادية”، والدكتور في الاقتصاد، كرم شعار، أن مصير المجموعة للزوال في سوريا، بسبب تمرد بريغوجين على بوتين، وهو ما لا يمكن غفرانه من قبل الأخير، بالرغم من الاتفاق المزعوم بواسطة بيلاروسيا.
وقال شعار لعنب بلدي، حول مصير شركات “فاغنر” في سوريا، إنه يعتقد أن بريغوجين سيجبر على نقل الملكية لأسماء أخرى، بعدما كان بوتين يعتبر نفسه شريكًا له في هذه الشركات بسوريا، وأن بريغوجين كان واجهة للشركات، في حين سيأخذ مكانه حاليًا واجهة أخرى بعد تمرده.
وحول القروض المتعهد سدادها لشركات “فاغنر” في سوريا، قال الدكتور في الاقتصاد، إن النظام سيبقى مسؤولًا عن سداد هذه القروض، للواجهة الجديدة التي سترتبط ببوتين، وذلك لأن الرئيس الروسي مستفيد أيضًا من هذه القروض، وهو السبب الأول لحصول شركات “فاغنر” على عقود بشروط “قاسية” على حكومة النظام السوري، لصالح هذه الشركات.
ونفت قناة “روسيا اليوم” الروسية، في 27 من حزيران الحالي، وجود أي نشاط لمجموعة “فاغنر” في سوريا، ونقلت عن مصادر رسمية في النظام السوري أن “في سوريا نشاطًا لشركات ذات طابع اقتصادي بحت مثل (روس ستروي غاز)، وقطعًا عسكرية تتخذ من مطار حميميم قاعدة لها، لكن ليس هناك من تواجد لعناصر أو هيئات تابعة (لفاغنر)”.
وأضافت أن تحقيقات جرت داخل قاعدة “حميميم” مع عناصر كانت على “صلة ارتباط” مع “فاغنر” سابقًا، لكنها أكدت أن الأمر كله “لم يتعد كونه إجراء احترازيًا”.
وبعد أن نفت لسنوات أي ارتباط مع “فاغنر”، تحاول روسيا الاستيلاء على أملاك ونشاط المجموعة عبر إدارة جديدة.
ووفقًا لمسؤولين غربيين في تقرير صحيفة “وول ستريت جورنال”، فإن شركات “فاغنر” تدر مئات الملايين من الدولارات سنويًا في إفريقيا، وهي مصدر أساسي للتمويل ونفوذ روسيا في القارة وتمويل العمليات في أوكرانيا.
وقال هؤلاء المسؤولون إن مصادر دخل المجموعة تشمل صادرات الذهب السوداني إلى روسيا، وكذلك الماس من جمهورية إفريقيا الوسطى إلى الإمارات، والأخشاب إلى باكستان.
وعملت لسنوات مجموعة “فاغنر” كقوة أمنية في جميع أنحاء الشرق الأوسط وأفريقيا، عبر أكثر من 30 ألف مقاتل موظف لديها.
——————————-
ردود الفعل الإيرانية على المواجهة التي قامت بها مجموعة “فاغنر” في روسيا / فرزين نديمي
تحليل موجز
يدرك المسؤولون الإيرانيون تماماً أن أزمة بوتين توازي نقاط ضعفهم، لذلك من المرجح أن يكثفوا جهودهم لتعزيز العلاقات الأمنية الثنائية والحصول على الأسلحة والتكنولوجيا الروسية.
بينما كانت وحدات من مجموعة “فاغنر” بقيادة يفغيني بريغوزين تتجه عبر الطريق السريع “أم 4” نحو موسكو في 24 حزيران/يونيو، تابعت وسائل الإعلام الإيرانية الأحداث بقلق، بحيث لم تنفك تتساءل عمّا إذا كانت جهات فاعلة أجنبية هي التي تدير هذا التحرك، وما إذا كان المتعاقدون العسكريون المتمردون سيتمكنون فعلاً من الوصول إلى موسكو وما إذا كان عهد فلاديمير بوتين سيصمد في وجه المذلة. وقد سارعت وسائل الإعلام المتشددة مثل “وكالة تسنيم للأنباء” التابعة “للحرس الثوري الإيراني” إلى تسليط الضوء على وجه التشابه بين تمرد “فاغنر” وما يسمى بـ”الحرب الهجينة التي يشنّها الغرب وحلف ‘الناتو’ المتآمران” ضد النظام الإيراني، مما يشير إلى أن الحروب الأهلية كانت مفتعلة في البلدين. وطرحت وسائل الإعلام التابعة “للحرس الثوري الإيراني” سيناريوهات موسعة لدعم هذه النظرية، تضمّن أحدها خداع “الناتو” لأفراد مجموعة “فاغنر” عبر “فخ إعلامي قائم على معلومات مضللة” أقنعهم بتوجيه أسلحتهم ضد حكومتهم. وبالفعل، أعربت عدة منافذ إعلامية عن خوفها من أن يكون هذا التحرك يصب أساساً في مصلحة أوكرانيا والغرب.
واتهم المتشددون أيضاً الإصلاحيين المحليين في إيران ومؤيديهم في وسائل الإعلام بالوقوف منذ البداية في صف بريغوزين ضد بوتين. وقد وجّه مدير التحرير في صحيفة “كيهان” – حسين شريعتمداري، الذي عينه المرشد الأعلى علي خامنئي في ذلك المنصب – أصابع الاتهام إلى الإصلاحيين، فأمطرهم بوابل من الانتقادات اللاذعة بأنهم أضعفوا النظام الإيراني بسبب “دعمهم” لزحف بريغوزين نحو موسكو الذي لم يدم طويلاً. والجدير بالذكر أنه شبّه ما يحصل بتأييدهم الاتفاق النووي عام 2015.
ويبدو أن المتشددين قلقون جدياً من قدرة مسلحين روس على طرح تحدٍ مفاجئ وسريع نجح لفترة قصيرة بتهديد الحكومة المركزية الروسية التي كات تبدو في الظاهر أنها لا تهزم، وكذلك من احتمال حياكة مؤامرات في الداخل الروسي مع بريغوزين. فبرأيهم، قد تحرّك مثل هذه الأحداث رغبة الشعب الإيراني وعناصر الجيش والأمن الخائبين، فيقرروا انتهاج تكتيكات مماثلة لإشعال فتيل صراع طويل الأمد مع النظام في طهران. وعليه، بعد تصوير تمرد “فاغنر” على أنه مؤامرة غربية لتحجيم بوتين واحتواء قدرة موسكو العسكرية، أعربت معظم وسائل الإعلام التابعة للنظام عن ارتياحها لنجاح بوتين “بمهارة” في درء التهديد والخروج من المأزق سليماً.
لقد بالغ المعلقون المتشددون في دعم بوتين ضد “المتآمرين بقيادة حلف ‘الناتو’ ” لدرجة أن بعض المحافظين حتى طالبوهم باعتماد نهج أكثر توازناً. على سبيل المثال، وجّه النائب السابق الذي يتكلم بجرأة، علي مطهري، انتقادات لاذعة إلى الإيرانيين الذين “يربطون مصالح الأمة بمصالح روسيا” ودعا إلى العودة إلى السياسة الثورية السابقة القائمة على عدم الاصطفاف والتي يعكسها الشعار القديم “لا للغرب، لا للشرق”.
لكن في الوقت الراهن، يتحدث القادة الإيرانيون صراحةً عن رغبتهم في الانحياز إلى روسيا والصين في إطار “نظام عالمي جديد متعدد الأقطاب” على حساب الولايات المتحدة. كما يريدون تحقيق مكاسب جيدة من استثمارهم السياسي في روسيا خلال عهد بوتين، الذي يظهر من خلال تزويدها بطائرات مسيّرة انتحارية من نوع “شاهد” وذخائر كي تستخدمها ضد أوكرانيا. وبشكل خاص، هم يريدون من روسيا مساعدتهم على تحسين برامج الأسلحة التي تطورّها إيران وتسليمها أسطولاً من مقاتلات “إس يو 35” المتطوّرة كان قد تم الوعد بها سابقاً.
وبالتالي، ليس من المفاجئ أن يكون الرئيس إبراهيم رئيسي ووزير الخارجية حسين أمير عبد اللهيان قد اتصلا بنظيريهما الروسيين بعد يوم واحد من انطلاق “المسيرة الاحتجاجية” لمجموعة “فاغنر” من أجل الإعراب عن دعم طهران “لسيادة روسيا الوطنية” وسط التهديدات بالتمرد. وعلى نحو مماثل، اتصل رئيس هيئة الأركان العامة للقوات المسلحة الإيرانية اللواء محمد باقري بوزير الدفاع الروسي سيرغي شويغو في 28 حزيران/يونيو ليبلغه بتأييده ويأخذ منه تطمينات حيال الوضع الراهن في روسيا ويدعوه لزيارة طهران – على الرغم من أن هذه الزيارة قد لا تحدث في أي وقت قريب.
أما على المدى البعيد، ليس هناك شك بأن الحادثة ستذكّر طهران بأن وجود حليف خارجي قوي مثل روسيا لا ينبغي أن يؤخذ على أنه أمر مسلم به. ومن المرجح أن يزيد المسؤولون الإيرانيون وتيرة مطالباتهم بالأسلحة والتكنولوجيات التي وعدتهم بها روسيا. وفي هذا الإطار، قد تم أساساً إرسال العميد أحمد رضا رادان، القائد العام “لقوى الأمن الداخلي”، في زيارة نادرة إلى موسكو لمناقشة التعاون الأمني بين البلدين. وفي 28 حزيران/يونيو، ناقش مع قائد “الحرس الوطني الروسي” الذي يتمتع بنفوذ قوي فيكتور زولوتوف مسائل “الأسلحة والذخائر ومكافحة الإرهاب وتجارة المخدرات والتهديدات الأمنية المزعزعة للاستقرار”. تجدر الملاحظة أن “الحرس الوطني الروسي” تأسس عام 2016 بهدف قمع الاحتجاجات المتزايدة التي كانت تعّم شوارع البلاد، لذا يُعتبر اجتماع رادان وزولوتوف مؤشراً إضافياً على أن النظامين سيتعاونان بصورة أكثر لضمان صمودهما المتبادل. وكما كتب محرر عمود في صحيفة “كيهان” في 27 حزيران/يونيو “الضربة التي تفشل في قتلك ستجعلك أقوى بَعْد”.
فرزين نديمي هو زميل أقدم في معهد واشنطن.
معهد واشنطن. لسياسة الشرق الادنى
————————–
عمّا فعله بريغوجين بصانعه بوتين!/ ماجد كيالي
جاء التمرّد المفاجئ والصاخب ليفغيني بريغوجين، زعيم شركة “فاغنر” العسكرية للمرتزقة الروس، على قيادة الجيش الروسي، وعلى طريقتها في إدارة الحرب في أوكرانيا، كأحد أهم التداعيات العكسية الناجمة عن الغزو الروسي لأوكرانيا، الذي سيكون له، على الأرجح، ما بعده لاحقاً.
وتأتي أهمية هذا التطور الذي حبس أنفاس العالم على امتداد 24 ساعة، من واقع العلاقة الوثيقة والقديمة التي ربطت بريغوجين بالرئيس الروسي فلاديمير بوتين، والذي أنشأ تلك الشركة للعمل كذراع طويلة لروسيا في الخارج، بصورة غير رسمية، ما يجنّبها أي مسؤولية، إزاء القانون الدولي، وهو ما تفعله في سوريا وفي أكثر من بلد أفريقي.
على أي حال، فقد أكّد الرئيس الروسي ذلك في خطابه، بعد إنهاء التمرّد (27/6)، بأنّ كل تمويل تلك الشركة، وكل الأسلحة والذخيرة والمعدّات التي تمتلكها، تأتي من وزارة الدفاع الروسية، بدلالة انخراط تلك الشركة في حرب أوكرانيا، من موقع متقدّم، والسماح لها بتنسيب متطوعين؛ حتى من المساجين، لارتكابهم جرائم جنائية في مجتمعاتهم؛ إضافة إلى السماح لبريغوجين بانتقاد قيادة الجيش في ظلّ الحرب، منذ أشهر، من دون أي كابح له.
بيد أنّ أهم ما لفت الانتباه في ذلك الحدث المفاجئ هو تلك التصريحات القاسية، والمباشرة التي أدلى بها بريغوجين إبّان تمرّده (24/6)، والتي قوّض فيها جملة الادّعاءات التي برّرت فيها روسيا غزو أوكرانيا، كـ “القضاء على النازية، الذي منح أوكرانيا الشرعية، وجعلها دولةً معروفةً في كل أنحاء العالم”، وبدل “نزع سلاحها… قمنا بتسليحها. أصبحت الآن تمتلك أحد أقوى الجيوش… نحن لا نقوم بأي شيء بطريقة صحيحة”. لكن أهم ما جاء في كلامه، هو نفيه ادّعاء أنّ حلف “ناتو” كان يستعد دخول أوكرانيا، وأنّ الغزو أتى لصدّ ذلك، باعتبار ذلك مجرّد خدعة، فبركتها قيادة الجيش، وانطلت على الرئيس الروسي.
في ما يخصّ بريغوجين، وأياً كانت دوافعه، سياسية أو مالية، وسواء كانت حركته خاصة، أم مرتبطة بأوساط روسية أخرى، عسكرية أو اقتصادية أو سياسية، فإنّ طريقة التعامل معه، تؤكّد أنّ السلطة في روسيا، والرئيس بوتين شخصياً، تحسب له جيداً، فمن خائن وخارج عن القانون، وتجب محاكمته ومعاقبته، إلى رجل بات يحظى بحماية او باحتضان الرئيس البيلاروسي، الأكثر قرباً للرئيس بوتين، وهو وشركته العسكرية الخاصة.
إلى ذلك، فإنّ أسهل وأسخف شيء، اعتبار ما جرى مؤامرة خارجية، واعتبار بريغوجين مجرّد عميل، فهكذا تعمل أنظمة التسلّط والفساد، في سعيها إلى إنكار الواقع، وحجب مسؤوليتها عن العطب الداخلي. فهل كان بريغوجين عميلاً وهو شريك بوتين في إنشاء “فاغنر” وما تفعله في ليبيا والسودان ومالي وأفريقيا الوسطى، وفي سوريا؟ أم وهو في مقدّمة الجيش الروسي في قتال الأوكرانيين؟ أم عندما تراجع عن مسيرته إلى موسكو، ثم قبوله بالمغادرة إلى بيلاروسيا؟ ثم هل ما فعله غورباتشوف نتاج مؤامرة خارجية حين فكّك الاتحاد السوفياتي السابق (1990)؟ وهذا ينطبق على غيره كخروتشوف وستالين ويلتسين وصولاً إلى بوتين؟
في الواقع، فإنّ ما حصل كشف العطب والوهن في النظام السياسي السائد في روسيا، وفي طريقة إدارة بوتين السلطة، منذ صعد إلى الحكم قبل 23 عاماً، وذلك من نواحٍ عدة، أهمها: أولاً، افتقاد النظام السياسي الروسي المرونة، والحيوية، فهو نظام صلب، ومتكلّس، وخيطي، أي يفتقد الهيكلية الهرمية، المتسلسلة، التي تجعل السلطة أمراً تشاركياً مع آخرين، وهذا لا يتعلّق بطلب الديموقراطية، فقط، فحتى الدول غير الديموقراطية لديها آلية لإدارة الحكم، تجعل من قاعدة اتخاذ القرارات أوسع، وأكثر مرونة، وسلاسة، وتتيح مجالاً لعرض خيارات أخرى، ولرأي آخر، غير ما يدور في رأس الحاكم.
ثانياً، غياب مؤسسات صنع القرار وآلياته، فمجلس “الدوما”، لا يملك سلطة تشريعية حقيقية، وإنما هو يشرعن سياسات الرئيس وقراراته، بغض النظر عن صدقية تمثيله الشعب الروسي ومصالحه، كما لا توجد سلطة قضائية حقيقية، أي إنّ النظام السياسي في روسيا لا يشتغل وفق قاعدة الفصل بين السلطات، ولا وفق قواعد مؤسسية.
ثالثاً، يعيش الرئيس بوتين في عزلة، فهو يخاطب قادة دولته، السياسيين والعسكريين والاقتصاديين، في أغلب الأوقات، عبر شاشة، أو عبر مسافة طويلة، وبطريقة فوقية، وإملائية، ما يُضعف التفاعل والثقة المتبادلة. وأيضاً، ثمة عزلة دولية تحيط بالرئيس الروسي، فُرضت منذ ضمّ شبه جزيرة القرم، وضمّ أجزاءً من أوكرانيا (2014)، وقد تفاقمت أكثر منذ غزوه أوكرانيا مجدّداً (شباط/فبراير 2022). والأهم أنّ روسيا كلها تعيش حالة عزلة تقريباً، إذ لم يؤيّد غزوها أوكرانيا سوى بضعة دول هي: بيلاروسيا وسوريا وكوريا الشمالية واريتريا، أي حتى دول “بريكس”، وحتى هنغاريا، نأت بنفسها عن دعمه.
في السياق نفسه، نلاحظ أنّ الرئيس بوتين، وبعد تمرّد صنيعه (بريغوجين) عليه، فضّل إحاطة نفسه بكتيبة “شيشان”، لحمايته، بدل أن يحتمي بوحدات من الجيش الروسي، ما يثير التساؤل، والتخيّل، علماً أنّه كان شنّ حرباً على الشيشان أواخر التسعينات، ودمّر عاصمتهم غروزني بالمدفعية، حتى ولو كانت كتيبة الحماية من المتعاونين معه إبّان دكّه عاصمتهم، فمن يضمن أنّ هؤلاء الذين اذلّهم وقوّض طموحهم إلى الاستقلال سيكونون أوفياء له؟!
اللافت أنّ الحملات الدعائية المؤيّدة لروسيا، في غزوها أوكرانيا، تروّج لفكرة مفادها أنّ الجيش الروسي لا يُقهر، وأنّ روسيا لم تخسر حرباً في تاريخها، في حين يفيد التاريخ بغير ذلك، إذ هُزمت روسيا أمام دولة أصغر منها هي اليابان (1904-1905)، ما أدّى إلى اندلاع الثورة الروسية الأولى (1905)، التي مهّدت لثورة تشرين الاأول (أكتوبر)، وانهيار القيصرية (1917)، وذلك بعد هزائم الجيش الروسي في الحرب العالمية الأولى، ما نجم عنه قيام الاتحاد السوفياتي، كإمبراطورية بمضمون مختلف. بعد ذلك أدّت هزيمة الجيش السوفياتي في أفغانستان (1989)، بين عوامل أخرى، إلى تفكّك وانهيار الاتحاد السوفياتي كإمبراطورية (1990)، من دون حرب، بسبب اهترائه، وخسارته المباراة مع الغرب في المجالات الاقتصادية والتكنولوجية والعلمية وإدارة المجتمع وشكل النظام السياسي.
هكذا، فبعد غزو أوكرانيا، المتعثّر، يقف مصير روسيا، كإمبراطورية، وكدولة، وكنظام سياسي، في مفترق طرق، وهذا ما كشفته حركة بريغوجين الهوجاء، كما كشفه صمود الجيش الأوكراني الصغير أمام الجيش الروسي الكبير.
النهار العربي
———————————-
بريغوجين… صار همّاً غربياً أيضاً/ سميح صعب
بينما تسعى روسيا إلى التعافي من التمرد الفاشل لمجموعة “فاغنر” العسكرية الروسية بقيادة يفغيني بريغوجين، تحول مصير هذه المجموعة إلى همّ غربي أيضاً، مع انتقال بريغوجين إلى بيلاروسيا المجاورة لبولندا وليتوانيا، البلدين العضوين في حلف شمال الأطلسي.
في هذا السياق يسأل الرئيس البولندي أندريه دودا: “ما الغاية فعلياً من (وجود) قوات مجموعة فاغنر، أي عملياً الجيش الروسي، في بيلاروسيا تحديداً؟ هل هدفها احتلال بيلاروسيا أو إيجاد تهديد إضافي من الشمال نحو أوكرانيا، عبر التلويح بهجوم محتمل على هذا البلد من بيلاروسيا؟ أم إن هذا شكل من أشكال التهديد المحتمل لبلادنا في حلف شمال الأطلسي، لبولندا؟”.
وسعى الأمين العام لحلف شمال الأطلسي ينس ستولتنبرغ، إلى توفير جواب عن التساؤل البولندي، بالتأكيد أن الحلف سيقر تعزيز دفاعاته في قمة ستعقد الأسبوع المقبل في ليتوانيا بغية حماية كل أعضائه، خصوصاً أولئك المحاذين لبيلاروسيا.
وشرعت الولايات المتحدة في فرض عقوبات على مجموعة “فاغنر” في أفريقيا، وبدأت تطرح تساؤلات عن التأثير الذي سينجم عن قرار روسيا دمج مقاتلي المجموعة في الجيش الروسي. ومعلوم أن هناك مقاتلين لـ”فاغنر” في سوريا وليبيا ومالي وبوركينا فاسو وأفريقيا الوسطى. كيف سيجري التعامل مع هؤلاء عندما يصيرون تابعين لوزارة الدفاع الروسية؟ هذا محور تركيز المسؤولين الدبلوماسيين والاستخباريين في واشنطن، على ما كشفت صحيفة “وول ستريت جورنال” الأميركية الأربعاء.
في بداية التمرد الذي قاده بريغوجين السبت الماضي، ربما اعتقد الغرب لوهلة أن من شأن ذلك إضعاف الرئيس فلاديمير بوتين، والتعجيل في إنهاء الحرب الأوكرانية. وسرعان ما تبين أن بريغوجين لو نجح فعلاً في دخول موسكو، فإن مضاعفات مثل هذه الخطوة الخطيرة، لن تقتصر على روسيا فحسب بل على أوروبا والعالم.
من هذه الفرضية يمكن النفاذ إلى طرح سؤال أكبر حول ما يمكن أن ينشأ على هامش الحرب في حال استمرارها على ما يعمل له الغرب، من طريق شحن المزيد والمزيد من الأسلحة إلى أوكرانيا، من دون أن يترافق ذلك مع أي حديث عن تسوية دبلوماسية؟
هل يتخيل الغرب ماذا كان ستكون عليه الحال لو فعلاً سيطر بريغوجين على القرار في أكبر دولة نووية في العالم؟ ليس معروفاً عن بريغوجين أنه رجل مسالم. إن جوهر النزاع بينه وبين قيادات الجيش الروسي، يكمن في أن الجيش لا يمارس ما يكفي من القوة للانتصار في الحرب، فضلاً عما كان يصفه بالتلكؤ في تزويد مقاتليه بالأسلحة المناسبة كي يحققوا اختراقات أكبر على الخطوط الأمامية.
إن تركيز الغرب على إضعاف بوتين، لن يؤدي إلا إلى كارثة في المستقبل قد تكون أخطر بكثير من ظاهرة بريغوجين.
ثم أين المصلحة الفعلية للغرب في نشوب حرب أهلية في روسيا؟ من السذاجة الاعتقاد أن حرباً أهلية روسية لن تنجم عنها أخطار تفوق أضعافاً مضاعفة كارثة الحرب الروسية-الأوكرانية.
إن تفتيت روسيا، سيكون مختلفاً عن تفتيت الاتحاد السوفياتي. تفتيت الاتحاد السوفياتي نجمت عنه حروب بين جمهورياته السابقة، التي لا تملك أسلحة نووية. أما تفتيت روسيا فلن يقود سوى إلى كارثة ربما كان الرئيس البيلاروسي ألكسندر لوكاشينكو محقاً في التحذير منها عندما قال “إذا سقطت روسيا فسنبقى كلنا تحت الأنقاض”.
الخيار الأكثر واقعية والأجدى لروسيا وأوكرانيا وأوروبا والعالم، هو التعجيل باعتماد الدبلوماسية والحوار سبيلاً إلى إنهار النزاع الروسي-الأوكراني.
إن نظاماً ضعيفاً في روسيا يمكن أن يكون أخطر بكثير من نظام قوي. وإذا كان المقياس هو خسارة بوتين للحرب في أوكرانيا، كما يفاخر الرئيس الأميركي جو بايدن، فإن ذلك يفتح الباب على أكثر من بريغوجين.
النهار العربي
——————-
====================
تحديث 27 حزيران 2023
————————–
24 ساعة هزّت روسيا… والعالم!
رأي القدس
تابع العالم بذهول الأحداث الخطيرة التي بدأت يوم الجمعة الماضية عبور قوات مرتزقة فاغنر المقاتلة في أوكرانيا نحو روسيا وإعلان زعيمها، يفغيني بريغوجين، زحفها نحو موسكو، وتلا ذلك وصف الرئيس الروسي فلاديمير بوتين ما حصل بالتمرد المسلح والخيانة والطعنة في الظهر، وانتهى هذا الفاصل الدرامي بوقف هجومه، والانسحاب بعد وصولها لمسافة 200 كيلومتر من العاصمة، فيما أسقط الكرملين التهم الجنائية الموجهة ضد قائد فاغنر، وإعلان توجهه إلى بيلاروسيا بموجب ما سماه «اتفاق إنهاء الأزمة».
رغم أن بريغوجين ما فتئ خلال الأشهر الماضية، يهاجم قيادات وزارة الدفاع والجيش في روسيا، فإن اتخاذه قرارا بالتمرّد المسلّح ضد «خونة الشعب» و«الحثالة» و«الأشرار» كما سماهم، هو أمر يفوق التصوّر من شخص كان جزءا أساسيا من المنظومة العسكرية والمالية الروسية، وكانت قواته تعتبر رأس الحربة في الهجوم على أوكرانيا، والتدخّل في مناطق عديدة من العالم، إضافة إلى معرفته الوطيدة ببوتين، الزعيم المعروف بعدم تسامحه مع أي معارضة، فما بالك بتمرّد مسلح يمكن أن يهدد العاصمة ويسقط منظومته العسكرية والأمنية.
إلى كونها أكبر عملية تحد حقيقي لسلطة بوتين، فإن تقدّم قوّات بريغوجين داخل روسيا، وسيطرته على مدينة روستوف، «من دون طلقة واحدة» كما قال (وحتى التقاط المواطنين الروس الصور معه) يمكن أن يؤشّر، من ناحية، إلى القبول الذي تلقاه انتقاداته العنيفة للقيادة العسكرية الروسية (ومن ورائها للقيادة السياسية طبعا) كما أنه يمكن أن يعبّر أيضا عن شعور الروس، العسكر والمدنيين المتزايد، بخطأ قرار بوتين، والدائرة الضيقة المحيطة به، بالهجوم على أوكرانيا، وخصوصا بعد تمكّن كييف من وقف الهجوم وإعلان بدء هجوم مضاد، وبعد التداعيات الاقتصادية المؤلمة لذلك القرار على روسيا وشعبها.
يزيد الأمر جسامة أن هذا الإقرار الضمنيّ بخطأ قرار بوتين باجتياح أوكرانيا يجيء من أحد أكثر الأشخاص نزوعا للتدخّلات الخارجية، وقائد أحد أكثر الأجهزة الروسية دموية وانتشارا.
يثير التقدم السريع لقوات فاغنر من دون عوائق لعدة مئات من الكيلومترات وفي يوم واحد التساؤل حول نفوذ بوتين، وتماسك القوات الروسية، وولاء قطاعات من الجيش له، وهذا ما يمكن أن يفسّر إعلان رمضان قديروف، زعيم الشيشان، إرسال قوات «أحمد» الخاصة لمواجهة قوات فاغنر، وهذا ما يرفع من حدة المفارقة حيث تتمكن قوات كثير منها من المرتزقة من اختراق روسيا وأن يكون المدافعون الأشرس عن بوتين وموسكو هم أبناء الجمهورية التي كان أحد مهندسي الحرب التي تعرضت له خلال الصراع مع موسكو بين 1999 و2009، وهذا حدث ذو وجهين، وسواء وصف بالخيانة، من بريغوجين، أو الولاء، من قبل قديروف، فإنه إشارة على حال بوتين وروسيا الكارثيين.
وقف «التمرّد المسلح» بهذه الطريقة «الدبلوماسية» أمر لا يتناسب مع شخصية بوتين أبدا، وفي ذلك دلالة على إدراك «القيصر» الروسي للخطر الهائل الذي كان يمكن أن يؤدي إليه الاشتباك العسكري مع قوات فاغنر، وشكّه ربما في إمكانية دحر تلك القوات، وكذا حسبان التداعيات السياسية والأمنية الكبرى التي يمكن أن ينشأ عنها.
انتهاء «الأزمة» على الشكل الآنف، على أي حال، لن ينهي تداعياتها المستقبلية داخل روسيا، وفي أوكرانيا، وكذلك في أنحاء العالم.
القدس العربي
————————
قراءة الغرب لتمرد ميليشيا فاغنر!/ عمرو حمزاوي
تنتقد وسائل الإعلام الأمريكية والأوروبية الحكومة الروسية لنشرها الأكاذيب وترويجها للأخبار المختلقة وتشويهها لوعي الناس بشأن ما يدور داخل الدولة مترامية الأطراف وما يجري على حدودها الجنوبية وفي ساحات القتال داخل أوكرانيا. غير أن وسائل الإعلام الغربية ليست ببريئة من ذات الاتهامات، وليست ببعيدة عن تبني مصالح سياسية بعينها تؤثر على تغطيتها للأحداث والتطورات المتسارعة في عالم اليوم.
خلال ساعات تمرد ميليشيا فاغنر على السلطات العسكرية الروسية، انتشرت في الصحف والمواقع الإخبارية الإلكترونية والمحطات التليفزيونية الأمريكية والأوروبية مبالغات عديدة عن سيطرة الميليشيا على مواقع حصينة في أكثر من مدينة، وعن ترحيب السكان المحليين بمقاتليها، وعن الطريق المفتوح أمامها في اتجاه موسكو، وعن وجود أعوان وحلفاء داخل الأجهزة الأمنية والنخب السياسية والمالية، بل والكرملين نفسه.
ووضعت وسائل الإعلام الغربية نظريات متكاملة لتفسير ما ادعت حدوثه. قيل، أولا، أن التردي المريع في الجيش الروسي الذي تعاني وحداته الأمرين في ساحات القتال داخل أوكرانيا رتب عدم قدرته على صد هجوم حفنة من المرتزقة. قيل، ثانيا، أن انهيار معنويات الجنود والضباط الروس بسبب طول أمد الحرب في أوكرانيا دفعهم إلى إلقاء السلاح والاستسلام لميليشيا فاغنر. قيل، ثالثا، أن السكان المحليين رحبوا بالمرتزقة أملا في تغيير رأس الحكم في موسكو واستبداله برجل آخر ينهي التوترات والحروب والعقوبات ويعيد روسيا إلى الصداقة مع الغرب. قيل، رابعا، أن عناصر داخل الأجهزة الاستخباراتية ونافذين في النخب السياسية والمالية وداخل القصر الجمهوري في الكرملين يبحثون عن بديل للرئيس الروسي فلاديمير بوتين وأنهم شجعوا ميليشيا فاغنر على التمرد والتحرك في اتجاه موسكو بهدف التخلص منه.
وبعد ساعات قليلة، أي بعد الساعات التي استغرقها التمرد، اتضح زيف كافة تلك الادعاءات. فميليشيا فاغنر لم تواجه وحدات من الجيش الروسي، بل استغلت الفراغ العسكري في بعض المناطق للسيطرة عليها والتحرك على نحو خاطف في اتجاه موسكو. والسكان المحليون لم يرحبوا بالمرتزقة لدى دخولهم لبعض المدن الجنوبية، بل رحبوا بمغادرتهم لها دون قتال حقنا للدماء. والثابت، ووفقا لكافة استطلاعات الرأي العام التي تجريها أيضا مراكز بحثية غربية، أن أغلبية الشعب الروسي لم تغير دعمها لبوتين ولم تغير موقفها المؤيد «للعملية العسكرية الخاصة» في أوكرانيا.
والثابت أيضا أن الولايات المتحدة الأمريكية والدول الأوروبية الكبيرة ينظر إليها روسيا على أنها دول معادية تهدد أمنهم القومي، وتسلح أعداءهم، وتتنصل من توافقات الماضي القريب بشأن عدم تمدد حلف الناتو إلى الجوار المباشر، وتفرض عقوبات ظالمة هدفها تدمير الاقتصاد. لا ترغب أغلبية المواطنات والمواطنين الروس في العودة إلى أحضان الغرب، ولا تعارض ابتعاد بوتين عن صداقة الولايات المتحدة وأوروبا التي لن تكون نتيجتها سوى التبعية. وأحاديث الأعوان والحلفاء والداعمين داخل أجهزة ومؤسسات الدولة الروسية وبين أوساط النخب السياسية والمالية لم تكن سوى إعادة إنتاج وترويج لأوهام الغرب عن «انقلاب القصر» الذي يعد له ضد بوتين وعن بحث النخب عن بديل له وعن تراجع سيطرته على مفاصل الحكم وضعف سلطته، وهي تلك الأوهام التي يروج لها غربيا منذ سنوات وتصاعد تداولها منذ الغزو الروسي لأوكرانيا.
والحقيقة أن وسائل الإعلام الغربية وجدت في تمرد ميليشيا فاغنر وأحاديث ضعف بوتين وانهيار سلطته ضالة منشودة للتغطية على سقف التوقعات المرتفع للغاية الذي صنعته للهجوم العسكري المضاد الذي يشنه الجيش الأوكراني منذ أسابيع ولم يسفر إلى اليوم عن تغيير الأوضاع على الأرض في ساحات المعارك في الشرق والجنوب. رفع الغربيون سقف التوقعات مؤكدين قرب هزيمة القوات الروسية، والاستعداد الكامل للقوات الأوكرانية لتوظيف السلاح الغربي المتفوق لتحقيق النصر، وقلق بوتين وحكومته من نتائج الهجوم المضاد. وعندما اتضح خلال الأسابيع الماضية تماسك مواقع القوات الروسية وكون القدرات الأوكرانية غير قادرة على إحداث تغيرات عسكرية سريعة على الأرض، صمت الغربيون قليلا وعادت جزئيا إلى الواجهة تحليلات جنرالات أمريكيين وأوروبيين سابقين يدفعون بحتمية طول أمد الحرب وباستحالة انهيار الجبهة الروسية. لذا، كان تمرد فاغنر بالنسبة للأمريكيين والأوروبيين فرصة مواتية لإعادة إنتاج أحاديث الانهيار الروسي، من الداخل وفي الطريق إلى موسكو ووصولا إلى رأس الكرملين وليس في ساحات القتال مع الجيش الأوكراني.
تناسى الإعلام الغربي أنه يتابع تمرد ميليشيا كان يتهمها بارتكاب جرائم حرب قبل فترة ليست بالبعيدة وفي أكثر من مكان من سوريا وليبيا إلى أوكرانيا، وأن التهليل لقائد الميليشيا يفغيني بريغوجين باعتباره محررا محتملا لموسكو وروسيا كلها من قبضة بوتين ليس سوى ممارسة بائسة المحتوى ومفضوحة النوايا. ولأن التمرد انتهى بعد ساعات قليلة وعاد مرتزقة فاغنر إلى قواعدهم ونقل بريغوجين إلى بيلاروسيا، انقلب الإعلام الغربي على تهليله المحرر المحتمل وعاد الرجل لهويته كقائد ميليشيا متورط في جرائم ويقتل ويدمر ويخرب بالتعاون مع الأجهزة العسكرية والأمنية في موسكو ولمن يدفع لخدماته مليارات الدولار.
ولأن التمرد انتهى دون إراقة دماء ودون لحظة عدم استقرار ممتدة في روسيا، عادت أصوات السياسة ووسائل الإعلام الأمريكية والأوروبية سريعا إلى ادعاء تراجع الروس في ساحات القتال مع الأوكرانيين، وإلى التشكيك في تماسك حكم بوتين الذي لم يكن ليقبل في الماضي بالتمرد عليه أو بالخيانة والطعن في الظهر (تصريحات وزير الخارجية الأمريكي بلينكن قبل يومين). ولأن الإنهاء السريع لتمرد ميليشيا فاغنر، والميليشيات بحكم طبائع الأمور هي محاولات تمرد تتحرك على الأرض، يدلل موضوعيا على عكس المروج غربيا، أي على تماسك حكم بوتين الذي نجح في إنهاء تمرد مسلح دون قتال، نسب الغربيون إنهاء التمرد لدور الرئيس البيلاروسي لوكاشينكو الذي يتحول الآن، دون أدنى درجات القراءة الموضوعية وبعبث الغربيين المعتاد، إلى صانع الرؤساء في موسكو.
ليس في التغطية الإعلامية الغربية لتمرد الساعات القليلة لفاغنر ولبريغوجين سوى الكثير من السياسة والكثير من الأخبار المختلقة والكثير من الأوهام والقليل للغاية من القراءة الموضوعية للأحداث والتطورات التي شهدتها روسيا قبل أيام.
كاتب من مصر
القدس العربي
—————————-
مرحبا بكم في عالم الجيوش «الفلتانة»!/ توفيق رباحي
ما حدث للرئيس الروسي فلاديمير بوتين مع مؤسس ميليشيا فاغنر وقائدها يفغيني بريغوجين، يشبه ذلك الرجل الذي جلب تمساحا إلى بيته ليتنمر به على جيرانه فإذا بالتمساح في لحظة غضب يحاول التهام صاحبه.
هناك أكثر من مشكلة في ما حدث، منها أن التمرد الذي قاده بريغوجين إدانة لبوتين ومنظومته الأمنية والعسكرية. فكيف غفلت الأجهزة الاستخباراتية الروسية عن هذا التمرد والرجل يصرخ منذ شهور سخطه من أداء الجيش الروسي في أوكرانيا ويتوعد وزير الدفاع وأركانه بسوء العاقبة؟
هناك أيضا أن هذا التمرد ستكون له تبعات على روسيا وقيادتها، لأن فاغنر تحوّلت مع الوقت إلى ميليشيا عابرة للقارات، وتمردها يعني الكثير. وقريبا ستصبح عبئا.
وهناك أن الذين راهنوا على بوتين كقائد سياسي واستراتيجي محنّك يجب أن يعيدوا حساباتهم.
لكن هناك أهم من كل ما سبق وأخطر، وهو تنامي الجيوش الموازية وتغوّلها خلال العقود الثلاثة الأخيرة لتأخذ مكانة الجيوش التقليدية وأدوارها. والخطير أن هذه «الجيوش» لم تعد شأنا محليا حكرا على البلد الذي أنشأها أو وظَّفها.
فاغنر هي الحالة الماثلة أمامنا، لكن قبلها الدعم السريع في السودان. وقبلهما تجارب أخرى كثيرة ومريرة.
فكرة الاستعانة بمقاتلين أجانب قديمة. في العصر الحديث لجأت إليها فرنسا التي اشتهر لديها «اللفيف الأجنبي» ويذكر الجزائريون الذين عاصروا فترة الاحتلال أن الجيش الفرنسي كان يضم في صفوفه سينغاليين وإيفواريين وأفارقة آخرين ومالطيين. كما استعانت بريطانيا في القرن التاسع عشر بـ«غوركا» (GURKHA) وهم مقاتلون أشداء من النيبال، بعد أن خبرت قدراتهم على الصمود والتضحية. ولا زال الجيش البريطاني يحتفظ إلى اليوم بفرقة من الـ»غوركا» يُعتقد أن تعدادها يناهز الأربعة آلاف مقاتل.
في العقود الأخيرة من القرن الماضي يجوز القول إن هذا النوع الجديد من المحاربين عبّر عنه عرب أفغانستان (وبدرجة أقل الشيشيان). بعد هزيمة الاتحاد السوفييتي تحوّل هؤلاء «المجاهدون» إلى عبء يتحتّم التخلص منه، فمنهم من عادوا لـ«الجهاد» في بلدانهم وراح آخرون يبحثون عن مسارح قتال أخرى تحت غطاء ديني فوجدوها في البوسنة والصومال وغيرهما.
في وقت لاحق اكتشف العالم الطبعة الغربية لهذا النوع من «الجيوش» عبر شركة بلاك ووتر (الأمريكية بالاسم فقط) في العراق. ثم برزت تجربة أوكرانيا التي يقاتل فيها جيش من الأجانب المدفوعين عقائديا وماديا قد يعادل الجيش النظامي الأوكراني، وميليشيا فاغنر التي تشغل مساحة من القتال تنافس مساحة الجيش الروسي النظامي. حرب أوكرانيا هي حرب المرتزقة بقدر ما هي حرب جيشين نظاميَين.
المحصلة أن «الجيوش» الموازية، بنسختَيها الغربية وغير الغربية، خاضت في السنوات الأخيرة من الحروب، داخليا وخارجيا، أكثر مما خاضت الجيوش التقليدية: اليمن، ليبيا، الشيشان، نيجيريا، السودان، أوكرانيا، العديد من الدول الإفريقية، حرب أرمينيا وأذربيجان وغيرها، كلها حروب وقودها مرتزقة أجانب ومحليون.
في كل هذه الحروب والصراعات الأهلية لجأت الأطراف المتصارعة على المصالح والثروات والنفوذ إلى سوق المرتزقة والمحاربين لتأجير رجال يقاتلون نيابة عنها. في مدن مهجورة ومطارات بعيدة عن الأعين تهبط طائرات شحن بلا أدنى أسباب الراحة محمَّلة بشبان يتجهون إلى مصيرهم المشؤوم.
في هذه المجموعات الجديدة شباب من جنسيات مختلفة لا شيء يجمع بينها، تدفعهم الحاجة المادية وعقائد عرقية أو دينية.. أفارقة، أستراليون، أمريكيون، فرنسيون، سوريون، ألمان، سودانيون وآخرون شكّلوا تعداد قوى حربية موازية.
ما شاهدناه خلال نهاية الأسبوع في روسيا، وقبلها في السودان منذ الربيع الماضي، إعلان بداية عهد جديد يُنهي احتكار الدولة للعنف والحروب. لو قامت حرب غدا في أمريكا أو أوروبا فلن تشذَّ عن هذه القاعدة ولن تخوضها جيوش تقليدية ولن يموت فيها جنود نظاميون. يثق قادة الدول الكبرى والمتنمّرة أنهم لن يواجهوا مشكلة تجنيد، فالعالم يفيض بالمحبَطين الذين ليس لديهم ما يخسرون. ويفيض بالمخدَّرين عقائديا ودينيا الذين لا حلم لهم سوى الموت من أجل ما يؤمنون به. ويفيض بالمال لاستئجار «خدمات» هؤلاء واستغلال شقائهم.
في هذه اللحظة وكل لحظة يجوب عملاء استخبارات ووكلاء ووسطاء دولا فقيرة بحثا عن مخبرين وجواسيس ومقاتلين مستعدين للموت. ويجوب آخرون أوساط الأقليات في الدول الغنية بحثا عن بؤساء بلا هويات وبلا وثائق إقامة لتجنيدهم في حروب ومهمات قتالية مقابل إقامة قانونية وجنسية بعد سنوات إذا ما عاد الراغب في الترشح حيًّا من مسرح القتال. إنها خصخصة الجيوش وحروب الوكالة.
انتشار الجيوش الموازية وتغوّلها هو استمرار منطقي لخصخصة السياسة والشأن العام، وتغوّل قوى سياسية واقتصادية جامحة: مارك زوكربرغ أقوى من رؤساء دول الاتحاد الإفريقي مجتمعين. إيلون ماسك قلّص مدة لقائه بالرئيس بايدن على هامش منتدى دافوس لأن بايدن تأخر عن الموعد، ويستطيع أن يترك الوزير الأول البريطاني أو الرئيس الفرنسي ينتظر وقتا طويلا ليقابله. الرئيس الصيني يحتاج إلى جاك مايون، مؤسس إمبراطورية «علي بابا» بقدر حاجته إلى وزير دفاعه أو أكثر. بيل غيتس سبق وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن الأسبوع قبل الماضي إلى بكين ليمهِّد لتلك الزيارة التي شغلت الأوساط السياسية والإعلامية في الغرب. الرؤساء والقادة الغربيون يصطحبون في زياراتهم إلى دول الشرق الأوسط والخليج رؤساء الشركات الكبرى وقادة المجمعات العسكرية، ويتركون الوزراء في مكاتبهم. كل هذا إدراكا منهم أن القوة لا يصنعها الوزراء.
أخيرا.. أنا من المؤمنين بنظرية المؤامرة. هذا الإيمان (القديم) يجعلني أقول إن العالم سيكتشف بعد سنوات أو عقود أن مغامرة قائد مجموعة فاغنر عملٌ وراءه مخابرات غربية، وأن بريغوجين مجرد عميل لم تتعب الاستخبارات الأمريكية والبريطانية كثيرا في تجنيده.
كاتب صحافي جزائري
————————
موسكو تحل أزمة التمرد بالأسلوب الأمريكي/ حسين مجدوبي
عاشت روسيا بين الجمعة والسبت من الأسبوع الماضي أكبر تحد خلال الثلاثة عقود الأخيرة، ومنذ انهيار وتفكك الاتحاد السوفييتي، ويتجلى في التمرد الذي قاده زعيم قوات فاغنر يفغيني بريغوجين، وكاد أن يتسبب في ما يشبه الحرب الأهلية وبانعكاسات كبيرة على النفوذ الروسي في الخارج، في وقت حساس تتشكل فيه خريطة جيوسياسية عالمية جديدة.
لم تكن استخبارات أي دولة أجنبية بما فيها الولايات المتحدة تنتظر وقوع هذا التطور الدرامي في روسيا، وهذا ما يفسر حالة الترقب القصوى المفاجئة التي نهجتها عواصم الدول الغربية مثل باريس ولندن، وأساسا واشنطن تخوفا من وقوع الأسوأ، بحكم أن روسيا دولة نووية ولديها حرب مع أوكرانيا، وتتهم الغرب بمحاولة إضعافها. ذلك أن الصورة كانت ضبابية بصفة كبيرة وتستمر ضبابية حتى الآن. وتردد في عواصم القرار الغربي سؤالان: هل مغامرة زعيم فاغنر نابعة من طموحات شخصية لا صلة لها بالواقع الحقيقي لروسيا؟ أم أن هذه المغامرة تحظى بتأييد كبير من طرف تيارات وسط الجيش الروسي الساخطة على مخططات الحرب التي ينهجها وزير الدفاع ضد أوكرانيا سيرغي شويغو؟ ولا توجد رواية غربية واحدة مقنعة، بل كل الروايات مبنية على تقييم الأوضاع وتأويلها. ويوجد يقين وحيد لدى الغرب وهو أن أوكرانيا ستؤدي ثمن هذه الأزمة من خلال رفع الجيش الروسي إيقاع الحرب، وسيرى في دحر هذا البلد المناسبة إعادة توحيد روسيا، وكان الرئيس فلاديمير بوتين واضحا عندما قال يوم الأحد الماضي «أولويتنا هي أوكرانيا».
لقد كانت القيادة الروسية أمام خيارين في مواجهة التمرد، الأول وهو التريث والتعامل بذكاء مع هذا المستجد في أفق إيجاد حل، أو استعمال القوة المفرطة ضد فاغنر مما ستكون له انعكاسات خطيرة على الوضع الداخلي ومكانة روسيا الخارجية. وعلاقة بالنقطة الأخيرة، مواجهة قوات فاغنر ليست عملية سهلة، إذ لا يتعلق الأمر بمعركة كلاسيكية، بل كان التخوف هو انتشار هذه القوات في موسكو ومدن أخرى وقيامها بشن حرب عصابات قد تخلف عشرات الآلاف من القتلى. إذ يتعلق الأمر بقوات مدربة وانتحارية، قادرة على السيطرة على مؤسسات عمومية، بل ومتاجر واحتجاز الرهائن، لاسيما بعدما تبين مدى ولائها لمؤسسها يفغيني بريغوجين. والأخطر هو احتمال انضمام جزء من السكان الساخطين إلى صفوفها، أو انضمام وحدات من الجيش. مثلا، عندما يحتل إرهابيون مبنى ويحتجزون الرهائن، تستغرق المفاوضات أياما قبل التدخل للقضاء عليهم، إذا لم يستسلموا، فكيف الحال مع آلاف الكوماندوهات الذين سينتشرون في مدن روسية. نعم، ستقضي الوحدات الأمنية والعسكرية النظامية على فاغنر، لكن الأمر سيتطلب أسابيع وفاتورة بشرية مرتفعة للغاية بمقتل عشرات الآلاف وجروح عميقة في المجتمع الروسي. وكل توتر مسلح في الداخل الروسي ستترتب عنه مباشرة انعكاسات خطيرة على نفوذ الروسي في الخارج. إذ يتزامن هذا التمرد مع الخريطة الجيوسياسية الآخذة في التبلور بزعامة كل من روسيا والصين. وتركز روسيا في خطابها الدبلوماسي على ضرورة «التقليص من هيمنة الغرب على العالم»، وهي نقطة محورية في خطابات الرئيس الروسي فلاديمير بوتين ووزير الخارجية سيرجي لافروف، وكل توتر عسكري في الداخل الروسي، كان سيتطلب سحب وحدات من مختلف نقاط الحدود ووقف المناورات الخارجية مع دولة ثالثة مثل الصين وتجميد مخططات في افريقيا للتفرغ لإنهاء التمرد. وهذا يعني خسارة روسيا سنوات من بناء النفوذ الخارجي، وكل إعادة بنائه سيتطلب وقتا كبيرا، بل قد تخسر روسيا قطار القوى الكبرى لأن التغييرات الحالية سريعة. لقد نهجت القيادة الروسية السيناريو الأمريكي في التعاطي مع هذه الأزمة، الاستراتيجية التي تبنتها المؤسسات الأمريكية في معالجة هجوم أنصار الرئيس الجمهوري دونالد ترامب على الكونغرس يوم 6 مايو/ايار 2021. فقد تم منح المحتجين وقتا للاحتجاج، ثم جرى إقناعهم بالانسحاب، وبعدها بدأت عمليات تصحيح الأخطاء أمنيا وقضائيا وسياسيا. لو كانت قوات الشرطة الأمريكية بمساعدة الوحدات الخاصة للجيش تدخلت ضد المحتجين في الكونغرس، لشهدت الولايات المتحدة شرخا خطيرا كان قادرا على التسبب في شبه حرب أهلية بحكم توفر غالبية الأمريكيين على السلاح. وكانت البلاد، وما زالت، تمر من حالة استقطاب شبيهة بما جرى في الحرب الأهلية إبان ستينيات القرن التاسع عشر.
لقد كانت القيادة الروسية واعية بهذه المخاطر، لهذا فضلت التعامل مع تمرد فاغنر من دون دماء، لاسيما بعدما تبين عدم تنسيق زعماء هذه الحركة مع الدول الغربية. ورأت في فاغنر أشبه باللحظات التي يفقد فيها الإنسان الرزانة ويرتكب خطأ فادحا وهو يعتقد أنه يخدم البلاد. عموما، وفق تاريخ معالجة روسيا للأزمات ومنطق التفكير لدى القيادة الروسية، هذا التمرد سيقود صناع القرار في موسكو إلى اتخاذ ثلاث خطوات رئيسية وهي:
في المقام الأول، بناء مؤسسات متينة لا تقوم على الشخص، بل على قوة الدولة العميقة التي تحرس البلاد من الانهيار. قد نرى تراجع صورة الرئيس فلاديمير بوتين مقابل قوة المؤسسات.
في المقام الثاني، وقف العمل بشركات الجيوش الخاصة وسط البلاد، واحتمال التسامح معها في الخارج، إذا كانت ستخدم النفوذ الروسي كما يقع مع فاغنر في مناطق افريقية مثل مالي.
في المقام الثالث، معالجة الأزمة سيتم وفق منطق قومي متشدد، وهذا سيحول روسيا إلى دولة قومية متطرفة في التعاطي مع الغرب. ومن دون شك، ستدفع أوكرانيا الثمن. سترى موسكو أن إنهاء الحرب بانتصار واضح سيعزز من وحدة روسيا.
كاتب مغربي
—————————-
من الاغتيال إلى بناء قوة عسكرية في الخارج: 4 سيناريوهات ممكنة لمستقبل بريغوجين و”فاغنر”/ مالك سمارة
الكثير مما حدث ليلة الرابع والعشرين من فبراير/شباط يؤشر إلى أن تمرّد “فاغنر” لن يكون مجرّد زوبعة في فنجان. لقد قتلت المليشيا، في طريقها نحو موسكو، 13 طيّارًا روسيًّا في غضون ساعات، واحتلّت، بدخولها روستوف، عصب القيادة والسيطرة الرئيسي الذي يدير العمليات في أوكرانيا، ودعت جنود الجيش، في ما يشبه لغة الانقلابات، إلى الانضمام إليها في “مسيرة العدالة”، وعصى رجالها أوامر رأس النظام، ووليّهم المباشر مؤسّس المجموعة والرئيس الدستوريّ، حينما أمرهم بإلقاء السلاح؛ وفي المحصّلة، ارتكبوا الجريمة الأشدّ تغليظًا في قاموس الدول السيادي، وهي “الخيانة العظمى”، بوصف الرئيس الروسي نفسه، و”التمرّد المسلّح”، في منصوص التهمة الجنائية التي رفعت ضدهم.
هل يمكن إذًا أن تمرّ محاولة انقلاب صريحة بدون محاسبة؛ وعلى نظام كان الروس يتوجّسون من انتقاده في سرّهم؟ وكيف ستردع الدولة، في حال غضّت الطرف عنه، من قد تراوده هذه الفكرة مستقبلًا؟ لا يفضي هذان السؤالان تحديدًا إلى إجابات مفتوحة: إمّا أن تكون فورة فاغنر مقدّمة لتصدّعات أكبر داخل روسيا ومنظومتها الحاكمة وجيشها، وإما أن تكون بداية النهاية لظاهرة يفغيني بريغوجين، ومعه ربّما شركته العسكرية سيئة الصيت. ضمن هذين الاحتمالين وخارجهما، نطرح هنا السيناريوهات التي يمكن مقاربتها حاليًّا لمستقبل “فاغنر” وزعيمها، والقرائن المعزّزة والمضادة لكل واحد منها:
النجاة في المنفى: التقاعد أو تسخير “فاغنر” لبيلاروسيا
رغم كلّ ما صدّرناه، لا يمكن استبعاد هذا السيناريو، وإن كان لا يبدو مرجّحًا لكثيرين. في الأساس، قد يكون انفلات بريغوجين في تلك الليلة لهذه الغاية تحديدًا؛ وهو الذي، منذ اللحظة التي باشر فيها توبيخه المعلن لوزير الدفاع وجيشه، اقترف مخالفة جنائية، وصار تحت طائلة “قانون المسؤولية الجنائية لتشويه سمعة الجيش الروسي” الذي يعاقب بالسجن لمدة تصل إلى 7 سنوات. لكنه ذهب أبعد من ذلك، حينما اعتقل كولونيل في الخطوط الأمامية للجيش، أثناء انسحابه من باخموت في مايو/أيار الماضي، وأخضعه لتحقيق أمام الكاميرات. بعد ذلك، دخل في مساجلة مع رئيس الشيشان، وأضاف شخصية قوية أخرى إلى قائمة الأعداء؛ وربما كان في صدارتها أيضًا رئيس البلاد نفسه، منذ أومأ إليه بوصم “الجد السعيد الأحمق”، ثم رفض أيضًا الإذعان لأمره بتوقيع عقود مع وزارة الدفاع.
في لحظة ما، ربما شعر بريغوجين بأن الحبل سينعقد على رقبته إذا لم يتحرك مبكّرًا، وهذا ما ينسجم مع ما نقلته مصادر استخبارية أميركية، لشبكة “سي أن أن”، عن أن زعيم “فاغنر” كان يحشد لتحرّكه منذ فترة؛ وما ينسجم أيضًا مع ما أفصح عنه بريغوجين نفسه بالأمس، حينما قال إنه ثار لـ”إنقاذ فاغنر”.
استقرار بريغوجين في بيلاروسيا، مع ضمان أمنه، هو أصلًا فحوى الوساطة التي قادها الرئيس أليكساندر لوكاشينكو. هذا الأخير هو أيضًا صديق شخصي لبريغوجين منذ 20 عامًا، وقبل ذلك، رئيس دولة ذات سيادة، ووساطته تحمل الصبغة الدولية. بمعنى آخر، إذا سلّمت بيلاروسيا جارتها ضيفها المتمرّد، وهو في حالة لجوء سياسي، فإنها ستضرّ بصورتها كوسيط محتمل، وهي التي رعت، في بداية الحرب، المفاوضات بين روسيا وأوكرانيا.
في وسع بريغوجين، وهو الذي يملك طائرة خاصة ويختًا بمليون دولار، أن يتقاعد من العسكرة والسياسة، ويعيش حياة بلا مشاغل في بيلاروسيا. لكنه من ناحية أخرى يدرك، وهو القادم من مطبخ الدسائس للسياسة الروسية، أن له أعداء كثيرين في موسكو، ولذلك كان الحديث، في البيان الذي صدر من مينسكن، عن “ضمانات أمنية”. قد تشمل تلك الضمانات نقل حامية من “فاغنر” إلى مينسك، وفي سيناريو آخر متصور، تقديم خدماتها للدولة البيلاروسية. هذا ما يذهب إليه، مثلًا، المدوّن العسكري الروسي مايكل ناك، الذي يرى أن المجموعة ستواصل من هناك عملياتها في أفريقيا أيضًا، فيما يعتقد الخبير العسكري أوليغ ستاريكوف، متحدّثًا لموقع “فوكاس” الأوكراني، أن لوكاشينكو سيستفيد من المليشيا في قمع معارضيه. حتى قبل الأحداث الأخيرة بأشهر، وتحديدًا في 26 يونيو/حزيران الماضي، نشر موقع “نيماغا” الروسي خبرًا عن معسكرات يجري بناؤها في بيلاروسيا لتستوعب 8000 مقاتل من “فاغنر” على الأقل. في حال صحّ هذا الافتراض، فذلك معناه أن روسيا ستواصل الاستفادة، وإن بشكل غير مباشر، من بريغوجين ومرتزقته؛ لأن هذه الحرب كشفت عن تبعية مطلقة من بيلاروسيا لنظام بوتين.
قيادة تمرّد من الخارج
لكن تبعية بيلاروسيا قد تكون أيضًا الحجة المضادة للسيناريو المذكور آنفًا. خلال هذه الحرب، بدت بيلاروسيا أرضًا مفتوحة بالنسبة للروس مع حرية كبيرة للحركة؛ وعلى ذلك، فقد يبيّت الطرفان خطة للتخلص منه، بالذات لأن من تمرّد في السابق قد يعيد الكرّة مستقبلًا، وفي أي مكان. قد يدفع هذا الأمر، في حال حدوثه، بريغوجين للبحث عن طوق نجاة آخر، ولعلّه لن يجد صعوبة كبيرة في إيجاده، بالنظر إلى وجود مستفيدين كثيرين من إنهاك روسيا في صراعاتها الداخلية.
في الواقع، كانت “فاغنر” مجرّد واحدة من نحو 40 فرقة عسكرية غير نظامية تقاتل ضمن الأراضي الروسية، بعضها بأيديولوجيات قومية متطرفة، وأحيانًا نازية؛ ومنها أيضًا من منح بريغوجين منصة دائمة على قنواته في “تليغرام”، مثل قوات دونباس الشعبية. القائد السابق لهذه المليشيا، إيغور غيركين، كان غداة الانقلاب يدير ندوة في موسكو لحزبه “نادي الوطنيين الغاضبين”، ويواصل انتقاداته اللاذعة للكرملين والجيش على ضعف الأداء في الحرب. هذا الشخص طالب بشكل صريح، في السابق، بنقل صلاحيات بوتين الرئاسية إلى “أطراف أخرى” إن لم يسيطر على الأمور في جبهة أوكرانيا. حاصل الحديث أن تمرّد بريغوجين الأخير أضاء على إشكالية المليشياوية والإقليمية داخل المفارز الروسية، وهي بمثابة قنبلة قابلة للانفجار عند أي مفترق. كذلك، فإن صور الجماهير إذ تهتف باسمه وباسم مليشيا “فاغنر” في الشوارع، وحرصه على مبادلتها التحية قبل المغادرة، كشفا، من ناحية، عن مشاعر إحباط مضمرة في الشارع الروسي إزاء الحرب والقيادة؛ ومن ناحية أخرى، أن بريغوجين ما زال يبحث عن شعبية ومريدين.
طُرح هذا الأمر في الحيّز العام، وإن استفهامًا، حينما سأل مراسل “أسوشييتد برس” المتحدثَ باسم الحكومة النمساوية، الاثنين، إن كانت بلاده ستمنح لجوءًا سياسيًّا لبريغوجين؛ ليردّ بأن هذا الأخير محظور في دول الاتحاد الأوروبي، وأن الفكرة غير قائمة. لكن في أوكرانيا، يقاتل شخص آخر محظور في أوروبا لسجلّه العنيف، هو دينيس نيكيتين، على رأس “فيلق المتطوعين الروس”، إلى جانب الجيش الأوكراني؛ وقد ظهر جنوده في بيلغورود الروسية بعربات “هامفي” أميركية. للغرب -الولايات المتحدة تحديدًا- سوابق تشهد أيضًا على أنها لا تفكّر كثيرًا حينما يتعلق الأمر بإيذاء الروس، و”القاعدة” وفلولها مثال على ذلك.
توازيًا مع ذلك، أظهر بريغوجين بعض “القابلية” لذلك، حينما اتصل بالأوكرانيين في خضم الحملة على باخموت بعرضٍ لتبادل المصالح، كما كشفت وثائق “ديسكورد”. لم تكن تلك الوثائق محض تسريبات صحافية، وإنما معلومات أمنية خام كان يفترض أن تبقى داخل مجتمع الاستخبارات الأميركية.
لكن ما قد يثبّط هذا السيناريو أن بريغوجين، الساعي وراء صورة “البطل”، سيظهر بمظهر الخائن لدى عموم الروس. أيضًا، وبخلاف المتطوعين الروس ذوي السجل الإجرامي الشخصي، فإن زعيم “فاغنر” مجرم حرب عابر للحدود، وإحراق مدينة بحجم باخموت بعض ما اقترف.
تفكيك “فاغنر”
المرسوم الذي صدر عن وزارة الدفاع الروسية منتصف هذا الشهر، والقاضي بتوقيع مقاتلي “فاغنر” عقودًا مع وزارة الدفاع، يعني تقنيًّا أن المليشيا لن تعود قائمة في صورة الشركة العسكرية الخاصة. شرط الانضواء في وزارة الدفاع كان مضمّنًا أيضًا في إعلان الوساطة، ثم أكد عليه الرئيس الروسي في خطابه بالأمس. أما رئيس اللجنة التشريعية في مجلس الدوما الروسي، بافيل كارشينينكوف، فكان أكثر تفصيلًا، حينما أكد أن السجناء، وهم من أهم الموارد البشرية لـ”فاغنر”، “لن يتاح لهم توقيع عقود إلا مع وزارة الدفاع، وفاغنر لن يكون بوسعها بعد الآن تجنيد أشخاص في الخارج أو السجون”، مبيّنًا أن ذلك يعني “أن فاغنر خسرت بالفعل جزءًا من قدرتها التشغيلية، لأنها أصبحت شركة بلا موظفين”.
في حالة انضمام مقاتلي “فاغنر” إلى الجيش، فقد تجد الدولة الروسية، على الأغلب، فرصة لـ”غسل يدها” منهم في ساحة المعركة، عبر الزج بهم في نقاط قتال ميّتة. يؤيد هذا الافتراض الخبير العسكري الروسي، أليكساندر كوتشوليف، مذكّرًا، في حديث لموقع “فوكاس” الأوكراني، بأن “فاغنر” نفسها عمدت إلى تصفية قادة عسكريين من المليشيات الانفصالية في دونباس حينما أصبحوا “خارجين عن السيطرة”.
السيناريو الآخر المطروح، ضمن هذا النقاش، هو أن يحدث هذا التفكيك بمعزل عن “القتل الصامت” في ميدان المعركة، وعبر قانون رسمي، ثم يصار إلى الاستعاضة عن “فاغنر” بشركات بديلة. يجدر التذكير هنا بأن رئيس الشيشان، رمضان قديروف، سبق وأفصح عن نيّته -في حضرة بريغوجين الذي زاره في غروزني- تأسيس شركته العسكرية الخاصة على غرار “فاغنر”. يرى معلّقون أن “كتائب أحمد”، التي شكّلها خلال الحرب، ستكون مرشّحة لأداء هذا الدور. توازيًا، كان رئيس لجنة الدفاع في مجلس الدوما، أندري كارتابولوف، قد ألمح في مقابلة مع قناة “أر أي إيه نوفوستي” الروسية إلى أن فكرة إصدار مشروع قانون بخصوص فاغنر مطروحة، لكنه قال إنه لن يكون جاهزًا قبل خريف هذا العام، إذ يتطلّب “دراسة عميقة”.
تلك “الدراسة العميقة” مردّها، في الحجّة النقيضة، إلى أن “فاغنر” تظلّ المليشيا الأكثر أهلية لخوض الحروب في البلاد، فهي تضم، بمعزل عن أصحاب السوابق، مقاتلين متقاعدين ذوي خبرة. عدا عن ذلك، فهي تدير مصالح روسيا الحيويّة عبر الحدود، والتي تمتدّ من دعم وكلاء سياسيين وعسكريين محليين، إلى ضخّ المال والذهب من بلدان القارة الأفريقية، وهما موردان مهمّان للدولة الروسية لا سيما في ظل المقاطعة الدولية.
في نهاية المطاف، بريغوجين لم يكن إلا شريكًا مؤسّسًا في “فاغنر”، وفي بطانتها رجال أقوياء كثر لم يجاروه في خرجاته اللاذعة، ومنهم على سبيل المثال الشريك المؤسس الثاني أندري بوغوتوف، وهو ضابط ذو خبرة في الجيش الروسي.
الاغتيال.. على طريقة الوخز بالمظلّة
بالنظر إلى سوابق بوتين مع معارضيه، قد يكون هذا السيناريو الأكثر تفضيلًا لعميل الـ”كي جي بي” السابق. ذلك ما يرجّحه رئيس “سي آي إيه” السابق، دافيد بيترايوس، الذي يعتقد أن بريغوجين بالأساس “فقد أعصابه” ثم أدرك حجم فعلته.
ولن تعدَم موسكو في ذلك الوسيلة، وهي المحمّلة بتاريخ غنيّ من الاغتيالات منذ عهد الاتحاد السوفييتي، وبقدرة “فريدة” على الابتكار؛ من علب الشوكولاتة المفخخة، إلى أعشاب الهملايا السامة، ثم المواد الكيميائية التي لم تستطع أنظمة غربية، بتقنياتها الحديثة، التعرف إليها. يمكن أن نجد الكثير من السوابق في التاريخ القريب وحسب، والمعارض الروسي الشهير ألكسي نافالني، كان آخرها. لكن يد روسيا الرمادية امتدّت لتطاول معارضين، وأوليغارشيين، وعملاء مزدوجين سابقين، في أماكن أبعد بكثير، جغرافيًّا وسياسيًّا، من بيلاروسيا. في بريطانيا وحدها مثلًا، كانت بصمات الكرملين في 14 عملية اغتيال وقعت خلال العقدين الأخيرين، آخرها بحق المعارض نيكولاي غلوشكوف، الذي وجد مخنوقًا داخل منزله في لندن عام 2018. العام ذاته شهد أيضًا محاولة الاغتيال الشهيرة للضابط السابق في الاستخبارات الروسية، وعميل بريطانيا المزدوج، سيرغي سكريبال، بغاز “نوفيتشوك” الشهير.
العامل الوحيد الذي قد يدعو الكرملين للتفكر قبل الإقدام على خطوة كهذه هو تأليب مقاتلي “فاغنر”، ودفعهم إلى الانتقام. لكن اغتيالًا كذلك الذي نفذه عميل سوفييتي في عام 1978، حينما وخز معارضًا بلغاريًّا -عرَضًا- برأس مظلّة مطليّ بسم الرايسين، لن يحدث الكثير من الضجيج.
العربي الجديد
————————
تمرّد فاغنر الذي أظهر المرض الروسي/ مالك ونوس
لم تتأخّر التوقعات كثيراً بشأن توجهات قائد قوات فاغنر الروسية الخاصة، يفغيني بريغوجين، هذا الجنرال الغاضب دائماً بسبب تعامل القيادة معه ومع قواته، واعتبارهما درجة ثانية، على الرغم من الخدمات الجمّة التي قدّمها للكرملين في أوكرانيا وأفريقيا وسورية، وغيرها من مناطق التمدّد الروسي الجديدة. من الطبيعي أن تنعكس فترة السنة ونصف السنة من قتال القوات الروسية العبثي في أوكرانيا، على هذا البلد، وتجعل تداعيات غزوها إياه تظهر إلى العلن تباعاً، وهي التي ظهرت بدايةً على شكل انتكاساتٍ ألمّت بالجيش والاقتصاد الروسيين. ولا يأتي تمرّد قوات فاغنر على الكرملين، ليشير إلى ما يمكن أن يؤدّي إليه اعتماد دولة بحجم روسيا على مليشيا من المرتزقة، بقدر ما يشير إلى الضعف التكويني الذي يؤدّي بهذه الدولة إلى استمرار في الاعتماد على المليشيا.
نظراً إلى الإجراءات السريعة التي اتّخذتها الحكومة المركزية في موسكو وغيرها من المناطق، والتي شملت إعلان تفعيل نظام مكافحة الإرهاب في العاصمة، وتقييد الحركة والنقل على الطرقات العامة وفي نهر موسكو، ثم التي تبعها انتشار قوات في العاصمة وإقامة حواجز فيها وإرسال تعزيزاتٍ أمنية مكثفة إلى مداخلها، يمكن الاستنتاج أن القيادة عرفت أن ثمة تهديدا جدّيا. وبعد الكلمة التي ألقاها بوتين واتهم فيها فاغنر بخيانة روسيا، ربما لا يكون لدى موسكو مخاوف من قوات بريغوجين وحدها، بل من المحتمل أن لديها شكّا في إمكانية انضمام قوات أو جنرالات غاضبين آخرين إلى قواته، ومن إمكانية اتفاقهم على الترتيب مع “فاغنر” لمرحلة ما بعد إطاحة القيادة في الكرملين، والتي أفصح عنها بريغوجين، عندما قال: “بوتين أخطأ، وقريباً سيكون لنا رئيس جديد”، غير أن وساطة بيلاروسيا تاليا هدّأت من كل هذه المخاوف، وأتاحت أفقا لتسوية مرتقبة، وأوقفت انزلاقا إلى اقتتال واسع.
هل من الممكن أن يكون قد غاب عن بال بوتين أن أي جيش أو مليشيا توظفها في حربك الخارجية ستعود إلى الوطن وفي جعبتها مطالب كثيرة تتناسب مع حجم التضحيات التي قدّمتها؟ مطالب تنحصر، في حالاتٍ كثيرة، في المطلب الأوحد؛ كرسي الحكم الذي تعدّه حقها بعد ما قدّمته للبلاد. ولكن، في حرب أوكرانيا اقترف بوتين الخطأ الذي لا يمكن أن يُغتفر، وهو جعل هذه الحرب تتواصل وتستمرّ لتصل إلى المدى الذي يجعل تداعياتها تفوق التوقّعات الذي وضعها هو ومن شاركه في هندستها. وفي حالته هذه، فسحت إطالة الحرب التي لم تحقّق أي نتائج تُذكر، المجال لظهور الغضب الذي وإن كنا لم نره إلا في حالة بريغوجين، فذلك لا يعني أنه ليس مكبوتاً لدى جنرالاتٍ آخرين، يخافون إن أظهروه أن يقع عليهم غضب الكرملين الذي يعرفون حجمه والآلام التي قد يسببها لهم.
كانت رسائل بريغوجين المتلفزة، الغاضبة وشبه اليومية، التي كان يرسلها خلال المعارك في أوكرانيا تلخيصا لحال روسيا والجيش الروسي، وكذلك لسخطه على القيادة، والذي تطوّر حتى وصل إلى مرحلة التمرّد عليها. ولم تكن التحذيرات والشكايات التي كان يبثّها سوى إشارة إلى الوضع الحقيقي الذي بات هذا الجيش يعيشه والمعاناة التي عايشها، والتي عكست حقيقة الدولة الروسية، ومكامن الضعف فيها، وحقيقة الحرب التي ربما أراد منها الكرملين أن تكون سبيله لتصدير أزماته أو محاولة التخلّص منها. ولم يقيّض لأحدٍ سابقاً أن انتقد القيادة الروسية بالجرأة التي فعلها بريغوجين وهو يتحدّث عن الفساد في توجيه السلاح لقواتٍ روسية ومنعه عن أخرى. وقد أراد أن يوحي، في رسائله، وكأن له ثقلا يوازي ثقل القوات الأساسية عسكرياً، وثقل القيادة في الكرملين سياسياً حين أظهر نفسه الوحيد القادر على انتقادها. وجاءت رسائله لتؤكد الأنباء التي كانت تخرج بين الفينة والأخرى حول نقص السلاح من قذائف وصواريخ وطائرات من دون طيار، ما يفضح الموقف في روسيا، ويثير الجدل حول قرار الحرب الذي اتخذته القيادة، ثم قرارها في مواصلتها على الرغم من العجز الذي باتت عليه قواتها، والضعف الذي أصاب اقتصادها بسبب العقوبات الغربية والحصار المفروض عليها بسبب الغزو والاستنزاف الذي يتطلبه استمرار المعارك.
تبيّن بعد غزو أوكرانيا أن روسيا تعاني أزمةً تكوينية، تكمن أسبابها في القيادة الديكتاتورية التي تحكّمت بالبلاد أكثر من عقدين، وصادرت القرار السياسي والاقتصادي طوال هذه الفترة، وأسّست لدكتاتوريتها التي حرصت على منع أي صوت معارض. من هنا، تبيّن أن الاقتصاد الروسي، والمصنف ريعياً، لم يستطع التطوّر عبر توظيف فائض الثروة التي كانت تتراكم بفضل تصدير النفط والغاز والسلاح في التنمية المستدامة، وتنويع مصادر الدخل عبر صناعاتٍ متطوّرةٍ يملك الاقتصاد الروسي البنية التحتية والإمكانات البشرية والمادّية للتفوّق فيها. وإذا كانت لدى الاقتصاد الروسي تلك القابلية قبل الحرب، فإن هذه القابلية قد انعدمت بعدها، ووصل هذا الاقتصاد إلى نقطة اللاعودة مع ظهور إلى التمرّدات العسكرية على يد بريغوجين، والتي يمكن أن تظهر لدى جنرالات آخرين في أي لحظةٍ إذا ما لمسوا ضعفاً لدى بوتين.
ولكن، ألا يحمل خطاب بوتين الذي تحدّث فيه عن التمرّد ضعفاً؟ في الخطاب قلقٌ كبير بدا واضحاً حين تحدّث عن التمرّد الذي حصل سنة 1917 ضد القيصر، وهو التمرّد الذي تكلّل بانتصار ثورة أكتوبر. فهل بوتين على قناعة أن نظامه ضعيف، ويمكن لأي حركة تمرّد منظّمة أن تهزّه أو تُحدث فوضى كبيرة أو حتى تؤدّي إلى سقوطه؟ وفي كل الحالات، لم يكن للأمور أن تصل في روسيا إلى ما وصلت إليه هذه الأيام، وتظهر فيها قوتان عسكريتان متعارضتان، إلا بسبب الدكتاتورية التي منعت أي صوتٍ معارض للحرب، وقبل ذلك، أي صوتٍ معارض لأسلوب الحكم الذي أضعف روسيا واقتصادها، وجعلها على شاكلة الخطاب المهتز الذي خرج به بوتين حين أقرّ بالخطر.
العربي الجديد
————————
هل هدّد بوتين طبّاخَه بالنووي؟/ عمر قدور
لم تستغرق سيطرة ميليشيا فاغنر على مدينة روستوف الروسية المتاخمة لأوكرانيا سوى ساعات، حتى قرر قائدها يفغيني بريغوجين الانسحاب منها ومن كافة المناطق التي سيطر عليها بعد إعلانه التمرّد. والملاحظ أن بريغوجين استجاب بسرعة شديدة لوساطة رئيس بيلاروسيا ألكسندر لوكاشنكو، وقبِل بشروط أقل ما يُقال فيها أنها لا تتناسب نظرياً مع قدرته على النيل من هيبة السلطة كلما تأخرت في قمع تمرده، ولا تتناسب أيضاً مع طموحاته وطبيعته الانفعالية، فآخر ما يناسب هذه الطبيعة قوله مساء السبت أنه سيحقن الدماء ويعيد مقاتليه إلى قواعدهم.
من شبه المؤكد أن بريغوجين تلقّى عبر لوكاشنكو تهديداً حازماً، ما دفعه إلى القبول بالسلامة فحسب “إذا صدقت وعود بوتين”، وبقبول شروط تعني تبعية فاغنر لوزارة الدفاع الروسية “بتوقيع عقود فردية معها” بعد رفضه ذلك مدة أسابيع. والتفسير المنطقي الوحيد لسحب قواته التي كانت تتقدم باتجاه موسكو بسهولة هو تهديده بالسلاح النووي، والمقصود به استخدام “قنابل قذرة” هي بمثابة أسلحة نووية تكتيكية. التصريحات الروسية التي تتهم كييف بأنها تخطط لاستخدامها في الحرب تشي بجاهزية القنابل في الترسانة الروسية، ومن الأولى استخدامها لقمع تمرد بريغوجين الأخطر من الهجوم الأوكراني المضاد، باعتبارها أسرع وأضمن جدوى من الأسلحة البالستية.
خلال ساعات إعلان التمرد والسير نحو موسكو، وبينما العالم يركّز أبصاره على بوتين وطبّاخه، نقلت وكالة تاس للأنباء عن ديمتري ميدفيدف “نائب رئيس مجلس الأمن الروسي” قولَه أن موسكو لن تسمح بتحوّل التمرد إلى انقلاب أو إلى أزمة عالمية. مضيفاً أن العالم بأسره سيكون على شفا كارثة، إذا سقطت الأسلحة النووية الروسية في أيدي قُطّاع طرق. ومن يتابع تصريحات ميدفيدف، منذ الغزو الروسي لأوكرانيا، لا بد أن يلحظ تولّيه مهمة التهديد بالسلاح النووي، وأنه بتصريحه الأخير يقول للغرب أن تمرد بريغوجين هو مشكلة للعالم كله لا لبوتين وحاشيته فقط.
هكذا تُفهم على نحو أفضل ردودُ الأفعال الغربية القليلة والمتحفّظة في التعليق على المستجدات الروسية، فهي ليست محصورة في إطار التقية الدبلوماسية المعتادة، وإنما تعبّر عن مخاوف غربية إزاء مآلات التمرد. والمخاوف مرتبطة بكافة السيناريوهات ما دون انقلاب خاطف حاسم وهو ما لم يحصل. وأول السناريوهات استمرار بريغوجين في تمرّده، واستخدام بوتين السلاح النووي كسابقة في حسم صراع داخلي على السلطة، من دون أي رادع طبعاً، وحتى من دون ردود أفعال دولية تتناسب مع الحدث، لأن الغرب الذي يدعم أوكرانيا حريص على عدم التورط المباشر في الشؤون الداخلية الروسية. سيُنقل لاحقاً عن وزير الخارجية لافروف قوله أن السفير الأمريكي في موسكو أكّد عدم تورط واشنطن في دعم التمرد الذي تراه شأناً داخلياً، وأنها تتمنى سلامة الترسانة النووية الروسية.
كان ضعف بريغوجين الأساسي عدم سعيه وتمكّنه من السيطرة على قاعدة نووية، ولو فعل ذلك لوضعَ العالم كله أمام معضلة كبرى، لأن خطر استخدام السلاح النووي سيكون في الأوج مع وجوده لدى طرفين لا يتورّع أيّ منهما عن استخدامه. وإذا كان هناك في دوائر صنع القرار الغربي مَن سًرَّ بتمرد بريغوجين فالسرور لا يتعدّى ما حصل فعلاً باهتزاز صورة بوتين كديكتاتور يُحكم قبضته تماماً على زمام الأمور في روسيا، إذا لم يؤخذ في الحسبان سجل ميليشيات فاغنر الإجرامي في العديد من البلدان مثل سوريا وليبيا وبلدان أفريقيا الوسطى، السجل الذي جعلها مرشّحة لتكون على لائحة الإرهاب في وزارة الخارجية الأمريكية.
رأينا من قبل، في أكثر من بلد، تفضيلاً غربياً للاستقرار على “الفوضى”، أو على تغيير لا يعِد سلفاً ببديل سريع مضمون التوجه. نذكر على سبيل المثال كيف راح الأسد ومسؤولوه يخوّفون الغرب من الفوضى ووقوع أسلحته في أيدي فصائل غير منضبطة، ومن ضمنها السلاح الكيماوي الذي قدّم نموذجاً باستخدامه داخلياً. ومن المحتم أن المخاوف من الفوضى تكون أشدّ بكثير عندما يتعلق الأمر ببلد نووي، وهذه معضلة كبرى عندما يكون حاكم البلد النووي ديكتاتوراً يرى معارضة حكمه تهديداً وجودياً، فالتغيير في هذه الحالة إما أن يكون من داخل البيت أو لا يكون. قدّمت روسيا في نهاية الحقبة السوفيتية نموذجاً على ذلك، إلا أن بريغوجين ليس غورباتشوف هذا الزمن.
الطباخ ليس صاحب مشروع أو أفق يتجاوز ما حدث، ومن المستغرب أن تتجاهل التحليلات كونه دُفع إلى التمرد عبر ضغوط متتالية يُستبعد أن تكون عفوية. الضغوط بدأت بحرمان ميليشياته من الإمدادات العسكرية المعتادة، عندما كانت في أتون معركة باخموت. لم تلقَ آنذاك نداءاته أو انتقاداته إصغاءً من الكرملين، ولم يُكافأ لقاء السيطرة على المدينة وقد تمت بفضل ميليشاته، بل ازدادت الضغوط التي لا يمكن أن يكون مصدرها وزير الدفاع وحده، وهدفها الواضح إرضاخ الميليشيات لوزارة الدفاع، حتى وصل الأمر إلى استهدافها بالقصف حسب مزاعمه.
ربما كانت الانتكاسة الروسية في أوكرانيا، والتي تحدث عنها بريغوجين، دافعاً وراء ما حدث، بمعنى وجوب حدوث تغيير ما وتقديم كبش فداء، من دون أن يظهر الحدث الأوكراني في المقدمة. تمردُ فاغنر يفتح على احتمالات متعددة للتغيير، منها تغييرات في الجيش والأمن على خلفية الفشل في استباق التمرد وتطويقه سريعاً. في هذا الاحتمال مثلاً، قد يُقصى بعض الذين يُحمَّلون مسؤولية الخسائر الفادحة في أوكرانيا بذريعة لا علاقة لها بالحرب هناك، ويكون أسهل على بوتين القيام بعملية تطهير واسعة بذريعة التقصير الداخلي، إذا كان هو وراء دفع طباخه إلى هذا المصير.
بالتأكيد هناك الكثير من علامات الاستفهام حول ما حدث منذ مساء الجمعة حتى مساء السبت، وقد يبقى الكثير من الخفايا طي الكتمان. ذلك لا ينبغي أن يفسح أمام المغالاة في التكهنات، فالفوضى في روسيا ليست مطلباً لأحد في الداخل أو الخارج، وهو ما يعرفه بوتين جيداً إذا كان وراء التلويح بها. يبقى الاحتمال الأخير مرجَّحاً، ما لم يطرأ تطور يؤكد أن يد بوتين لم تعد تمسك بزر الحقيبة النووية لأكبر ترسانة من نوعها في العالم.
المدن
————————-
مغامرة بريغوجين لم تبلغ نهايتها/ بسام مقداد
على مدى يومين بين 23 و24 الجاري جعل يفغيني بريغوجين العالم يلهث في تتبع كل حركة وكل كلمة ينطق بها خلال تمرده على عسكريي الكرملين. ووجدت روسيا نفسها تتذكر أكثر مراحل تاريخها الحديث مأساوية في العام 1917. العام الذي كان فيه جيش الإمبراطورية الروسية على جبهات الحرب العالمية الأولى وعاصمتها منهمكة في الدفاع عن سلطة آل رومانوف. تمخضت تلك المرحلة عن حكم البلاشفة، وطالت بداية نهايتها أكثر من سبعين عاماً. وما زالت روسيا والعالم حتى الساعة يعانيان من ذيولها المستمرة في سلطة بوتين.
انتهت مغامرة بريغوجين في 24 ساعة، لكن من الصعب القول بنهاية ذيولها وما كشفته من مواضع وهن في روسيا وسلطتها. والعالم كان يحبس أنفاسه ليس خوفاً على مصير سلطة بوتين، بل قلقاً من عواقب إنهيارها وما سيجره على تماسك روسيا ووحدتها وترسانتها النووية الأكبر في العالم.
نهاية المغامرة كانت بائسة، حيث تولى إخراجها ديكتاتور بيلوروسيا ألكسندر لوكاشنكو الذي يتقاسم عزلته مع فلاديمير بوتين. بريغوجين سيجد ملجأه في بيلوروسيا بإنتظار نهايته، أو بإنتظار المهمات الدموية اللاحقة التي سيعهد بها إليه في بلدان إفريقيا أو الشرق الأوسط أو أي مكان آخر يقرر الكرملين قمع تحرك شعبه.
تجمع الآراء على أن نهاية مغامرة بريغوجين ليست نهاية ما كشفت عنه في روسيا وسلطتها، لكنها تختلف في توصيف سلوك هذه السلطة خلال المغامرة ونهايتها. يرى الكتاب السياسيون والمحللون المستقلون ضعفاً في قبول بوتين بهذه النهاية للمغامرة بعد أن وصفها صباحاً بالخيانة والطعنة في ظهر روسيا. لكن محللي الكرملين وكتبته يرون فيها علامات قوة وحكمة يتحلى بها بوتين. ويرون أن بوتين تفادى نشوب حرب أهلية وإراقة الدم الروسي بعد أن بلغ التوتر أشده، خاصة بعد وصول كتائب رمضان قاديروف إلى روستوف وتصاعد إحتمال الصدام مع مرتزقة بريغوجين.
موقع cherta الروسي نشر في 24 الجاري عدداً من تعليقات كبار الكتاب السياسيين والصحافيين الروس بشأن مغامرة بريغوجين وكلمة بوتين إلى الشعب الروسي.
البوليتولوغ يكاترينا شولمان رأت أن النظام الروسي من جهة تفاعل بسرعة مع الحدث، حيث إستنهض الجميع، فرض نظام مكافحة الإرهاب في ثلاث مقاطعات ووجه بوتين كلمة إلى الشعب الروسي.
ومن جهة أخرى تفاعل ليس بالسرعة التي تطورت فيها الأحداث، بل كما تعودوا من الإكثار بالكلام والأوراق. ورأت أن كلمة بوتين للشعب الروسي كانت مثيرة للشفقة، حيث قال فلنتوحد، نحن إخوة ونقوم بعمل واحد. وبدا في هذا الوقت أن لا أحد مهتم بمحاربة أوكرانيا، بل بدوا مهتمين أكثر بتوضيح العلاقة في ما بينهم.
ورأت أن ما جرى يعري الأسطورة الشائعة بأنه كلما إشتد الإستبداد وتوسعت المركزية، كلما تعزز النظام والإستقرار. إن الربط بين الإستقرار والإستبداد هو الخطأ الأكبر الذي يمكن تصوره.
البوليتولوغ والصحافي الروسي كيريل روغوف قال بأنه، وكما العادة، يتوهم صانع الوحش أن بوسعه إيقافه متى يشاء، ولذلك يجعله مقنعاً أكثر فأكثر لتصعيد خوف الآخرين أكثر. ويستمر ذلك إلى أن يتضح أن الوحش نفسه قد صدق فزاعته. ومع أن الجميع كان يتابع قلقاً تقدم بريغوجين نحو موسكو، إلا أن الكاتب رأى أنه لم يكن من داع للقلق لأن التمرد كلامي أكثر مما هو فعلي. لكنه يعتبر أن التمرد وجه ضربة ساحقة لحرب بوتين، لأنه لم ينتقدها بلغة الليبراليين المناهضين للحرب، بل بلغة المؤيدين لها.
وقال الكاتب بأن المقارنة مع العام 1917 تتجلى بأوجها الآن. واعتبر أن الإثارة الوطنية المفتعلة خطيرة للغاية، لأن الفشل في ظروف الحرب يهدد بانهيار الجبهة والآلة العسكرية بالكامل.
الكاتب السياسي أيليا ماتفييف قال بأن بريغوجين صنعه بوتين نفسه من لا شيئ، والنخبة الروسية خلال أكثر من 20 سنة لم تعد تتصور نفسها خارج بوتين. حلم بريغوجين وأفقه أن يصبح وزير دفاع محل سيرغي شويغو، لكن حجمه تضخم الآن. فقد تمكن من توريط قسم من مقاتلي “فاغنر” في مغامرته. وفي الرد على تمرده لا يريد أحد، بل ليس مستعداً أن يطلق النار، على الرغم من أن بوتين أصدر أمراً بذلك إلى جميع الإدارات. لكن الأوامر لا تنفذ كما يبدو، وهذا يعني أن بريغوجين قد إنتصر. وينتهي الكاتب إلى القول “من أي عبث، من أي قمامة ينمو شباط 1917 الجديد”.
الكاتب السياسي المعروف عباس غالياموف علق على ما أعلنه بريغوجين من أنه لا يريد من تمرده سوى معاقبة وزير الدفاع شويغو ورئيس الأركان غيراسيموف، ثم يعود إلى الجبهة. ويتوجه إليه مخاطباً “لكن لماذا تعود إلى الجبهة ، وأنت أعلنت بالأمس أن الحرب ليست شرعية؟”. ويذكّره الكاتب بأنه هو نفسه قال بأن لا الناتو ولا أوكرانيا كانوا سيهاجمون روسيا والدونباس. كما يذكّره بقوله أن أوليغارشيي بوتين كانوا ينهبون الدونباس على مر ثماني سنوات. ويسأله من جديد لماذا يعود إلى الجبهة “هل للحصول على المزيد من هذا الدونباس، هل من أجل أن يتوفر ما ينهبوه بعد؟”.
يرى الكاتب أن عدم المنطق في موقف بريغوجين يضعف حظوظه كثيراً. فلا يمكن تحقيق مشروع سياسي مع تجنب طرح أهداف سياسية. لا يمكن إعلان الحرب غير شرعية، وفي الوقت عينه الإعلان عن الرغبة بالمشاركة فيها.
الباحثة في مركز كارنيغي موسكو تاتينا ستانوفايا قالت بأن بوتين قرر سحق التمرد بقوة في روستوف. لكن مشكلتين تعترضانه: السكان المدنيون والمحافظة على الجيش. ومن الصعب الآن معرفة من يتعاطف مع من، لكنها لا تشكك في ولاء قيادة الجيش للسلطة. غير أن مسألة الولاء ليست محسومة وسط الرتب العسكرية الأدنى، فليس من الواضح كيف سيتصرف الجندي في حال تلقى الأمر بإطلاق النار بهدف القتل. وليست الباحثة مقتنعة بأن محاولة إقناع بريغوجين ومقاتليه ستنجح، بل ترى أن المحاولة ستطول.
لم تكن نهاية التمرد قد حسمت بعد، لذلك رأت الباحثة أن السلطة ستحاول عزل بريغوجين جسدياً والإنتظار، لكنها مقتنعة بأنه محكوم بالفشل في النهاية.
البوليتولوغ فلاديمير باستوخوف رأى أن بوتين صمت في كلمته عن حقيقة أنه الملهم والمنظم الرئيسي لهذا التمرد. فهو من قرّب بريغوجين إليه، حيث إنتشله من القاع ووافق على تجربة غير مسبوقة بإنشاء جيش خاص كبير لمجرم سابق بتمويل من الخزينة و”المنهوب”، وهما واحد في روسيا منذ زمن بعيد، برأي الكاتب. قرر سد الثغرة بهذا الجيش الخاص في أكثر أوقات الجبهة حرجاً. وسمح له بنقل حثالة المجتمع من السجون إلى الجبهة، وصمت لأشهر عن إشتباك بريغوجين مع الجنرالات. ويرى أن بوتين نفسه قام “بتخمير وغلي وسكب كل هذا الخليط على نفسه”. وانتظر شيئاً ما من هذا الخليط، لكنه تبين أن هذا “الشيء ” ليس كما أراده، وهو من كان يسميه صديقه.
المدن
—————————-
روسيا..تمرد الواقع على الخيال/ ساطع نور الدين
قدمت روسيا في اليومين الماضيين، عرضاً مدهشاً لواحد من أهم انتاجاتها السينمائية الضخمة، في فئة أفلام الكوميديا السوداء، التي لطالما برعت في تصويرها وتسويقها في ظل رئيسها الحالي فلاديمير بوتين، رائد تلك الموجة من الاعمال الفنية، الذي لا ينفك يحبس انفاس العالم وأعصابه، أمام مشاهد مؤثرة تخلط بين الواقع والخيال، بطريقة لم يعهدها جمهور الشاشات الملونة من قبل.
روسيا وحدها يمكن ان تُنتج مثل هذا الفيلم الساخر، الذي بدا، بعد انتهاء عرضه الاول مساء السبت، وكأنه فتحٌ جديد في عالم السينما العصرية، عندما قدم بواقعية شديدة قصة تمرد مسلح تنفذه مليشيا من المرتزقة تعمل رسمياً لحساب الدولة، وبالتحديد لحساب رئيس الدولة نفسه، يدوم التمرد أقل من 24 ساعة، لينتهي بانتصار الرئيس على صديقه السابق زعيم المليشيا الذي يخرج الى المنفى ويضع مقاتليه في عهدة الجيش، وسط لقطات مؤثرة لمشاهد العناق والوداع بين المرتزقة وبين الجنود ، والتي شاركت فيها فتيات جميلات في شوارع المدينة نفسها التي كان يمكن ان تغرق بدماء الجانبين…
ميزة هذا العمل السينمائي الروسي الفريد من نوعه أن أدوار البطولة أُسندت الى الابطال الحقيقيين للقصة، الرئيس يطل من قصره حيث يدير المواجهة ويخاطب الشعب ليذكّره بواقعة تاريخية من خارج السياق، مضى عليها 106 سنوات.. قائد مليشيا “فاغنر” يعلن الزحف الى العاصمة موسكو، والى المفر الرئاسي في الكرملين، ويتوعد بشنق وزير الدفاع وكبار ضباط الجيش، قبل ان يتلقى اتصالا من الخارج ، من رئيس صديق لا يقل غرابة وفكاهة، فيوقف الزحف الى العاصمة ويتم إلقاء السلاح..وتكون خاتمة الفيلم بتقديم عِبرة، ورسالة، ما زال النقاد يحاولون تفكيك رموزها: ما الذي جرى فعلا؟ هل انتصر الرئيس فعلا؟ هل انتهى قائد المرتزقة حقاً؟ ما الذي حققه هذا العمل السينمائي لروسيا عندما اطلق للمرة الاولى فكرة الحرب الاهلية الروسية، او على الاقل، سخِر من فكرة الدولة المركزية القوية التي لطالما كانت عنوان روسيا وحجة وجودها؟ أم أن الامر كله كان مجرد مزاح مصوّر بين الرئيس المزاجي وبين طباخه السابق، أو ربما كان مجرد تسجيل سينمائي لخلاف بينهما على طريقة تحضير وجبة عشاء، استخدمت فيه الوجوه والاسماء والطائرات والدبابات والمدافع الفعلية، واستدعي الاعلام العالمي لتغطية وقائع تصوير مشاهده الحقيقية، التي لا يمكن خنقها في صالات السينما؟
لا جدال في ان هذا العمل السينمائي الروسي الذي شوهد في مختلف انحاء العالم حقق نجاحا منقطع النظير، يتخطى أي عمل هوليودي او بوليودي مشابه . والمؤكد ان السينما الاميركية ستظل عاجزة عن منافسة ما قدمه الروس او حتى مجاراته، وكذلك الامر بالنسبة الى السينما الهندية.. مع أن الاميركيين تحديداً انتجوا عدداً من الافلام المهمة فعلا عن ميليشيات اميركية مشابهة للمليشيا الروسية، لاسيما مليشيا “بلاك ووتر” السيئة الصيت التي ارتكبت مجازر مروعة في افغانستان والعراق واليمن.. تعادل ان لم تكن تفوق ما ارتكبته مليشيا “فاغنر”.
أنجزت روسيا بهذا الفيلم المتمرد على تقاليد وتجارب السينما العالمية، ما لا يصدق.. ولو كان ذلك الانتاج جاء على حساب سمعتها وتاريخها وتراثها، واعاد التذكير بأنها تسلم أمرها، وبغالبية شعبية ساحقة، لرئيس لا يليق بها، ولا يتمتع من صفات الرئاسة وثقافتها بغير جنون العظمة، (وهو جنون ما زال يغوي أغلب الروس كما يبدو فعلا).. رئيسٍ محاطٍ بشلة من ضباط الاستخبارات وضباط الجيش الفاشلين، الذي سمحوا جميعا للص حقيقي وسجين سابق وطباخ مخادع، ان يتسلل الى أروقة السلطة، ليؤدي أدوارها ومهماتها الأشد قذارة، قبل ان يعرّي الدولة الروسية ويشكك في أسباب وجودها.
هل سيدخل “تمرد فاغنر ” تاريخ السينما الروسية، والعالمية، كواحد من الاعمال الخالدة؟ الأرجح انه ما زال لدى المقيم في قصر الكرملين المزيد من المفاجآت “الفنية”، التي يمكن أن تخطف أنفاس العالم.
المدن
—————————–
زعيم «فاغنر» مرّ من هنا/ غسان شربل
كان أعدائي يشتهون مشهداً آخر. أن أحطم مدينة روستوف على رأس من دخلوها. وأن تغص الشوارع بالمركبات المحترقة. وأن تنشغل الشاشات بصور جثث الروس والمرتزقة. وأن يضطرب جنودنا على خطوط الاشتباك في أوكرانيا. وأن يخترق عملاء الغرب صفوفنا هناك. وأن يشاهدوني عالقاً في حربين. وأن يشعر الروس بالقلق لأن نيران «فاغنر» ارتدت إلى الوطن الأم. أحياناً عليك أن تكظم غيظك كي لا تغرق في فخ يشتهيه لك أعداؤك. وهذا ما فعلت.
يستحق يفغيني بريغوجين عقاباً شديداً. وربما تعليق جثته في الساحة الحمراء. ليعرف كل خائن ما ينتظره. ليعرف من يرفع سبابته مهدداً أنها ستقطع. الآن يكفي. خاف الرجل الذي لا يخاف. انحنى الرجل الذي لا ينحني. المطلوب حالياً رأس زيلينسكي، لا رأس من يسميه الغرب «طباخ الكرملين».
أغلقت الباب في وجههم. حرمتهم لذة رؤية روسيا غارقة في الدم الروسي. سيمضون أياماً في التفسير والتحليل. سيقولون إن هالة سيد الكرملين أصيبت بثقب. وأن صورته جُرحت. وأن يوم العصيان الطويل أظهر هشاشة نظامه. وأن الحرب الأوكرانية التي تعذر عليه حسمها ستفاجئه بعواصف أخرى كلما طالت. لا يعرف الغرب روسيا. الروس يحبون النوم على وسادة رجل قوي. والضربات التي لا تقتل ساكن الكرملين تزيد حصانته. وسيد الكرملين واحد ووحيد. لا شركاء ولا أوصياء.
يتمشى في مكتبه. ما كان لزعيم «فاغنر» أن يلمع على الشاشات لو قام الجنرالات بواجبهم. لو نجحوا في حسم الحرب في غضون أيام. لو أرغموا زيلينسكي على الاستقالة والفرار. صنعوا خيبتي. ثقل أوسمتهم يقلص خطواتهم. يخافون الحرب. ويخافون زوجاتهم. يراقبون الحرب بالمناظير وبدل الذهاب إليها يرسلون الصواريخ والمسيرات. ولا بد من الاعتراف بأن بريغوجين كان من قماشة أخرى. الحرب لعبته ومتعته. يلاعب الموت ولا يرتجف. يسبح في الدم ولا يرف له جفن. يجلس بين الجثث كمن يجلس في حديقة. إن غضب على مدينة أذاقها الويل. لا يعترف بأي حصانة للمدنيين أو المنازل أو الكنائس أو المساجد. يقطع المياه ويقطع الكهرباء ويقطع الشرايين.
لا يمكن إنكار أن الخائن استعاد باخموت شبراً شبراً وقبراً قبراً. يمشي فوق مسلحيه ويتقدم. لا الثلج يجمده ولا الوحل يعيقه. يواكب تدفق الدم من صدور رفاقه كمن يرافق تدفق المياه من نبع عذب. كان من الصعب أن أحمل جثة رجل أنقذ الجيش من العار في سراديب باخموت. جثة من أنقذ هيبة روسيا. وكان بارعاً. ذهب إلى السجون واستدرج القساة المقيمين فيها. وعدهم وحرّضهم وسلّحهم وأخذهم إلى الجحيم الأوكراني وكثيرون منهم ضاعت جثثهم هناك بلا أوسمة أو وداع. كان شجاعاً وكان رهيباً. في سوريا وليبيا ومواقع أفريقية أبلى البلاء الحسن. لا يتردد ولا يرحم ولا يشبع. الحروب وليمته والمناجم تثير لعابه.
الحكم فن إدارة البيادق. تلاعبها وتلعب معها. تقربها وتقصيها. تنصب لها الأشراك وتنقذها. تدفعها إلى شفير الهاوية وتردها منها. تذكرها دائماً بأنها جزء من اللعبة. وأنك حارسها وحاميها وآمرها. وكان زعيم «فاغنر» من بيادقي. وكانت عائدات ممارساته الجريئة والفظة تصب في خدمة الدولة. تحوّل جيشاً جوالاً من دون أن يُسمى جيشاً. كان أكثر من مجرد ميليشيا. كان جيشاً موازياً بأنياب طويلة. وإمبراطورية قسوة عابرة للحدود.
كثيراً ما يحدث أن يتمرد بيدق. أن تسكره الانتصارات. وأن يتسرع في المطالبة بثمن. وأن يتوهم أنه شريك. وأنه معبر إلزامي ويستحيل دفعه إلى خارج الرقعة. ولم يكن بريغوجين ممن يستهويهم التقاعد وإنفاق ما بقي من العمر على ظهر يخت جميل. إنه ملاكم منذور للحلبة. دائماً يبحث عن أعداء. عن مضاعفة ثروته ولائحة ضحاياه.
متعة الحكم تحريك البيادق. وأنا أختارها. أغسلها. ألمعها. أطوّعها. أعيرها من قوتي. أضيئها. وحين تتمادى أسحب الضوء من شرايينها وأعيدها إلى بيت الطاعة. ذهب بريغوجين بعيداً. أنا لا أستغرب مشاحنات البيادق وحروب الأدوار، لكن تحت سقف اللعبة. بالغ بريغوجين في هجاء شويغو وغيراسيموف وسائر الجنرالات. نسي أنهم يقيمون تحت عباءتي. لمعان الانتصارات يغري بالوقاحة. ينسي البيدق أنه بيدق. يغريه بالتحول لاعباً. ولا تتسع اللعبة إلا للاعب وحيد.
لم يتعلم بريغوجين الدرس من ديمتري مدفيديف مثلاً. أجلست مدفيديف في مكتب رئيس الوزراء فلعب دوره. اقتضت اللعبة دفعه إلى الأعلى. أمرته أن يذهب إلى الكرملين لينام فيه مع لقب السيد الرئيس بانتظار عودتي إلى القصر. لعب اللعبة ببراعة. انتهت ولايته فأعدته إلى حيث كان. وهو الآن معي ولا يزال كظلي. شويغو لم يظهر شراهة ولم يلمع لعابه. لافروف يؤدي دوره ولا تنتابه أي رغبة في تسلق الحبال.
أراد فلاديمير بوتين المجروح إطفاء التمرد في مهده. القنابل التي ألقاها بريغوجين تثير أسئلة صعبة أخطرها حول مشروعية الحرب في أوكرانيا واستنادها إلى تقارير كاذبة على حد قوله. لحرف الأنظار عن التمرد سينصب الغضب مجدداً على أوكرانيا التي يحاول بوتين متعثراً إخضاعها وإخضاع الغرب معها.
يبقى مصير بريغوجين. الرجل صعب وشائك ومثقل ولا يستطيع التقاعد مزارعاً في بيلاروسيا. لا يستطيع الاستكانة وتدبيج مذكراته. سيلازمه الخوف لأن الموت قد يأتيه من تفاحة أو كأس أو رسالة. إنه قتيل مؤجل. أعداؤه أكثر من أصدقائه. وضحاياه أكثر من أنصاره.
تذكرت أنني سألت ذات يوم لاعباً عربياً بين السياسة والأمن هل كان يخشى أن يُقتل. رد بالإيجاب. استفسرت، فقال: «لأنني أعرف أكثر مما ينبغي». وذات يوم آخر تطاير جسد الرجل مع ذاكرته بفعل انفجار. وزعيم «فاغنر» أشد خطورة من الرجل ويعرف أكثر مما ينبغي.
الشرق الأوسط
———————-
“فاغنر”.. مرتزقة في خدمة إرهاب الدولة/ خليل العناني
في أواخر مارس/آذار 2022، تمت تصفية ما يقرب من 300 شخص رميا بالرصاص، ودفنهم في مقابر جماعية، وذلك في قرية صغيرة تُدعي “مورا” بالقرب من الساحل الغربي لمالي. واتهمت هيومان رايتس ووتش الجيش المالي ومليشيات “فاغنر” الروسية بالقيام بتلك المذبحة المروّعة.
وقبل عامين تقريبا رفعت منظمات حقوقية دولية دعوى قضائية ضد مليشيات “فاغنر” لارتكابها جرائم مروّعة في سوريا منذ عام 2018. وأواخر مايو/أيار الماضي، وجه الادعاء الأوكراني للمليشيا اتهامات بارتكاب جرائم حرب في أوكرانيا استهدفت المدنيين، ونشر ممثلو الادعاء أسماء وصور 8 مطلوبين لارتكابهم جرائم حرب في قرية “موتيزين” بالقرب من العاصمة الأوكرانية كييف.
ومنذ تأسيسها قبل نحو عقد بدت الشركة العسكرية الروسية الخاصة (Wagner Group) كما لو كانت شركة تجارية تقليدية، ولكنها في الواقع لم تكن كذلك؛ فالشركة الخاصة على علاقة وثيقة بالجهات العسكرية والاستخباراتية الروسية منذ تأسيسها وحتى اليوم. واستخدمتها الحكومة الروسية بزعامة الرئيس فلاديمير بوتين أداة غير رسمية لنشر النفوذ الروسي في الخارج، وذلك من دون الحاجة لتدخل القوات العسكرية الروسية بشكل رسمي. وبهذا فإن “فاغنر” منظمة أو مليشيا عسكرية تابعة للدولة الروسية وليست مجرد شركة خدمات عسكرية وأمنية خاصة كما قد يظن البعض.
وحقيقة الأمر، فإن “فاغنر” ما هي إلا قمة جبل الثلج، وواحدة من أبرز تجليات ظاهرة أخرى أكثر تعقيدا، وهي ظاهرة شركات الأمن الخاصة والشركات العسكرية الخاصة التي ظهرت وانتشرت بشكل كبير بعد سنوات قليلة من انهيار الاتحاد السوفياتي وأوائل التسعينيات.
وقتها خرج آلاف المقاتلين والعسكريين الروس من الخدمة بعد العودة من مهامهم في الجمهوريات والبلدان التي كانت تابعة للاتحاد السوفياتي، وأسسوا شركات لتوظيف خدماتهم وخبراتهم العسكرية مقابل المال. ولجأت لخدمات هذه الشركات العسكرية الخاصة العديد من الجهات الحكومية والخاصة؛ نظرا لمرونة الحركة التي تتمتع بها هذه الشركات، إضافة إلى أنها أوفر ماليا وأقل عرضة للمحاسبة، وتكون غالبا قدراتها القتالية أكثر من الجيوش العادية.
وحقيقة الأمر، فإن كثيرا من الصراعات التي جرت خلال العقود الثلاثة الماضية -كما هي الحال في العراق وأفغانستان- قد شهدت بروز دور شركات الأمن الخاصة، ولعل أبرزها شركة “بلاك ووتر” الأميركية التي تورطت في كثير من الانتهاكات أثناء الحرب الأميركية على العراق، وقد حوكم بعض أعضائها بالسجن مدى الحياة في أميركا. وهناك تقارير عديدة حول استمرار “بلاك ووتر” في تقديم خدماتها العسكرية والأمنية لبعض البلدان في الشرق الأوسط. فعلى سبيل المثال، نشرت صحيفة “نيويورك تايمز” قبل عامين تقريرا لمحققين أمميين حول قيام الرئيس السابق لشركة “بلاك ووتر” إريك برنس بإرسال مرتزقة مزودين بطائرات مسيرة هجومية وزوارق حربية وقدرات للحرب السيبرانية إلى اللواء الليبي المتقاعد خليفة حفتر عام 2019 لمساعدته في شن هجومه على طرابلس ومناطق أخرى في الغرب الليبي. وهو ما يعد انتهاكًا لحظر السلاح الأممي المفروض على ليبيا منذ عام 2011.
أما في روسيا، فحسب العديد من التقارير والدراسات، فإن هناك آلافا من شركات الأمن الخاصة العاملة في البلاد التي تعمل في مجال حراسة البنية التحتية وتقديم خدمات الحماية لكبار الشخصيات الروسية. ورغم أن القانون الروسي لا يسمح بتأسيس شركات عسكرية خاصة على أراضي الاتحاد الروسي، إلا أن هناك العديد من الثغرات القانونية التي يتم استغلالها من أجل تأسيس تلك الشركات. فمثلا بينما يجرم القانون الجنائي الروسي عمل الأفراد مرتزقة، فإنه يُسمح للشركات التي تديرها الدولة بأن تكون لها قوات مسلحة خاصة ومؤسسات أمنية. فضلا عن وجود شبكة كبيرة من المتعهدين ومقاولي الباطن الذين يسمحون للمواطنين الروس بالعمل في الشركات العسكرية الخاصة.
حيلة أخرى يتم استخدامها لتفادي القيود القانونية، هي تسجيل الشركات العسكرية الروسية الخاصة خارج البلاد، وهو ما يسمح للسلطات الروسية بتجاهل عملياتها بوصفها منظمات أجنبية لا تقع تحت طائلة القانون الروسي.
هذه الفجوات القانونية ساعدت الحكومة الروسية على استخدام خدمات هذه الشركات من دون الوقوع في مسألة انتهاك القانون الروسي. وهذا ما يحدث بالضبط في حالة مليشيات “فاغنر”؛ فالشركة غير مسجلة في روسيا أو في أي مكان آخر، وتستفيد من الثغرات القانونية من أجل مد خدماتها للطبقة الأوليجاركية الحاكمة في روسيا، وعلى رأسها بوتين وحلفاؤه. وبذلك فبحكم القانون الروسي فإن الشركة غير موجودة رسميا، ولكنها تستفيد بشكل كبير من علاقاتها بكبار المسؤولين داخل السلطة، سواء في الكرملين أو البرلمان الروسي.
وهناك وقائع عديدة تؤكد أن مجموعة “فاغنر” خاضعة للدولة الروسية، منها على سبيل المثال دورها في الصراع الدائر في سوريا الذي تدخلت فيه موسكو بشكل كبير أواخر عام 2015. فحسب العديد من التقارير، فهناك العديد من مقاتلي “فاغنر” الذين يتم علاجهم وإعادة تأهيلهم في المستشفيات العسكرية الروسية وذلك مثلما حدث بعد معارك “دير الزور” عام 2018، حيث تم إجلاء الناجين من الجرحى بواسطة طائرات طبية عسكرية روسية إلى المستشفيات العسكرية في روستوف وموسكو.
كذلك تم إرسال عملاء ورجال تابعين لـ”فاغنر” إلى فنزويلا من أجل مساعدة الرئيس نيكولاس مادورو حين كانت البلاد على وشك الدخول في صراع أهلي عام 2019. وحسب تقارير عديدة، فقد وصل هؤلاء الرجال على متن طائرات تابعة للقوات الجوية الروسية. حدث الأمر ذاته في ليبيا، فطائرات الشحن العسكرية الروسية تقوم بنقل مقاتلي “فاغنر” إلى هناك بشكل مستمر؛ وكل هذا يؤكد ارتباط “فاغنر” بالدولة الروسية بشكل وثيق.
وعلى مدار العقد الماضي، توّسع نشاط “فاغنر” بشكل غير مسبوق لم تصل إليه أية شركة خدمات أمنية أو عسكرية خاصة من قبل؛ فقد امتد نشاطها ليشمل عددا كبيرا من البلدان من سوريا إلى ليبيا ومالي والسودان وأفريقيا الوسطى. في حين يتحدث البعض عن أن لها وجودا وتأثيرا كبيرا في نحو 13 دولة أفريقية، فضلا عن دورها في الحرب الحالية بأوكرانيا.
“فاغنر” -إذن- ليست مجرد شركة خدمات عسكرية خاصة، وإنما هي ذراع عسكرية للدولة الروسية تحاول من خلالها مد نفوذها وتأثيرها عبر العالم، وتقوم من خلالها بالعمليات القذرة التي لا تريد أن يكون للجيش الروسي تدخل صريح بها. لذلك ليس غريباً أن يتعامل رئيس “فاغنر” يفغيني بريغوجين مع بوتين ليس بوصفه مجرد “مرتزق”، وإنما كما لو كان زعيما سياسيا وعسكريا يسعى لحفظ ماء وجه بوتين ودولته خارجيا.
أستاذ العلوم السياسية بمعهد الدوحة للدراسات، قام بالتدريس في عدد من الجامعات المرموقة منها جامعة جورجتاون، وجامعة جونز هوبكنز، وجامعة جورج واشنطن، وجامعة جورج مايسون بالولايات المتحدة وجامعة دورهام ببريطانيا
—————————
بوتين خرج أضعف من أزمة تمرّد “فاغنر”/ عادل حداد
بوتين، أراد توظيف الحادثة للقول إن خصمه يُضعف بتمرده جهود روسيا في الحرب مع أوكرانيا، كما فعل كورنيلوف. لكن فات “القيصر” أن التاريخ ليس موظفاً عنده ويعمل بإرشاداته. فبعد انقلاب كرونيلوف بفترة، حصلت ثورة في روسيا ونقلت البلاد إلى حقبة جديدة.
صحيح أن التمرد على الرئيس الروسي فلاديمير بوتين لم ينجح، لكن الأخير خرج من الأزمة ضعيفاً. إذ اضطر للتفاوض مع زعيم ميليشيا وصفه بـ “الخائن”، ثم تجرّع سمّ صياغة تسوية معه تقضي بخروجه إلى بلاروسيا. هذا ليس بسيطاً، في بلد تصنع فيه للرئيس كاريزما وتغدق عليه صفات الإعجاز والقوة والقدرة السحرية على حل المشاكل. أنصار بوتين الذين يرون فيه “باعثاً” لمجد روسيا الإمبراطوري، على الأرجح، خاب أملهم به حين انتهى به الأمر إلى التفاوض مع سجين سابق والرضوخ لشروطه.
اللافت أن بريغوجين حاول أن يصوّر نفسه “منتصراً” في التسوية، قائلا إنه كان على مسافة قريبة من موسكو. وتراجع “منعاً لسفك الدماء”، وهي الجملة نفسها التي استخدمتها السلطات لتبرير التسوية، بحيث ظهرت لغة السلطة والميليشيا، واحدة، في دلالة واضحة على انعدام الفرق بين بوتين وخصمه أمام “الرأي العام”.
سيناريو قد يتكرر
الإشارة الأخرى حول ضعف بوتين، هي أن استراتيجية الأخير التي تنهض على إدارة تعدد الأجهزة داخل النظام وإمساك خيوط اللعبة في يده، تراجعت فاعليتها. إذ إن أحد أطراف اللعبة خرج عليها، وهدد النظام، وتوعد باستبدال رأسه. وليس مستبعداً تكرار هذا السيناريو، طالما أن الأجهزة والميليشيات وأجنحة الجيش، تُمنح نفوذاً وقوة ضمن دولة باطنة فوق المحاسبة لتحقيق مكاسب، ما يجعل احتمالات تمرّدها عالية.
يضاف إلى ذلك، أن الجيش لم يستهدف قافلة فاغنر المتّجهة الى موسكو بعد تحوّل الأخيرة الى ثكنة بفعل الاستنفار فيها، ونصب حواجز تفتيش، ما طرح أسئلة عن وجود علاقات بين بريغوجين وجنرالات في المؤسسة العسكرية، وما إذا كانت هذه العلاقات ستستمر بعد نفي قائد فاغنر إلى بلاروسيا، بحيث يبدو ما حصل مقدمة لتمردات أخرى من داخل الجيش نفسه هذه المرة، خصوصا أن الأخير يتخبّط في أوكرانيا.
الديناميكية التي حركت هذا التمرد، وستحرك أي تمردات متوقع حدوثها مستقبلاً، هي الهزيمة في أوكرانيا، صحيح أن بريغوجين على خلاف مع وزير الدفاع سيرغي شويغو ويريد مكاسب سياسية لقاء خدماته القذرة التي أداها للكرملين في ليبيا وسوريا وإفريقيا وأوكرانيا، لكن هذه تفاصيل تتداخل مع الديناميكية الأساس، أي شعور الهزيمة.
انكشاف الفشل
الشعور بالهزيمة ليس مردّه الوقائع الميدانية التي صارت تتفاوت نتائجها يوماً بعد يوم، لصالح هذا الطرف أو ذاك، بل انكشاف الفشل في تحقيق الأهداف الكبرى التي طرحها الكرملين، عبر إعلامه وصحافييه، لتبرير الحرب أمام الروس. فهدف الاستيلاء على كييف خلال 24 ساعة وتنصيب حكومة موالية لموسكو بعد اقتلاع فلاديمير زيلينسكي ونظامه، انتهى باحتلال عدد من المدن الصغيرة وبعد أكلاف عسكرية باهظة. هدف منع أوكرانيا من الانضمام الى الناتو انتهى بإغداق الأطلسي الأسلحة عليها، كما لو أنها عضو فعلي في التحالف، عدا عن اقتراب انضمام فلندا والسويد إلى الحلف.
هدف الحفاظ على أمن روسيا وشنّ حرب استباقية تحسباً لـ”مكائد” الغرب، انتهى بمعارك داخل مدن روسية حدودية وطائرات مسيّرة تستهدف عمق موسكو، ولا يسلم منها الكرملين نفسه. هدف استعادة “المجد الإمبراطوري” التاريخي للبلاد، انتهى بحديث بوتين نفسه خلال أزمة تمرد “فاغنر”، عن مخاوف من حرب أهلية.
الفشل في تحقيق الأهداف تلك، يشكل خلفية الشعور بالهزيمة، شعور يصبح أمامه الحديث عن تقدم من هنا وتراجع من هناك والاستيلاء على مدينة وخسارة أخرى، من دون معنى. الوقائع الميدانية مهما صُورت على أنها “انتصارات”، للذات و”هزائم” للخصوم، ستظل بلا قيمة أمام جراح نرجسية تتعلق بذات قومية جرّب بوتين أن يصدرها للروس، مستحضراً التاريخ في كل خطاب ومناسبة.
التبرير الحادثة ليس في محلّه
في خطابه الذي هاجم فيه قائد فاغنر، عاد بوتين الى التاريخ مشبهاً بريغوجين بالجنرال لافار كورنيلوف، القائد العام لجيش الإمبراطورية الروسية، والذي نفذ انقلاباً فاشلاً، خلال خوض بلاده الحرب العالمية الأولى. بوتين، أراد توظيف الحادثة للقول إن خصمه يُضعف بتمرده جهود روسيا في الحرب مع أوكرانيا، كما فعل كورنيلوف. لكن فات “القيصر” أن التاريخ ليس موظفاً عنده ويعمل بإرشاداته. فبعد انقلاب كرونيلوف بفترة، حصلت ثورة في روسيا ونقلت البلاد إلى حقبة جديدة.
حين هزُم صدام حسين في حرب الكويت، صوّب أحد ضباط جيشه المنسحبين بمذلة من الكويت، مدفع دباباته على صورة عملاقة لـ”الدكتاتور” في البصرة. تفجير الصورة كان إشارة البدء الرمزية، لانتفاضة شيعية عارمة أخرجت مدناً كثيرة عن سيطرة النظام. صدام قمع الانتفاضة بوحشية، لكنه سقط في 2003. وربطاً بذلك، لا بد من أن ننتبه الى ما نُشر في الصحف الأميركية، حول معرفة واشنطن بتحرك بريغوجين قبل حصوله.
الأرجح أن الولايات المتحدة ليست على تنسيق، ولا تشجع قائد ميليشيا متهوراً، لكن العلم بالشيء وترقب مدى فاعليته وتأثيره، يعنيان أن البحث عن بديل لبوتين ليس غائباً عن حسابات الغرب، علماً أن بريغوجين لا يمكن أن يشجع أي دولة تبني حساباتها بدقة وعلانية، على دعمه أو الرهان عليه، لكن فتح ثغرة في جدار النظام ولو من خلال طباخ بوتين السابق، قد يكون البداية، وهذا ما حصل أمس.
درج
——————————
«بوتين والروليت الروسي!»/ حسين شبكشي
لا أحد يعرف تحديداً عدد الساعات التي قضاها الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في مكتبه بالكرملين في اليومين الماضيين، ولكنها كانت حتماً ساعات ثقيلة وطويلة جداً. في مكتبه المهيب والواقع تحت القباب المميزة بألوانها الجذابة والمطل على الساحة الحمراء الكبرى والقريبة من حديقة غوركي العامة الهائلة بدا بوتين يراقب تداعيات ساخنة ومتسارعة جعلت من صيف موسكو أشبه بجليد وصقيع سيبيريا في ثقله على بوتين والناس الموجودة داخل الكرملين.
التمرد العسكري الذي أعلنه قائد مجموعة مرتزقة «فاغنر» على الجيش الروسي وهدّد بدخول موسكو وإشعاله حرباً أهلية بين الروس هو الحدث الأخطر في تاريخ حقبة حكم بوتين والذي وصف ما حصل بالخيانة والطعنة من الخلف في الظهر.
وخطورة هذه الحادثة أنها تمرد انقلابي من داخل الدائرة المقربة جداً من الرئيس الروسي رجل الاستخبارات العتيق الذي يعدّ الثقة هي أغلى ما يملك، ولا يمكن أن يمنحها إلا لمن يستحق، تحطمت ثقته في أحد المقربين منه مجدداً. ليعود فلاديمير بوتين مجدداً لمرحلة الشك والتشكيك في كل مَن حوله، ولعلّه في هذه اللحظات يسترجع مقولة حكيمة جداً لرائد الأدب الروسي الأهم ليو تولستوي الذي قال عن الخيانة: «عندما تتعرض للخيانة يكون الأمر أشبه بكسر ذراعيك، يمكنك أن تسامح ولكنك لن تتمكن أبداً من العناق».
وهذه الحادثة الغريبة فتحت المجال لطرح العديد من الأسئلة في محاولة لفهم ما حصل، وخصوصاً في ظل متابعة آراء وتحليلات الخبراء على وسائل الإعلام المختلفة. فهناك مدرسة تعدّ أن «المعلم الفنان العبقري» فلاديمير بوتين ضرب الاستخبارات الغربية بمهارة بعد أن «اشترت» أجهزة الاستخبارات الغربية قائد مرتزقة «فاغنر» للقيام بانقلاب على الرئيس الروسي ليتفق بوتين مع رئيس بيلاروسيا لإقناع «فاغنر» بإنهاء التمرد وكأن الموضوع مرتب له من قبل، هذه نظرية عشاق بوتين وكارهي الغرب، وهي تفتقد إلى الأدلة والبراهين ومملوءة بالعاطفة والتمني.
للزعيم الفرنسي التاريخي نابليون بونابارت مقولة بالغة الدلالة تقول: «لا تزعج خصمك وهو يرتكب أخطاءً وحماقات»، هذا هو حال الغرب اليوم وهو يراقب حال التقاتل البيني داخل صفوف الفرق العسكرية بشقيها الرسمي وغير الرسمي مع تقهقره الواضح والمستمر وعدم قدرته على الحسم والانتصار في حربه ضد أوكرانيا.
من الواضح أن هناك ما يستدعي قلق بوتين، قلق مستمد من أداء غير مُرضٍ من قِبل الماكينة العسكرية الروسية الفتاكة والانقسامات في الآراء الموجودة فيها والتي أدت إلى نتائج متواضعة على أرض المعركة.
الإعلان عن انخراط قوات «فاغنر» في الجيش الروسي يعني انتهاء دورها بشكل رسمي، ويبدو أنه من المبكر قراءة القوى البديلة لها في مواقعها الحالية في سوريا والقارة الأفريقية على سبيل المثال، وإذا كانت التسريبات الأولوية التي تقول إن البديل سيكون بإشراف مباشر من قِبل إدارة المخابرات الروسية، فهذا تغيير جذري في إدارة المعارك والخروج من دائرة المؤسسة العسكرية والتوجه للمكان الأكثر أماناً بالنسبة إلى بوتين وهو بيته الأول: الاستخبارات.
ويبقى مصير قائد مجموعة «فاغنر» يفغيني بريغوجين غامضاً ومجهولاً، فهو اليوم مشروع قتيل مؤجل بدأ العد التنازلي بحقه، وسيبقى غامضاً وضع ومصير والدته التي كانت الرئيس الفعلي لـ«فاغنر» ومن الممكن جداً أن يكون بوتين قد ابتز بريغوجين بها، وخصوصاً أن مكانها لا يزال مجهولاً منذ الأحداث الأخيرة. بوتين يواجه خصوماً داخل الدائرة، من طباخ الرئيس السابق، وطباخ السم سيذوقه حتماً. بوتين أمامه عدد كبير من الخيارات الصعبة، ويبقى السؤال هل يستطيع أن يقدِم عليها؟ وتبقى ساحة الحرب في أوكرانيا قائمة وجيش بوتين غير قادر على حسم المعركة، فهل يضحي بوتين بوزير الدفاع سيرغي شويغو ورئيس الأركان فاليري غيراسيموف ويحمّلهما مسؤولية الإخفاق والتمرد، أم تغلب عليه حاجته إلى ولاء الجيش قبل أي اعتبار آخر؟… إنها أسئلة الجريمة والعقاب والحرب والسلام في صراعات الإخوة كرامازوف.
الشرق الأوسط
————————–
هل هي بداية النهاية لبوتين؟
مراقبون: الرئيس الروسي لم يعد يتربّع بأريحية على عرش السلطة… لكن هذا لا يعني أن النظام سينهار قريباً
باريس: «الشرق الأوسط»
بيّن تمرّد مجموعة «فاغنر» العسكرية وجود مكامن ضعف كبرى في وضعية الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، ما أثار تساؤلات حول قدرته على مواجهة مخاطر متزايدة تتهدّد استمراريته السياسية، وفق محلّلين.
تمكّن بوتين من القضاء على الخطر المباشر الذي واجهه في نهاية الأسبوع، وقد أوقف قائد مجموعة «فاغنر» يفغيني بريغوجين تقدّم قواته، ووافق على صفقة تنص على انتقاله إلى منفى في بيلاروسيا.
يحذّر مراقبون -كما جاء في تحقيق «الصحافة الفرنسية»- من أنه من السابق لأوانه استخلاص ماهية العواقب الكاملة لهذا التمرّد، وتداعيته على بوتين البالغ 70 عاماً، والذي تمتد فترة حكمه لروسيا على نحو عقدين ونصف عقد، منذ أن سلَّمه الرئيس الروسي الأسبق بوريس يلتسين السلطة، في ليلة رأس السنة عام 1999.
لكن مع مواصلة روسيا غزوها أوكرانيا، بيّن التمرّد زيف الصورة التي تلصق ببوتين باعتباره الزعيم الأقوى، وأظهر احتمالية أن يكون شخصية منعزلة تحاول السيطرة على فصائل متصارعة.
وقالت مؤسسة مركز «آر. بوليتيك» للاستشارات، تاتيانا ستانوفايا، إن «بوتين والدولة تعرّضا لصفعة قوية، ستكون لها تداعيات على النظام».
وقال وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن الذي كانت إدارته -حسب صحيفة «نيويورك تايمز»- على علم بنيات بريغوجين قبل أيام من إطلاقه التمرّد، إن الخطوة «تثير تساؤلات كبرى، وتظهر وجود تصدّعات حقيقية».
واعتبر الرئيس الأميركي جو بايدن، الاثنين، أنه ما زال «من المبكر جداً» التوصل إلى استنتاجات حاسمة بعد تمرد «فاغنر»، مؤكداً أن «لا علاقة» للغرب بما حصل. والأحد، قال بلينكن في تصريح لقناة تلفزيونية أميركية أيضاً: «لا يمكننا التكهّن أو أن نعرف بالتحديد إلى أين قد تتّجه الأمور»، مشدّداً على أنه يتعين على بوتين الإجابة على كثير من التساؤلات في الأسابيع والأشهر المقبلة.
الصراع الداخلي الذي كشفه التمرّد، بما في ذلك بين بريغوجين ووزير الدفاع سيرغي شويغو، بيّن أن بوتين لم يعد يتربّع بأريحية على عرش السلطة.
في الأثناء، قواته المسلّحة التي أمرها الكرملين في فبراير (شباط) 2022 بالسيطرة على العاصمة الأوكرانية كييف، كانت عاجزة حتى عن منع سيطرة «فاغنر» على مقر القيادة الجنوبية للجيش الروسي في مدينة روستوف، الواقعة على ضفاف نهر الدون.
في تطوّر غريب، تولّى الرئيس البيلاروسي ألكسندر لوكاشينكو الذي عادة ما يبدو شريكاً أصغر لبوتين، وليس مخلّصه، دور الوساطة في المفاوضات التي أفضت إلى إنهاء بريغوجين انتفاضته.
على الرغم من انتهاء الانتفاضة خلال ساعات، من شأن مشاهد وداع الأبطال الذي لقيه بريغوجين ومقاتلوه في روستوف أن تثير عدم ارتياح في الكرملين.
الأوضاع تنطوي على تحديات كبيرة لبوتين، علماً بأن الانتخابات الرئاسية الروسية مقرّرة في مارس (آذار) 2024، أي بعد أقل من عام.
التعديلات الدستورية المثيرة للجدل التي تم إقرارها تمكّنه من السعي لولايتين إضافيتين، أي حتى عام 2036؛ لكن بوتين لم يكشف بعد رسمياً عن نياته، علماً بأن لا أثر بعد لأي خليفة له، على الرغم من ازدياد حظوظ حاكم منطقة تولا، أليكسي ديومين، الذي سبق أن تولّى مناصب عليا في الجيش والأمن الرئاسي.
وقال مدير مركز «ري: روسيا» الاستشاري كيريل روغوف، كما نقلت عنه «الصحافة الفرنسية»: «ليست هذه نهاية القصة؛ بل البداية. عمليات التمرّد العسكري، حتى تلك الفاشلة بيّن التاريخ أنها غالباً ما تكون نذيراً، بداية لعملية».
في خطاب وجّهه السبت فاجأ بنبرته كثيراً من المراقبين، شبّه بوتين تمرّد «فاغنر» بـ«الطعنة في الظهر» إبان الثورة البلشفية التي أطاحت القيصر في عام 1917، وأخرجت في نهاية المطاف روسيا من الحرب العالمية الأولى.
وقال مدير مركز «ماياك إنتليجس» للاستشارات والأبحاث: «لا شيء من ذلك يعني أن النظام سينهار قريباً»؛ لكنه لفت إلى أن «التمرّد يقوّض قدرات الدولة التي يقودها بوتين وقوّتها ومصداقيتها، ويقرّبنا أكثر من اليوم الذي سينهار فيه هذا النظام».
وضع غزو أوكرانيا بوتين تحت مجهر وسائل إعلام ناطقة بالروسية خارج البلاد، فراحت تدقّق في وضعه الصحي وطريقة عيشه وآلية اتّخاذه القرارات، لترسم صورة زعيم يعاني من المرض والبارانويا (جنون الارتياب) بات أكثر انعزالاً منذ جائحة «كوفيد»، ويمضي قليلاً من الوقت في الكرملين.
منصات إعلامية عدّة استقت تقاريرها من مصادر معلومات متاحة، تقول إن بوتين يمضي غالبية وقته في مجمّع كبير على ضفاف بحيرة لاودغا، في ضواحي سانت بطرسبرغ. وتفيد تقارير بأنه يتوجّه إلى هناك في قطار مدرّع وليس بالطائرة، لضمان السلامة القصوى. ويبدو أن زمن التقاط الصور له عاري الجذع خلال الصيد أو ركوب الخيل قد ولّى.
شدّد الكرملين على أن بوتين كان في موسكو في نهاية الأسبوع خلال الأحداث الأخيرة، ولطالما نفى صحّة ما يشاع بشأن وضعه الصحي. وخلص مدير دراسات الشأن الروسي في «مركز التحليلات البحرية» مايكل كوفمان، إلى أن «بريغوجين خسر في نهاية المطاف. و(مجموعة فاغنر) ستخسر كذلك». وأضاف: «لكن بوتين خسر أيضاً، والنظام أصيب. يبقى أن نعرف ما ستكون عليه التداعيات على المدى الطويل».
————————————-
نيويورك تايمز: عصيان فاغنر كشف عن سيناريوهات سيئة لروسيا وأوكرانيا
قال المحلل في صحيفة “نيويورك تايمز” سيرج شيمان إن يفغيني بريغوجين الذي قاد يوم السبت 24 حزيران/يونيو تمردا فاشلا ضد الرئيس الروسي فلاديمير بوتين ينضم إلى تاريخ طويل من التمردات الروسية الفاشلة، ومهما كان يريد زعيم مرتزقة فاغنر تحقيقه من تمرده، فقد كان قصير الأمد وبدون معنى.
وبعد أقل من 24 ساعة عندما أرسل دباباته على الطريق السريع باتجاه موسكو، أُقنع زعيم المرتزقة بأن يعيد توجيه سيرها وقبل اللجوء إلى بيلاورسيا.
والسؤال عن الفصل القادم وماذا سيحدث بعد، وتحديدا عن اثر العصيان وإن كان سيترك بوتين ضعيفا، قويا أو منتقما. ففي خطابه القصير يوم السبت تعهد بالانتقام ومعاقبة المتمردين والعصاة ورأى شهود عيان المروحيات وهي تضرب الرتل من الدبابات والخنادق التي تحفر على الطريق قبل تقدمها. إلا أنه تجنب في خطابه ذكر اسم بريغوجين أو شركة فاغنر. وبدلا من سحقه للمرتزقة والدخول في مواجهة مقرفة، تراجع بوتين، واستخدم الرئيس البيلاروسي الكسندر لوكاشينكو لتحفيز بريغوجين على التخلي عن انتفاضته المتعجلة بوعد العفو عنه.
وما حدث يظل لغزا، فقد شاهدت الاستخبارات الأمريكية يوم الأربعاء الماضي إشارات عن تحضير لعصيان. وهناك الكثير من النظريات التي تم تداولها على منصات التواصل الاجتماعي منها أن التمرد بكامله هو مجرد تمثيلية وربما دبره بوتين نفسه لأسباب ما، وفي ظل جنون غزو أوكرانيا وعجز الجيش الروسي فكل شيء ممكن.
إلا أن هناك تفسيرا واضحا: فبريغوجين هو بلطجي يعرف العنف أكثر من التآمر، وربما قرر مواجهة عدوه سيرغي شويغو، وزير الدفاع، وبخاصة أن زعيم فاغنر شن حربا معلنة وطويلة ضده واتهمه بأنه لم يقدم الدعم الكافي لفاغنر. ويعتبر بريغوجين مثال الشرير في مرحلة ما بعد الاتحاد السوفييتي، فقد قضى معظم حقبة الثمانينات من القرن الماضي في السجن وبنى ثروته في السنوات الأولى من مرحلة ما بعد انهيار الاتحاد السوفييتي وأصبح مقربا من بوتين ووفر الطعام لمآدبه (بشكل أصبح يلقب بطباخ بوتين مع أنه قال إنه لم يطبخ وجبة مرة له).
ومن بين الآثام الأخرى التي ارتكبها بريغوجين هي بناء شركة فاغنر والتي ظهرت عام 2014 أثناء غزو روسيا لشبه جزيرة القرم وظلت مقربة وتقف مع بوتين منذ ذلك الوقت. ومنذ ذلك الوقت دخلت المجموعة في حروب في لييا وسوريا وجمهورية أفريقيا الوسطى والتي شجعها الكرملين ولكنه لم يكن يريد تحمل المسؤولية عنها. وتم نشر عناصرها مباشرة بعد غزو أوكرانيا وتكبدت خسائر كبيرة، وبعدها أخذ بريغوجين يجند السجناء بوعد تحريرهم إن نجوا من الحرب، ومات الكثير منهم. وبدأ حربا كلامية مبالغا فيها ضد شويغو والقادة العسكريين الروس لأنهم لم يقدموا له السلاح الكافي والذخيرة ولأنهم أفسدوا العملية العسكرية بشكل عام. وزاد في الأسبوع الماضي من هجماته الكلامية عندما اتهمهم بشن الحرب في أوكرانيا لأغراض شخصية وأنهم أمروا بقصف قواته في أوكرانيا بالصواريخ. وأمر بريغوجين الغاضب قواته باجتياز الحدود إلى المدينة الجنوبية روستون اون دون وسيطر على قيادتها العسكرية ثم أمر قواته بالسير نحو موسكو لمواجهة القيادة العسكرية، ووصلت على بعد 125 ميلا عن العاصمة قبل أن يعيدها. ومن هنا فالسؤال هو عما يحدث بعد، فمن الصعب التكهن، فعصيان مفتوح قاده زعيم ميليشيا قاس وسيء السمعة واستطاع بوتين السيطرة عليه بدون سفك قطرة دم، سيترك تداعياته السياسية الخطيرة في روسيا. وأي من السيناريوهات التي فحصها الكاتب ستكون جيدة إما لروسيا أو أوكرانيا.
ومن المحتمل أن يصعد بوتين المهووس بالسيطرة على أوكرانيا الأعمال العدائية لكي يظهر للأوكرانيين والغرب أن العصيان لم يضعفه. وربما حاول أن يثبت خطأ كلام بريغوجين عن الفوضى والتشتت في صفوف القوات الروسية، مع أنه يعرف الحاجة للتخلص من قادة عسكريين، فهو كقائد أعلى للقوات المسلحة يعرف عيوبهم ومشاكلهم. وبعد ساعات من محاولة العصيان، أرسلت روسيا أسرابا من الصواريخ والمسيرات إلى أهداف أوكرانية، ومع بداية الهجوم الأوكراني المضاد، فربما بدأ بوتين بإصدار تهديدات قاتمة. وقبل أسبوع من تحرك بريغوجين، نشر سيرغي كاراكانوف الباحث المعروف في السياسة الدفاعية والخارجية، مقالا ناقش فيه حاجة روسيا “لجعل الردع النووي أمرا مقنعا ومن خلال تخفيض عتبة استخدام الأسلحة النووية”.
وربما حاول بوتين تحميل الولايات المتحدة المسؤولية، مع أن البيت الأبيض كان حذرا وآخر المسؤولون الكشف عما يعرفونه من معلومات عن العصيان لما بعد حدوثه. وبالنسبة للسيناريو الذي تحدث عنه بوتين، حيث قارن بين عصيان السبت والثورة البلشفية عام 1917 والتي أطاحت بعائلة رومانوف، وكان البلاشفة أجداد الاتحاد السوفييتي الذي يتحسر بوتين على انهياره، فروسيا بهذا المعنى خاسرة.
وبعد نجاته من العصيان، فسيكون الهدف الأول لبوتين هو تعزيز قوته تفوقه داخل روسيا، ولم يتهم بريغوجين الرئيس بأي فشل، واتهم بدلا من ذلك منافسيه بإفشال زعيم معصوم، وبوتين ممتن لأن القوات الروسية لم تنضم لعصيان فاغنر. إلا أن اتهامات بريغوجين المتعلق بغزو أوكرانيا وأن الحرب لا تسير بشكل جيد وأنها شنت للأسباب الخطأ، تعتبر ضربة لبوتين وعليه البحث عن كبش فداء يحمله المسؤولية.
وتعتبر الانقلابات الفاشلة الوسيلة المعروفة التي يستخدمها الديكتاتوريون لملاحقة الأعداء الحقيقيين والمتخيلين. وبعد “مؤامرة الدكاترة” في الخمسينيات من القرن الماضي، بدأ ستالين عملية تطهير في قيادة الحزب الشيوعي. وفي التاريخ القريب سارع الرئيس التركي رجب طيب أردوغان لاعتقال الآلاف بعد المحاولة الانقلابية الفاشلة عام 2016.
وترك بوتين المجال مفتوحا لحملة قمع جديدة، وربما لاحق وسجن وقمع أي شخص شكك في قيادته. ويظل مصير بريغوجين محلا للتساؤل، فالتاريخ الروسي حافل بالأمثلة عن الانتفاضات والمتظاهرين بالسلطة، ولم يكن مصير أي منها جيدا، فقد تبع القوقاز إيفان مازيبا عندما انشق عن إيفان الكبير في معركة مهمة ضد السويديين عام 1709، وتم إغراء المنشقين بالاستسلام من خلال وعد العفو، وعلقت رؤوسهم لاحقا على المسامير أو رميت في نهر دنيبر.
ولعل أقرب قصة لبريغوجين هو تمرد إميليان بوغاتشيف ضد كاترين العظيمة في سبعينيات القرن الثامن عشر وزعم أن زوجها قتل بيتر الثالث، ولم يكن التمرد مدفوعا على الأقل بغضب الفلاحين على القيادة العسكرية، وعرف الروس القصة من خلال رواية الكسندر بوشكين “ابنة الكابتن”. وفي مرحلة ما يصدر أمير الشعر الروسي تحذيرا مهما “لا سمح الله وشاهدنا تمردا روسيا، لا معنى له ولا يرحم. ومن يتآمر على انقلابات مستحيلة إما من الشباب الذين لا يعرفون شعبنا، أو ناس قساة لا يساوي لهم رأس شخص آخر سوى نصف فلس أو أن رؤوسهم في هذه الحالة، كوبيك” أي فلس في العملة الروسية القديمة.
وتم القبض على غوباتشيف وقطع رأسه علنا وقطع لأربعة أجزاء، واصبح عنوانا للتمردات التي لا معنى لها والفاشلة “بوغاتشوتشينا”. ومن الصعب تخيل سماح بوتين لبريغوجين الإفلات من فعلته، مهما كانت وعوده. وحتى وإن لم يتهم بوتين بريغوجين مباشرة وبالاسم، فعليه تبرير وعده للروس “من ينظمون أو يحضرون لعصيان عسكري ومن يوجهون أسلحتهم ضد رفاقهم، خانوا روسيا وسيحاسبون على هذا”. ويعرف بريغوجين أن زعيم بيلاروسيا مدين لبوتين وبلده ليس ملجأ آمنا. وبالنسبة لفاغنر، فسيظهر بوتين ليونة أكثر، فهو بحاجة لها في أوكرانيا ومناطق أخرى وربما وضعها تحت سيطرة الكرملين. ومهما كان مصيره فلن يغفر لبريغوجين، فقد كشفت انفجاراته عن الخسائر الروسية الفادحة بالحرب والنكسات عبر القيادة السيئة والمعلومات الخاطئة. وسيظل الوضع مستمرا مع دخول الحرب صيفها الثاني، وعندما انسحب المرتزقة من روستوف أون دون هتف ناس “فاغنر، فاغنر” ذلك أن تاريخ روسيا يكشف عن ميل للتعامل مع المتمردين كأبطال، مهما كان حالهم. وقبل قرون، أصبح ديمتري الكذاب المتظاهر الذي تم الاحتفال به في أوبرا “بوريس غودنوف” قيصر روسيا في “زمن المشاكل” مع أنه لم يعمر طويلا
القدس العربي
———————–
فايننشال تايمز: بوتين يحصد ثمار أخطائه ويعيش على حد السكين في أسوأ كابوس
إبراهيم درويش
قالت صحيفة “فايننشال تايمز” إن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين يحصد ثمار أخطاء تقديره، حتى وإن بدا أنه صمد أمام تمرد قائد فاغنر، يفغيني بريغوجين، لكنه بدا ضعيفا. وأشارت إلى أن بوتين نجا من أكثر التهديدات على سلطته في عقدين كزعيم روسي لا ينازع. إلا أن التمرد الذي قاده يفغيني بريغوجين وجماعته شبه العسكرية فاغنر، كشف عن حماقة مغامرة بوتين ضد الجارة أوكرانيا. وتؤكد الصحيفة أن الكرملين عالق في نزاع لا يمكنه الانتصار فيه، وقد ترك أثره الكبير على مستقبل البلاد الاقتصادي، وحوَّلها إلى دولة مارقة للدول الغربية وجلب المتمردين المسلحين إلى داخل حدود البلاد وكانوا على بعد ساعات من العاصمة موسكو.
وقالت الصحيفة في افتتاحيتها إن أصل التمرد يوم السبت والصفقة التي نزعت فتيل الأزمة على ما يبدو، تبدو غامضة، ولكن ليس من الصعب التوصل لنتيجة أن بوتين خرج منها ضعيفا. فقد كانت الحرب في أوكرانيا، ومنذ البداية، تمرينا في سوء التقدير والغطرسة. فقد أساءت مغامرة بوتين الإمبريالية الجديدة تقدير قدرات جيشه، وقللت من تصميم القوات الأوكرانية للدفاع عن البلد إلى جانب المجتمع الدولي الديمقراطي لمعاقبة روسيا اقتصاديا وتوفير الدعم لأوكرانيا.
وأكدت الصحيفة أن الزعيم الروسي فاقم أخطاءه من خلال نقل تعهد الحرب إلى جيش خاص يقوده سجين سابق. وعندما انفجر التوتر بين أمير الحرب البلطجي لفاغنر وجيش الدولة وقيادته الضعيفة فإنه انعكس على بوتين شخصيا. وتشير إلى أن هناك نظرية مؤامرة في روسيا تقترح أن أحداث نهاية الأسبوع كانت مسرح عبث لكي تسمح لبوتين إظهار القوة وإغراء المنافسين الطامحين للكشف عن أنفسهم. وهذا كلام بعيد عن الصحة، فقد بدا الرئيس أنه في مواجهة مع حليف سابق. وفي خطاب تلفزي غير مريح تحدث عن طعنة في الظهر وقارن بشكل مدهش ما يحدث مع انهيار إمبراطورية القيصر في عام 1917.
وتقول الصحيفة إنه تم إقناع بريغوجين بمغادرة روسيا إما عبر التهديد أو الرشوة، وتم هذا عبر تدخل رئيس بيلاروسيا ألكسندر لوكاشينكو، الرجل الذي لم يخف بوتين احتقاره له. ولكن تمرد بريغوجين خرق تابو بشأن تحدي حكم على طريقة رجل المافيا وخرق حجاب مناعته. وبدلا من الاعتماد على الخوف وتدمير معارضيه داخل النخبة بموسكو، فقد لعب بوتين دور الحكم بين الفصائل التي تستطيع التحكم بالأمور، وفي الوقت نفسه حصل على دعم الشعب الروسي. فالرجل الذي قدم نفسه حتى وقت قريب بأنه الزعيم القومي، زعم أن أوكرانيا مثلت تهديدا على روسيا، وذلك عندما شن بوتين حربه ضدها العام الماضي.
وبحسب الصحيفة تقول كييف إنه لا يوجد ما يشي عن تغير مسار الحرب على الجبهة لكن غياب فاغنر وأمير حربها لكي يعبئها قد يحرم القوات الروسية من قوة على الأرض. وربما قاد عدم الاستقرار إلى إضعاف عزيمة الجنود ويمنح أوكرانيا نافذة للقيام بهجوم مضاد. وترى الصحيفة أنه ربما عاد بوتين إلى الأساليب القديمة التي خدمت الاتحاد السوفييتي سابقا: زيادة القمع وخنق الإعلام المستقل وسجن المعارضين المهمين في الغولاغ الجديد. كما أن الاضطرابات هي تذكير بأنه لو أطيح ببوتين يوما ما، فسيكون على يد متشددين مصممين على مواصلة الحرب في أوكرانيا وبطريقة قاسية جدا. وفي الوقت الحالي، يبدو أن الزعيم الذي نظر إليه كمنقذ لروسيا من الفوضى التي عاشتها بعد انهيار الاتحاد السوفييتي، بات يحصد ثمار سوء تقديراته.
وبصحيفة “فايننشال تايمز” نفسها، كتب جدعون رخمان أن بوتين هو المسؤول عن أسوأ كابوس يمر عليه. وقال فيه “قبل 15 شهرا كانت قوات فلاديمير بوتين على أبواب كييف، بينما يكافح الزعيم الروسي اليوم للسيطرة على موسكو”. وبحسب الكاتب كان تمرد بريغوجين هو آخر تأكيد على خطأ الحرب التي شنها بوتين في أوكرانيا و”حتى لو انتصر بوتين في معركته ضد فاغنر، فمن الصعب الاعتقاد أنه سينجو من هذه الإهانة، مكانته وسلطته وحتى حياته في الميزان”. وبرأيه فالمفارقة التاريخية هي أن أفعال بوتين جلبت عليه الخوف الذي يخشاه: تمرد يهدد البلد وسلطته شخصيا. فقد ظل بوتين يخاف من الثورات الملونة في روسيا منذ عشرين عاما، حين بدأت على ما يبدو في أوكرانيا، في إشارة للثورة البرتقالية عام 2004، وهي انتفاضة ديمقراطية شعبية ضد الانتخابات المزورة في أوكرانيا وأدت لخوف الرئيس الروسي والذي زاد عبر السنين. وظل الرئيس الروسي ملاحقا برُهابين مرتبطين، الأول، خروج أوكرانيا بطريقة لا رجعة فيها من قبضة روسيا. أما الثاني، فهو أن ثورة ديمقراطية ناجحة في كييف قد تكون بروفة لأمر مماثل في موسكو.
وبحسب الكاتب فقد كان قراره بغزو أوكرانيا عام 2022 هو جهد لشفط الخطرين، عبر تنصيب نظام ديكتاتوري في أوكرانيا مؤيد لروسيا. ويعتقد الكاتب أنه كعميل استخباراتي سابق يؤمن بنظريات المؤامرة، فقد اقتنع بوتين بأن أصل “الثورات الملونة” سواء في أوكرانيا أو روسيا موجود في واشنطن. وكان رفضه الإيمان بأن لدى الأوكرانيين قدرة وقرار هو سبب سوء تقديره لقوة البلد وصموده أمام الغزو الروسي. وكما أساء تقدير قوة الأوكرانيين، فقد أساء بوتين المخمور بنصر الجيش الأحمر في الأربعينات من القرن الماضي، تقدير قوة روسيا العسكرية. وكان فشل الجيش الروسي سببا في دخول مجموعة فاغنر ومنح بريغوجين قاعدة قوية ومنبرا للدعاية وسمح له في النهاية بالتحول ضد الدولة الروسية. وكان شعار بوتين للروس هو أنه هو الذي أنقذ روسيا من فوضى التسعينات من القرن الماضي.
وبحسب الكاتب فإن ما يحدث الآن هو تذكير بفشل انقلاب المتشددين العسكري ضد ميخائيل غورباتشوف عام 1991، وعندما دفع بوريس يلتسين بنشر الدبابات خارج البرلمان. وفي ذلك الوقت لعب سكان موسكو دورا في الأحداث التي تكشفت أمامهم. وسيكون رد السكان على تمرد بريغوجين مهما وهو الجزء المجهول في القصة.
وبرأي الكاتب ففي رده على تمرد بريغوجين، حاول بوتين استعادة الأيام السوداء في تاريخ روسيا، وهو إن قصد منها إظهار التصميم إلا أنها كشفت عن ضعف. وسيعطي عصيان بريغوجين أملا لمعارضي بوتين في داخل وخارج روسيا. وبالنسبة للجيش الأوكراني الذي فشل في تحقيق أهداف هجومه المضاد فما جرى هو فرصة تاريخية.
ويعتقد الكاتب أنه لو بدأت القوات الروسية تتقاتل فيما بينها وانسحبت من جبهات القتال للدفاع عن بوتين فيمكن للأوكرانيين استعادة شرق أوكرانيا. وبحسبه فعلى أليكسي نافالني وفلاديمير كارا- ميرزا المعارضين السجينين الشعور بأن هناك فرصة وقد يلعبان دورا في الأشهر المقبلة.
ويختم بالقول إنه بالنسبة لبريغوجين، فهو ليس ليبراليا، وخطابه قومي وإمبريالي، وارتبط مجموعته بالوحشية، وقد أطلق العنان لقوى لا يستطيع السيطرة عليها، كبوتين.
———————————-
“نيويورك تايمز”: الخاسرون والرابحون من عصيان فاغنر.. وشكوك في مفهوم بوتين كضامن للاستقرار في روسيا
إبراهيم درويش
نشرت صحيفة “نيويورك تايمز” مقالاً لمدير مكتبها في موسكو، أنطون ترويانوفسكي، قال فيه إن الرئيس فلاديمير بوتين لطالما صوّر نفسه على أنه ضامنُ روسيا للاستقرار، والحامي العنيد لها كدولة. إلا أن الاستقرار الروسي لم يكن حاضراً في نهاية هذا الأسبوع. وكذا بوتين، الذي اختفى عن الأنظار بعد إدلائه ببيان موجز، صباح يوم السبت، خلال التحدي الأكثر دراماتيكية لسلطته في حكمه، الذي دام 23 عاماً.
في غيابه، تُرك الروس المذهولون يتساءلون كيف يمكن لزعيم مجموعة شبه عسكرية، يفغيني بريغوجين، أن ينظّم تمرداً مسلحاً، يوم السبت، يهدد بالوصول إلى موسكو. وأثار أسئلة غير مريحة حول مستقبل الرئيس الروسي: ماذا يعني فشله في منع الثورة لأمنهم، ومدى تحمله؟
فمن جهة، أعرب الروس، الذين تربطهم صلات بالكرملين، عن الارتياح، يوم الأحد، من أن عصيان بريغوجين لم يشعل حرباً أهلية. لكن في الوقت نفسه، اتفقوا على أن بوتين بدا ضعيفاً بطريقة يمكن أن تدوم.
وقال كونستانتين ريمشوكوف، محرر صحيفة “موسكو”، الذي له صلات بالكرملين، في مقابلة هاتفية إن ما كان يبدو في يوم من الأيام لا يمكن تصوره أصبح ممكناً الآن: أن الأشخاص المقربين من بوتين يمكن أن يحاولوا إقناعه بعدم الترشح لإعادة انتخابه في الانتخابات الرئاسية الروسية الربيع القادم. وقال إنه مع أحداث السبت، فَقَدَ بوتين بشكل قاطع مكانته كضامن لثروة النخبة وأمنها.
وقال ريمشوكوف إن فكرة أن “بوتين في السلطة، ويوفر الاستقرار ويضمن الأمن، عانت من إخفاق تام في 24 من الشهر الجاري. إذا كنت متأكداً، قبل شهر، من أن بوتين سيرشح نفسه دون قيد أو شرط لأنه من حقه، فأنا الآن أرى أن النخب لم تعد تشعر بالأمان غير المشروط”.
وتضيف الصحيفة أن “الاستقرار” كان حجّة الكرملين أثناء استفتاء عام 2020 الذي مهّدَ الطريق لبوتين ليخدم فترتين إضافيتين، حتى عام 2036. وأمن الدولة الروسية هو ما يصفه بوتين بأنه دافعه للتوجّه لغزو أوكرانيا.
حتى في خضم الحرب، المستمرة منذ 16 شهراً في أوكرانيا، ركّزَ الكرملين على الحياة الطبيعية في الداخل. قاوم بوتين الدعوات المتشددة لإعلان الأحكام العرفية، أو لإغلاق حدود البلاد. بالنسبة للنخبة، تم تعويض آثار العقوبات الغربية من خلال الفرص التجارية الجديدة لاقتصاد روسيا في زمن الحرب، والسوق المحلي الذي أصبح فجأة خالياً من المنافسة من العديد من الشركات الغربية.
إلا أن تحدي بريغوجين لسلطة الكرملين، في نهاية هذا الأسبوع، قلبَ هذا الحساب رأساً على عقب. أمرَ زعيم مجموعة فاغنر شبه العسكرية، بريغوجين، قواته بالاستيلاء على مقر عسكري روسي في الجنوب، ثم أرسل رتلاً من القوات شمالاً باتجاه موسكو، متعهداً بدخول العاصمة. تم نزع فتيل الأزمة، في وقت متأخر من يوم السبت، عندما وافق بريغوجين على سحب قواته في صفقة سمحت له ولجنوده بتجنب الملاحقة القضائية. وتم تفادي التهديد الفوري، ولكن في هذه العملية، فقدَ بوتين أكثر من سمعته في توفير الاستقرار: حقيقة أن بريغوجين وقواته لم يعاقبوا أضعفت سمعة بوتين كزعيم حاسم لن يتسامح مع عدم الولاء.
وقد تفاقم هذا الانطباع من خلال التقارير الواردة من المدونين العسكريين الروس بأن قوات بريغوجين أسقطت طائرة مقاتلة روسية. كما وصف بوتين بريغوجين بأنه خائن بعد أن أطلق تمرده، وبعد أن شكك زعيم المرتزقة في الأساس المنطقي لبوتين للحرب في أوكرانيا. بدا أن تلك التجاوزات تتلاشى مع الصفقة التي أنهت الأزمة.
وقال الخبراء إن هذا جعل بوتين يبدو أقل سيطرة على الدولة الروسية مما كان معروفاً في السابق. وسارعَ الخصوم الأجانب إلى اقتناص هذا الموضوع.
قال وزير الخارجية أنطوني بلينكين، يوم الأحد، إن تمرد بريغوجين كشف عن تصدعات ظهرت في قبضة بوتين على السلطة. قال بلينكين، في برنامج حواري على شبكة سي بي إس: “لقد كان تحدياً مباشراً لسلطة بوتين”.
كان أحد الجوانب الأكثر إرباكاً للأزمة هو سبب سماح بوتين للصراع العلني للغاية بين بريغوجين ووزارة الدفاع الروسية بالتصعيد لعدة أشهر دون معالجته. كان بريغوجين صريحاً بوقاحة في مهاجمة القيادة العسكرية الروسية والاستخفاف بها. وصف شخصان مقربان من الكرملين، تحدثا شريطة عدم الكشف عن هويتهما لمناقشة قضايا سياسية حساسة، الأزمة بأنها في المقام الأول نتاج نظام حكم مختلّ على وشك الدخول في الفوضى.
لقد تم اتخاذ القرارات بشأن كيفية التعامل مع عصيان بريغوجين بسرعة، يوم السبت، كما قالوا، بعد شهور استمر خلالها الرئيس ودائرته الداخلية في التأجيل بدلاً من إيجاد طريقة للتعامل مع رئيس المرتزقة المتمرد.
قال كونستانتين زاتولين، عضو البرلمان البارز في حزب “روسيا المتحدة” الذي يتزعمه بوتين، في مقابلة: “كانت هذه قضية مهملة إلى حد ما”. واستطرد قائلاً إن الخطر الذي يمثله بريغوجين “لم يتم تشخيصه في الوقت المناسب، ربما على أمل أن يحل الأمر بنفسه”.
وجادل زاتولين بأن بوتين قد وفّرَ، في النهاية، الاستقرار، لأنه بارك صفقة لإنهاء العصيان وتجنّب معركة ضارية خارج موسكو. لكنه أقر بأن الدراما لا تجعل أي شخص يبدو جيداً، “لا تضيف إلى سلطة أي شخص”.
وقال زاتولين: “هذا دليل على وجود مشكلة. وفي وقت الحرب لإظهار المشاكل بشكل علني.. هذا ضار بالطبع”.
وعلق سيرغي ماركوف، المحلل السياسي والمستشار السابق في الكرملين، إنه بالنسبة لبوتين نفسه، فإن التمرد يمكن أن يؤدي إلى “أزمة وجودية”، وأضاف ماركوف: “ما كان يفتخر به دائماً هو صلابة الدولة الروسية والاستقرار السياسي. هذا ما أحبوه من أجله. واتضح أنه غير موجود”.
من المؤكد أن هناك طرقاً أثبت نظام بوتين من خلالها مرونة ملحوظة. لم تؤد العقوبات إلى انهيار الاقتصاد، أو دفع كبار رجال الأعمال الروس إلى الانقلاب على الكرملين. لقد أدت آلة دعاية متطورة، وقمع شرس، إلى إسكات المعارضة العامة حول الحرب، على الرغم من الخسائر البشرية الهائلة.
من خلال هذا المنطق، يرى بعض الخبراء أنه سيكون من السابق لأوانه التنبؤ بزوال النظام.
وقالت هانا نوت، الزميلة غير المقيمة في مركز الدراسات الإستراتيجية والدولية: “ما رأيناه بالأمس بدا لنا، كمراقبين غربيين، مختلاً ودراماتيكياً. ولكن هذه الدرجة من الاختلال الوظيفي يمكن أن تكون دائمة للغاية في نظام كهذا”.
الفائز والخاسر
وفي تقرير آخر كتبه نيل ماكفرهار أثار أسئلة حول غياب القيادة الروسية، من بوتين إلى وزير الدفاع سيرغي شويغو، أو فاليري جيراسيموف، قائد القوات الروسية في أوكرانيا.
وكتب يوري كوتينوك، المدون المؤثر، وواحد من القلة التي ظهرت كصوت ناقد للحرب: “أين كانت قيادة وزارة الدفاع عندما كانت الوحدات العسكرية تتقدم نحو موسكو؟”. وقال الكاتب إن الضرر قد حصل حتى بعد وقف بريغوجين تمرده، فقد انتقد القيادة العسكرية الروسية، وهاجم مبررات الكرملين للحرب في أوكرانيا، في وقت راقب الروس والعالم رتلاً من الدبابات تتقدم نحو موسكو من دون مقاومة، ومشكلة تهديداً لبوتين، ومثيرة منظور حرب أهلية.
وقالت تاتانيا ستانويافا، مؤسسة شركة أر بوليتك: “تعرض بوتين والدولة لضربة قوية”. وقالت إن بريغوجين قرر التخلي عن مساره بعدما وصفه حليفه بوتين بأنه طعنه بالظهر، ولاكتشافه أنه لا يستطيع لعب دور الثوري، و”لم يكن جاهزاً لأن وصول فاغنر موسكو مع خيار وحيد هو السيطرة على الكرملين، تحرك كان سيؤدي لمحوه وجنوده”.
وكشف تحليل لفيلترلابس.إي أي، وهي شركة ترصد المشاعر العامة في روسيا على منصات التواصل الاجتماعي، أن بريغوجين تعرّضَ لحملة دعائية من الكرملين، ومنع الوصول إلى المنصات التي يستخدمها على تيلغرام.
وجاء في التحليل: “من أجل نجاح حملة بريغوجين وفاغنر كان يجب عليه الحصول على دعم واسع في موسكو”، و”لم ينجح رغم قاعدة دعمه وحملته الإعلامية”، وبدلاً من ذلك تم التوصل لصفقة. فقد سمح لمقاتليه بالذهاب إلى بيلاروسيا، وأسقطت عنهم وعن بريغوجين الملاحقة القانونية، إلى جانب عدم حدوث أي تغيير في القيادة العسكرية، كما طلب ومواصلة العمليات في أوكرانيا كالمعهود. وكان الرئيس البيلاروسي الكسندر لوكاشينكو، الذي نزع فتيل الأزمة، يساعد نفسه وراعيه. ويقول بافيل سلونكين، الدبلوماسي البيلاروسي السابق: “خسر بوتين لأنه كشف عن ضعف النظام، وأنه يمكن تحديه بسهولة”، أما “بريغوجين فقد تحدى، وبدا قوياً وجريئاً ثم تراجع، والوحيد الذي حصل على أهداف هو لوكاشينكو”.
وقالت الصحيفة إن التمرد، وإنْ أُحبط، إلا أنه سيؤثر على موقف روسيا عالمياً، حيث سيحاول الشركاء مثل الصين إعادة النظر في قوة بوتين. وبدا بريغوجين صامتاً، يوم الأحد، حيث أخبر متحدث باسم مؤسسة إعلامية مستقلة أنه سيبدأ بالرد على الإعلام قريباً، لكن لا يعرف كيف سيكون آمناً في بيلاروسيا، في ضوء سجل بوتين بملاحقة معارضيه الذين خانوه سواء في روسيا أو خارجها.
وللتأكيد على هذا بثَّ تلفزيون فيستي نيدلوا، التابع للكرملين لقطة قديمة، قال فيها بوتين إن الشيء الوحيد الذي لا يمكنه معرفته هو “الخيانة”.
ودعا ضيف على برنامج حواري إلى إعدام بريغوجين والمتآمرين معه. كما أن طموحات بريغوجين العسكرية قد تتعارض مع لوكاشينكو الذي حاول إبعاد بلده عن الحرب. ويقول المحلل السياسي البيلاروسي ديمتري بولكونيتس: “سيكون خطراً على لوكاشينكو استضافة فاغنر في روسيا”، فمن ناحية بريغوجين يريد إمبراطورية ويدعم الحرب، أما لوكاشينكو فيخاف من الإمبراطورية.
——————————
واشنطن بوست: تساؤلات من النخبة في موسكو حول صفقة بوتين مع بريغوجين
إبراهيم درويش
نشرت صحيفة “واشنطن بوست” تقريرا أعدته كاثرين بيلتون قالت فيه إن التمرد الذي قاده زعيم مجموعة فاغنر هز ثقة النخبة الروسية بقوة الرئيس فلاديمير بوتين. وقالت إن التحدي الأقوى لسلطة بوتين الذي يحكم منذ 23 عاما لا يزال يتردد صداه داخل النخبة بموسكو وسط تساؤلات عن فقدان الرئيس الروسي السيطرة على الحكم ولو للحظة قصيرة. وعندما تحدث بوتين يوم الإثنين للأمة بعد فوضى نهاية الأسبوع، شكر السكان على “الوحدة والوطنية” التي أظهروها وكشفهم أن “أي محاولة للتسبب باضطرابات داخلية محكوم عليها بالفشل”.
إلا أن العصيان الذي قاده زعيم المرتزقة يفغيني بريغوجين هز الصورة التي رسمت بدقة وظلت حجر الأساس لرئاسة بوتين وهو أنه يمثل الاستقرار والقوة.
وهناك عدة من بين النخبة العليا ورجال الأعمال يتساءلون إن كان سيتعافى من هذه الضربة، بل واقترح بعضهم أن البحث عن بديل لبوتين بدأ الآن.
وقال رجل أعمال مؤثر في موسكو “كشف بوتين للعالم وللنخبة بأنه لا أحد وغير قادر على عمل أي شيء”، مضيفا “إنه انهيار كامل لسمعته”.
وقال مسؤول روسي قريب من الدوائر الدبلوماسية العليا “هناك ألعاب تلعب ولا يفهمها أحد” و”حصل فقدان للسيطرة على البلد وإن كان جزئيا”.
وتعلق الصحيفة أن أعضاء النخب في موسكو يتساءلون عن قدرة قوة منشقة مثل مرتزقة فاغنر السيطرة على مركز القيادة والتحكم العسكري للحرب في أوكرانيا بمدينة روستوف أون دون بجنوب روسيا بدون أية مقاومة وثم التقدم نحو العاصمة قبل أن يأمر بريغوجين قواته بالعودة إلى الوراء.
وقال مقرب لملياردير في موسكو “كيف استطاعوا قيادة الدبابات ولمئات من الكيلومترات شمالا باتجاه موسكو ولم يتم وقفهم”. وقال ميلياردير روسي، رفض مثل غيره الكشف عن هويته “عندما يكون لديك رتل من آلاف الأشخاص يزحفون ولم يوقفهم أحد، فمن الواضح أن هناك فقدانا للسيطرة”.
وأكد بوتين في خطابه أنه أمر باتخاذ كل الإجراءات لمنع سفك الدماء وأكد على أهمية منح الوقت لمن ارتكبوا أخطاء وكي يعترفوا أن أفعالهم تم رفضها وبحزم من المجتمع وأن ما يفعلونه سيقود إلى “تداعيات تراجيدية ومدمرة على روسيا”. إلا أن الأسئلة مستمرة حول السماح لبريغوجين، المقرب من بوتين منذ التسعينات من القرن الماضي الإفلات من العقوبات على شن تمرد وقتل قواته جنودا روس بعد إسقاط طائرات ومروحيات، حسب مدونين عسكريين روس. فبعد سحبه قواته انتقل إلى بيلاورسيا حيث يخطط حسب تسجيل صوتي له يوم الإثنين لمواصلة عمله على رأس مجموعة فاغنر.
وقال رجل الأعمال الأول في موسكو: “كان يجب فتح قضية إرهاب، فهذه جرائم خطيرة” و”مرة أخرى لم يتم عمل أي شيء”. وأكد بريغوجين في تسجيله الصوتي وهو الأول منذ عصيانه الفاشل أنه كان يحاول الحفاظ على مرتزقة فاغنر ولم يكن يريد بأي حال الإطاحة ببوتين. وقال إنه خشي من دمج المجموعة في الجيش الروسي والتأكد من معاقبة من ارتكبوا “أخطاء فادحة” في أوكرانيا.
وكشفت هجمات زعيم فاغنر ضد القيادة العسكرية والمستمرة منذ عدة أشهر عن الانقسامات العميقة داخل النخبة الروسية وطريقة إدارة بوتين للحرب وسياسات الرئيس الروسي بشكل عام. وقال المستشار المقرب من الكرملين سيرغي ماركوف إن الأحداث في الأيام الماضية “تظهر أن البلد لا يسير في الاتجاه الصحيح” و”إذا لم يتغير شيء فسيحدث هذا مرة ثانية بالتأكيد”.
واقترح رجلا أعمال في موسكو أن بريغوجين لم يكن ليستطيع التقدم في الطريق نحو العاصمة بدون أي عائق بدون أن يحصل على دعم جزء من الخدمات الأمنية له. ولم تفعل القوات الشيشانية التي أرسلت إلى روستوف أون دون أي شيء على ما يبدو. أما القوات التي أرسلت لمواجهة مقاتلي فاغنر على الطريق لموسكو فقصفت محطة وقود في روستوف وتركت أخرى أكبر منها في فورونيج، ولم تضرب القوات الروسية هذه سوى جسر واحد لإبطاء تقديم المتمردين. وقال رجل الأعمال: “لقد كانوا يحاولون الظهور أمام الرئيس بأنهم يفعلون شيئا ولكنهم لم يفعلوا في الحقيقة أي شيء، ولم يكن الرئيس الروسي يسيطر على أي شيء”.
وأضافت الصحيفة أن معركة بريغوجين مع القيادة العسكرية الروسية ربما كانت صورة عن صراع عميق داخل الأجهزة الأمنية الروسية بشأن مستقبل الرئاسة في روسيا. والأكثر أهمية وتحديدا لمصيره، هو قراره عقد صفقة مع زعيم المتمردين بدلا من مواجهة معركة دموية لو وصل مقاتلو فاغنر إلى موسكو، حيث كانت القوات الخاصة تحضر للدفاع عن العاصمة.
وقالت تاتانيا ستانوفايا، مؤسسة “أر بوليتك” ومقرها باريس “بالنسبة للنخبة فهذا إشكالي، لأنه من وجهة النظر المرئية، فإن بوتين بدا ضعيفا وبدا كشخص خائف وأجبر على تقديم تنازلات”. و”من وجهة النظر الموضوعية، خرج بوتين ناجحا، فالخيارات الأخرى كانت معركة دموية في ضواحي موسكو والتي ستكون أسوأ”. إلا أن الأسئلة تظل باقية حول محاولة أي من الطرفين للتخلي عن الالتزامات في الاتفاق، مع أن تمرد بريغوجين كشف عن مكامن ضعف كثيرة في النظام، كما تقول ستانوفايا و”سيحاول بوتين تغطية نقاط الضعف”.
وهناك من يقول إن ساعة النهاية لحكمه بدأت تدق، وهناك البعض في الكرملين “يبحثون عن خليفة ولو طال البحث فربما وجد البعض شخصا لهم” كما يقول مسؤول في الكرملين مقرب من الدوائر الدبلوماسية العليا. وقال إن الأوكرانيين يحاولون الاستفادة من الفوضى في موسكو واستعادة مناطق في حملتهم المضادة “تدفع أوكرانيا أماما باتجاه دينبرو وخيرسون وباخموت”.
في عام 1917 حدثت الثورة وخسرت روسيا الحرب العالمية الأولى وسقط النظام. “وفي 1991 خسرت روسيا الحرب في أفغانستان وسقط النظام، ولو خسرنا الحرب في أوكرانيا فسيسقط النظام ولن يكون بمقدورنا استعادته”.
———————–
ثنائيات بوتين: ذعر في موسكو ومجازر في إدلب
رأي القدس
شنّ الطيران الحربي الروسي سلسلة غارات على مناطق في شمال غربي سوريا، أسفرت عن مقتل 13 مواطناً بينهم أطفال، بالنظر إلى أن القصف استهدف سوقاً للخضار والفواكه في مدينة جسر الشغور وأحياء سكنية ومسجداً شرق مدينة إدلب، وأن هذه الفترة تشهد اكتظاظاً في حركة السكان المدنيين بقصد التبضع استعداداً لعيد الأضحى. ونشرت منظمة «الخوذ البيضاء» صوراً مروعة لمشاهد القصف وعمليات الإسعاف والإنقاذ، واعتبر الدفاع المدني السوري أن الغارات ترقى إلى مستوى المجزرة وجريمة الحرب، وأنها الأعنف والأشد وحشية لهذا العام.
والقصف الروسي الأخير لا يخرج عن منهج اعتمدته القوات الروسية منذ تدخلها العسكري المباشر في خريف 2015 لصالح نظام بشار الأسد، وأن معدلات شدّته بقيت مرتهنة بسياقات سياسية وأمنية ذات صلة بأوضاع الشمال السوري عموماً، ومناورات موسكو مع أنقرة وما يتحرك أو يركد في مفاوضات سوشي أو استانا، فضلاً عن ولاءات ما تبقى للنظام السوري من مجموعات عسكرية ترتبط في قليل أو كثير مع إيران أو روسيا أو الميليشيات المذهبية المختلفة.
لكن توقيت الغارات الأخيرة يصعب أن ينفصل عن التأزم الذي واجهه الكرملين في أعقاب تمرد مرتزقة «فاغنر» وزحفها نحو موسكو، وحالة الذعر غير المسبوقة التي عصفت بسائر روسيا وتجلت في تفعيل قانون مكافحة الإرهاب ورفع سنّ التعاقد مع وزارة الدفاع إلى 70 سنة والسماح بتجنيد السجناء في الخدمة العسكرية. الصلات الأولى، بين الإغارة على مناطق في إدلب السورية وبين الاضطراب الذي خيم على مدينة روستوف والعاصمة موسكو ذاتها، لا تخفى من حيث القاعدة الحربية العتيقة التي تلحّ على رفع معنويات الجيوش أينما توفّر ذلك وكيفما كانت الوسائل.
ليست خافية أيضاً منهجية الكرملين في تحويل قصف أسواق الخضار والمستوصفات والمدارس والمساجد والمخيمات إلى وسيلة ضغط متعددة الأبعاد تستهدف إبقاء السكان المدنيين في حال دائمة من الخوف وانعدام الاستقرار ودفعهم إلى النزوح من جهة أولى، والمقايضة مع تركيا في ملفات متعددة بينها تسريع المصالحة مع النظام السوري واختراق التفاهمات التركية مع القوات الأمريكية شرق الفرات من جهة ثانية. هذا عدا عن مسعى روسي دائم لاستعادة السيطرة على الطريق الدولي M4 الذي يربط بين حلب واللاذقية، والطريق الدولي الثاني M5 الواصل بين حلب وحماة ودمشق.
ورغم حرص الكرملين على إشاعة مبدأ الفصل بين التدخل في سوريا واجتياح أوكرانيا، فإن الكثير من المعطيات تعاقبت على نحو يكرس ذلك الارتباط وعلى مستويات عالية الدلالة، بين أوضحها نقل الجنرال سوروفيكين من قيادة القوات الروسية في سوريا إلى رئاسة أركان الجيش الروسي في دونباس جنوب شرقي أوكرانيا، وتجنيد مئات من المرتزقة السوريين للقتال في أوكرانيا، إضافة إلى انتشار «فاغنر» في مناطق مختلفة داخل سوريا حيث لا يقتصر عديدهم على الروس فقط بل ينخرط معهم مرتزقة سوريون أيضاً.
وبين الذعر في موسكو والمجازر الوحشية في إدلب، لن يكون غريباً أن يُكتب أحد فصول تمرّد يفغيني بريغوجين في سوريا.
—————————-
بريغوجين: لم نرد الإطاحة بالنظام ولذلك أوقفنا التقدم نحو موسكو… ونأسف لاضطرارنا لإسقاط طائرات روسية
اعتبر رئيس فاغنر، يفغيني بريغوجين، أمس الإثنين، أن تقدم مجموعته نحو موسكو قبل يومين كشف “مشاكل خطيرة في الأمن” في روسيا، مؤكدًا أن رجاله قطعوا مسافة 780 كيلومترًا دون أن يواجهوا أي مقاومة تُذكر.
وقال: “كشفت المسيرة مشاكل خطيرة في الأمن في هذا البلد”. وكشف أن رجاله توقفوا “على بُعد 200 كيلومتر من موسكو”. ولفت إلى أن تراجع قواته يعود إلى أنه لم يرد “إراقة الدماء الروسية (…) والإطاحة بالنظام في البلد”.
وأكّد أن رجاله حظوا بتأييد من سكان البلدات التي عبروها خلال تمردهم في روسيا، قائلًا: “كانوا يستقبلوننا بأعلام روسية وشعارات فاغنر، كانوا سعداء حين وصلنا ومررنا الى جانبهم”. وأضاف: “كان هدف التحرّك عدم السماح بتدمير مجموعة فاغنر ومحاسبة أولئك الذين ارتكبوا، من خلال أفعالهم غير المهنية، عددًا كبيرًا من الأخطاء خلال العملية العسكرية الخاصة” في أوكرانيا. وتابع: “أظهرنا مستوى عاليًا من التنظيم يجب أن يكون على مستوى الجيش الروسي”.
وكرّر أن مقاتلي فاغنر أسقطوا طائرات تابعة لسلاح الجو الروسي، وهو ما لم تؤكده موسكو. وقال: “نأسف لاضطرارنا لإطلاق النار على سلاح الجو، لكنهم كانوا يلقون بالقنابل والصواريخ علينا”.
لم يكشف بريغوجين عن مكان وجوده، فيما أكّد الكرملين أنه سيذهب إلى بيلاروسيا.
في المقابل، أعلن بريغوجين، الإثنين، أن الرئيس البيلاروسي ألكسندر لوكاشنكو، الذي كان وسيطا السبت بين الكرملين والمجموعة، اقترح حلولًا لإفساح المجال أمام فاغنر لمواصلة نشاطها.
وفي الأثناء، قال وزير الخارجية الروسي، سيرغي لافروف، إن الاستخبارات الروسية تحقق في ما إذا كانت أجهزة الاستخبارات الغربية ضالعة في محاولة التمرد. وقال لافروف في تصريحات نقلتها قناة “روسيا اليوم”: “من الواضح أن ماكرون لمس في محاولة التمرد الفاشلة فرصة قد تحقق التهديد بالهزيمة الاستراتيجية لروسيا”. وأضاف أن “العديد من وزراء الخارجية أعربوا عن تضامنهم مع روسيا الاتحادية على خلفية أحداث محاولة التمرد في 24 يونيو (حزيران الجاري)، لكن بعضهم طلبوا منا عدم الإعلان عن مكالماتهم معنا”. ولفت لافروف أن مسؤولين أمريكيين “اتصلوا بمسؤولين روس وبحثت معهم محاولة التمرد الفاشلة واعتبرت ذلك شأنا داخليا”. وقال إنهم “أرسلوا إشارات إلى ممثلي روسيا الاتحادية بأن واشنطن لا علاقة لها بمحاولة التمرد ومهتمة بسلامة الأسلحة النووية”.
وأكد الوزير الروسي أن محاولة التمرد الفاشلة لن تخلق صعوبات في علاقات روسيا الاتحادية “مع الأصدقاء”.
أما الرئيس الأمريكي، جو بايدن، فاعتبر أنه ما زال “من المبكر جدًا” التوصل إلى استنتاجات حاسمة. وقال للصحافيين: “اجتمعت أيضًا بحلفائنا الرئيسيين في مكالمة فيديو عبر تطبيق زوم”، مضيفًا “اتفقنا على وجوب ألّا نعطي (الرئيس الروسي فلاديمير) بوتين أي مبرر (…) لإلقاء اللوم على الغرب وحلف شمال الأطلسي في ذلك”.
وشهدت خطوط الجبهة الروسية الأوكرانية ظهورين لافتين، أولهما كان لوزير الدفاع الروسي سيرغي شويغو وهو يتحدث إلى الضباط، ويتفقد الجنود في أوكرانيا. وهي المرة الأولى التي يظهر فيها علنا منذ التمرد. وثانيهما كان ظهور الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي في مقطع فيديو نشره مكتب الرئاسة وهو يمنح جوائز لجنود في موقع لم يكشف عنه.
وأعلنت السلطات عن إنهاء العمل “بنظام عمليات مكافحة الإرهاب” الذي يمنح قوات الأمن سلطات موسعة في منطقة موسكو وفورونيج جنوب العاصمة حيث دخلت وحدات فاغنر ووقع تبادل لاطلاق النار.
وهو اجراء اتخذ “في غياب تهديدات على حياة” السكان، بحسب رئيس بلدية موسكو سيرغي سوبيانين الذي شكر السكان على “هدوئهم وتفهمهم”.
وذكرت صحيفة “ة أف أس بيون التحقيق في القضية، وذلك نقلا عن المحققين. كما ذكرت وكالة انترفاكس الورسية للأنباء نقلا عن مصدر لها لم تحدده “”.
————————————
السلطات الروسية تسقط التهم الموجهة لبريغوجين ومقاتلي فاغنر
موسكو: أعلنت السلطات الروسية الثلاثاء، إسقاط الملاحقات في حق مجموعة فاغنر بقيادة يفغيني بريغوجين التي أحدث تمردها الذي استمر 24 ساعة نهاية الأسبوع الماضي، بلبلة في الكرملين.
وقال جهاز الأمن الفدرالي (أف أس بي) الذي أوردت بيانه وكالات الأنباء الروسية “ثبُت” أن المشاركين في التمرد “وضعوا حدا لتحركاتهم الهادفة بوضوح لارتكاب جريمة”. وأوضح الجهاز أنه نظرا إلى هذه الظروف “تقرر وقف الملاحقات في 27 حزيران/ يونيو”.
كما أعلنت وزارة الدفاع الروسية اليوم، أن ثمة “تحضيرات” جارية لنقل المعدات العسكرية “الثقيلة” لمجموعة فاغنر إلى الجيش.
وقالت الوزارة في بيان: “هناك تحضيرات جارية لنقل المعدات العسكرية الثقيلة لفاغنر إلى وحدات من القوات المسلحة لروسيا الاتحادية”.
في غضون ذلك، سافرت طائرة من طراز “إمبراير ليغاسي 600” المسجلة في روسيا، والمرتبطة بيفغيني بريغوجين إلى روسيا البيضاء قادمة من روسيا اليوم الثلاثاء.
ومن المفترض أن ينتقل بريغوجين إلى روسيا البيضاء بموجب اتفاق توسط فيه رئيسها ألكسندر لوكاشينكو يوم السبت لوقف تمرد مقاتلي مجموعة فاغنر.
وأظهر موقع “فلايت رادار 24” أن الطائرة التجارية سافرت إلى روسيا البيضاء في وقت مبكر اليوم الثلاثاء. وغادرت الطائرة منطقة روستوف الساعة 02:32 بتوقيت غرينتش وبدأت في الهبوط الساعة 04:20 بتوقيت غرينتش بالقرب من مينسك. ولم يتضح ما إذا كانت هبطت بالفعل.
وتتطابق رموز تعريف الطائرة مع تلك الخاصة بالطائرة التي تربطها الولايات المتحدة بشركة أوتولكس ترانسبورت التي يربطها مكتب وزارة الخزانة الأمريكية لمراقبة الأصول الأجنبية ببريغوجين.
ولم يظهر “فلايت رادار 24” من أين انطلقت الطائرة، لكنه كشف أنها كانت تحلق فوق منطقة روستوف بجنوب روسيا.
وقال بريغوجين خلال تمرد يوم السبت، إن رجاله سيطروا على مدينة روستوف، مركز التموين والإمداد الرئيسي للعمليات العسكرية الروسية في أوكرانيا.
وشوهد بريغوجين (62 عاما) لآخر مرة وهو يغادر المقرات العسكرية في روستوف. ولم يُعرف مكان وجوده منذ ذلك الحين.
من جهته، رأى الرئيس البيلاروسي ألكسندر لوكاشينكو أن التوتر الذي كان قائما منذ فترة بين الجيش الروسي ومجموعة فاغنر، لم يُعالج كما يجب.
وأكد لوكاشينو في تصريحات أوردتها وسائل الإعلام الرسمية: “تجاهلنا المشكلة واعتبرنا أنها ستختفي من تلقاء ذاتها لكن الأمر لم يحصل.. لا أبطال في هذه الحالة”.
(وكالات)
———————-
بوتين: جيش وشعب روسيا لم ينحازا للمتمردين
موسكو: قال الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، اليوم الثلاثاء، أمام نحو 2500 من أفراد قوات الأمن والحرس الوطني والجيش إن شعب روسيا وقواتها المسلحة وقفا كتفا بكتف أمام التمرد الفاشل لمجموعة فاغنر العسكرية الخاصة يوم السبت.
وكان وزير الدفاع سيرغي شويغو من بين الحضور أثناء خطاب بوتين الذي ألقاه في ساحة بمجمع الكرملين، وكانت إقالته من بين مطالب مقاتلي فاغنر أثناء تمردهم وزحفهم نحو موسكو.
وطلب بوتين من الحضور الوقوف دقيقة صمت حدادا على طيارين روس قتلوا أثناء التمرد.
وقال بوتين إن موسكو دفعت العام الماضي ما يزيد قليلاً عن مليار دولار لمجموعة فاغنر المسلحة.
وقال بوتين خلال اجتماع متلفز مع سلطات إنفاذ القانون “دفعت الدولة لمجموعة فاغنر 86,262 مليار روبل (حوالي مليار دولار) كرواتب للمقاتلين ومكافآت تحفيزية بين أيار/مايو 2022 وأيار/مايو 2023 فقط”.
في السياق، نقلت وكالة الإعلام الروسية عن فيكتور زولوتوف رئيس الحرس الوطني الروسي قوله اليوم الثلاثاء إن الحرس سيُجهز بأسلحة ثقيلة ودبابات بعد أن كانت وحداته على وشك الدفاع عن موسكو في مواجهة المتمردين المدججين بالسلاح.
ونقلت وكالة تاس الروسية للأنباء عن زولوتوف قوله إن مقاتلي مجموعة فاغنر العسكرية الروسية الخاصة، الذين نفذوا تمردا قصير الأمد في مطلع الأسبوع، ما كانوا ليستطيعوا السيطرة على موسكو حتى لو وصلوا إليها.
(رويترز)
———————————
تمرد بريغوجين:واشنطن علمت مسبقاً..وموسكو هددت عائلات قادة فاغنر
أعلن البيت الأبيض أن دبلوماسيين أميركيين تواصلوا مع نظرائهم الروس “بشكل آني” لمناقشة المخاوف الأمنية أثناء تمرّد مجموعة فاغنر.
وقال الناطق باسم مجلس الأمن القومي الأميركي جون كيربي إن “عدم الاستقرار في روسيا أمر، كما تعرفون، نأخذه على محمل الجد وبالتأكيد كان لدينا العديد من الأسئلة خلال نهاية الأسبوع”. وتابع: “أجرينا وتمكنا من إجراء، بشكل آني وعبر القنوات الدبلوماسية، محادثات مع المسؤولين الروس بشأن مخاوفنا”.
ولفت كيربي إلى أن المسؤولين الأميركيين يواصلون متابعة الموقف النووي لموسكو “عن كثب” خلال غزو القوات الروسية لأوكرانيا. وقال إنه “لا يوجد مؤشر” على أن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين يتحرّك “باتجاه” استخدام أسلحة نووية أو “أي شيء سيدفعنا لتغيير موقفنا الرادع”.
معلومات أميركية
وأفادت شبكة “سي إن إن” الأميركية بأن الاستخبارات الأميركية تمكنت من جمع معلومات دقيقة للغاية مسبقاً عن خطط قائد مجموعة فاغنر يفغيني بريغوجين، بما في ذلك أين وكيف كانت المجموعة تخطط للتقدم في تحركها العسكري.
وقالت مصادر الشبكة إن المعلومات الاستخباراتية كانت مقيدة للغاية، لدرجة أنه تمت مشاركتها مع عدد محدود من الحلفاء بما في ذلك كبار المسؤولين البريطانيين، وليس على مستوى حلفاء شمال الأطلسي (ناتو).
وذكرت المصادر أن بريغوجين قرر المضي قدما في خطته بعد إعلان وزارة الدفاع الروسية في 10 حزيران/يونيو، إجبار جميع الشركات العسكرية الخاصة -بما في ذلك فاغنر- على توقيع عقود مع الجيش الروسي بدءاً من مطلع تموز/يوليو.
وقال مسؤولون، بحسب “سي إن إن”، إنه لم يتم إخبار المسؤولين الأوكرانيين بشأن المعلومات الاستخباراتية بشكل مسبق، ويرجع ذلك في المقام الأول إلى المخاوف من إمكانية اعتراض المحادثات بين المسؤولين الأميركيين والأوكرانيين من قبل روسيا.
من جهتها، قالت الخارجية الأميركية إنه ليس لدى واشنطن أي تقييم لما سيحدث لمجموعة فاغنر، سواء في أوكرانيا أو في أي مكان آخر. وأكدت عدم ضلوع الولايات المتحدة في الأحداث التي شهدتها روسيا.
وقال المتحدث باسم وزارة الخارجية ماثيو ميلر إن ما حدث يعد شأناً داخلياً، مؤكداً إجراء بلاده اتصالات مع المسؤولين الروس في هذا الشأن.
تسليم بريغوجين
لكن ميلر قال إن الولايات المتحدة تود أن ترى حل جماعة فاغنر. وأضاف أن واشنطن ستسعى لتسليم بريغوجين لها في حال وصوله إلى أراضي أي بلد يوجد لدى الولايات المتحدة اتفاقية تبادل المطلوبين معه. وتابع: “لا توجد لدينا اتفاقية تسليم المطلوبين مع روسيا أو بيلاروسيا… ولكن أتوقع أننا سنحاول محاسبته في حال ظهوره في دولة توجد لدينا اتفاقية التسليم معها”.
وقاد بريغوجين السبت، قواته للسيطرة على مدينة روستوف، ثم واصل التقدم شمالاً نحو موسكو، قبل أن يعلن الانسحاب “حقناً لدماء الجنود الروس” وفق تصريحاته.
لكن مصادر أمنية بريطانية أبلغت صحيفة “تلغراف” أن أجهزة الاستخبارات الروسية هددت عائلات قادة مجموعة فاغنر، قبل إعلان قائد المجموعة الانسحاب وعدم مواصلة الزحف نحو موسكو، بعد السيطرة على مدينة روستوف.
وأشارت الصحيفة إلى أن المجموعة تتألف من نحو 8 آلاف مقاتل وليس 25 ألفاً كما زعمت من قبل، وإنها كانت ستواجه هزيمة محتملة عند أي محاولة للاستيلاء على العاصمة الروسية. وقالت إن هذا التحليل يطرح سبباً محتملاً لإلغاء الزحف نحو موسكو قبل ساعات فقط من الوصول إليها.
وأضافت أن بوتين سيسعى الآن لإدماج مقاتلي المجموعة في الجيش الروسي والتخلص من قادتها السابقين.
—————————-
“فاغنر” بعد محاولة التمرد العسكري.. نهاية دور أم إعادة تأهيل؟/ فهيم الصوراني
موسكو- كما بدأ سريعا، انتهى كذلك سريعا تمرّد قائد مجموعة “فاغنر” يفغيني بريغوجين، الذي جاء معاكسًا لكل السيناريوهات التي قدمها المراقبون الروس والأجانب على حد سواء فيما يخص التطورات المحتملة للأزمة التي استفحلت تدريجيًا بين هذه المجموعة ووزارة الدفاع.
واستبعدت التقديرات تطور الصدام بين الطرفين ضمن السياق الذي أخذه التمرد العسكري المفاجئ، وتضمّن وضع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في زاوية المتهمين بالتهاون في عدم حسم الخلاف.
بيد أن انتهاء الأزمة خلال ساعات قليلة بعد دخول رئيس بيلاروسيا ألكسندر لوكاشينكو على خط الأزمة، طرح تساؤلات إستراتيجية تتعلق بمرحلة ما بعد انتهاء التمرّد، لما لذلك من أهمية متعددة الأوجه تتناول من بين أمور عدة:
وجاء خطاب بوتين -أمس الاثنين- إلى الشعب الروسي ليضع النقاط على الحروف بخصوص مستقبل عناصر المجموعة، إذ خيّرهم ما بين توقيع عقود مع وزارة الدفاع، أو “العودة إلى البيوت” أو التوجه إلى بيلاروسيا، فهل تمثل الصفقة المعلنة نهاية فعلية لهذه الأزمة داخل روسيا؟
ورغم تأكيد مكتب المدعي العام الروسي بأن القضية الجنائية المرفوعة ضد بريغوجين بسبب مسؤوليته عن تنظيم التمرّد المسلح لم تُغلق بعد، إلا أن مراقبين روسا يعتبرون أن الأزمة المتصلة بـ “فاغنر” ككل قد تكون انتهت من حيث وقف التهديد المسلح للمجموعة وإمكانية تكرار ما حدث.
“فاغنر” تستعد لمغادرة روستوف وقد خيرها بوتين بين التعاقد مع جيشه أو المغادرة إلى بيلاروسيا (الأوروبية)
نسخ جديدة ودور جديد
حسب مدير مركز التنبؤات السياسية دينيس كركودينوف، سيكون هناك 3 نسخ من “فاغنر”:
الأولى ستنضم إلى قوات وزارة الدفاع.
الأخرى ستحل نفسها، لكنها لن تتعرض للملاحقة بانتظار استيضاح الصورة.
الثالثة -الأبرز- ستعيد تأهيل نفسها ضمن الواقع الجديد.
وبرأيه، لن يتم بعد الأحداث الأخيرة إقرار قانون الشركات العسكرية الخاصة في روسيا، وستبقى فيما يسمى المنطقة الرمادية، باعتبار أن هذه الشركات “للاستخدام الخارجي” وليس لمسائل تتعلق بالشأن الداخلي.
ويرى كركودينوف أن “فاغنر الثالثة” ستعيد بناء نفسها على أساس هياكل مهام خاصة في أفريقيا وآسيا وربما أميركا اللاتينية، معتبرا أن ما “أقوى جيش خاص في العالم” سيكون قادرا على إبرام العقود مع عشرات الحكومات في جميع أنحاء العالم، لتصبح هذه المجموعة واحدة من أكبر الشركات العالمية بهذا المجال.
كيف سيكون مصير بريغوجين؟ ولماذا بيلاروسيا؟
برأي الخبير الاستراتيجي رولاند بيجاموف، فإن ما وصفه بـ “سوق العمل” ما زال مفتوحا أمام بريغوجين، لا سيما في القارة الأفريقية.
لكنه أوضح للجزيرة نت أن عمل المجموعة سيكون مباشرا مع البلدان الأفريقية، مع دور أقل تأثيرا للجهات الرسمية، مفسّرا ذلك بالتوجه نحو وقف الحديث عن أن المجموعة تمثل اليد الطولى للعمليات العسكرية الروسية بالخارج، وكذلك بالنظر للعلاقات المباشرة التي يتمتع بها بريغوجين مع جهات رسمية عديدة ببلدان أفريقية.
ويفسّر بيجاموف توجّه بريغوجين نحو بيلاروسيا خاصة، وهو -برأيه- الشيء الأهم في تداعيات التمرد الذي قام به، إذ يشير إلى أن بريغوجين توجه إلى بيلاروسيا مع عدة آلاف من المقاتلين، ومن المحتمل أن يرتفع هذا العدد مع مرور بعض الوقت، عندما يتم ترتيب المسائل المتعلقة بتوفير الموارد وتنظيم وجود المجموعة.
ويبين أن توجه “فاغنر” في بيلاروسيا “كنز” للرئيس لوكاشينكو، فوجود أسلحة نووية تكتيكية فيها من جهة، وقوات محترفة إلى جانبها من جهة أخرى، سيشكّل رادعا لدى حاكم مينسك أمام التهديدات الغربية ضد بيلاروسيا، في حال لم تصل الأمور إلى الحد الذي يتطلب استخدام السلاح النووي التكتيكي ضدها.
ويشير الخبير الروسي إلى بقاء سقف التهديدات الأوكرانية والبولندية المعلنة وغير المعلنة مرتفعا، إضافة إلى أن “الرؤوس الساخنة” في بلدان البلطيق ضد الجبهة الجنوبية في بيلاروسيا تحتاج لعامل ردع “وسيط” وتعتبر “فاغنر” أفضل نموذج له.
علاوة على ذلك، يقول بيجاموف إن وجود فاغنر في بيلاروسيا سيعزّز من سلطة لوكاشينكو بالداخل ويرفع من أهمية بلاده في المواجهة المفتوحة مع الغرب، فضلًا عن مصالح لوكاشينكو الاقتصادية بأفريقيا، حيث يروج هناك المنتجات والمعدات الزراعية البيلاروسية، وبهذا المعنى تشكل هذه البلدان مصادر دخل حيوية جدًا لمينسك.
هل انتهى دور بريغوجين؟
الأمر المهم الثاني الذي يشير إليه بيجاموف أن بريغوجين، الموجود الآن في “المنفى المؤقت” جلب معه عددا كبيرا بالنسبة لعدد القوات النظامية البيلاروسية الذي يقارب 60 ألف مقاتل، وهو عدد قليل مقارنة بالقوات البرية البولندية التي تقارب 300 ألف مقاتل، و”تحلم” بإعادة احتلال جنوب بيلاروسيا عبر مغامرة عسكرية مسنودة من الناتو.
وفي كل الأحوال، لن يواجه لوكاشينكو أية مشكلة مع وزير دفاعه بسبب “الضيف الجديد” خلافًا لما كان عليه الحال مع وزير الدفاع الروسي سيرغي شويغو.
يؤكد العقيد المتقاعد فيكتور ليتوفكين أن أوكرانيا لم ولن تستفيد من تمرد بريغوجين، إذ لم يكن لهذه الأحداث تأثير سلبي على الوضع في ساحة المعركة، كما أنه تم خلال ساعات قليلة وقف تداعياتها على الداخل الروسي.
ويتابع بأنه صحيح أن مجموعة بريغوجين غادرت أوكرانيا، إلا أنه فتحت لها جبهة جديدة معرضة للتفجّر في أي وقت ممثلة في بيلاروسيا. وفي الحسابات الغربية لا يقل ذلك خطورة عن تواجد فاغنر في أوكرانيا بل يتجاوزه حسب تعبيره.
ولا يستبعد ليتوفكين أن يكون انسحاب “فاغنر” من المشاركة في الحرب مع كييف مؤشرا غير مباشر على قرب انطلاق أول محادثات سلام رسمية بشأن أوكرانيا في يوليو/تموز المقبل، من خلال اجتماع رفيع في كوبنهاغن بمشاركة ممثلين عن البرازيل والهند وجنوب أفريقيا والصين، ومستشار الأمن القومي الأميركي جيك سوليفان، قد يتم من خلاله عقد المشاورات الأولى لحلحلة الصراع.
المصدر : الجزيرة
————————–
فشل بوتين هو تحذير لكل زعيم “قوي” حول العالم/ بورزو درغاهي
أفضل فرصة أمام روسيا كي تخرج بنتيجة إيجابية من حرب أوكرانيا هي باستقالة زعيمها وسماحه لحكومة منتخبة بحرية باتخاذ القرارات
لم يكن التمرد الذي شهدته روسيا من يفغيني يريغوجين، زعيم قوات “فاغنر” المحسوبة على الكرملين منذ زمن بعيد، حركةً شاذة أو مستغربة. غالباً ما ينتهي الاشتباك بين أفراد النخبة الروسية، تماماً مثل الاشتباك بين “الكارتيلات” المكسيكية أو عصابة “الياكوزا” اليابانية أو أي منظمة إجرامية أخرى على مرّ التاريخ، بالعنف. فعشرات الأفراد المطّلعين على الداخل الروسي، من بينهم منشقون أو مسؤولون كبار في مجال الطاقة أو دبلوماسيون، سددوا عدة طعنات في الظهر لبعضهم البعض بحسب ما يُزعم، أو قفزوا من النوافذ على إثر خلافهم مع الكرملين.
ومع ذلك، يحاول البعض بالفعل أن يطرح رواية تشتت الانتباه، حول إصابة رجل في الثانية والستين من عمره، غريب الأطوار وخطير ووضعه خاص- هو بريغوجين – بالجنون. فلقد فقَد الرجل صوابه بسبب ما يعتمل في نفسه من مظالم وغيرة من وزير الدفاع سيرغي شويغو ورئيس هيئة الأركان فاليري جيراسيموف، على خلفية الخلل والقصور في سلسلة الإمداد والخسائر الميدانية والبشرية في أوكرانيا. وكما قال مسؤول سابق في الكرملين لصحيفة “فاينانشال تايمز”: “جُن جنونه وأصيب بنوبة غضب”.
لو كانت هذه الأزمة فعلاً تخص رجلاً واحداً بعينه، فلكان هذا الرجل هو فلاديمير بوتين ولا أحد سواه. فهي تتعلق بقيادته لروسيا والتدهور المستمر لمؤسسات واهنة أساساً خلال حكمه منذ عام 1999. إنه أمر متأصّل، وليس خطأً عرضياً، للدولة المشخصنة والمختلّة والخارجة على القانون التي قد يصحّ القول بأنه سمح لها بالتفشّي أكثر من أنه قام بتشييدها. وعلى نطاق أوسع، فإن ما حدث هو دليل على الفشل الحتمي لنموذج الحكم القائم على الرجل القوي، الذي يبدو أنه سلب عقول أعداد لا يُستهان بها من الناخبين حول العالم وسحرهم.
بسبب تسارع وتيرة الأحداث، إذا ما أخذنا بالحسبان قيام بوتين بالقضاء على الصحافة المستقلة في روسيا، لوجدنا أنه من الصعب التحقق من وقائع كثيرة أو تقييم أهمية ما شهدته روسيا خلال الأيام الأخيرة الماضية. لكن حجم القوات المسلحة الروسية الكبير والولاء العقائدي ضمن قوات “فاغنر” التي أتى جزء كبير منها من الجيش نفسه، يجعلان اندلاع حرب أهلية بين الطرفين أمراً شبه مستحيل.
قارن بوتين “خيانة” بريغوجين باستيلاء فلاديمير لينين على السلطة في أكتوبر (تشرين الأول) 1917. لكن بريغوجين لم يزعم مرةً واحدة أنه يسعى إلى الإمساك بالسلطة. بل كانت فورته أقرب إلى نوبة غضب مدججة بالسلاح قام بها رجل ثري وغير متّزن معتاد على الحصول على كل ما يريده. لقد ثارت ثائرته لأنه كان مقتنعاً بأنّ فشل الجنرالات الروس المستمرّ في أوكرانيا يقضي بشكل جسدي وملموس على مصالحه التجارية العالمية ويشوّه سمعتها، ومن بينها عشرة آلاف مقاتل شرس وظّفهم لنهب الموارد الطبيعية الثمينة من أفريقيا وأميركا اللاتينية.
سمح بوتين لمعاونه البلطجي السابق بمغادرة البلاد بعد ساعات فقط من تهديده علناً بالموت (ربما على سبيل منع نشر أي أسرار قد يملكها بريغوجين في حال وفاته المفاجئة أو سجنه). وبريغوجين الآن تحت حماية تابع بوتين، قائد بيلاروس ألكساندر لوكاشينكو، وتحت ناظريه.
وإذا نجح الرجل البالغ من العمر 62 سنة بتجنّب حراس لوكاشينكو وصائدي الجوائز الساعين وراء الجوائز المالية التي تقدمها الولايات المتحدة لقاء اعتقاله، من الضروري أن يطلب مساعدة المختصّين. ففي سلسلة الفيديوهات المريعة التي نشرها على الإنترنت، أظهر سلوكاً غير متّزن وغاضب وغريب إلى درجة عالية جداً. حتى الكرملين نأى بنفسه عن أحد الفيديوهات التي دافع عنها هو بشراسة، ويظهر فيها مقاتل من “فاغنر” يضرب فيها جندياً اشتُبه بأنه منشق، حتى الموت.
بعض الأشخاص الذين يعانون من مشكلات في السيطرة على غضبهم يلكمون الجدران ويحدثون فيها ثقوباً، أو لربما، في حالات أفضل، يتعلّمون تقنية التنفس والعدّ حتى العشرة. لكن بريغوجين في المقابل اتخذ نهجاً مختلفاً تماماً حيث قاد كتائب من مرتزقته المدججين بالسلاح في نزاع غامض داخل بلد يحوي على أكبر مخزون أسلحة نووية في العالم، وفيه رابع أكبر شبكة للمفاعلات النووية، وعدة مختبرات سرية يُشتبه بأنها تجري تجارب بيولوجية مزدوجة الأهداف والاستخدامات، برأي بعض الخبراء.
مجرد قيام بوتين بإعلاء مرتبة بريغوجين صاحب المطاعم السابق الفج والعنيف وتحويله إلى شخصية على مستوى الوطن ووضع منظمته المزعومة بالإجرام في قلب السياسة الخارجية الروسية، فذاك دليل على العفن الذي يعشش في صلب الأنظمة الاستبدادية المماثلة التي تقوم حول شخصية القائد، والتي يخطئ عدد كبير من الأشخاص باعتبارها فعالة وحاسمة أكثر من النظام الديمقراطي.
فبدل وجود نظام يعتمد آليات الضبط والموازين بين موظفين حكوميين ومسؤولين منتخبين يتمتعون ولو بمستويات متواضعة من الخبرة والتفاني للشعب، يجلس بوتين على رأس الطاولة أمام معاونين خائفين، وظّف بعضاً منهم على الأقل منذ أيام عمله سمساراً للسلطة بين اللصوص الصاعدين خلال السنوات التي تلت انهيار الاتحاد السوفياتي مباشرة.
على مرّ العقود، استُبدلت عملية الحكم بشخصية الحاكم. والحاكم يصدر الأوامر التي يجب تنفيذها. لا يبحث عن أي نقد. ولا تحصل أي موازنة حقيقية للإيجابيات والسلبيات. وإن أغضبت الطاغية، سوف يكون مصيرك النفي مثل بريغوجين، أو السجن مثل ميخائيل خودوركوفسكي الذي قضى عشر سنوات في معسكر الاعتقال جراء انتقاداته العلنية للفساد، أو القتل مثل المسؤول الكبير في مجال الطيران، نيكولاي غلوشكوف، الذي يعدّ واحداً من بين ثلاثة أشخاص مطّلعين على تفاصيل الداخل الروسي الذين انقلبوا على بوتين.
والأسوأ هو أن حكم الرجل القوي غالباً ما يؤدي إلى الهلاك عوضاً عن الحسم أو الفعالية. فقد أدّى إلى بداية حرب كارثية في روسيا التي يحكمها بوتين، وإلى إصابة كل الدول السلافية بجروح طويلة الأمد.
إنّ حكم الرجل الواحد الذي ينتهجه الرئيس رجب طيب أردوغان في تركيا بلا أي رادع، أوصل اقتصاد البلاد إلى حالة متردّية لدرجة أن حتّى تغيير مساره واتباع نصيحة خبراء الاقتصاد الرائدين لا يكفي من أجل طمأنة المستثمرين. أما في الهند، فقد تسبّبت ميول رئيس الوزراء ناريندرا مودي باتجاه الاستبداد والشوفينية إلى إلحاق الضرر بسمعة البلاد الديمقراطية وتفاقم الانقسام بين الهندوس والمسلمين بشكل خطر. وفي الصين وهنغاريا والفيليبين وإسرائيل، وغيرها من المناطق، يؤدي حكم الرجل القوي بنسخته المعاصرة التي يبدو أنها تتلازم حتماً مع رأسمالية المحسوبيات وثقافة الفساد والمحاباة إلى تعميق انعدام المساواة وتثبيط الاستثمار في مجال الابتكار وتشجيع النخب على الهجرة.
والحقيقة هي أن الأنظمة الاستبدادية تفشل في أغلب الأحيان. فلقد وجد الباحثان دان رايتر وآلان سي ستام في دراستهما الرائدة التي نشراها على شكل كتاب منذ 20 عاماً، أنّه على امتداد 170 عاماً بين القرنين التاسع عشر والعشرين، انتصرت الديمقراطيات في 76 في المئة من الحروب التي خاضتها و93 في المئة من الحروب التي شنّتها، فيما انتصرت الحكومات الاستبدادية بـ46 في المئة من هذه الحروب فحسب.
ليس من المستغرب أنّ تؤدي صرامة العملية الديمقراطية وإخضاع القادة للمساءلة أمام الرأي العام، إلى اتخاذ قرارات أفضل حتى في فترات الأزمات. وفقاً لهذا البحث، فإن أفضل فرصة أمام روسيا كي تخرج بنتيجة إيجابية من حرب أوكرانيا هي باستقالة بوتين وسماحه لحكومة مُنتخبة بحُريّة باتخاذ القرارات.
© The Independent
——————————–
دروس مستفادة من تمرد بريغوجين/ نبيل فهمي
تابعت والعالم أجمع إعلان تمرد يفغيني بريغوجين على المؤسسات العسكرية الروسية واستيلاءه ومجموعة “فاغنر” على قاعدة عسكرية مهمة في روستوف أون دون جنوب البلاد، ثم إعلانه بدء النزوح نحو العاصمة موسكو، قبل أن يتدخل رئيس بيلاروس ألكسندر لوكاشينكو للتوصل إلى حل وسط يشمل مغادرة بريغوجين إلى بيلاروس وتراجع النظام الروسي عن محاسبة المتمردين كافة واستيعاب العناصر في القوات المسلحة الروسية.
حصل كل ذلك في أقل من 18 ساعة، ومع تطورات قبل وخلال تلك الساعات اعتبرتها وغيري غير واقعية وقريبة من القصص الروائية الخيالية الضعيفة، لعدم واقعيتها وفقدانها للجاذبية لاستحالة انتهائها إلا بخلاصة واحدة، ومن تلك التطورات الغريبة غير المنطقية ما يلي:
– انتشار مجموعة “فاغنر” دولياً في بلاد عدة ومناطق تنازع تتعدد فيها الأطراف، منها سوريا وليبيا والصومال والسودان ودول أفريقية، مع تمسك روسيا الدولة المركزية تاريخياً بأنها قوات مستقلة تمثل شركة خاصة ولا علاقة لها بالمؤسسات الروسية العسكرية.
– تمسك روسيا باستقلالية تلك القوات حتى مع دعوتها إلى القيام بدور محوري في الساحة الأوكرانية خلال مراحل تعثرت فيها القوات المسلحة الروسية، مما زاد من استغراب المحللين وشكك في صدقية الدفع الروسي.
– قيام بريغوجين قائد قوات “فاغنر” بتوجيه انتقادات علنية صريحة وشديدة لقادة القوات المسلحة الروسية، بما في ذلك وزير الدفاع وعدد من قادة العمليات، نتيجة تحفظه على بعض قراراتهم العسكرية وتأخر توريد الجيش الروسي للذخيرة المهمة لقواته غير الرسمية، وهو أمر غير معتاد في روسيا أو أي دولة خلال المعارك العسكرية.
– لم يتدخل الرئيس بوتين علنياً دفاعاً عن قادته أو يحجم أو يحد من تصريحات بريغوجين على رغم أنه كان محسوباً عليه ويعتبر من المقربين له.
– إعلان بريغوجين انسحاب قواته من المواجهة مع أوكرانيا من دون إعلان القوات المسلحة الروسية أن ذلك يتم بتنسيق محدد أو وفقاً لخطط عسكرية متجددة على رغم استمرار المواجهة العسكرية.
– دخول قوات “فاغنر” مدينة روستوف أون دون وترحيب المواطنين بهم واستيلائهم على معسكر من دون أي معارضة أو اشتباك مع القوات الرسمية فيه.
– إعلان قائد “فاغنر” أن قواته زاحفة نحو موسكو التي تقع على مسافة 1000 كيلومتر تقريباً، علماً أن قواته لا تتجاوز 50 ألف فرد إجمالياً وليس لها غطاء جوي على الإطلاق، فهل يتصور سكوت المؤسسات الروسية على ذلك من دون الاشتباك؟
– تقلق المؤسسات الروسية من هذه المهاترات الغريبة والقدرات المحدودة وتطالب المواطنين بعدم الخروج من منازلهم، وإعلان إجازة رسمية اليوم الإثنين، بما يعني عدم ثقتها بالسيطرة على الموقف خلال 48 ساعة على رغم تباين القدرات العسكرية وعدد القوات، وعلى رغم أن كل جيوش العالم لديها خطط ممنهجة للدفاع عن البلاد من التهديد الخارجي والسيطرة على البلاد في حال الاضطرابات الداخلية التي تهدد الأمن والاستقرار الوطني.
– إعلان الرئيس بوتين شخصياً أن التمرد يعتبر خيانة وأن الكل سيحاسب على جرمه، ثم صدور إعلان بعد ذلك بساعات قليلة بالتوصل إلى حلول وسط وإعفاء الكل من المساءلة القانونية.
– تنويه الرئيس الروسي السابق ورئيس الوزراء السابق ونائب رئيس مجلس الأمن الروسي الحالي ميدفيديف بخطورة حصول المتمردين على السلاح النووي، وهو نفس ما أشار إليه بعض المحللين الأميركيين وإنما من زاوية مختلفة، فهل وصل تفكك المؤسسات إلى درجة عدم السيطرة وتأمين أخطر الأسلحة وأشدها فتكاً؟
– قبل ذلك بأسابيع وصول طائرة أوكرانية موجهة من دون طيار “Drone” فوق ساحة الكرملين العريقة، على رغم القدرات الهائلة لنظام الدفاع الجوي الروسي.
كل ذلك مجموعة من التطورات والأحداث لا يصدقها العقل. لن أحاول تسليط الضوء على تفاصيل ما شهدناه، أو تغليب نظرية على أخرى، فليست لدي مصادر صريحة ترجح حجة أو أخرى، فضلاً عن أنني أعتقد بأن تلك الأحداث لم تنته بعد لأن التهور والجنون لهما حسابات وكلفة، والتسامح له حدود، وإن تداعيات الأحداث كثيرة ومتشعبة وطويلة الأجل وستستثمر من جهات متعددة مختلفة.
ما يهمني في الأساس بعض الخلاصات لمن شارك في تلك الأحداث، ولمن يحاول الاستفادة منها، ولمن يتابعها للدراسة والتقييم، على أمل تجنب تداعيات تكرارها.
أولاً: على القادة والدول دوماً اليقين بأن العالم في ساحة مكشوفة، لا تخفى فيها الأحداث طويلاً، والمكاشفة حتمية حتى بالنسبة إلى الدول الكبرى، وأحداث أوكرانيا أثبتت باليقين القاطع أن “فاغنر” ليست قوة مستقلة عن المؤسسات الأمنية الروسية، وقد سبق أن وقعت الدول الغربية بما في ذلك الولايات المتحدة في أخطاء مماثلة وفقدت كثيراً من الصدقية في أميركا اللاتينية والعراق.
ثانياً: من الخطورة بمكان لجوء أي دولة كبرى أو صغرى إلى استخدام قوات لا نظامية لتحقيق أغراض تريد الدولة تحقيقها مع الحفاظ على مساحة منها، فلا نظامية القوات، حتى غير المستقلة منها، تجعلها لا تلتزم القواعد العامة للدولة وتميل إلى تحقيق عوائد قصيرة المدى بما في ذلك الخروج عن الأهداف الإستراتيجية، فعلينا اتخاذ القرارات، بخاصة الصعبة منها بالاشتباك مع القضايا عندما يلزم الأمر ذلك من دون اللجوء إلى مناورات ومواءمات تنتهي حتماً إلى إحراج صاحبها، وتتزايد هذه الاحتمالات عند الاعتماد على قوات مستأجرة غير وطنية، وللأسف عانينا ذلك عربياً وأفريقياً.
ثالثاً: لا بد من احترام المؤسسات الرسمية للدول بمختلف توجهاتها وتأمين وصول مصادر المعلومات السليمة إلى القادة، حتى مع اختلاف الآراء في ما بينها من وقت لآخر، ومع تحفظي على كثير من السياسات الغربية خلال العقد الماضي وعدم استغرابي لضيق بوتين منها، فكثير من القرارات الروسية حول أوكرانيا وحول شركة “فاغنر” عكست عدم كمال المعلومات أو صواب التقديرات الروسية للساحات السياسية والأمنية والسياسية.
رابعاً: ليس هناك مجال لوجود أكثر من قوات مسلحة واحدة في الدولة الوطنية تقوم بمهمات التأمين الوطني التقليدي، وأي مواءمة في ذلك حتى تكتيكياً وعلى المدى القصير تؤثر سلباً في الأمن الوطني للدول.
* نقلا عن “اندبندنت عربية”
————————-
كيف تحولت فاغنر إلى أكبر مصدر تهديد لبوتين؟/ أنطون مارداسوف
تحول يفغيني بريغوجين من أحد حلفاء بوتين، إلى أكبر مصدر تهديد له ولحكمه.
وصل الصراع الذي طال أمده بين يفغيني بريغوجين، رجل الأعمال وأمين مجلس إدارة شركة فاغنر العسكرية الخاصة، ووزارة الدفاع الروسية ذروته وأدى فعليا إلى أخطر أزمة للسلطات الحاكمة في تاريخ روسيا الحديثة.
إذ هدد دخول وحدات المرتزقة في وسط روستوف على نهر الدون، وسيطرتها على عدد من المنشآت العسكرية في منطقتي روستوف وفورونيج ، ورغبتها في التحرك نحو ريازان وتامبوف وحتى موسكو، استقرار السلطة العليا في روسيا. ولا يخفى على أحد أن مشاريع السياسة الخارجية للكرملين في أفريقيا، والتي اعتمدت في السابق فقط على العلاقات غير الرسمية لمجموعة فاغنر مع القادة المحليين، اندثرت فعليا. ولم تكن مصادفة أن يقارن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، في خطاب خاص إلى الروس، بين ثورة المرتزقة الحالية وأحداث 1917، أي ثورة أكتوبر/تشرين الأول في روسيا.
التسلسل الزمني لـ “مسيرة العدالة”
في مساء يوم 23 يونيو/حزيران، اتهم بريغوجين وزير الدفاع سيرجي شويجو ورئيس الأركان العامة للقوات المسلحة الروسية فاليري غيراسيموف بالقيام بمحاولة جديدة لتدمير شركة فاغنر العسكرية الخاصة. ووفقا له، فإن وزارة الدفاع قامت بمحاولتها الأولى لتدمير المجموعة في عام 2018 في سوريا من خلال عدم توفير الغطاء اللازم لها وتركها تحت نيران المدفعية والطيران الأمريكيين، إلا أن شويجو وغيراسيموف أعطيا هذه المرة أوامر مباشرة لمدفعيتهما وطيرانهما ليقصفا مواقع المرتزقة في المعسكرات الخلفية. وقال بريغوجين إن على مقاتلي فاجنر أن يوقفوا “شر القيادة العسكرية للبلاد.”
لم يبد الموقف خطيرا للغاية في بداية الأمر، بل بدا وكأنه مسرحية لجذب انتباه بوتين، خاصة بعد أن اعتاد المجتمع الروسي في الأشهر الأخيرة على انتقاد بريغوجين المستمر للقيادة العسكرية للبلاد، وتحولت بعض تصريحاته إلى تعليقات ساخرة على الإنترنت. وبالمناسبة، نشر الجهاز الإعلامي التابع لبريغوجين بعد ظهر يوم 23 يونيو/حزيران، مقابلة أخرى مع رئيسه، انتقد فيها أيضا شويجو وغيراسيموف، متهما الأول ببدء حرب في محاولة للحصول على رتبة مشير، والأخير بإدمان الكحول وعدم القدرة على التخطيط للعمليات العسكرية، كما اتهمها بتزوير تقارير لبوتين. من حيث المبدأ، كرر بريغوجين هذه الأطروحات من قبل، وبصورة أكثر عاطفية، لكنها بدت هذه المرة أكثر هدوءا وإقناعا.
ومع ذلك، لا يزال بعض الخبراء يشككون في جدية ما يحدث، حتى بعد أن فتح مكتب الأمن الفيدرالي قضية جنائية بموجب المادة الخاصة بالتمرد المسلح بعد ساعات قليلة من تهديدات بريغوجين ببدء مسيرة العدالة.
ومازال بعضهم مصرّا على أن كل ذلك كان عملية معلوماتية خاصة، في محاولة لتخدير يقظة القوات الأوكرانية التي تحاول مواصلة هجومها المضاد من أجل إعادة الاشتباك مع شركة فاغنر العسكرية الخاصة في القتال في أوكرانيا، والتي أعادت تجميع صفوفها بعد معارك باخموت.
كما بدا الفيديو الذي نشرته حسابات قريبة من شركة فاغنر العسكرية الخاصة، والذي صور بحسب الادعاءات تداعيات الضربة على معسكر المرتزقة، ملفقا بشكل واضح. وفي البداية، كان بريغوجين ينشر كل تهديداته من خلال رسائل صوتية على تطبيق تلغرام، مسجلة بشكل مسبق. لكن الأهم من ذلك، هو عدم وجود أدلة واضحة بالصور والفيديو على تحركات طوابير المرتزقة داخل الأراضي الروسية.
وظهرت الإشارة الأولى إلى أن بريغوجين كان مستعدا للمخاطرة بكل شيء في رسالتي فيديو وزعهما مراسلون عسكريون نيابة عن جنرال الجيش سيرجي سوروفيكين، نائب قائد المجموعة الروسية المشتركة في أوكرانيا، والفريق فلاديمير أليكسيف، النائب الأول لرئيس المديرية الرئيسية لهيئة الأركان العامة (مديرية الاستخبارات الرئيسية). إذ بنت شركة فاجنر العسكرية الخاصة علاقة وثيقة مع الجنرال الأول خلال الحرب السورية، وأقامت بعد ذلك من خلاله اتصالات مع كوادر الجيش في أوكرانيا. أما الجنرال الآخر، فهو بحسب بعض التقارير، المؤسس الفعلي لهيكل المرتزقة، حيث كانت هيئة الأركان العامة هي التي بدأت في إنشاء مجموعة فاغنر في عام 2010. وحث ألكسيف في رسالته المرتزقة على العودة إلى رشدهم، أما سوروفيكين، فطالبهم بوقف الطوابير.
ومع ذلك، بات معروفا في صباح يوم 24 يونيو/حزيران، أن مرتزقة فاغنر احتلوا بسرعة جميع المرافق الرئيسية في روستوف على نهر الدون كمباني الشرطة و جهاز الأمن الفيدرالي والإدارة ومقر المنطقة العسكرية الجنوبية. وكان ظهورهم في وسط المدينة سريعا جد لدرجة أن المارة لم يعرفوا أنهم مرتزقة، بل ظنوا أنهم جنود من الوحدات الخاصة في وزارة الدفاع تمت تعبئتهم على وجه السرعة ولهذا جُهّزوا بشكل مغاير للوائح.
ثم نُشر تسجيل فيديو للمفاوضات بين يفغيني بريغوجين وفلاديمير ألكسيف ونائب وزير الدفاع يونس بك يفكوروف، وهو جنرال مقاتل له هيبته واحترامه في الجيش. ووفقا للمحادثة المسجلة، أخبر بريغوجين يفكوروف أن مقاتليه أسقطوا ثلاث مروحيات عسكرية كانت تحاول مهاجمة قوافلهم على الطريق السريع وسط حركة مرور المدنيين باستخدام منظومات الدفاع الجوي المحمولة على الكتف. وأظهر وجه بريغوزين جروحا جديدة – ربما من شظايا معارك حديثة.
حساسية الموقف
في خطابه الصباحي للروس في 24 يونيو/حزيران، وصف الرئيس فلاديمير بوتين تصرفات شركات فاغنر العسكرية بالخيانة، واتخذ موقفا لا لبس فيه بشأن قمع الانتفاضة. وبذلك، رفض بوتين فعليا أي اتفاق مع المرتزقة وأوقف تكهنات المسؤولين بأن استقالة شويجو وغيراسيموف ستساعد في تهدئة بريغوجين الهائج.
ومع ذلك، فإن القيام بذلك ليس سهلا من الناحية العملية. إذ بناء على السرعة التي تمكنت بها شركة فاغنر العسكرية الخاصة من الاستيلاء على القواعد العسكرية في منطقتي روستوف وفورونيج وتهديدها لمناطق تمبوف وريازان وموسكو، فإن الجهات الأمنية المحلية لم تكن مستعدة لمقاومة وحدات عسكرية متمرسة في المعارك.
ونظرا لعدد الخسائر الرسمية منذ الاجتياح في عام 2022، وعدم تحقيق نجاح واضح على الجبهة، ومشاركة المواطنين المجندين في الصراع، فإن هناك حقا أسباب للاستياء بين أفراد الجيش والخدمات الخاصة والمواطنين الروس العاديين. سيبقى الضباط الكبار إلى جانب السلطات بلا شك، إلا أن السؤال الأهم هو عن مدى استعداد العسكريين العاديين والضباط الصغار، الذين سيتوجب عليهم قمع الانتفاضة، لإطلاق النار على أبناء شعبهم.
بالإضافة إلى ذلك، من الصعب طرد المرتزقة من روستوف على نهر الدون ، وهي مدينة رئيسية ومركز لوجستي في الخطوط الأمامية، بسبب المدنيين هناك، والذين كانوا حتى الآن مهتمين بمتابعة ما يحدث.
في الواقع، كان بريغوجين وقادة فاغنر يراهنون على هذا الأمر – إذ من غير المرجح أن يتعرضوا لهجوم من الجو داخل حدود المدينة، كما حدث في المعسكرات الخلفية (إذا حدث هذا الهجوم بالفعل). ومع ذلك، فإن السيطرة على مدينة رئيسية ومنشآت متورطة بشكل مباشر في الحرب في أوكرانيا هي أحد الأصول التفاوضية. إلا أن خطط بريغوجين المستقبلية غير واضحة تماما. فإذا تلقت ثوراته السابقة الموجهة ضد القادة العسكريين والسياسيين دعما من مجموعات نخبوية في السابق، فمن المرجح أن يتبرأوا منه في ظل الظروف الحالية.
يذكرنا الوضع الحالي بعد الاستيلاء على وسط المدينة بشكل أساسي بالوضع بعد الاستيلاء على المستشفى في بوديونوفسك من قبل القائد الميداني الشيشاني باساييف في عام 1995: حين طالبوا بوقف العمل العسكري في الشيشان والدخول في مفاوضات مع دزخار دوداييف. قد تبدو المقارنة غير صحيحة، نظرا لأن المرتزقة مهذبون للغاية مع السكان المحليين في المناطق الروسية، لكن هناك تشابها حتى في حقيقة أن القانون الروسي طبق المادة الخاصة بالتمرد المسلح على مقاتلي باساييف أيضا.
يبدو أن مشروع شركة فاغنر العسكرية الخاصة محكوم عليه بالفشل بشكل مسبق، وأنه يقترب من أيامه أو أسابيعه الأخيرة، حيث يمكن أن تستمر هذه القصة لفترة طويلة. ولن يؤثر فشل هذا المشروع على الداخل الروسي فحسب، بل سينتشر إلى الخارج أيضا، إذ لن يكون هناك بديل يحل محل وحدات بريغوجين في ليبيا وجمهورية أفريقيا الوسطى ودول أخرى.
——————————
في تفكيك محاولة “انقلاب” فاغنر في روسيا/ أنطون مارداسوف
كانت “مسيرة العدالة” التي قام بها بريغوجين في الأساس اختبار ضغط للنخبة العسكرية السياسية، وليس للروس العاديين
قال يفغيني بريغوجين، وهو يأمر قواته من مقاتلي فاغنر المتجهين إلى موسكو بالعودة على أعقابهم: “هي نتيجة طبيعية اليوم، فقد أبهجْنا الجميع.” قد تبدو هذه الكلمات للوهلة الأولى كلمات ساخرة، سخيفة إذا ما قورنت بحجم الانتفاضة التي قادها، حيث أسقط مرتزقة فاغنر ست مروحيات عسكرية وطائرة مقاتلة واحدة، ما أسفر عن مقتل 13 طيارا. ومع ذلك، ربما تتوافق ملاحظته بالفعل مع الاستراتيجيات المألوفة التي يستخدمها الكرملين وتكتيكاته، من مثل تأخير خطابات فلاديمير بوتين المجدولة لتوليد الترقب، في كثير من الأحيان، وإلهاء المجتمع الروسي وتحويل انتباههم عن الصراع الدائر في أوكرانيا.
نظرة إلى آلية عمل النظام الروسية
على عكس الكرملين، كانت “مسيرة العدالة” التي قام بها بريغوجين في الأساس اختبار ضغط للنخبة العسكرية السياسية، وليس للروس العاديين. ولا يزال الروس، من المسؤولين الإقليميين والفيدراليين ورجال الأعمال الذين غادروا روسيا على عجل يوم السبت ومن منهم بقي، يناقشون ما حدث غير مصدقين.
وفي الوقت عينه، كان الجمهور الروسي يتابع الأحداث باهتمام – وإن كان باسترخاء –على هواتفهم الذكية، بينما هم يتنزهون في الحدائق أو خلال حفلات التخرج من المدارس.
الواضح أنه لم يكن لدى المواطنين الروس أي رغبة في الدفاع عن القيادة العسكرية السياسية، مثل وزير الدفاع سيرغي شويغو ورئيس الأركان العامة فاليري غيراسيموف، اللذين كان بريغوجين يطالب بتسليمها في البداية.
ومع ذلك، لا يزال المواطنون غير مطمئنين فيما يتعلق بمستقبلهم – وخاصة أولئك الذين عاشوا خلال اضطرابات التسعينيات الذين كانوا يدركون جيدا أنهم هم من سيدفع على الأغلب الثمن الأعلى لأي اضطرابات سياسية، وليس النخبة.
علاوة على ذلك، أظهرت استطلاعات الرأي على الشبكات الاجتماعية ووسائل الإعلام المستقلة أن معظم المواطنين الروس يعتقدون أن الأحداث تم تنظيمها والتخطيط لها بطريقة أو بأخرى ويكرر معظم سكان العاصمة الروسية تعليقات من قبيل: “نحن لا نعرف الأكثر من 10٪ فقط من حقيقة ما يجري، وهذا، للأسف، هو دأب حكومتنا.” ومن النظريات الشائعة أن بريغوجين كان، في الواقع، ينظم “الانقلاب” بناءً على أوامر فلاديمير بوتين. يبررون القرار بالقول إن بوتين لا يمكنه التخلص من كبار الضباط العسكريين والسياسيين الحاليين، بسبب العلاقات الرسمية وغير الرسمية التي شكلها معهم.
ولا يزال الكثيرون يتساءلون كيف تمكن بريغوجين من نقل العديد من الأرتال في ليلة واحدة من إقليم لوهانسك أوبلاست إلى اتجاهات مختلفة والوصول إلى مركز مدينة روستوف على الدون التي يبلغ تعداد سكانها مليون نسمة والسيطرة عليها ومنشآتها العسكرية بدون أي دليل واضح بالصور والفيديو من شهود العيان.
لا يزال الكثيرون يتساءلون كيف تمكن بريغوجين من نقل العديد من القوافل العسكرية في ليلة واحدة من إقليم لوهانسك إلى اتجاهات مختلفة والوصول إلى مركز مدينة روستوف التي يبلغ تعداد سكانها مليون نسمة والسيطرة عليها ومنشآتها العسكرية بدون أي دليل واضح بالصور والفيديو من شهود العيان. والغريب حقا أن الصور الأولى للمرتزقة – التي التقطها صحفيون وشهود عيان – لم تظهر إلا في الصباح.
وحسب بعض التقارير، استطاعت أربعة أرتال فقط نقل أكثر من 1000 وحدة من معدات فاغنر عبر منطقة فورونيغ إلى موسكو. وعبر الرتل الأول (حوالي 350 مركبة) حدود منطقة فورونيغ مباشرة بعد منتصف ليل 24 يونيو/حزيران، ووصل الرتلان الثاني والثالث في الساعة الخامسة والسابعة صباحا على التوالي (حوالي 375 و 100 مركبة)، ثم عبر الرتل الرابع من المعدات عسكرية (212 مركبة) حدود المنطقة في الساعة 9 صباحا.
وفوق ذلك، كانت الظروف المحيطة بالمفاوضات تهدف إلى قمع التمرد، والعودة المدبرة على ما يبدو للمرتزقة إلى المعسكرات كما وصفها بريغوجين، ومشاركة الرئيس البيلاروسي ألكسندر لوكاشينكو كوسيط، والاتفاق بشأن إقامة بريغوجين وبعض مقاتليه في بيلاروسيا، كل ذلك أدى إلى إثارة المزيد من الاستفسارات بدل تقديم الإيضاحات.
بل أثيرت تعليقات مفادها أنه بسبب هذه التحركات، تمكنت روسيا من إعادة تجميع قواتها بسرعة، وسحب مفارز القوات الشيشانية، التابعة للرئيس رمضان قديروف، بالأسلحة الثقيلة إلى الحدود مع روستوف وبلغورود، فضلا عن زيادة التهديد على القوات الأوكرانية في اتجاه كييف من أراضي بيلاروسيا.
ولكن إذا وضعنا هذه النظريات جانبا، فإن التفسير الأكثر منطقية هو أن بريغوجين كان يختبر حدوده بعد الخلاف مع بوتين حيث لم يكن الرجلان يتحدثان. في الواقع، كانت مجموعته المرتزقة مهددة بحلها بعد مرسوم رئاسي يقضي بتوقيع عقود للمقاتلين مع وزارة الدفاع.
وفقًا للمحللة السياسية تاتيانا ستانوفايا، من المحتمل أن يكون بريغوجين قد بالغ في تقدير حجمه، وفوجئ برد فعل بوتين وانتشار الجيش والحرس الوطني كخط دفاع أول لوقف مسيرته نحو موسكو.
وتعتقد ستانوفايا أن “كل ما كان يهتم به بعد صباح اليوم الرابع والعشرين هو أن يتمكن من الخروج حياً من لعبة أخطأت بشكل جذري بالنسبة له.”
ومع ذلك، نجح بريغوجين في إجراء مسح شامل للنظام السياسي العسكري في يوم واحد: من تقييم قدرة المسؤولين الإقليميين وقدرة قوات الأمن الروسية على الوقوف في وجه قوة ساخطة نصلب عودها في التمرد، بالمقارنة مع حفنة من المعارضين العزل.
يتفق جميع الخبراء الروس المؤثّرون ذوو التأثير على أن “مسيرة” مرتزقة بريغوجين إلى موسكو ستؤدي إلى تغييرات في مركز القوة الروسي – بما في ذلك التعديلات التشريعية، وتعديلات الموظفين، والتغييرات داخل النخبة – وذلك اعتمادا على الولاء الواضح للرئيس واعتماداً على انحياز هذه الفرقة أو تلك إلى بريغوجين أو شويغو.
ومع ذلك، لن يحدث هذا الأمر على الفور لأنه من النادر أن يتخذ بوتين قرارات بأثر رجعي. ومع ذلك، لن يحدث ذلك مرّة واحدة، بالنظر إلى السمة المعروفة لفلاديمير بوتين، الذي لا يحب تلقي الضغط ولا يتماشى أبدا مع الظروف. وقد نشر المكتب الصحفي لوزارة الدفاع لقطات تظهر شويغو وهو يتفقد التجمع الغربي للقوات الروسية في أوكرانيا في 26 يونيو حزيران. ولكن هناك أسباب كافية للاعتقاد بأن هذه اللقطات تم تسجيلها مسبقًا وتوزيعها بناءً على أمر شويغو الشخصي من أجل إلغاء التكهنات حول استقالته الوشيكة.
نظرة إلى مشاريع فاغنر في الخارج
على الرغم من تصريحات المتحدث باسم الكرملين ديمتري بيسكوف بإسقاط التهم الموجهة إلى بريغوجين، فقد ذكرت وسائل الإعلام الروسية أن القضية الجنائية المتعلقة بتنظيم تمرد مسلح لم يتم إسقاطها بشكل قانوني، ولا تزال تخضع لتحقيق تُجريه دائرة التحقيق التابعة لجهاز الأمن الفيدرالي الروسي. ولكن وفقا لمصادر مستقلة، فقد ظهرت هذه التقارير لسببين: أولهما تشجيع بريغوجين على عدم تأخير رحيله من روسيا (فوفقاً لبعض التقارير، فإنه وصل بالفعل إلى مينسك)، وثانيهما تعزيز سمعة سلطات التحقيق، التي تعاني من ضعف في مصداقيتها.
وتؤكد مصادر إعلامية في وزارة الدفاع أن قوات فاغنر ستُمنح الفرصة للاندماج في وكالات إنفاذ القانون الحالية التابعة لوزارة الدفاع والحرس الوطني الروسي، ولكن المجلس العسكري بأسره لن يظل على ما هو.
وفي غضون ذلك، استؤنفت أنشطة الشركات العسكرية الخاصة التابعة لفاغنر في مناطق مختلفة من روسيا – ما يقرب من 40 مدينة، بما في ذلك 16 مدينة يبلغ عدد سكانها مليون نسمة – وهي مستمرة في عمليات التجنيد كالمعتاد، حيث تُقدم رواتب أعلى من متوسط أجر الجنود المتعاقدين العسكريين.
في واقع الأمر، يستطيع الكرملين تفكيك شبكة مراكز توظيف فاغنر دون تداعيات كبيرة. ويمكن أن يعمل الكرملين مباشرة مع وحدات المرتزقة في مناطق القتال في أوكرانيا، ولا سيما عند الأخذ بعين الاعتبار أنه ليس كل موظفي فاغنر يدعمون قرار التمرد. ومع ذلك، فإن الوضع المتعلق بالمشاريع الخارجية يبقى أكثر تعقيدا.
لكن إدارة وجود ونفوذ فاغنر في الدول الأجنبية قد يكون أكثر صعوبة. لقد كان هيكل فاغنر المرن وسرعة اتخاذ القرار هما العاملان اللذان أتاحا لها أن تصبح قوة دافعة مهدت الطريق للوكالات الروسية الرسمية في الخارج وسمحت للسلطات المحلية بأخذ الأنشطة الروسية على محمل الجد. بادئ ذي بدء، نحن نتحدث عن العديد من مشاريع مجموعة فاغنر في إفريقيا. فعلى سبيل المثال، من المعروف أن اتفاقية إنشاء منشأة عسكرية في السودان قد أعدها في الأصل رجال بريغوجين.
ولحسن حظ الكرملين، لا يوجد حاليا عمليات قتالية نشطة في سوريا وليبيا، وهو الأمر الذي كان من شأنه أن يعزز من دور شركة فاغنر العسكرية الخاصة في هذين البلدين. وهكذا عملت وحدات فاغنر في ليبيا خلال العام الماضي كقوة احتياطية فحسب. لكن، وُجدت حالات في الماضي تعارضت فيها مصالح بريغوجين مع مصالح الكرملين، وأدت الإجراءات إلى خلل في التوازن الذي حاولت وزارة الخارجية الحفاظ عليه من خلال التفاعل مع مختلف القوى المتنافسة في ليبيا.
وظل وجود مرتزقة فاغنر في سوريا أيضا اسميا ومقتصرا على السيطرة على عدد قليل من المنشآت في حمص، والهياكل الإدارية في دمشق، واللاذقية. بالإضافة إلى الأفراد العسكريين الموجودين في سوريا، فإن مجموعات مرتزقة أخرى تابعة لوزارة الدفاع ولا علاقة لها ببريغوجين، تعمل منذ فترة طويلة.
وبحسب بعض التقارير، فإن القرار الرسمي للجامعة العربية بإعادة عضوية دمشق في الجامعة جعل بريغوجين يفكر، في مايو/أيار 2023، بنقل وحدات مرتزقة إضافية إلى سوريا لإظهار نوايا الحفاظ على وجوده في سوريا على خلفية المشهد السياسي المتغير.
تشكل تصرفات بريغوجين المستقلة تهديدا للكرملين، داخل روسيا وخارجها. ولا تزال وزارة الدفاع تتمتع بنفوذ كبير على شركة فاغنر العسكرية الخاصة، لأن جميع الخدمات اللوجستية للمرتزقة تتمركز في منشآت روسية رسمية، وكان مركز عملياتهم في إفريقيا هو قاعدة حميميم الجوية في سوريا. فإذا أغلقت قاعدة حميميم أمام مرتزقته، فسيتعين على بريغوجين تنظيم عملياته الخارجية انطلاقا من بيلاروسيا.
من المهم ملاحظة أن ألكسندر لوكاشينكو – الذي واجه منذ وقت ليس ببعيد موجة خطيرة من الاحتجاجات – لن يرحب على الأرجح بتجمع جيش خاص يتصف بالجدية على أراضيه بقيادة بريغوجين، والذي لا يزال يحمل رغبة بأن يثبت للكرملين أنه مخطئ بخصوصه ولا يكتفي بطموحاته السياسية وحسب.
——————————–
لماذا فشل زعيم فاغنر في الزحف إلى موسكو وقبِل بالنفي؟/ أسامة آغي
الضخ الإعلامي الكبير الذي رافق عملية تمرد قوات فاغنر بقيادة يفغيني بريغوجين الملقب بـ “طبّاخ بوتين” كان يحدث من جهات مختلفة، فالإعلام الغربي صوّر الأمر بأنه تمردٌ عسكري قد يطيح بسلطة زعيم الكرملين فلاديمير بوتين، في وقت كانت رسائل وتغريدات بريغوجين تقول بأنه عازم على اعتقال وزير الدفاع الروسي، سيرغي شويغو، ورئيس هيئة أركان الجيوش الروسية، فاليري غيراسيموف، اللذان طعنا قواته من الخلف.
الإعلام الروسي اتهم قوات فاغنر بالخيانة، إذ سحب قواته من أوكرانيا ودخل الأراضي الروسية. هذا الاتهام يمكن إضافته إلى سيل التكهنات والأخبار التي لم تتمكن من إضاءة هذا التمرد وحقيقته.
أما الولايات المتحدة الأمريكية فقد قالت على لسان وزير خارجيتها أنتوني بلينكن: “إن محاولة التمرد المسلح في روسيا تظهر تصدعات حقيقية في سلطة الرئيس بوتين، وإن تمرد مقاتلي مجموعة فاغنر كان تحدياً مباشراً لبوتين، مما أجبره على إبرام اتفاق عفو”.
هناك من قال عن تمرّد قوات “فاغنر” بأنه عمل متفق عليه بين زعيم هذه القوات وبين الرئيس بوتين، وهذا حديث من يؤمن بنظرية المؤامرة، لكن ما جرى لا يمكن وضعه في هذا الباب، خاصة أن الأمر كان صراعاً جدياً بين مكونات سلطة بوتين الأولغارشية. فوزير الدفاع ورئيس الأركان هما شخصان مقربان جداً من الرئيس الروسي، وفي نفس الوقت يحسّان بخطر قوات “فاغنر” على وجودهما في السلطة، إذ كانا في مرمى نيران اتهام بريغوجين لهما، والتهمة التي ساقها هي أن قوات الجيش الروسي قصفت قوات فاغنر في أوكرانيا من الخلف، وهذه حجة لمواجهة هاتين الشخصيتين المقربتين من بوتين.
لكن بريغوجين هو الآخر تجمعه ببوتين علاقة قوية، وقد قام بمهام عسكرية في أكثر من بلد دعماً لجيش صديقه، ولهذا فهو يرى أن ما قامت به قواته في أوكرانيا يستحق الثناء، وليس الطعن في الظهر، وهذه الحالة هي التي دعته إلى سحب قواته من أوكرانيا ودخول مدينة روستوف الحدودية، من أجل الزحف نحو موسكو لعزل وزير دفاعها ورئيس أركان جيشها.
هذه الحالة، كشفت عن هشاشة حقيقية في الوضع العسكري الروسي، فبوتين القائد الأعلى للجيش الروسي، لم يكن بصورة الصراعات المحتدمة بين قادة جيشه وقوات فاغنر وزعيمها، فالأمر هو صراع مستتر على الإمساك بحظوة أكبر لدى الرئيس الروسي، تؤهل صاحبها لخلافته، وهذا سرّ الصراع الذي تفجّر قتالاً داخلياً.
الهشاشة هي حقيقة الوضع الداخلي في روسيا، فالأولغارشية الروسية ليست منسجمة في مكونها الرئيسي، وبالتالي فإن إدارة الصراع التي يتحكم بها الرئيس بوتين، لم تكن نتيجة لأمور كثيرة واضحة لدى الأخير، وهذا ما يجعل الصراع غير منته، ومن قال أنه انتهى فهو واهم، فهذا الصراع يتعلق بالبنى الداخلية لمكونات الأوليغارشية الروسية، وهي ليست متممة لبعضها، وليس برنامجها السياسي واحد، والدليل على ذلك، أن بعض مكوناتها رفض الحرب على أوكرانيا، وكان يريد تقارباً مع المجموعة الغربية ضمن أطر تعاون غير خاضعة لمبدأ “أنني موجود، وأنك يجب أن تعترف بذلك”.
الذين رفضوا حرب بوتين على أوكرانيا كانوا قد قرأوا الوضع السياسي والعسكري لروسيا من جهة، وللعالم الغربي الداعم لأوكرانيا من جهة أخرى، فرأوا الاختلال في موازين القوى عيانياً تميل لمصلحة الغرب وأوكرانيا، وأن غطرسة رئيسهم بوتين لا يمكنها تحقيق النصر على أوكرانيا واستعادتها إلى البيت الروسي. وهم أيضاً أدركوا أن الغرب يجيد إدارة اللعب بالاقتصاد العالمي، مما يجعل استنزاف روسيا زمنياً ليس في مصلحة بقائها دولة اتحادية.
“طبّاخ بوتين” كان يعتقد أن تمرده على وزير الدفاع سيدفع بقوى المعارضة للوقوف خلفه، وهذا خطأ سياسي لدى بريغوجين، فهو لا يفهم بنى قوى المعارضة، وآليات اتخاذ المواقف فيها، ولعله يفهم باستخدام القوة العسكرية المفرطة لتحقيق نصر سريع، دون إدراك أن نصره المعني يمكن تحقيقه في مناطق ذات قوى عسكرية ضعيفة.
بوتين الذي عرف بالعاصفة العسكرية لقوات فاغنر، أحس بأن القوات العسكرية الموالية له بدأت بالتصدع، وهذا تهديد حقيقي لقوته العسكرية وصلابة حكمه، وبالتالي كان لا بدّ من حلٍ سريع يُنهي حالة التصدّع، لذلك فُتح الباب أمام رئيس روسيا البيضاء “لوكاشينكو” ليلعب دوراً وسيطاً في نزع فتيل التصدع، فبوتين لم يكن قادراً على اللعب بأرواح الروس الذين يحاربون مع بريغوجين.
لو ذهب بوتين إلى ممارسة خيار السحق العسكري لقوات فاغنر، لواجه حرباً داخلية ستنهي ليس نظام حكمه فحسب، بل ستنهي الاتحاد الروسي وتمزقه.
وفق هذه الرؤية، يمكن طرح السؤال التالي: هل وضع روسيا عسكرياً وسياسياً قبل تمرد فاغنر سيبقى على حاله بعد التمرد؟
الجواب بسيط وواضح وشفّاف، فقبل تمرد فاغنر كانت هشاشة الوضع العسكري والسياسي لسلطة بوتين يلفها شك وحذر في التقييم، أما بعد التمرد وسرعة تقدم قوات فاغنر نحو موسكو فالتقييم مختلف، إذ اتضح أن امبراطورية بوتين ليست أكثر من نمر ورقي، وهذا سيفيد الغرب في كيفية استدراجه إلى مربعٍ يشلّ قدراته ويسقطه من داخله.
لا يريد الغرب إسقاط بوتين عبر استخدام قوته العسكرية، بل يريد خلق مزيد من التناقضات الداخلية بين مكونات سلطته من جهة وبين سلطته وقوى المعارضة الروسية، التي هي الأخرى باتت على قناعة بقدرتها أن تطيح بنظام حكمه الأوليغارشي.
هذه الرؤية الغربية تمنع بوتين من حماقة كبرى قد ينزلق إليها عبر استخدامه السلاح النووي ضد أعدائه.
مع ذلك، ينبغي القول أن بوتين خسر الحرب الأوكرانية بعدما انكشف ضعفه في كل الجوانب السياسية والعسكرية والاقتصادية، وأن سقوطه سيفتح الباب لسقوط في غير ساحة وبلد ونظام طغاة، ومن بينها نظام أسد المحمي بوتينياً.
إنها نهاية الصلف و”الزعرنة” على الشعوب، وليس في كل مرّة ستسلم الجرّة.
كاتب وصحافي سوري
السورية نت
————————
مع “غزوه” كييف وانقلاب فاغنر عليه.. هل باستطاعة بوتين الإمساك بطرفي العصا؟
اللحظة التي اضطر فيها الرئيس الروسي، فلادمير بوتين، إلى إبلاغ مواطني الدولة عن “ضربة لروسيا ولشعبنا” في إعلان مسجل صباح السبت، كانت الأصعب منذ أمر بغزو أوكرانيا قبل 16 شهراً. بوجه متكدر، اضطر بوتين للاعتراف بأنه فقد السيطرة على قادة الجيش. خلال عشرين سنة، تعهد بوتين يفغيني بريغوجين، الأزعر العنيف الذي يبيع النقانق ولديه عدة مطاعم، تعهده كمقاول لمهمات قذرة في أرجاء العالم، وكافأه بمناقصة كبيرة وهي تزويد الجيش بالغذاء، وسمح له بإقامة جيش خاص، “قوات فاغنر”، وهي شركة المرتزقة الأكبر في العالم. وقف بوتين معارضاً في الأشهر الأخيرة عندما أدار بريغوجين حرب شتائم علنية مع الشخص الآخر الذي تعهده، وزير الدفاع سيرجي شويغو، على الطريقة التي جرت فيها الحرب في أوكرانيا.
منذ صعوده إلى الحكم، ارتكزت قوة بوتين على قدرته على توزيع السيطرة على الأجهزة الفيدرالية في روسيا، بين مجموعة الأوليغاركيين الذين يكافئونه بالإخلاص المطلق والتمويل. وعندما خرج بريغوجين مساء الجمعة بسلسلة أفلام كشف فيها الحقيقة حسب رأيه، عن سبب الحرب الزائدة، وبدأ في قيادة رجاله لحملة مسلحة ضد قادة الجيش الروسي، لم يتهم بوتين بشكل مباشر. وكما هو التقليد الروسي، أرسل بريغوجين رسالة جاء فيها: “القيصر جيد، لكن المستشارين يضللونه”. ولكن بوتين، الذي أخطأ في الاعتقاد بأنه يمكنه مواصلة الإمساك بالطرفين أدرك، بتأخير كبير، أن عليه اختيار أحد الطرفين.
بعد يوم تقريباً، ألغى بريغوجين التهديد بالخروج على رأس “مسيرة الحرية” في موسكو. وقد توصل إلى استنتاج، كما يبدو، بأن احتمالية وصوله على قيد الحياة إلى وزارة الدفاع وإجراء محاكمة صورية لشويغو، ضعيفة. ومثلما في كل دولة ديكتاتورية، ففي روسيا قوات هي الأقوى والأكثر إخلاصاً للنظام تم وضعها حول العاصمة.
لكن حتى لو لم تكن لبريغوجين خطة منظمة للسيطرة على موسكو، فإنه تسبب بضرر كبير لبوتين في مدينة روستوف، وهي المدينة التي يعيش فيها مليون نسمة جنوبي روسيا، والتي احتلها مقاتلو فاغنر خلال بضع ساعات، وهم يتوقفون خلال ذلك لشراء القهوة من المطاعم المحلية. لا يجب أن يكون هذا مفاجئاً. فروستوف هي المركز العسكري – اللوجستي الأساسي لقوات الغزو الروسي في أوكرانيا. تمر فيها وحدات فاغنر بشكل دائم كجزء من تشكيلة القوات الروسية التي أرسلت إلى الجبهة وكمزودين لغذاء الجيش. سكان المدينة يعتبرونهم جنوداً روساً بالضبط. وكثير من جنود الجيش وبعض الضباط الكبار في القيادة المحلية لديهم صداقة معهم.
إن سيطرة بريغوجين على القيادة في روستوف أوجدت معضلة كبيرة أمام بوتين وقادة الجيش. أي هجوم جوي أو بري أو محاصرة القاعدة في المدينة، سيؤدي بالضرورة إلى شلل الجهود العسكرية لصد هجوم أوكرانيا الكبير الذي يستمر منذ أسابيع. بريغوجين منع خروج الجنود من القاعدة ووعد بالسماح لهم بإدارة القتال من هناك. لا يمكن إقامة قيادة بديلة. وما دام بريغوجين هناك هناك سيبقى محصناً. من غير الواضح حتى الآن إذا كان ينوي الخروج من هناك وتعريض نفسه للاغتيال. وحتى الآن في كل فيلم نشره في قناة التلغرام التابعة له، فتح ثغرة عميقة أخرى في رواية “العملية العسكرية الخاصة” التي بناها الكرملين منذ بداية الغزو، وبذلك فقد قوض سيطرة بوتين على الحكم.
خلال أشهر يصعد بريغوجين اتهاماته ضد شويغو لأنه يدير الحرب بشكل غبي ويمنع التموين والتسليح عن مقاتلي فاغنر الذين يقومون، حسب قوله، بمعظم العمل الصعب في الجبهة. في الأسبوع الماضي انتقل إلى اتهامه بأنه أمر الجيش الروسي بمهاجمة رجاله. والجمعة، حطم كل البدهيات عندما قال إن “وزارة الدفاع تحاول تضليل الشعب والرئيس. كان هناك هجوم هستيري من جهة أوكرانيا، وأنها خططت لمهاجمتنا مع حلف الناتو. العملية العسكرية الخاصة التي بدأت في 24 شباط الماضي كانت لأسباب مختلفة تماماً”، قال.
قال بريغوجين إن طائفة الأوليغاركيين هم الذين بادروا إلى الحرب في أوكرانيا من أجل سرقتها وتوزيع مواردها فيما بينهم. وقال إن ادعاء هدف العملية لـ”منع نازية” أوكرانيا، هو “رواية محببة”.
إذا كانت هذه هي الحال، يمكن التساؤل: لماذا شارك بريغوجين نفسه في الحرب، وقام بعملية تجنيد سجناء للجبهة في سجون روسيا وأرسل عشرات آلاف المقاتلين ليموتوا في ساحة الحرب. هو يتهم الجنرالات الفاشلين بأنهم رموا 100 ألف شاب روسي في “مفرمة اللحم”، لكنه لم يدس يده في الصحن.
لكن السؤال الأكبر هو: من الذي سيصدق الروس الآن؟ بريغوجين لا يعارض نظام شخص في المنفى مثل أليكسي نافالني. هو معروض منذ بداية الحرب ويتم تفخيمه في دعاية الكرملين كوطني روسي شجاع، ومستعد للتضحية بكل شيء في ساحة الحرب.
حتى قبل أن يتضح إذا كانت لبريغوجين والفاغنر قوة وقدرة على السيطرة على مناطق أخرى في روسيا، قام بتوجيه ضربة شديدة لجهاز دعاية بوتين. سيستمر في ذلك ما دام على قيد الحياة ولديه هاتف ذكي.
في الوقت الذي تشخص فيه أنظار العالم نحو ما كان يبدو خلال ساعات كحرب أهلية في روسيا، ما زالت الحرب في أوكرانيا مستمرة. وحدات قوة فاغنر في الحقيقة لم تشكل سوى جزء صغير من المنظومة الروسية في الجبهة. ولكنهم يعتبرون جنوداً مميزين. والآن تم حذفهم من تشكيلة القوات. في الوقت نفسه، ليس واضحاً كيف سيواصل جهاز تموين الجيش الروسي إطعام جنوده بدون خدمات هذه الشركة، ومتى ستعود القيادة في ريستوف التي هي الآن تحت سيطرة بريغوجين إلى يد الكرملين.
ربما يتسع هجوم أوكرانيا، الذي كان حتى الآن بطيئاً وبالتدريج، ويصبح هجوماً شكلت أوكرانيا من أجله فرق مدرعات جديدة مع دبابات غربية.
خلال أيام، قد يجد بوتين نفسه يواجه في الوقت نفسه سقوطاً في جبهة أوكرانيا، وإمكانية تجدد حرب أهلية. العملية العسكرية الخاصة التي كان يجب أن تؤدي إلى احتلال كييف خلال ثلاثة أيام ترتد الآن إلى بيته.
انشل بابر
هآرتس 25/6/2023
القدس العربي
—————————
================
————————-
بريغوجين خرج من قمقم صَقَله بوتين
استفاد فلاديمير بوتين، على مدى أعوام، من أنشطة مجموعة فاغنر، لكن تمرّدها وقائدها يفغيني بريغوجين على القيادة العسكرية وضعَ الرئيس الروسي أمام تحدٍّ قد يضرّ بهيبته بشكل لا رجوع عنه، وفق محلّلين.
خلال عقود، خدمت الأدوار العسكرية لفاغنر في إفريقيا وسوريا وشرق أوكرانيا المصالحَ السياسية لبوتين، الذي بدا مغتبطاً من التنافس الداخلي الذي تثيره نجاحات هذه المجموعة، عوضاً عن الخشية من تنامي دورها.
تاتيانا ستانوفايا: الكثيرون ضمن النخبة الروسية قد يلقون باللائمة على بوتين شخصياً لبلوغ الأمور هذا المدى، وأنّ الرئيس لم يقم بردّ فعل مناسب في وقت ملائم. لذلك هذه القصة هي أيضاً ضربة لمواقف بوتين.
إلا أنّ فاغنر، التي أفادت من دعم بوتين على مدى أعوام، انقلبت عليه. وبريغوجين، الذي كان حليفاً له، واكتسب لقب “طاهي بوتين” نسبة إلى توفير مجموعته خدمات الطعام لمقرّ الرئاسة، بات يدفع بقواته في اتجاه موسكو.
وعكست سرعة توجيه بوتين خطاباً إلى الأمة، بعد ساعات من إعلان مجموعة فاغنر السيطرة على مقرات عسكرية في مدينة روستوف-نا-دونو، والحدّة التي اتّسمت بها كلماته وتعابير وجهه، جدّية التهديد الذي يمثّله ما أقدم عليه بريغوجين من منظار الرئيس الروسي.
وفي حين تحظى الدولة الروسية بمقدّرات عسكرية تتيح لها في نهاية المطاف التفوّق على هذا التمرّد المسلّح، وحتى سحق فاغنر، إلا أنّ الأزمة المتسارعة تهدّد بإلحاق ضرر دائم ببوتين، الذي بنى، على مدى أكثر من عقدين في السلطة، صورة الزعيم الأوحد الممسك بمفاصل هيكلية حُكم متماسكة.
وتقول مديرة شركة “آر بوليتيك” للتحليل السياسي تاتيانا ستانوفايا إنّ “موقف بوتين الواضح هو إخماد التمرّد”، مضيفة أنّ بريغوجين “محكوم عليه بالفشل” حتى في حال تطلّب إنهاء حركته المسلحة “وقتاً طويلاً”.
وتتابع، عبر قناتها على تلغرام، أنّ “الكثيرين ضمن النخبة الروسية قد يلقون باللائمة على بوتين شخصياً لبلوغ الأمور هذا المدى، وأنّ الرئيس لم يقم بردّ فعل مناسب في وقت ملائم. لذلك هذه القصة هي أيضاً ضربة لمواقف بوتين”.
ورأت وزارة الدفاع البريطانية، في تقييم استخباري، أنّ تمرّد مجموعة فاغنر يعدّ “أهم تحدٍّ للدولة الروسية في الزمن الحديث”، مضيفة: “خلال الساعات المقبلة، سيكون ولاء القوات الأمنية الروسية، وخصوصاً الحرس الوطني الروسي محورياً في مسار الأزمة”.
وزارة الدفاع البريطانية: تمرّد مجموعة فاغنر يعدّ أهم تحدٍّ للدولة الروسية في الزمن الحديث.
فائدة لروسيا وبوتين
واكتسبت مجموعة فاغنر دوراً رئيسياً في الغزو الروسي لأوكرانيا، وتولّت أخطر المهام على خطوط الجبهة في ظلّ تراجع أداء الجيش وتكبّده هزائم كبيرة في الأرواح، وفق تقديرات المصادر الغربية.
ويقول الباحث في مركز كارنيغي روسيا-أوراسيا ألكسندر بونوف: “لفترة طويلة تمّ السماح لبريغوجين بمهاجمة النخبة نظراً لفائدته على الجبهة، إضافة الى بعض الفائدة لبوتين بالذات”.
لكنّ حرب أوكرانيا عزّزت موقع بريغوجين وثقته بنفسه، إذ أقرّ للمرة الأولى علناً بأنّه مؤسّس المجموعة، بعد نفي ذلك لأعوام، وقيامه بشكل علني أيضاً بتجنيد مقاتلين من السجون الروسية.
وفي البداية، اعتُبِر تموضعه ودوره معزّزين للجهد الحربي للكرملين، قبل أن يتحوّل بشكل تدريجي إلى تحدٍّ نادر وعلني للرئيس الروسي، الذي حاول الإبقاء على مسافة بينه وبين حليفه السابق، ولم يلتقه علناً منذ بدء الغزو في شباط/فبراير 2022.
وزاد بريغوجين، في الآونة الأخيرة، من انتقاداته اللاذعة للقيادة العسكرية ووجّهها بشكل مباشر إلى وزير الدفاع سيرغي شويغو، أحد الأصدقاء الشخصيين المعدودين لبوتين في النخبة الروسية.
ويرى بونوف أنّ بريغوجين قرّر “تجاوز الحدّ” مع القيادة الروسية اعتباراً من 13 حزيران/يونيو، يوم أعلن بوتين أنّ مجموعات المرتزقة مثل فاغنر يجب أن تكون خاضعة لسلطة وزارة الدفاع، وهو ما سبق أن عارضه بشدّة لفترة طويلة.
ولفت المراقبين، السبت، أنّ بوتين لم يذكر في كلمته إلى الأمة اسم بريغوجين، وهو تكتيك اعتمده في السابق أثناء التحدث عن ألدّ خصومه، مثل المعارض الموقوف أليكسي نافالني.
حرب أوكرانيا عزّزت موقع بريغوجين وثقته بنفسه، إذ أقرّ للمرة الأولى علناً بأنّه مؤسّس المجموعة، بعد نفي ذلك لأعوام.
اهتزاز كرسي الحكم
ويرى جيمس نيكسي، مدير برنامج روسيا-أوراسيا في مركز “تشاتم هاوس” للأبحاث في المملكة المتحدة، أنّ بريغوجين “هو أشبه بوحش فرانكنشتاين” قد يكون أجيز له في مرحلة سابقة “التسبّب بصدمة للجيش الروسي تدفعه إلى تقديم أداء حربي أكثر فاعلية”.
ويضيف لوكالة فرانس برس: “لكنّ الأمر بلغ الآن (مرحلة هي) أبعد بكثير مما تخيّله بوتين على الإطلاق”.
وفي حين يجزم نيكسي بأنّ بريغوجين يفتقد “العديد والقوات والدعم” الذي يتيح له السيطرة على موسكو، إلا أنّ ما يقوم به “يبقى أول تحدٍّ جدّي مباشر لسلطة بوتين خلال 24 عاماً”.
وتتناقض تصرفات بريغوجين مع ما يقوم به الزعيم الشيشاني رمضان قديروف، الذي بنى بدوره ميليشيا قوية، إلا أنّه بقي حليفاً وثيقاً للكرملين.
وأعلن قديروف، السبت، إرسال وحدات إلى “مناطق التوتر”، مشدّداً على ضرورة “إنهاء التمرد، وفي حال كانت إجراءات قاسية مطلوبة، فنحن مستعدون لذلك”.
وتشدّد أستاذة العلوم السياسية آنا كولان ليبيديف على أنّ في حوزة موسكو كلّ ما يلزم “لاستعادة السيطرة”.
وتضيف: “لكنّ هذا الوضع غير المسبوق يؤكد للنخب أنّ زمن الاستقرار انتهى، وأنّ الدولة التي اعتقدنا أنّها قوية، لديها عيوب. كرسي الحكم اليوم هو أكثر اهتزازاً بقليل مما كان عليه بالأمس”.
(أ ف ب)
———————–
تمرد فاغنر أسوأ سيناريو قد يدفع موسكو إلى حرب الأرض المحروقة ضد أوكرانيا أو استعمال السلاح النووي التكتيكي/ حسين مجدوبي
اتهم بوتين زعيم فاغنر بالخيانة وبالتهديد القاتل للدولة الروسية، وهذا يعني إما ضرورة استسلامه أو تعرضه للملاحقة حتى القبض عليه أو الاغتيال، وقد تتطور الأمور إلى حرب أهلية مصغرة.
لندن ـ «القدس العربي»: في فيلم «المدمرة بوتمكين» للمخرج السوفييتي سيرجي إيزنشتاين أحد الذين وضعوا أسس اللغة السينمائية، يحكي عن التمرد الذي وقع في هذه السفينة الحربية سنة 1905 وكان من الأسباب الممهدة لسقوط القيصر سنوات لاحقة. ويبدو أن أحداث الفيلم تتكرر الآن مع تمرد تنظيم «فاغنر» وهو تمرد دق نواقيس الخطر في العالم برمته لأن موسكو لن تتردد في استعمال السلاح النووي التكتيكي إذا استغل الغرب الوضع ودفع أوكرانيا إلى مغامرة غير محسوبة العواقب.
وما يحدث في روسيا شكل مفاجأة لأن التمرد يتزامن والحرب، وإن كان المراقبون لم يستبعدوا وقوع حادث من هذا النوع وإن لم يكن بهذه الحدة، وذلك بسبب الحرب الكلامية التي يشنها زعيم فاغنر يفغيني بريغوجين ضد وزارة الدفاع منذ شهور، والتي وصلت إلى اتهامها بقتل ألفي من مقاتلي هذا الجيش الخاص الذي برز نجمه في القارة الأفريقية خلال الثلاث سنوات الأخيرة.
تضارب بين الجيش وفاغنر
ويوجد تضارب كبير بين خطط الجيش الروسي وقوات فاغنر في الحرب ضد أوكرانيا، إذ يركز الجيش على خطة دفاعية بشكل كبير تشمل حماية الأراضي التي ضمتها موسكو إلى أراضي روسيا وهي إقليم دونباس الذي تتجاوز مساحته مئة ألف كلم، وتدرك أن الهجوم الأوكراني يرمي إلى تحرير هذه الأراضي. ولا يخطط الجيش الروسي لمزيد من السيطرة على أراض جديدة، لأن أراضي دونباس جرى ضمها بموجب قرار من البرلمان الروسي كما حدث مع أراضي شبه جزيرة القرم سنة 2014.
وكانت قوات فاغنر تعمل كعنصر مساعد للجيش الروسي، غير أنها استقلت عسكريا نسبيا عن وزارة الدفاع خاصة في معركة باخموت التي طالت شهورا وحققت فيها هذه القوات النصر. وأصبحت قوات فاغنر تريد نهج استراتيجية خاصة بمعزل عن الجيش وعدم التنسيق معه، وهي التقدم في الأراضي الأوكرانية لوقف تقدم الأوكرانيين قبل التمركز على حدود الدونباس. وهي عملية تحمل الكثير من المخاطر، فمن جهة، تهدد استراتيجية وزارة الدفاع، ومن جهة أخرى تظهر فاغنر أمام الرأي العام الروسي والدولي بمظهر الحركة البطولية على حساب الجيش الوطني ما يسيء إلى صورته وظهوره بمظهر الضعيف. وتعمل هذه القوات على شاكلة «اللفيف الأجنبي» في الجيوش الوطنية.
ولم يتأخر الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في خطاب له السبت من الأسبوع الجاري في اعتبار ما قامت به قوات فاغنر من تمرد عسكري يعد خيانة حقيقية لروسيا في وقت تجري فيه الحرب ضد أوكرانيا قائلا حرفيا في خطابه: «الأفعال التي تقسم وحدتنا هي في الواقع خيانة للشعب الواحد، وللرفاق في السلاح الذين يقاتلون الآن على الجبهة. هذه طعنة في الظهر لبلدنا وشعبنا». وتوعد المتمردين بالعقاب الشديد.
واتهم بوتين زعيم هذه القوات بالخيانة وبالتهديد القاتل للدولة الروسية، وهذا يعني إما ضرورة استسلامه -زعيم فاغنر- أو تعرضه للملاحقة حتى القبض عليه أو الاغتيال، وقد تتطور الأمور إلى مواجهة حربية على شاكلة حرب أهلية مصغرة بحكم أنها ستكون محصورة في مدينة روستوف التي سيطرت عليها فاغنر ليلة الجمعة من الأسبوع الجاري، علما أن الحركة تهدد بالتوجه إلى العاصمة موسكو وعدم تسليم أي مقاتل نفسه، وفق تصريحات زعيمها السبت من الأسبوع الجاري في رد على خطاب بوتين.
قلق الغرب من رد نووي
شكل تمرد قوات فاغنر ضد وزارة الدفاع مفاجأة كبيرة للدول الغربية. ومنطقيا، سيعم الفرح في العواصم الغربية التي تساند أوكرانيا بالسلاح والدعم السياسي لأن التمرد يعني إضعاف القوات الروسية التي ستصبح مجبرة على إرساء الأمن والسيطرة على الأوضاع. غير أن الصورة في العمق مختلفة. فهذا التمرد يتزامن وشن الجيش الأوكراني الهجوم المضاد ضد تمركز القوات الروسية في إقليم دونباس.
وعمليا، مواجهة الجيش الروسي لقوات فاغنر المتمردة قد يدفع بوزارة الدفاع الروسية إلى الاعتماد على بعض الوحدات المتمركزة في الجبهة وسحبها، ما قد يترك فراغا قد يستغله الأوكرانيون. ويعتبر هذا أخطر وضع ستمر منه الحرب الحالية، وحذّرت بعض وسائل الإعلام الغربية التي لا تكن الود لموسكو من هذا السيناريو، وشددت على ضرورة الحذر الشديد. إذ أن كل تقدم ملموس من القوات الأوكرانية مسلحة بأسلحة غربية متطورة سيكون الرد عليه قاسيا من طرف موسكو. ويوجد سيناريوهان قد يترتبان عن هذا الوضع وهما:
السيناريو الأول: وهو رفع الجيش الروسي من القوة النارية بشكل خطير، بمعنى استعمال الصواريخ فرط صوتية والطائرات المقنبلة لضرب العاصمة كييف والبنى التحتية المدنية، لخلق الرعب وسط أوكرانيا. وخلال السبت من الأسبوع الجاري، ضربت روسيا عددا من مدن أوكرانيا ومنها كييف بصواريخ وطائرات مسيرة، في رسالة واضحة أن مواجهة التمرد لا يعني التراجع عن مهاجمة هذا البلد.
والسيناريو الثاني: اللجوء إلى استعمال السلاح النووي التكتيكي لوقف أي تقدم عسكري أو ضرب بعض البنيات التحتية مثل السدود لخلق كارثة في أوكرانيا، ما يجعل من الجيش يتحول إلى قوات إنقاذ الشعب بدل التركيز على الاستمرار في الحرب.
لا أحد كان ينتظر تمردا لقوات فاغنر في ظرف تمر منه روسيا بمرحلة حساسة من تاريخها، وهذا المستجد، يدفع المراقبين وخبراء الحرب إلى التخوف من المفاجآت المقبلة سواء داخل «بين السلطة الروسية» أو في تطور درامي للحرب من عناوينه استعمال السلاح النووي التكتيكي.
—————————-
الكرملين: أحداث اليوم “مأساوية”.. بريغوجين سيذهب إلى بيلاروسيا وستُسقط التهم ضده والاتفاق معه لـ”تجنّب حمّام دم”
أكّد الكرملين، السبت، أنّه وافق على إبرام اتّفاق مع مجموعة فاغنر التي نفّذت تمرّداً مسلّحاً “لتجنّب حمّام دم”.
وقال المتحدث باسم الرئاسة الروسية ديمتري بيسكوف إنّ أحداث اليوم ” كانت مأساوية”، وأن “الهدف الأسمى هو تجنّب حمّام دم وصدام داخلي واشتباكات لا يمكن التنبّؤ بنتائجها”، مضيفاً أنّ جهود الوساطة التي بذلها رئيس بيلاروس ألكسندر لوكاشنكو رمت لتحقيق هذا الهدف.
وأعلن المتحدث أنّ خلال إفادة صحافية أن رئيس مجموعة فاغنر العسكرية سيغادر إلى بيلاروسيا والدعوى الجنائية المرفوعة ضدّه سيتمّ إسقاطها”، مضيفاً أنّ مقاتلي فاغنر الذين شاركوا في “التمرّد المسلّح” لن تتمّ مقاضاتهم.
وأكد المتحدث أن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين “ممتنّ” للرئيس البيلاروسي ألكسندر لوكاشنكو على وساطته مع رئيس مجموعة فاغنر المسلّحة يفغيني بريغوجين لوقف تمرّدها.
وقال بيسكوف “نحن ممتنّون لرئيس بيلاروسيا على جهوده”، مشيداً “بتسوية من دون مزيد من الخسائر” ومشيراً إلى أنّ “المحادثة المسائية بين الرئيسين كانت طويلة جدّاً
وشدد المتحدث أن التمرّد الفاشل الذي نفّذته مجموعة فاغنر لن يؤثّر على الهجوم العسكري الروسي في أوكرانيا.
وأعتبر أنّه “من غير الوارد” أن يؤثّر تمرّد فاغنر الفاشل على الحملة الروسية ضدّ كييف، مضيفاً أنّ “العملية العسكرية الخاصة مستمرة. لقد نجح عسكريّونا في صدّ هجوم أوكرانيا المضادّ”.
(وكالات)
——————————
نيويورك تايمز: في أحداث السبت ركزت إدارة بايدن اهتمامها على الترسانة النووية وأثرها على أوكرانيا
إبراهيم درويش
نشرت صحيفة “نيويورك تايمز” تقريرا أعده بيتر بيكر قال فيه إن التمرد الذي لم يعمر طويلا قدم إضاءة على سيطرة الرئيس الروسي فلاديمير بوتين على السلطة. وقال إن المسؤولين الأمريكيين طرحوا وعلى مدى طويل على أنفسهم سؤالا لم يتجرأ أي واحد منهم التعبير عنه علنا: هل يمكن أن تقود العملية العسكرية الروسية الفاشلة في روسيا إلى سقوط فلاديمير بوتين؟
ولساعات قليلة نهاية هذا الأسبوع قدم المشهد الفوضوي صورة أن التفكير هذا لم يكن مجرد خيال. وحتى بعد نهاية التهديد الذي مثله زعيم مرتزقة فاغنر، يفعيني بريغوجين، فإن التمرد قصير الأمد يقترح أن سيطرة بوتين على السلطة ليست قوية كما كانت منذ توليه الحكم قبل عقدين.
وأضافت الصحيفة أن تداعيات ما بعد العصيان تترك الرئيس جو بايدن والمسؤولين الأمريكيين أمام فرصة ومخاطر وربما أكثر اللحظات تقلبا منذ قرار بوتين غزو أوكرانيا قبل عام. فلربما أدت الفوضى في روسيا إلى انهيار جهودها الحربية في وقت بدأت فيه القوات الأوكرانية هجومها المضاد، إلا أن المسؤولين في واشنطن ظلوا قلقين بشأن بوتين المسلح بالقنابل النووية وعندما يشعر بأنه بات في لحظة ضعف.
وقالت إيفلين أن فاركاس، المديرة التنفيذية لمعهد ماكين للقيادة الدولية والمسؤولة السابقة بالبنتاغون “بالنسبة للولايات المتحدة، فمن صالحها أن ينحرف اهتمام روسيا وسيضعف هذا الجهود في الحرب الأوكرانية وسيجعلهم أقل ميلا لإثارة مشاكل في أماكن مثل روسيا” مضيفة “كل ما نريده هو أن يظل الجيش النظامي يتحكم بالمنشآت النووية”.
وتمثل المواجهة في الطريق إلى موسكو وإن كانت قصيرة، أهم لحظة صراع على السلطة في روسيا منذ عام 1991 عندما فشل انقلاب المتشددين ضد ميخائيل غورباتشوف والمواجهة في عام 1993 بين بوريس يلتسين والبرلمان. وعلى خلاف هاتين الحادثتين ليس للولايات المتحدة طرف مفضل، فبريغوجين ليس صديقا للولايات المتحدة أكثر من بوتين. وكان رد بايدن على الأزمة “عدم الرد”، ومال نحو الحذر ولم يطلق تصريحات علنية التي قد تعطي بوتين سلاحا للزعم بأن ما حدث هو مؤامرة أجنبية، وهو ما يدعيه الكرملين دائما عند مواجهة مشاكل محلية.
وأخر بايدن رحلته إلى منتجع كامب ديفيد وعقد اجتماعا طارئا في وورد روم ذلك أن الغرفة يتم فرشها من جديد واتصل مع قادة فرنسا وبريطانيا وألمانيا. وألغى مستشار الأمن القومي جيك سوليفان رحلة إلى الدنمارك ورافق الرئيس إلى كامب ديفيد، كما وألغى رئيس هيئة الأركان المشتركة الجنرال مارك ميلي زيارة إلى كل من إسرائيل والأردن.
وبعيدا عن التصريحات التي عبرت عن التزام بدعم أوكرانيا راقب المسؤولون الأمريكيون الأحداث وهي تتكشف ودراسة التقارير الاستخباراتية لبناء رؤية عن الوضع. ولدى الإدارة استراتيجيات طارئة ومعدة مسبقا، ولكنها مثل أي طرف راقبت الأحداث وحاولت الحصول على معلومات قوية من روسيا وتفسيرها، واعتمدت في كل هذا على منصات التواصل الاجتماعي والإعلام ومصادر مفتوحة وأرصدة أمنية تقليدية. وركز المسؤولون الأمريكيون بشكل خاص على الترسانة النووية الروسية وما يعني عدم استقرار بلد لديه قدرات كافية لمحو كامل الكرة الأرضية، إلا أن مسؤولا أمريكيا قال إن واشنطن لم تلاحظ أي تغير في الوضع النووي الروسي ولم تقم بأي تغيير بموقفها.
وقال جيمس غولدغيير، أستاذ العلاقات الدولية بالجامعة الأمريكية والمختص بالشؤون الروسية “كانت الأمور تتحرك بسرعة ومن الصعب معرفة أين ستنتهي، إلا أن الموضوعين المهمين بالنسبة للولايات المتحدة هما قيادة السلاح النووي والتداعيات على جهود أوكرانيا لتحرير المزيد من الأراضي”. وقالت أندريا كيندال، المحللة السابقة في الاستخبارات للشؤون الروسية والباحثة في مركز الأمن الأمريكي الجديد إن الولايات المتحدة لديها مساحة تأثير قليلة لكي تحرف مسار الأحداث وعليها التركيز على منع انتشار العنف والفوضى، و”يجب على الولايات المتحدة تجنب تغذية الرهاب داخل روسيا وهو أن أمريكا والناتو يريدون استغلال الفوضى”، مضيفة “هذا مهم لمنع رد فعل مفرط من موسكو وعلى المدى البعيد حالة حان وقت إعادة العلاقات مع روسيا في المستقبل”.
وعلى أية حال، بدا الوضع للمسؤولين الأمريكيين بأنه تأكيد على تراجع قوة بوتين. فهم يراقبون التصعيد الذي بدأه بريغوجين منذ عدة أشهر ضد القيادة العسكرية ووزارة الدفاع وطريقة إدارتها للحرب في أوكرانيا، وتساءلوا مثل البقية عن سبب تسامح بوتين مع معارضة علنية وتساءلوا إن كان بوتين يشجع عليها بطريقة غير مباشرة. ولكن المسؤولين في مجلس الأمن القومي والبيت الأبيض رأوا في أحداث السبت ضربة موجعة لموقف بوتين. فواحد من رجالات الرئيس الذي قاد حملة التدخل بالانتخابات الأمريكية عام 2016، دحض فكرة بوتين عن الحرب ورفض أن الغزو مبرر ورد على تهديد مفترض على روسيا من أوكرانيا والناتو.
ثم جاء خطاب بوتين الذي قارن بين تمرد بريغوجين والوضع في روسيا عام 1917 عندما كان القيصر يفقد السلطة بسبب حرب فاشلة، وهو ما زاد التكهنات بأن بوتين يفقد السيطرة على الوضع في البلاد. وبتراجعه عن تهديداته بسحق بريغوجين بعد ساعات فقد تنازل عن حقه باستخدام السلطة وحده في الأراضي الروسية.
وعلقت ألينا بولياكوفا، رئيسة المركز لتحليل السياسات الأوروبية بواشنطن “شيء واحد واضح، بدا بوتين ضعيفا” إلا أن انهيار حكومة بوتين يحمل معه مخاطر، ولهذا فعلى الولايات المتحدة وحلفائها “التركيز على دعم أوكرانيا والتخطيط لكل السيناريوهات المحتملة، بما فيها سقوط نظام بوتين والبديل عنه من فصيل متطرف سيكون أكثر قسوة وأقل انضباطا عندما يتعلق الأمر بأوكرانيا”.
وحتى لو بقي في السلطة، فهناك مخاوف لدى صناع السياسة الأمريكية بأنه سيصبح أكثر تقلبا عندما يشعر أنه محشور بالزاوية “الضعف يدفع لسلوك خطير من جانب بوتين”، حسب جون هانتسمان، السفير الأمريكي السابق في موسكو و”هناك اهتزازات في مناعة بوتين والتي سيتم استغلالها من كل زاوية”.
وبالنسبة لأوكرانيا التي كانت تعمل بالترادف مع مزودي السلاح الغربيين والأمريكيين وبدأت هجوما مضادا فالخلافات الداخلية الروسية تعتبر تطورا مرحبا به. ونظر لمرتزقة فاغنر بأنهم الأشرس والأكثر فعالية في الحرب الأوكرانية إلا أن زعيمها في المنفى ببيلاروسيا وبقية القوات ستدمج مع القوات الروسية، بحيث لن تكون فعالة كالسابق. ولسوء حظ أوكرانيا فقد انتهى تمرد بريغوجين قبل أن يتم سحب أي من الوحدات العسكرية الروسية في أوكرانيا، ولكن المسؤولين الأمريكيين يأملون بأن يؤدي الخلاف لصداع بين القوات مع تزايد الشكوك حول منطق الحرب.
وهناك قلة تعتقد أن بريغوجين أصبح رجل الماضي وسيعود لبيع النقانق كما فعل عندما كان شابا، فلديه الكثير من الأوراق للعبها. وبالتأكيد يرى كيرت فولكر، سفير الناتو السابق والمبعوث الخاص في أوكرانيا أن ثورة بريغوجين هي بداية النهاية للحرب ولحكم بوتين، حتى مع الصفقة التي أوقفت الزحف نحو موسكو.
———————-
شبيغل: الصفقة كشفت ضعف الإدارة الروسية وبوتين لن يغفر للعالم لأنه رأى ضعفه
علاء جمعة
برلين- “القدس العربي”: أنهى زعيم المرتزقة يفغيني بريغوجين انتفاضته بعد صفقة غريبة مع الكرملين. الصفقة كشفت ضعف الرئيس الروسي وأخرجته مهانا بحسب مجلة شبيغل الألمانية، وتستند المجلة المعروفة برصانتها ودقة تحليلاتها لتأكيد صحة رأيها إلى عدة عوامل.
تقول المجلة إن يفغيني بريغوجين عندما بدأ تمرده، قام بوقفة على بعد 200 كيلومتر من موسكو فقط، بعد الاتفاق استدار موكبه وابتعد عن مشارف موسكو “إلى المعسكرات الميدانية”، كما أعلن. انتهى المشهد المخيف وتراجع بريغوجين، ولم يتبق سوى آثار مسارات الدبابة على الأسفلت.
لكن في الحقيقة، لا شيء انتهى بالنسبة لبوتين، بل العكس هو الصحيح كل شيء بدأ للتو في نهاية هذا الأسبوع، ليري الجميع، كيف يدخل نظام بوتين السياسي حقبة جديدة. لم يكن بريغوجين بحاجة حتى إلى الوصول إلى حدود مدينة موسكو لشق طريق من الدمار في أوتوقراطية بوتين. إذ أن تقدم قواته دون التمكن من وقفها فضح ضعف الكرملين وخوف الرئاسة الروسية.
أسئلة حول الصفقة
ويدعم ذلك، أولاً وقبل كل شيء، الترتيب الغريب الذي قيل إن الرئيس البيلاروسي ألكسندر لوكاشينكو توسط فيه بين بريغوجين والكرملين. فهو ينص على الإفلات من العقاب لجميع المتورطين في الانتفاضة العسكرية، والإفلات من العقاب حتى للزعيم يفغيني بريغوجين نفسه، الذي سيهاجر إلى بيلاروسيا. وتتساءل المجلة الألمانية في تقريرها كيف هذا؟ بعد أن أسقط الرجل ست طائرات هليكوبتر وطائرة في طريقه إلى موسكو، مما أسفر عن مقتل أكثر من 12 جنديًا روسيًا. بينما يتعرض للمسائلة في روسيا كل من يعترض على الحرب في الشوارع حتى لو بصورة سلمية.
وتطرح شبيغل سؤالا آخر.. لماذا وجد هذا الاتفاق أصلا، حتى عندما اتهم بوتين بريغوجين بالخيانة واعتماد أساليب إرهابية صباح السبت؟ في السنوات الأولى من رئاسة بوتين كرئيس للوزراء، كانت علامته التجارية عدم التفاوض مع “الإرهابيين”، على عكس أسلافه. ولماذا يُستدعى رئيس دولة أجنبي للتوسط في نزاع روسي داخلي؟
الهتاف لفاغنر
إن السهولة التي تقدمت بها قوات بريغوجين في الساعات الأربع والعشرين الماضية تشير أيضًا إلى ضعف دولة بوتين. قارن مراسل الحرب في التلفزيون الروسي يفغيني بودوبني تكتيكاتهم بتقدم مقاتلات فاغنر في طرابلس في ليبيا: السرعة القصوى والدفاعات المتنقلة المضادة للطائرات. تُظهر المقارنة وحدها ضعف نظام بوتين: فبعد عقدين من “استقرار” بوتين، وصلت حرب الصحراء بالفعل إلى روسيا.
أخيرًا، يُظهر الضعف الروسي في كيفية الترحيب بقوات بريغوجين في روستوف وهتافات المارة ودعمها لزعيم المرتزقة بهتافات “فاغنر”. يمكن للمرء أن يتخيل تحيات أخرى لرجل أطلق للتو على جيشه.
عدد كبير جدًا من الأعداء
كان من الواضح منذ البداية أن انتفاضة بريغوجين لن تكون كافية ضد تلك المؤسسات الموالية للكرملين. لقد صنع بريغوجين عددًا كبيرًا جدًا من الأعداء على مر السنين ليكون ناجحًا. إنه يفتقر إلى حزب وبرنامج سياسي – حتى لو حاول سد هذه الفجوة بترديد كلمة العدالة مرارًا وتكرارًا، ووصف التقدم نحو موسكو بـ”مسيرة العدالة”.
ومع ذلك وجد بريغوجين النقطة التي من المرجح أن يتعرض نظام بوتين للهجوم من خلالها: من قبل منتقدي الحرب القوميين، الذين شنوا هذه الحرب هم أنفسهم. إن الرجل الذي أرسل بلا رحمة عشرات الآلاف من السجناء إلى وفاتهم يبدو الآن معارضًا للحرب بشكل صارم ويشرح نقطة تلو الأخرى التي استخدمتها دعاية الكرملين لتبرير “العملية العسكرية الخاصة”.
الحقيقة الهامة أن بوتين لم يكن قادرًا على تحديد مصدر الخطر هذا وإخماده في الوقت المناسب، وأنه اضطر بعد ذلك إلى تقديم تنازلات بعيدة المدى لبريغوجين بدلاً من تحميل الخائن المسؤولية- كما أعلن في خطابه يوم السبت- هي واحدة من الإذلال الأكثر عمقًا في حياته المهنية، وتتفاقم مع حقيقة أنه لا يزال من غير الواضح كيف سيتعامل بوتين مع مطلب بريغوجين الأكثر أهمية: وهو استبدال القيادة العسكرية. لم يظهر وزير الدفاع سيرغي شويغو ورئيس الأركان فاليري غيراسيموف في أي مكان طوال فترة التمرد.
إذلال بوتين ستكون له عواقب
وتؤكد المجلة الألمانية في تحليلها أنه يكاد يكون من المستحيل أن يترك بوتين بريغوجين يفلت من العقاب. في نظره، اصطياد الخونة ليس تواطؤًا ولا تراجعا باتفاقاته، بل هو أمر مشروع تقتضيها المرحلة.
بيد أن انتفاضة بريغوجين ستؤدي حتما إلى قمع أشد في روسيا، وإلى البحث عن خونة حقيقيين أو محتملين في الأجهزة الأمنية، في النخبة، في المجتمع.
ومن المرجح أن يبحث بوتين عن طرق للتغطية على الإذلال في الداخل بعنف جديد خارج حدود روسيا. لن يغفر للعالم لأنه رأى ضعفه.
——————————-
ما مستقبل وزير الدفاع الروسي شويغو بعد تمرد فاغنر؟
يشغل وزير الدفاع الروسي سيرغي شويغو منصبه منذ أكثر من عقد، وهو لا يعدّ فقط حليفاً سياسياً للرئيس فلاديمير بوتين، بل كذلك أحد أصدقائه القلائل داخل النخبة الروسية، لكنّ علاقتهما صارت على ما يبدو على المحكّ.
وسبح الرجلان معاً في سيبيريا النائية، وتشاركا رحلات صيد، ولعبا في نفس فريق هوكي الجليد.
والآن، تواجه صداقتهما، ومسيرتهما السياسية الممتدة لعقود، أكبر اختبار بعد التمرّد المسلح لقائد مجموعة فاغنر يفغيني بريغوجين، الذي انتقد طريقة تعامل وزير الدفاع مع غزو أوكرانيا.
يبدو أنّ بوتين نجا من التمرّد بعد وساطة مفاجئة للرئيس البيلاروسي ألكسندر لوكاشنكو. لكنّ وضع شويغو لا يزال هشّا بسبب الشدّة غير المسبوقة لانتقادات بريغوجين له ولوزارته.
ونجح بريغوجين في الاستيلاء على مقرّ القيادة الجنوبية للجيش الروسي في “روستوف-نا-دونو”، مدينة روستوف الواقعة على نهر الدون، والتي تعتبر المركز العصبي للعمليات العسكرية في أوكرانيا. واتّهم قائد فاغنر شويغو بالفرار “مثل الجبان”، وتعهّد بأنّه “سيتم إيقافه”.
ومذاك، اختفى وزير الدفاع، ولا يزال متوارياً عن الأنظار.
وكان قائد فاغنر اتّهم في وقت سابق شويغو وخصمه الآخر رئيس الأركان الجنرال فاليري غيراسيموف بالمسؤولية عن مقتل “عشرات الآلاف من الروس” في الحرب، و”تسليم الأراضي للعدو”.
“الخاسر الأكبر”
ويرى مدير المرصد الفرنسي الروسي أرنو دوبيان أنّ “المنتصر الأكبر في هذه الليلة هو لوكاشنكو”، أما “الخاسر الأكبر فهو شويغو”.
لكن حتى قبل اندلاع التمرد ليل الجمعة، كان شويغو تحت ضغط هائل بسبب انتقادات بريغوجين وفشل القوات المسلحة الروسية في إحراز تقدّم.
وفي 12 يونيو/ حزيران، انتشر مقطع فيديو على نطاق واسع لحضور بوتين وشويغو فعالية توزيع ميداليات في مستشفى عسكري، وظهر في الفيديو الرئيس الروسي وهو يدير ظهره لوزير الدفاع في ازدراء واضح.
ولشويغو مسيرة سياسية طويلة الأمد لا مثيل لها في روسيا ما بعد الاتحاد السوفييتي، ووجوده في مركز السلطة في موسكو يسبق وجود بوتين نفسه.
ويتحدّر شويغو من منطقة توفا في جنوب سيبيريا، وهو من بين عدد قليل من المنتمين لأقليات إثنية شغلوا منصباً رفيعاً في الحكومة بعد انهيار الاتحاد السوفييتي.
وبدأ صعوده عام 1994 عندما عُيّن وزيراً لحالات الطوارئ في السنوات الأولى لرئاسة بوريس يلتسين. وصار حضوره مألوفا للروس، فضلاً عن كونه أحد أكثر السياسيين شعبية في البلد، إذ تنقّل في كلّ الأنحاء للتعامل مع الكوارث التي تراوحت من حوادث الطائرات إلى الزلازل.
وخدم شويغو في الحكومة مع نحو عشرة رؤساء للوزراء، وهو يشغل حقيبة الدفاع منذ عام 2012، عندما عُيّن حاكماً لمنطقة موسكو قبل أن يعيّنه بوتين وزيراً للدفاع في نفس العام بعد فضيحة فساد أسقطت سلفه أناتولي سيرديوكوف.
“على وشك الانهيار”
ومُنح شويغو رتبة جنرال فور تعيينه وزيراً للدفاع، رغم افتقاره لأيّ خبرة عسكرية رفيعة المستوى، لكنّه أشرف بنجاح على العمليات، بما في ذلك التدخل في سورية عام 2015، والذي أبقى حليف موسكو بشار الأسد في السلطة.
في عيد ميلاده الخامس والستين، قدّم له بوتين هدية خاصة هي واحد من أرفع الأوسمة الروسية، وسام “الاستحقاق للوطن” الذي أضافه إلى صندوق مليء بالأوسمة.
لكنّ غزو أوكرانيا الأقلّ نجاحاً- والذي كان الكرملين يأمل في البداية أن يشهد دخول الدبابات الروسية إلى كييف- يثير باستمرار تساؤلات بشأن مستقبله.
في هذا الصدد، يقول بيار رازو، الباحث في مؤسسة الدراسات الاستراتيجية المتوسطية ومقرّها فرنسا: “أراد بريغوجين توجيه رسالة مفادها أنّه يجب طرد شويغو وغيراسيموف لأنّهما غير كفوءين، وهناك حاجة إلى تغيير الاستراتيجية”.
في الأثناء، غابت علامات الصداقة والصور المشتركة لرحلات الصيد كما في عام 2017.
بدلاً من ذلك، صار شويغو يظهر في لقاءات باهتة وهو يقدم تقاريره إلى بوتين، أو يظهر وجهه في طرف شاشة بينما يشرف الرئيس على مؤتمر عبر الفيديو.
كما استهدف بريغوجين عائلة شويغو، ولا سيّما زوج ابنته كسينيا، أليكسي ستولياروف، الذي يعمل مدوّناً في مجال اللياقة البدنية واتّخذ مسافة من الحرب، وقالت وسائل إعلام معارضة إنّه وضع علامة إعجاب على منشور يعارض الغزو.
وتغصّ قنوات ناطقة بالروسية في تطبيق تلغرام بتكهّنات حول من يمكن أن يخلف شويغو، ويعدّ البديل الأوفر حظّاً حاكم منطقة تولا أليكسي ديومين، الذي سبق أن تولّى مناصب عليا في الجيش والأمن الرئاسي.
وفي هذا الصدد، قالت قناة “بريمنك” على تليغرام إنّ “مجموعة شويغو على وشك الانهيار وسيرغي كوزوجيتوفيتش (شويغو) نفسه وصمة عار وسيستقيل على الأرجح”.
(فرانس برس)
—————————–
بلينكن: تمرد فاغنر كشف وجود “تصدّعات حقيقية” في سلطة بوتين
اعتبر وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن، اليوم الأحد، أن تمرّد قائد مجموعة فاغنر، يفغيني بريغوجين، الذي جرى إحباطه، يكشف وجود “تصدّعات حقيقية” على مستوى سلطة الرئيس الروسي فلاديمير بوتين.
وقال بلينكن، في سلسلة من المقابلات التلفزيونية، إن التوتر الذي أدى لتمرد القوات التي يقودها يفجيني بريغوجن كان يتصاعد منذ أشهر، وإن تلك الاضطرابات قد تؤثر في قدرات موسكو بأوكرانيا، وفق ما نقلت “رويترز”.
وأكّد بلينكن، في تصريحات لشبكة “سي بي أس” الأميركية، أنّ تمرّد قائد فاغنر “شكّل تحدّياً مباشراً لسلطة بوتين”. وأضاف: “هذا الأمر يثير تساؤلات كبرى، ويُظهر وجود تصدّعات حقيقية”.
وقال وزير الخارجية الأميركي إنّ “تحويل انتباه روسيا (…) يخلق باعتقادي ميزة إضافية” لأوكرانيا التي تقود هجوماً ضدّ القوات الروسية. وتابع: “من السابق لأوانه معرفة كيف سينتهي هذا الأمر. إنّها لوحة بصدد التشكّل”، مضيفاً: “لكنّ وجود أحد ما في الداخل يتحدّى سلطة بوتين ويشكّك بشكل مباشر في الأسباب التي من أجلها أطلق هذا الهجوم على أوكرانيا هو أمر وقعه قويّ جداً”.
ولفت الوزير الأميركي إلى أنّ الروس “تعيّن عليهم أن يدافعوا عن موسكو ضدّ مرتزقة هم من أوجدوهم”، مشدّدا على “الإخفاق الاستراتيجي” للرئيس الروسي في أوكرانيا، بحسب ما أوردت “فرانس برس”.
وتوقع بلينكن أن تستغرق الاضطرابات الناجمة عن “التحدي غير المسبوق لسلطة الرئيس الروسي فلاديمير بوتين من مقاتلي مجموعة فاغنر العسكرية الخاصة شهوراً عدة”. وقال لبرنامج “ميت ذا بريس” على شبكة “أن بي سي”: “تركيزنا ينصب بلا هوادة وبتصميم على أوكرانيا، لنتأكد من أن لديها ما تحتاج إليه للدفاع عن نفسها واستعادة الأراضي التي احتلتها روسيا”.
وقال لبرنامج “ذيس ويك” على شبكة “أيه بي سي” إن تلك الاضطرابات “لو وصلت إلى الحد الذي يجعل الروس في حالة من التشتت والانقسام فقد يجعل ذلك من مواصلتهم العدوان على أوكرانيا أكثر صعوبة”. وشدد على أن الوضع النووي للولايات المتحدة ولروسيا لم يتغير نتيجة للأزمة الأخيرة.
وأجرت الولايات المتحدة في الساعات الأربع والعشرين الأخيرة مشاورات مكثّفة مع حلفائها الأوروبيين بشأن الأزمة في روسيا، وكانت قد امتنعت إلى حينه عن الإدلاء بتعليقات مباشرة على تلك التطورات.
وبحث بلينكن، السبت، في الأوضاع الدائرة في روسيا مع نظرائه في دول مجموعة السبع ومع نظيريه البولندي والتركي، واعتبر أنّه “من السابق لأوانه” التكهّن بشأن تداعيات الأزمة على روسيا أو على الحرب الدائرة في أوكرانيا.
————————————
بزنس المرتزقة … فاغنر نموذجا/ مصطفى عبد السلام
أمس السبت تحدّت قوة مسلحة تضم نحو 25 ألفا من المرتزقة والجنود المأجورين، روسيا صاحبة ثاني أقوى جيش في العالم، حيث أعلن قائد قوات مجموعة “فاغنر” العسكرية يفغيني بريغوجين أن قواته سيطرت على المنشآت العسكرية والمطار العسكري في مقاطعة روستوف الروسية.
الموقع حساس جدا بالنسبة لروسيا والحرب في أوكرانيا، إذ يعتبر المقر العام لقيادة الجيش في مدينة روستوف، مركزا أساسيا للحرب هناك.
كما سيطر مقاتلو فاغنر الروس أيضا على جميع المنشآت العسكرية في مقاطعة فورونيج التي تقع على الحدود مع أوكرانيا على بعد 500 كيلومتر جنوب موسكو، وإسقاط مروحية للجيش حاولت قصف قواتها.
وصل التحدي بقائد فاغنر إلى القول إنه قريباً سيكون لروسيا رئيس جديد، وهو ما يعني إزاحة بوتين عن منصبه، ليتخطى بذلك كل الخطوط الحمراء
ووصل التحدي بقائد فاغنر إلى القول إنه قريباً سيكون لروسيا رئيس جديد، وهو ما يعني إزاحة بوتين عن منصبه، ليتخطى بذلك كافة الخطوط الحمراء المرسومة حتى للمعارضة بشكل شديد الصرامة في دولة ديكتاتورية يحكمها حاكم مستبد.
تطورت الأحداث سريعاً بعد ذلك، فقد هدد بريغوجين بالتوجه إلى موسكو، وبالفعل تحركت قافلة من مقاتلي فاغنر تضم نحو 5 آلاف مقاتل لتقترب من ضواحي العاصمة، رغم تحذيرات بوتين وتوعّده برد قاس على “الخيانة”.
إعلان قائد “فاغنر” وتحركاته المباغتة للدولة الروسية وتمره المثير مثّل صدمة للجميع، روسيا ودول العالم والعواصم الغربية، وكذا لأسواق المال والمستثمرين ووكالات التصنيف الدولية.
ففي الداخل، ظهر فلاديمير بوتين بمظهر الضعيف العاجز الذي تتحداه قوة مسلحة تعمل خارج القانون قوامها 25 ألف مقاتل كانت تدعمه داخليا وخارجيا حتى وقت قريب، ورفضت مرارا الانضواء تحت مظلة وزارة الدفاع الروسية.
ووسط مخاوف من اتساع نطاق الاضطرابات في روسيا، سارع بوتين إلى وصف قائد فاغنر بالخائن، والتأكيد على أنه لن يسمح بحدوث “حرب أهلية” جديدة في روسيا.
وأعطى أوامره بتشديد الإجراءات الأمنية في موسكو، وإخضاع المواقع الأكثر أهمية، وأجهزة الدولة ومنشآت النقل، لإجراءات أمنية مشدّدة.
كما أعلنت لجنة مكافحة الإرهاب الروسية فرض نظام مكافحة الإرهاب بالعاصمة ومقاطعة موسكو، تحسبا لما وصفتها بأعمال إرهابية.
ظهر بوتين بمظهر الضعيف العاجز الذي تتحداه قوة مسلحة تعمل خارج القانون قوامها 25 ألف مقاتل كانت تدعمه حتى وقت قريب
هذه بالطبع خطوات أقل كثيرا من المتوقع، حيث كانت التوقعات تصب في اتجاه تدمير موسكو فاغنر والمنتسبين إليها، لا الدخول معهم في مفاوضات والاستجابة لمطالبهم ومنها إسقاط التهم الموجهة إلى قائدهم.
عالمياً، شهدت الأسواق ارتباكا شديدا عقب تفجّر أزمة المرتزقة الروس، إذ ارتفعت أسعار النفط، وسارع المستثمرون نحو حيازة الملاذات والأصول الآمنة مثل السندات الأميركية والدولار والذهب.
وتوقعت “فوربس” أن يكون لتمرد مجموعة فاغنر تداعيات سريعة على أسواق الطاقة العالمية. وقالت وكالة التصنيف الائتماني ستاندرد أند بورز، إن التطورات الأمنية الجارية في روسيا أثارت مخاوف بشأن أمن إمدادات السلع الرئيسية المنتجة في البلاد، مثل الطاقة والحبوب.
هذه المخاوف العالمية مبررة، فروسيا لا تزال تمثل رقماً صعباً في الاقتصاد الدولي، خاصة على مستوى صادرات الطاقة، سواء النفط والغاز، والسلع الأولية والحبوب والقمح والفحم والحديد والألمنيوم والخشب والذهب، والماس، والنحاس، وكذا صادرات الأسلحة.
ورغم انتهاء أزمة “فاغنر” وقبول قائدها وساطة الرئيس البيلاروسي، وأمره قواته بالعودة إلى معسكراتها والتراجع عن محاصرة موسكو واقتحامها، فإن خطر تلك القوة المسلحة غير الشرعية لا يزال قائماً.
الأسواق العالمية باتت تتعامل مع هذا التمرد على أنه خطر جيوسياسي آخر لا يهدد فقط روسيا ونظامها السياسي، بل يهدد العالم أجمع
فالأسواق العالمية باتت تتعامل مع هذا التمرد على أنه خطر جيوسياسي آخر لا يهدد فقط روسيا ونظامها السياسي، بل يهدد العالم أجمع.
خطر جديد يضاف إلى المخاطر الحالية، ومنها الحرب في أوكرانيا، والتوتر الصيني الغربي، ومخاطر الركود والتضخم والتشدد النقدي والدين العالمي.
“فاغنر” ليست القوة المسلحة الوحيدة في العالم والتي باتت تنافس الجيوش النظامية وتمتلك ثروات وأصولا ضخمة، وتلجأ إليها الحكومات في حروبها الخارجية كما تفعل روسيا في أوكرانيا، فقد سبقتها “بلاك ووتر” التي ارتكبت مئات من جرائم القتل وإبادة المدنيين في العراق والشرق الأوسط وغيره.
بل إن هناك دولاً في المنطقة دعمت هؤلاء المرتزقة وحاولت خلق كيانات عسكرية موازية للجيوش النظامية لمساعدتها في المهام القتالية التي تتم خارج حدودها. رأينا تلك المليشيات المسلحة تمارس جرائمها في ليبيا وسورية واليمن والسودان والعراق والصومال وغيرها من البلدان الأفريقية.
بزنس المرتزقة وتجنيد العسكريين المأجورين مقابل رواتب شهرية سخية تحوّل إلى نوع من الاستثمار المربح بدأ يتسع نطاقه يوما بعد يوم.
بزنس المرتزقة وتجنيد العسكريين المأجورين مقابل رواتب شهرية سخية تحوّل إلى نوع من الاستثمار المربح بدأ يتسع نطاقه يوما بعد يوم
ويكفي القول بأن عائدات شركات الأمن الخاصة قدرت بنحو 400 مليار دولار في عام 2020، وأن مجموع أرباح هذه الشركات في المنطقة العربية بلغ نحو 45 مليار دولار في الفترة من عام 2011 وحتى 2014.
وأن دولاً وجيوشاً نظامية باتت تعتمد على هؤلاء المرتزقة في تنفيذ مهام قتالية، وهو أمر خطير، وما يحدث في السودان حالياً أبرز مثال على ذلك، فالجيش السوداني بات وجهاً لوجه أمام مليشيا الدعم السريع التي تدعمها بعض دول المنطقة.
—————————-
الحرب الأهلية الروسية/ حسام كنفاني
يبدو أن الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، يخسر رهاناته شيئاً فشيئاً، بداية من إعلانه الحرب على أوكرانيا قبل عام ونصف العام تقريباً، وما رافق ذلك من خسائر روسية سياسية وعسكرية واقتصادية، خصوصاً مع التقديرات الروسية التي كانت تتحدّث عن أن الحرب لن تستمر أكثر من بضعة أسابيع، وصولاً اليوم إلى التمرّد الذي أعلنه زعيم مرتزقة “فاغنر”، يفغيني بريغوجين، على قرارات الرئيس الروسي. يحصد بوتين اليوم ما زرعت يداه، فالوحش الذي ربّاه على مدى السنوات الماضية، وأطلقه في ساحات القتال عبر العالم، انقلب عليه وبات يهدّد المكانة التي أراد بوتين بناءها لنفسه وتكريسه قيصراً جديداً في روسيا، غير أن “القيصر” أخطأ في حسابات القوة، سواء لخصومه أو حلفائه، حتى بات عرشُه مهدّداً بشكل جدّي جدّاً هذه المرّة.
قصة بوتين وفاغنر الحالية تشبه إلى حد كبير قصة هتلر وستالين خلال الحرب العالمية الثانية، حين انقلب الأول على الحليف السوفييتي واتجه شرقاً مُهملاً الجبهة الغربية، وهو ما كلّفه خسارة الحرب بعد هزيمة ستالينغراد. اختار بوتين أيضاً لحظة مفصلية لمناكفة زعيم “فاغنر” ومحاولة احتواء المليشيا التي أسّسها، وضمّها إلى وزارة الدفاع الروسية، بعد تقديم إغراءات مالية، إضافة إلى حصانةٍ من الجرائم التي قد يكون أفراد هذه العصابات قد ارتكبوها، سواء في أوكرانيا أو غيرها. جاءت محاولة بوتين في وقت كانت مرتزقة “فاغنر” تساهم بشكل كبير في حسم المعارك التي لم يفلح الجيش الروسي في الانتصار فيها، وهو ما أثار حفيظة وزارة الدفاع الروسية التي رأت في المرتزقة تهديداً جدّياً لسطوة الجيش الروسي، وسعت إلى ضمها رسميّاً إلى القوات العسكرية الروسية.
لكن حسابات بريغوجين مختلفة كلياً، وليست مرتبطةً بالرئاسة الروسية فحسب، بل بالأوليغارشية الروسية أيضاً، والتي ترى في الحرب الأوكرانية والعقوبات الغربية المفروضة على روسيا خطراً يهدّد البلاد ومستقبلها، خصوصاً إذا استمرّ بوتين في منصبه بعد الانتخابات الرئاسية المقرّرة في عام 2024. قد لا تكون حركة بريغوجين بعيدة عن حسابات هذه الأوليغارشية التي باتت على قناعةٍ بأن لا خلاص لروسيا إلا برحيل بوتين، وهو ليس بالأمر الهيّن.
السؤالان الأساسيان اليوم: ما هي حدود هذا التمرّد؟ وإلى أي مدى تستطيع مرتزقة فاغنر إطاحة بوتين أو على الأقل خلخلة عرشه؟ من المؤكّد أنه ليس من السهل تدمير الإمبراطورية الداخلية التي بناها بوتين خلال السنوات الماضية، لكن من شأن الـ 25 ألف مقاتل الذين يدّعي بريغوجين أنه يمتلكهم أن يشعلوا حرباً أهلية روسية، لن يكون بعدها كما قبلها، خصوصاً أن من المفترض أن هؤلاء من النخبة. قد تضمّ إليها حربٌ كهذه في حال اندلاعها أطرافاً إضافية من الروس المعارضين لبوتين، وهم كثرٌ من الناقمين على المسار الديكتاتوري الذي خطّه الزعيم الروسي. ولا شك أيضاً في أن الغرب سيرى في “فاغنر” وزعيمها حليفاً مفترضاً في حال مضى في محاربة بوتين، وكما أغدق الأموال والسلاح على القوات الأوكرانية، لن يبخل في مدّ قوات “فاغنر” بالحد الأدنى من العتاد الذي يخولها بالمضي في المعركة، وإضعاف روسيا من الداخل.
من الواضح حالياً أن حرب “فاغنر” على بوتين قد بدأت رسميّاً، مع سيطرة المرتزقة على مقارّ عسكرية روسية في مدن متاخمة للحدود الأوكرانية، وهو أمرٌ لن يتوقف عند هذه الحدود في ظل ما يبدو ضعفا للقوات الحكومية الروسية أمام خبرات قوات المرتزقة، ما دفع موسكو إلى تشديد الإجراءات الداخلية، خصوصاً في محيط الكرملين، تحسّباً لما هو أكبر من ذلك. فالآتي في نظر الروس، بحسب التصريحات التي يدلي بها المسؤولون، وفي مقدمتهم بوتين، أخطر من مجرّد تمرّد مرحلي لزعيم مليشيا، وأقرب إلى حربٍ أهلية مرتقبة.
——————————–
ماذا عن إمبراطورية بوتين؟/ فاطمة ياسين
اختار الرئيس الروسي بوتين ما اعتقد أنه الوقت الأنسب لبدء غزوه أوكرانيا، وقدَّر أنها فرصة مواتية لتسجيل انتصارٍ سريع، وتحقيق الحلم الإمبراطوري الذي يؤمن به، وقرّر أن يكون الهجوم وسط الشتاء وفي قمة الطلب الأوروبي على الغاز الروسي، وحدّد شهر فبراير/شباط شديد البرودة، ليستغلّ الحاجة الماسّة لإمدادات الغاز. ووسط الانخفاض القاسي في درجات حرارة الطقس، كانت القارّة الأوروبية تعيش حالةً من عدم الاستقرار السياسي، فقد غيّرت بريطانيا رئيس وزرائها عدّة مرّات بعد الخروج من الاتحاد الأوروبي، وما زالت حائرة في إدارة ما بعد “بريكست”. وكانت ألمانيا في مرحلة انتقالية، بعد أن تأكد خروج أنجيلا ميركل التي قادت السياسة هناك 15 سنة ظهرت فيها بصماتها الشخصية على القارّة كلها، وشكّل وجودها حلفا أوروبيا قويا منع انهيار دول الاتحاد الأوروبي الجنوبية. ورأى بوتين أن الجدل الأوروبي الحادّ بشأن المهاجرين يمكن أن يُحدث نقطة قوة لصالحه، تسهّل عملية الحسم السريع. أما النقطة الأهم، والتي كان بوتين يعوّل عليها، فهي سرعة انهيار الجبهة الداخلية الأوكرانية، في ظل صعوباتٍ اقتصاديةٍ وعدم رضى عن أداء الرئيس زيلينسكي.
وضع بوتين كل تلك النقاط في جعبته، وحاول الإطباق على العاصمة الأوكرانية كييف من جهتين، لكنه فوجئ بمقاومة أوكرانية ضارية، وموقف أميركي شديد الصلابة. رغم انشغال الإدارة الأميركية بالصين، إلا أن موقفها من الحرب كان عاملا مهما في إجبار بوتين على تغيير تكتيكاته العسكرية والسياسية، فكانت أولى خطواته سحب القوات التي اندفعت نحو كييف، وتركيز هجومه على المناطق الشرقية، ومحاولة التقدم البطيء لتحصين ما يملك.
لدى بوتين رغبة في عودة التاريخ إلى ما قبل انهيار الدولة السوفييتية، عندما كانت كييف جزءا أساسيا منها. لذلك يريد أوكرانيا شبه دولة تسبح في الفلك الروسي، مبرّرا ذلك بالأصل المشترك. ومن خلف بوتين، يؤمن روسٌ كثيرون بهذه النظرية. ومن هذا الباب، يعارض بشدّة انضمامها إلى حلف الناتو، فهو لا يسمح بوجود كيان مكتمل مستقلّ الهوية كان يوما ما جزءا من التراث الروسي، منضمّاً إلى تجمّع عسكري معاد، وقد غامر بالحرب للاستحواذ على أوكرانيا، وقطع الطريق على “الناتو” في كسب عضوٍ جديد، قد يشكّل خطورة وتهديدا على وجود بوتين نفسه في السلطة. لذلك حاول، طوال العشرين عاما الماضية، أن يهيمن على أوكرانيا، وكانت حرب 2014 مقدمة لذلك، كسب فيها ضم جزيرة القرم. ولكن المشكلة أصبحت أكثر استعصاءً منذ ذلك الوقت، فتوّج جهوده بالغزو في 2022، معتقدا أن حالة القارّة المتأزّمة وحالة أوكرانيا الاقتصادية وانغماس بايدن في جنوب الكرة الأرضية، بالقرب من الصين، سيجعلون حربه قصيرة الأمد وسريعة النتائج.
بعد مرور 16 شهرا على الحرب، تنقلب الطاولة في وجه بوتين، حين تتلقّى أوكرانيا مزيدا من الأسلحة ومزيدا من التمويل السخي، وكثيرا من التعاطف الجارف، وتزداد جبهتها الداخلية تماسكا مع أخبار المعارك المشجّعة وصمود الجيش الأوكراني الذي نجح في تشويه سمعة السلاح الروسي، وفقدت روسيا ميزتها بتفوّقها في توريد الطاقة، حين سارعت القارّة إلى إيجاد بديل، وأمّنت احتياجاتها في الشتاء، وتوقّفت تماما أنابيب خطوط الشمال، وتعرّض أحدها للتدمير رغم أنه لم يوضع قيد التشغيل بعد. ولكن ما قد يجعل الموقف أكثر قتامةً في وجه بوتين تغيير فرنسا موقفها، وموافقتها على انضمام أوكرانيا إلى حلف شمال الأطلسي. وكانت بريطانيا قد أعربت عن قبولها ذلك، وفي موقفٍ كهذا يجد بوتين نفسه قد تراجع عدة خطواتٍ إلى الوراء، وفقد أوكرانيا نهائيا رغم التكاليف البشرية والمالية الضخمة التي قدّمها، فهو في وضع عسكري شبه متجمّد، ولا أمل له في مزيد من التقدّم، لتصبح هذه الحرب مجرّد مغامرة اعتقد بوتين أنه حسبها بدقة، لكنه غالبا أخطأ في التقدير.
——————————–
هل يؤثر تمرد فاغنر المجهض على مسار الحرب في أوكرانيا؟
أثار تمرد مجموعة فاغنر المجهض في روسيا الارتباك، وأضعف صورة الرئيس فلاديمير بوتين وقادته العسكريين، الأمر الذي قد يكون له تأثير على مسار الحرب في أوكرانيا، وفق ما يرى محللون.
من الناحية التكتيكية، لا تزال التداعيات المباشرة للتمرّد غير واضحة، إذ إنّ فاغنر لا تضطلع بأيّ دور فعلي في المسرح الأوكراني في الوقت الحالي، وفق الباحث في معهد أبحاث السياسة الخارجية روب لي.
وأضاف الخبير على “تويتر”، أنه “تمّ استبدال قوات فاغنر، في نهاية مايو/أيار وبداية يونيو/حزيران، في باخموت (في شرقي أوكرانيا حيث قاتل المرتزقة لأشهر عديدة)، ولا أعتقد أنّهم موجودون حالياً في الخطوط الأمامية مع استدعاء عدد منهم للمشاركة في هذا الحدث”.
وأوضح أنّ “فاغنر قوة هجومية وليست قوة دفاعية”، يحتاجها الروس لعرقلة الهجوم المضادّ الأوكراني الجاري.
من جهته، قال وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن، الأحد، إنّ التمرد الذي قام به زعيم المجموعة يفغيني بريغوجين “شكّل تحدياً مباشراً لسلطة بوتين” وأظهر “وجود تصدّعات حقيقية” في أعلى هرم السلطة.
أما الباحث في المعهد الدولي للدراسات الاستراتيجية وليام البيركي، فقال لوكالة فرانس برس، إنّ “هذا الحدث يضعف مصداقية بوتين الذي ظهر مذعوراً على التلفزيون”، صباح السبت.
وأضاف: “الجميع في موسكو يتساءلون: إذا كانت تمرداً قصيراً، فلماذا تحدّث الرئيس عن حرب أهلية؟ من ناحية أخرى، إذا ظلّ بريغوجين على قيد الحياة، فإن جميع الجهات الروسية الفاعلة في الأمن ستشعر أنّه بإمكانها الإفلات من العقاب” إذا ما لجأت إلى القوة.
وخلال التمرّد المسلّح الذي استمر 24 ساعة ووصلت خلاله قوات فاغنر إلى بُعد أقلّ من 400 كيلومتر من موسكو، تحدّى بريغوجين مباشرة سلطة الرئيس الروسي، قبل أن يسحب رجاله ويغادر إلى بيلاروسيا المجاورة.
وتقدّمت قواته مئات الكيلومترات من دون أن تلقى أيّ مقاومة، وأسقطت خلال تقدّمها ستّ مروحيات وطائرة عسكرية.
ضربة معنوية
وقبل انسحابها، سيطرت القوات المتمرّدة على مقرّ قيادة الجيش الروسي في روستوف (جنوب غربي روسيا)، مركز إدارة العمليات في أوكرانيا.
وشكّلت هذه الانتفاضة ازدراء للعدوين اللدودين لزعيم فاغنر، وزير الدفاع سيرغي شويغو، ورئيس الأركان فاليري غيراسيموف، اللذين يتّهمهما بريغوجين بخذلان رجاله على الجبهة الأوكرانية.
والسبت، وصفت كييف هذا الارتباك بأنّه “فرصة سانحة” في وقت تشنّ فيه قواتها هجومًا مضاداً لدحر القوات الروسية التي تحتل أجزاء من جنوبي البلاد وشرقيها.
كما سخر الجيش الأوكراني من روسيا، وانتشر على الشبكات الاجتماعية فيديو لجندي أوكراني يشاهد الأخبار على جهازه اللوحي بينما يأكل الفشار بشراهة.
لكنّ موسكو أكّدت أنّ تمرّد فاغنر المجهض لن يؤثّر “بأيّ شكل من الأشكال” على عملياتها في أوكرانيا.
واستمرت الضربات الروسية في أوكرانيا، السبت، وأسفرت عن مقتل 5 أشخاص في كييف، بحسب رئيس بلدية المدينة.
كما أعلنت روسيا، الأحد، أنها صدّت عدداً من الهجمات للقوات الأوكرانية في شرق وجنوب البلاد، بعدما أعلنت كييف أنّها أحرزت تقدماً ميدانياً.
رغم ذلك، يرجّح خبراء أن يشكّل التمرد ضربة لمعنويات القوات الروسية المنتشرة في أوكرانيا، التي تكبّدت خسائر فادحة خلال 16 شهراً من أجل تحقيق مكاسب ميدانية هامشية.
في هذا الصدد، قال الباحث في مؤسسة ويلسون الأميركية لوسيان كيم، في مقال بمجلة “فورين بوليسي”، إنّ “الغضب من القيادة الروسية لا يقتصر على فاغنر، فغضب بريغوجين من النخبة يمكن أن يمتدّ إلى داخل صفوف الجيش الروسي”.
بدوره، قال الباحث في مؤسسة البحر الأبيض المتوسط للدراسات الاستراتيجية بيار رازو “من المؤكّد أنّ ذلك سيؤثّر على الروح المعنوية الروسية”.
وأضاف الخبير أنّه “على الجانب الأوكراني، هناك زخم قد يستخدم لاختراق الجبهة، أو على الأقلّ كسب مواقع”.
لكنّ رازو حذّر من أنّه “سيكون من الضروري أيضًا تأمين الحدود البيلاروسية لأنّها ليست في مأمن من هجوم غادر. إذا زحف 15 ألف من عناصر فاغنر من بيلاروسيا، فيمكنهم إلحاق أضرار، قد يكون ذلك ما تفاوض عليه بريغوجين مع بوتين”.
(فرانس برس)
——————————
إنهاء تمرّد”فاغنر”:بريغوجين لاجئاً في بيلاروسيا..ومرتزقته يلتحقون بوزارة الدفاع
أظهر كشف الكرملين عن نقاط الاتفاق بين الرئيسين الروسي فلاديمير بوتين والبيلاروسي ألكسندر لوكاشينكو لانهاء تمرّد “فاغنر”، تسوية وضعت حداً لأخطر تطور أمني واجهته روسيا، وقضت بـ”إغلاق القضية الجنائية بحق بريغوجين”، ومغادرته الى بيلاروسيا.
وأعلن بريغوجين مساء السبت قبوله بوساطة الرئيس البيلاروسي، وأمر قواته بالعودة إلى معسكراتها، وبالفعل انتشرت صور من مدينة روستوف لبدء انسحاب مقاتلي “فاغنر” من المدينة، بعد سيطرة المجموعة صباح السبت على المنشآت العسكرية في مقاطعة روستوف (جنوبي البلاد)، وهدد بالتوجه إلى العاصمة موسكو، وتحركت أرتال بالفعل تجاهها، رغم تحذيرات بوتين وتوعده برد قاس على “الخيانة”.
ونقلت قناة “آر تي” الروسية تصريحات هاتفية للمتحدث باسم الكرملين دميتري بيسكوف كشف فيها عن العديد من النقاط التي تضمنها الاتفاق، تضمنت فتح باب انضمام بعض مقاتلي “فاغنر” ممّن رفضوا منذ البداية الانخراط في “حملة” بريغوجين، الانضمام الى صفوف القوات المسلحة الروسية والتعاقد مع وزارة الدفاع.
وقضت التسوية بعدم إخضاع مقاتلي “فاغنر” لأي ملاحقة قانونية، وعودة قوات “فاغنر” إلى معسكراتها، فيما يوقع الجزء الذي لا يرغب في العودة إلى المعسكرات، عقوداً مع وزارة الدفاع الروسية.
أما القضية الجنائية بحق بريغوجين، فيتم اغلاقها، بضمانات من رئيس بيلاروسيا، ويغادر إليها.
وأوضح بيسكوف أن الرئيسين الروسي فلاديمير بوتين والبيلاروسي ألكسندر لوكاشينكو اتفقا على وساطة مينسك في عملية التسوية، لافتا إلى أن الوساطة “كانت مبادرة شخصية من رئيس بيلاروسيا”.
وأكد المتحدث باسم الكرملين أن ما حدث السبت “لن يؤثّر بأي حال من الأحوال” على مسار ما تسميه موسكو “العملية العسكرية الخاصة” في أوكرانيا والمستمرة منذ شباط/فبراير 2022، مشدداً على أن القوات الروسية تواصل بنجاح صد الهجوم الأوكراني المضاد.
وأظهرت مشاهد لحظة مغادرة قائد “فاغنر” يفغيني بريغوجين، مدينة روستوف بعد السيطرة عليها. وكان لافتا أن بريغوجين الذي استقل سيارة “جيب” لحظة المغادرة، حظي بتحية كبيرة وتصفيق من قبل أهالي روستوف الذين تجمهروا في الشارع. ووجه الأهالي في الشارع تحية كبيرة لقوات “فاغنر” التي غادرت المدينة على متن آليات عسكرية ضخمة.
ومنذ ليل السبت، يعمل الكرملين على التخلص من آثار التمرد القصير الذي أثار مخاوف من حرب أهلية في روسيا. وذكرت الوكالة الاتحادية للطرق في روسيا أن القيود المفروضة على حركة المرور على طريق إم-4 السريع الرئيسي في منطقتي موسكو وتولا مستمرةٌ اليوم الأحد.
وأكدت وكالة إنترفاكس أن قوات “فاغنر” غادرت مع جميع آلياتها بشكل كامل مقر قيادة المنطقة العسكرية الجنوبية في روستوف القريبة من مقاطعة دونيتسك (شرقي أوكرانيا).
وقال المتحدث باسم الرئاسة الروسية ديمتري بيسكوف إنه لا علم له بأي تغييرات بشأن ثقة الرئيس فلاديمير بوتين بوزير الدفاع سيرغي شويغو، نافيا أن تكون المفاوضات مع بريغوجين تضمنت بحث إقالة مسؤولين بوزارة الدفاع الروسية.
—————————-
كيف ستتأثر سوريا بالانقلاب الروسي؟/ عبدالناصر العايد
لا يمكننا أن نعرف الآن كيف ستنتهي مغامرة يفغيني بريغوجين وتمرده على “الدولة” الروسيّة. لكن، حتى لو نجح بوتين ووزارة الدفاع في تحييده، فإن ارتدادات ما قام به ستستمر طويلاً، وسيستغرق إصلاح ما دمّره، والفساد الداخلي الذي كشف عنه، الكثير من الوقت، وفي كل الأحوال فإن الاتحاد الروسي الذي ينخر الفساد العميق جميع مؤسساته، يُنظر إليه اليوم على أنه “رجل العصر” المريض، الذي يحيق به الخصوم من كل جانب على أمل تفكيكه والهيمنة على أجزائه.
بعيداً جداً من موسكو، يبدو السوريون الأكثر ترقباً لما يحدث هناك، سواء في ضفة النظام أو المعارضة. فالروس هم اللاعب الحاسم في المشهد، منذ أكثر من عشر سنوات، لكن القلق أيضاً كبير في معسكر حلفاء موسكو على الأرض السورية، أي تركيا وإيران، وهنا سنستعرض التأثيرات المحتملة للاضطراب العنيف في موسكو، بغض النظر عن النتائج الدقيقة التي سيسفر عنها.
على صعيد النظام، سيخلق انحسار الغطاء الروسي، وانشغال الكرملين بجراحه، وضعاً شبيهاً بلحظة سقوط الاتحاد السوفياتي بالنسبة لنظام الأسد الأب، وهي المرحلة التي لجأ فيها مباشرة إلى تحسين علاقاته بالولايات المتحدة والدول الغربية، وذلك عبر بوابة المفاوضات الماراثونية مع إسرائيل، والمشاركة في حرب الخليج ضد العراق التي قرّبته من الدول العربية الغنية. وهو الامر الذي ما زال متاحاً ومطروحاً، فالاعتراف بإسرائيل يكاد يكون ورقة نظام الأسد الوحيدة، والدول العربية ذاتها تعرض الأمر عليه بصيغة جديّة، لكنه يعيش صراعاً وتناقضاً مع إيران التي ما زالت تمانع وترفض الانسحاب من سوريا، وهو شرط بديهي لأي عملية تطبيع محتملة.
الفوارق بين مرحلتي الأسد الأب والإبن، في هذا الملف، لا يمكن تجاهلها. فرأس النظام الحالي لا يمتلك هامش المناورة للدخول في مفاوضات طويلة. الجميع مستعجلون لفرض التطبيع في الإقليم، ولا وقت يمكن تبديده في تفاصيل لا طائل منها. كما أن القوات الإيرانية على الأرض السورية، ولا يمكن غض النظر عنها، وستزداد قوة مع انحسار التأثير الروسي. والأهم، أن الولايات المتحدة تهيمن على نحو ثلث البلاد ويدين لها بالولاء جيش محلي جرار.
ثمة نقطة لصالح نظام الأسد في ما يحدث، إذا اتجهت الأمور نحو الحسم لصالح بوتين. فعلاوة على استمرار تغطية انتهاكاته دولياً، ولو اقتصر الأمر على الفيتو في مجلس الأمن، فإن لبريغوجين وشركته الأمنية ديوناً كبيرة على النظام جراء مشاركتها في قمع الثورة السورية، وقواته ما زالت تهيمن على حقول نفط وغاز في سوريا بموجب عقود مبرمة مع حكومة النظام. كما يملك امتيازات مستقبلية وفق اتفاقيات أخرى، لمدة لا تقل عن 25 سنة، يتوقف تنفيذها على استقرار الأوضاع في سوريا. وفيما لو انهار جيش “فاغنر”، فإن النظام سيتحرر من عبئه وضغوطه التي ظهر أحدها إلى العلن عندما نشرت استطلاعات ومقالات في صحف يملكها بريغوجين وصفت بشار الأسد بـ”ذيل الكلب”.
أما إيران، فمهما كانت الحال، فإنها ستفقد جزئياً أو كلياً الدعم الميداني الذي كانت تقدمه القوات الجوية الروسية للحرس الثوري في الميدان. وهو ما بدأ بالفعل، إذ انسحب جزء من الوحدات الروسية من شرق سوريا، ما دفع الحرس الثوري لاستقدام مليشيات عراقية لسد الفجوة، وقد شوهدت العشرات منها في شوارع دير الزور، ويبدو ذلك مكسباً وتمدداً جديداً للقوة الإيرانية. لكن كيف ستعوض طهران الدعم والغطاء الذي كانت تقدمه موسكو للعمليات الإيرانية على المستوى الاستراتيجي فيما لو عجز بوتين عن العمل في الساحة الدولية أو انهار نظامه؟ يبدو أن الصين ستكون خيار إيران الوحيد، وليس مضموناً أن تتدخل بكين في ملف بهذا التعقيد والصعوبة، لكن كل شيء وارد.
أما بالنسبة لتركيا، فإنها في وضع ممتاز سورياً، إذ يمكن لحكومة اردوغان أن توسع دائرة نفوذها وأن ترث الكثير من المواقع التي كانت تشغلها روسيا في ذلك الصراع. وقد يكون إتمام عملية التصالح معها خياراً اضطرارياً لنظام الأسد الفاقد لدعم أهم حلفائه، وبشروط أكثر ملاءمة لأنقرة.
أما المعارضات السورية، سواء المرتبطة بواشنطن مثل “قسد”، أو تركيا مثل “الائتلاف” و”هيئة تحرير الشام”، فإن تشتتها وعدم وجود استراتيجية مستقلة لديها سيجعلها أقل المستفيدين من التحولات الجارية ما لم يكن لدى واشنطن توجه لإنهاء الملف السوري بلمسة أخيرة من طرفها.
لا شك أننا أمام لحظة مفصلية في التاريخ المعاصر. فالأزمة الوجودية التي تعصف بالقوة النووية الثانية في العالم، لا يمكن أن تمر بهدوء، وقد تتحول إلى حدث يشبه سقوط الإمبراطورية العثمانية أو الاتحاد السوفياتي. وحتى لو سيطر بوتين على الصراع، ستكون أمامه مهمة إصلاح الدولة الروسية التي ينخرها الفساد في العمق، كما أظهرت الأزمة الراهنة. وهذه مهمة ستستغرق ما تبقى له من وقت، وستبعده من التأثير العالمي بشكل كامل، بعدما حجّمته الحرب الأوكرانية وحشرته في خانة القوى الإقليمية الكبيرة، كما يريد الغرب أو كما يشتهي. وحصة سوريا من هذه التطورات، كبيرة، ولمصلحة السوريين المعارضين في النهاية، مهما كان نوعها أو حجمها.
المدن
—————————–
استثمارات بريغوجين باقية في سوريا/ إياد الجعفري
خلال ساعات الترقب التي انشغل فيها المحللون بمراقبة تطورات التمرد الذي قاده يفغيني بريغوجين، ضد وزارة الدفاع الروسية، طُرح في النقاش، احتمال تمدد هذا التمرد إلى الأراضي السورية، التي ما تزال تشهد نشاطاً ميدانياً لميليشيا “فاغنر”. وقلّل محللون من هذا الاحتمال قبل حتى أن يخرج إلى العلن ذاك الاتفاق الذي توسطت فيه بيلاروسيا، والذي أنهى تمرد “فاغنر” داخل الأراضي الروسية.
لكن يبقى الغموض يكتنف المستقبل السياسي والمالي، لـ بريغوجين، فيما ينتقل الأخير إلى منفاه البيلاروسي. ويبقى لهذا المستقبل انعكاساته على المشهد السوري. فرجل الأعمال، الذي استخدم الارتزاق وسيلة لإشباع طموحه الاستثماري والسياسي في آن، يملك استثمارات غامضة وغير واضحة المعالم في قطاع النفط والغاز السوري.
ومن أكثر تلك الاستثمارات غموضاً، صلة مالك “فاغنر” بشركتَي “ميركوري” و”فيلادا”، اللتين حصلتا على عقود تنقيب عن النفط في سوريا، صدّق عليها مجلس الشعب الخاضع للنظام، نهاية العام 2019. ووفق صحيفة “نوفايا غازيتا”، الروسية المستقلة، فإن الشركتين تعودان لـ بريغوجين. ووفق تقرير لها نُشر مطلع العام 2020، فإن شركات بريغوجين كانت تحصد حوالي 20 مليون دولار شهرياً من استخراج الموارد الطبيعية في سوريا، خلال العام 2018.
وعُرفت “فاغنر” في سوريا، بأدوارها في استعادة حقول نفط وغاز من مقاتلي تنظيم “الدولة الإسلامية – داعش”، بين عامَي 2016 و2018. وتولت لاحقاً، مهام تأمين تلك الحقول، خاصة في ريف دير الزور. إلى جانب تأمين حقول الفوسفات في البادية السورية. وهي مهام ما تزال تضطلع بها الميليشيا، حتى الآن، في بعض المواقع.
وكان المكتب الصحافي لـ بريغوجين، قد نفى عام 2020، أي صلة له بشركتَي “فيلادا” و”ميركوري”. وبطبيعة الحال، لا يمكن اعتماد نفي الرجل، الذي يفتقد للمصداقية، بعد أن بقي ينفي صلته بشركة فاغنر، منذ تأسيسها عام 2014، حتى أيلول/سبتمبر عام 2022، عندما أقرّ بأنه المؤسس لها. قبل أن يظهر مع مقاتليها في ميدان المعارك بأوكرانيا، خلال العام الحالي.
وفيما يُظهر موقع شركة “ميركوري” أنها تأسست عام 1963، ولها نشاطات في التعدين والطاقة والصناعات الثقيلة في عشر دول، ومنذ السبعينات، يُظهر سجل شركة “فيلادا” أنها تأسست فقط في حزيران/يونيو 2018. أي قبل نحو سنة من توقيع عقدها مع وزارة النفط السورية. وحصلت الشركتان على حقول التنقيب في مواقع بالمنطقة الشرقية، وفي المنطقة الوسطى شمال العاصمة دمشق.
لكن أَوضَح استثمار لـ بريغوجين، كان ذاك العقد الذي وقّعته شركة النفط الحكومية السورية مع شركة “إيفروبوليس”، عام 2018، والذي قضى بحصول الشركة على ما نسبته 25% من أرباح مصافي النفط التي يتم استعادتها من “داعش”. وقد تأسست الشركة قبل أشهر فقط من توقيع العقد، كواجهة لنشاط “فاغنر” الاستثماري.
وفي ربيع العام 2021، صادَق رأس النظام، بشار الأسد، على اتفاق مُبرم مع شركة روسية غير معروفة، حملت اسم “كابيتال”، ومُنحت حق التنقيب عن النفط والغاز في البحر المتوسط. وقد تم اكتشاف صلات مؤكدة بين “كابيتال” وبين “إيفروبوليس” التابعة لـ “فاغنر”. إذ اتضح أن المدير العام للأولى، مُدرج بوصفه كبير الجيولوجيين في الثانية. مما يؤكد أن “كابيتال”، كانت واجهة جديدة لاستثمارات بريغوجين في قطاع النفط السوري.
ومنذ العام 2021، لا يمكن الوقوع على أي معلومة موثّقة حول نشاطات الشركات المشار إليها أعلاه، في سوريا. وفي حين، ما تزال “فاغنر” مستمرة في تأمين مواقع نفط وغاز وفوسفات، على تخوم البادية السورية في الشرق والوسط، يصعب الحصول على أي معطيات حول النشاط التنقيبي أو الإنتاجي، للشركات المرتبطة بالميليشيا. مما يعني أن النشاط الوحيد الذي يعود بالأموال على “فاغنر” في سوريا، ما يزال محصوراً بعمليات تأمين حقول الموارد الطبيعية. وهي عمليات يصعب تصوّر الاستغناء عنها، في وقتٍ قريب. حتى لو كانت هناك رغبة لدى الكرملين في تحييد بريغوجين عن أية مصادر للثروة أو القوة، في الدول التي تنشط فيها “فاغنر”. إذ أن أسباب استعانة الكرملين بمرتزقة “فاغنر” في سوريا، ما تزال قائمة، بل ربما، أصبحت أكثر إلحاحاً، مع سحب جانب كبير من قوة الجيش الروسي إلى ساحة القتال بأوكرانيا، والخشية من الترقب الإيراني لملء أي فراغ قد يتركه سحب الميليشيا الروسية من أية مواقع للموارد الطبيعية السورية التي اعتُبرت من حصّة روسيا، بعد العام 2018.
وهكذا يبدو أن فلاديمير بوتين في موقف حرج، حيال كيفية التعامل مع نفوذ بريغوجين في الدول التي كان فيها ذراعاً للسطوة الروسية غير الرسمية على مدار سنوات. وقد يكون خيار الرئيس الروسي، الأفضل، هو إعادة لجم “فاغنر”، إلى أدوارها التي كانت تقوم بها، بين عامي 2015 و2022، وهي القتال لصالح روسيا، بشكل غير رسمي، في الدول والمواقع التي لا يريد الكرملين توريط مؤسسته العسكرية الرسمية فيها، بعيداً عن التراب الروسي، وربما أيضاً، الأوكراني. مما يرجّح أن تبقى “فاغنر” في سوريا، على حالها اليوم. وأن تبقى استثمارات بريغوجين الغامضة فيها، على حالها أيضاً.
—————————
مرتزقة فاغنر تهدد بوتين: هل بدأت هزيمة القيصر الروسي؟
—————————-
محاولة انقلاب أم رسالة من زعيم فاغنر للفت نظر بوتين
الغرب يتابع بقلق، لا هو مع بوتين ولا مع الفوضى.
موسكو – تسارعت الأحداث بشكل سريع، ورد يفغيني بريغوجين مؤسس مجموعة فاغنر على ما وصفه بخيانة الجيش الروسي لمقاتلي مجموعته بالتقدم نحو العاصمة موسكو قبل أن يتراجع ويوقف تقدم قواته، في رسالة تبدو تحذيرية أكثر منها مسعى للانقلاب على الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، الذي وصف الهجوم بأنه تمرد مسلح وتوعد بسحقه.
يأتي هذا فيما يراقب الغرب ما يجري بحذر شديد، فلا هو في صف بوتين وشرعيته، وفي نفس الوقت فهو يتوجس من الفوضى التي قد تتسع لتصبح حربا أهلية.
وفي الوقت الذي أبدى فيه بوتين حزما في التصدي للانقلاب الميداني الذي حاول بريغوجين فرضه بقوة السلاح، فإن زعيم فاغنر بدأ بإرسال إشارات تعبّر عن رغبته في التهدئة والتوصل إلى حل، وكأن الهدف من الهجوم هو اختبار قدرة موقف بوتين وحزمه، وفي نفس الوقت اختبار قدرات الجيش الروسي ميدانيا خاصة بعد هجومه الإعلامي المستمر على القيادة العسكرية والتقليل من قدراتها وخبراتها.
وقال بريغوجين مساء السبت إنه أمر مقاتليه، الذين كانوا يتقدمون صوب موسكو، بالعودة إلى قواعدهم لتجنب إراقة الدماء.
زعيم فاغنر بعث إشارات تعبر عن رغبته في التهدئة، وكأن الهدف من الهجوم اختبار صبر بوتين وحزمه
وأضاف “الآن هو الوقت الذي يمكن فيه إراقة الدماء. لذلك، وإدراكاً منّا للمسؤولية الكاملة عن حقيقة أنّ دماء روسية ستراق على أحد الجانبين، فنحن ندير وجهة أرتالنا ونعود إلى المعسكرات الميدانية وفقاً للخطة”.
وأتى تصريح بريغوجين بعيد إعلان الرئيس البيلاروسي ألكسندر لوكاشنكو أنّ رئيس مجموعة فاغنر أبلغه موافقته على “وقف تحرّكات” مقاتليه في روسيا وتجنّب أيّ تصعيد إضافي للوضع.
وقال لوكاشينكو في بيان له إنه يوجد خيار مقبول ومريح لحل الموقف مطروح على الطاولة مع ضمانات أمنية لمقاتلي فاغنر.
ولم يتضح إلى حد وقت طباعة الصحيفة مدى تفاعل السلطات الروسية مع هذه الخطوة وهل ستوقف ملاحقته وملاحقة عناصره أم ستستمر في “سحق التمرد”. كما لم يتضح مدى التزام بريغوجين بوقف تقدم عناصره، وهل سينفذ قراره أم أنه مجرد مناورة.
ويعتقد مراقبون أن بريغوجين لم يكن ليخطو مثل هذه الخطوات لو لم يكن لديه تقدير بأن الخطوة ستحقق نتائج لفائدته وأولها إحراج وزير الدفاع وقائد الجيش وإقناع بوتين بأن القيادة العسكرية عاجزة عن حماية الٍأراضي الروسية، وأنه لولا قواته لكانت أوكرانيا قد تقدمت ميدانيا على حساب الجيش الروسي.
ويرى المراقبون أن الانقلاب في واضحة النهار يظهر أن زعيم فاغنر ربما يكون لديه حلفاء أقوياء داخل موسكو، أو من داخل قيادة الجيش، وهو عنصر أشار إليه نائب رئيس مجلس الأمن الروسي دمتري ميدفيديف، ذلك أن تصرفات أولئك الذين نظموا المحاولة “تتناسب تماما مع نمط الإطاحة بالدولة المخطط له والمدبر جيدا”.
ولم يستبعد ميدفيديف احتمال مشاركة أعضاء سابقين في وحدات النخبة العسكرية الروسية في الانتفاضة أو حتى مقاتلين من الخارج.
وانطلق مقاتلو فاغنر صوب موسكو بعد الاستيلاء على مدينة في جنوب البلاد خلال الليل، وفتحت طائرات تابعة للجيش الروسي النار عليهم لكنها عجزت عن إبطاء تقدمهم الخاطف.
وفي مواجهة أول تحد خطير لحكمه المستمر منذ 23 عاما، تعهد بوتين بسحق التمرد المسلح الذي شبّهه بالحرب الأهلية الروسية التي وقعت منذ قرن.
وقال مصدر مقرب من قيادة الجزء الخاضع لسيطرة روسيا من منطقة دونيتسك الأوكرانية إن قافلة مقاتلي فاغنر التي تقترب من ضواحي موسكو تضم نحو خمسة آلاف مقاتل بقيادة القائد الكبير في المجموعة دميتري أوتكين، وإن نفس العدد من المقاتلين موجود بمدينة روستوف بجنوب البلاد.
وأضاف المصدر، الذي أثبت أنه محل ثقة في السابق، أن فاغنر لديها في المجمل أقل من 25 ألف رجل تحت تصرفها. وتابع قائلا إن خطة فاغنر بالنسبة إلى موسكو هي اتخاذ مقاتليها مواقع في منطقة مكتظة بالسكان.
وقال بوتين في خطاب نقله التلفزيون من الكرملين إن هناك تهديدا يحيق بوجود روسيا. وأضاف “كل من سلك عمدا مسار الخيانة.. من دبر تمردا مسلحا.. من سلك طريق الابتزاز والأساليب الإرهابية.. سيعاقب لا محالة وسيكون تحت طائلة القانون وشعبنا”.
واكتفى الغرب بالمتابعة وبتصريحات مقتضبة حول المخاوف من اتجاهات الوضع، في حين وجدت أوكرانيا في ذلك فرصة لدعوة الغرب إلى التخلي عن الحياد.
ولم يتحدث أحد عن شرعية بوتين أو حكومته في مواجهة محاولة الانقلاب وبث الفوضى وسط مخاوف جدية من حرب أهلية ومن وقوع أسلحة نووية في الأيدي الخطأ، خاصة لدى ميليشيات ليست لديها ضوابط.
————————–
بوتين يحصد ما زرعه!/ خيرالله خيرالله
انقلب السحر على الساحر. مثلما انقلب أسامة بن لادن في الماضي على الأميركيين الذين صنعوه، انقلب يفغيني بريغوجين، قائد مجموعة “فاغنر”، على فلاديمير بوتين. يحصد بوتين ما زرعه بعدما استعان ببريغوجين في أوكرانيا وقبل ذلك في الحرب على الشعب السوري وفي أماكن أخرى من العالم.
غيّر الانقلاب معطيات الحرب التي تشنها روسيا على أوكرانيا. كشف الانقلاب أنّ بوتين فشل في كلّ ما قام به إلى الآن منذ اتخذ قراره بغزو أوكرانيا في 24 شباط – فبراير 2022.
لا يكشف انقلاب قائد “فاغنر”، خريج السجون، على بوتين الضعف الروسي فحسب، بل كشف أيضا هشاشة الوضع في بلد كان رئيسه يطمح إلى استعادة أمجاد الاتحاد السوفياتي. على الرغم من الحلّ الوسط الذي تم التوصّل إليه والذي انتقل بموجبه بريغوجين إلى بيلاروسيا، بات على المحكّ، الآن، مستقبل الاتحاد الروسي في ضوء خوض فلاديمير بوتين مغامرته الأوكرانيّة على غرار خوض صدّام حسين مغامرته الكويتيّة صيف العام 1990. من يتذكّر انقلاب الشخص الأمّي الذي كان اسمه حسين كامل على صدّام حسين؟ كان حسين كامل في مرحلة معيّنة، صاحب نفوذ كبير وأقرب الناس إلى صدّام بعد زواج حسين كامل من ابنته؟
توجد حاجة إلى مواقف شجاعة ونبيلة تؤمّن تحقيق نتيجة إيجابية في مجال وقف الحرب والمحافظة على الأرواح ومنع الحرب من الامتداد إلى الداخل الروسي
قبل أيّام من تمرّد بريغوجين على بوتين، بدا واضحا أن أوروبا لا يمكن، بدعم أميركي صريح، قبول انتصار روسي في أوكرانيا بغض النظر عن الكلفة. فهم “طبّاخ بوتين”، أي بريغوجين الذي كان بوتين يرتاد مطاعمه في سانت بطرسبرغ، هذه المعادلة ولم يفهمها الرئيس الروسي نفسه. يؤكّد ذلك المؤتمر الذي انعقد في لندن حديثا وخصّص لإعادة إعمار أوكرانيا. تحدّث زيلينسكي في افتتاح المؤتمر وأكّد أنّ سقوط أوكرانيا في يد روسيا سيعني أن أوروبا كلّها صارت مهدّدة. عرف الرئيس الأوكراني كيف يربط مصير بلده بمصير أوروبا. أقرّ مؤتمر لندن مبالغ كبيرة بالمليارات (نحو ستين مليار يورو) لإعادة إعمار أوكرانيا.
تعني التطورات الروسيّة الأخيرة أنّ ثمّة ضرورة لإنهاء الحرب الأوكرانيّة عبر معادلة بسيطة تأخذ في الاعتبار الحاجة الأوروبيّة إلى منع روسيا من الهيمنة على أوكرانيا من جهة، وإيجاد صيغة تنقذ ماء الوجه لفلاديمير بوتين من جهة أخرى. هل فات أوان الحلول السياسيّة في أوكرانيا؟ الجواب أن الحاجة ملحّة أكثر من أي وقت، من منطلق سياسي وإنساني، لوقف الحرب والتفكير في مخرج يضمن أوّل ما يضمن سلامة الأراضي الأوكرانيّة.
توجد حاجة إلى مواقف شجاعة ونبيلة تؤمّن تحقيق نتيجة إيجابية في مجال وقف الحرب والمحافظة على الأرواح ومنع الحرب من الامتداد إلى الداخل الروسي. لم يعد سرّا أن الشجاعة السياسية تعني تفادي قطع العلاقة بفلاديمير بوتين بغض النظر عن كلّ أخطائه. ثمّة حاجة إلى بقاء التواصل معه من أجل الوصول إلى مخرج سياسي لحرب طاحنة مرشحة للاستمرار طويلا وتهديد السلام العالمي، خصوصا في ضوء تهديد روسي، المرّة تلو الأخرى، باستخدام السلاح النووي. كان لافتا بدء نقل أسلحة نووية روسيّة إلى أراضي بيلاروسيا البلد الحليف للاتحاد الروسي والذي لديه حدود مشتركة مع أوكرانيا!
كان اللقاء الذي انعقد أخيرا في مدينة سانت بطرسبرغ، قبل أيّام قليلة من تمرّد بريغوجين، بين الشيخ محمد بن زايد رئيس دولة الأمارات والرئيس الروسي يندرج في سياق الجهود التي لم يتوقف الشيخ محمّد عن بذلها من أجل وقف الحرب الأوكرانيّة. لا بدّ من التذكير بأنّه سبق للرئيس الإماراتي أن زار موسكو والتقى الرئيس الروسي في مرحلة ما بعد بدء الحرب الأوكرانيّة. لا بدّ من التذكير أيضا بأنّ الرئيس الإماراتي يمتلك خطوطا مفتوحة مع أوكرانيا التي حصلت على مساعدات ماليّة وأخرى ذات طابع إنساني من الإمارات كما استقبل في أبوظبي، قبل نحو ثلاثة أشهر، زوجة زيلينسكي التي كانت في الإمارات لحضور ندوة ذات طابع دولي.
انقلاب قائد “فاغنر”، خريج السجون، على بوتين لا يكشف الضعف الروسي فحسب، بل كشف أيضا هشاشة الوضع في بلد كان رئيسه يطمح إلى استعادة أمجاد الاتحاد السوفياتي
لم يأبه الرئيس الإماراتي، الذي تحدث عن “ضغوط” مورست على أبوظبي بسبب العلاقة التي تقيمها مع موسكو، بكلّ المحاولات لثنيه عن إبقاء خطوط التواصل مع فلاديمير بوتين مفتوحة. توجد ضرورة ملحّة لوقف الحرب الأوكرانية التي تحولت إلى حرب عبثية. وقف هذه الحرب أولويّة في ظلّ التطورات الأخيرة.
لا شكّ أنّ الحسابات التي قام بها الرئيس الروسي، بما في ذلك بدء الهجوم الشامل على أوكرانيا، قبل سنة وأربعة أشهر، كانت حسابات خاطئة. لكنّ الحكمة تقول أنّ الحاجة إلى وقف الحرب اليوم قبل غد. هل توفّر الضربة التي تلقاها بوتين، في ضوء تمرّد قائد “فاغنر” فرصة كي يعود إلى جادة الصواب من منطلق أنّ عليه الآن مواجهة ما سمّاه “عصيانا” يهدد بالفعل مصير روسيا؟ في النهاية، سيحاسب الشعب الروسي رئيسه الذي تبيّن أنّه لا يعرف العالم ولا يعرف شيئا عن موازين القوى السائدة فيه.
يستحق السلام في أوكرانيا مقاومة كلّ أنواع الضغوط التي تمارسها أطراف دولية من أجل وقف الاتصال ببوتين. يعود ذلك إلى أن ردّ فعل الرئيس الروسي ليس من النوع الذي يمكن التكهّن به، خصوصا في ظلّ امتلاك روسيا لترسانة نووية. فضلا عن ذلك، لا يمكن التكهّن برد فعل رجل يرفض الاعتراف بأخطائه من جهة، وقبول فكرة الهزيمة في أوكرانيا من جهة أخرى. نعم، يحتاج فلاديمير بوتين إلى مداراة من دون تخلي أميركا وأوروبا عن ضرورة حماية الوحدة الترابيّة لأوكرانيا والمحافظة عليها.
تبقى نقطة أخيرة يختزلها سؤال مهمّ: ما مصير شبه جزيرة القرم التي أعادت روسيا السيطرة عليها في العام 2014. هل تكون القرم، مع ضمانات أخرى تتعلّق مثلا بعدم انضمام أوكرانيا إلى حلف شمال الأطلسي، جائزة الترضيّة لبوتين في مقابل جعله يهضم الانسحاب من أوكرانيا وتفادي إطالة حرب يتبيّن يوميا أنّه لا يمكن أن يخرج منها منتصرا… بل يمكن أن تؤدي إلى تفجير روسيا من الداخل؟
إعلامي لبناني
العربي»
————————-
تراجع مقاتلي «فاغنر» في روسيا بعد اتفاق إنهاء تمردهم
مشاورات غربية مكثفة… وموسكو تحظى بدعم بكين وبيونغ يانغ
موسكو – لندن: «الشرق الأوسط»
بدأت عناصر مجموعة فاغنر الانسحاب من مواقع سيطرت عليها في روسيا بعد اتفاق مع الكرملين قضى بوقف تقدمها نحو موسكو وخروج قائدها يفغيني بريغوجين إلى بيلاروسيا، بعد تمرّد مسلح شكّل أكبر تحدٍّ للرئيس فلاديمير بوتين في خضم حرب أوكرانيا.
وبعد نحو 24 ساعة من الترقب عالميا بشأن مسار أحداث شهدت سيطرة مرتزقة فاغنر على مقرات قيادة للجيش الروسي وتقدم أرتالهم في اتجاه العاصمة، نزع فتيل الانفجار بتوصّل الكرملين وبريغوجين إلى اتفاق يوقف بموجبه الأخير تمرده ويغادر إلى بيلاروسيا إثر وساطة من رئيسها ألكسندر لوكاشينكو. ولم يتضح على الفور الأحد مكان وجود بريغوجين بعدما غادر ليلا مقرا للقيادة العسكرية في مدينة روستوف -نا – دونو كانت قواته قد سيطرت عليه. ورغم الاتفاق، بقيت الإجراءات الأمنية مشددة في موسكو، بينما قامت مناطق روسية أخرى برفع القيود التي فرضت على التنقل اعتبارا من السبت.
وتعهدت الرئاسة الروسية بعدم ملاحقة المقاتلين وبريغوجين الذي كان من الحلفاء المقربين من بوتين، رغم أن الأخير اتهمه السبت بـ«خيانة» بلاده وتوجيه «طعنة في الظهر».
وأعلن بريغوجين ليل السبت تراجعه لتجنب إراقة «الدماء الروسية»، وأن قواته «تعود أدراجها إلى المعسكرات». وشدد المتحدث باسم الكرملين ديمتري بيسكوف على أن «الهدف الأسمى هو تجنّب حمّام دم وصدام داخلي واشتباكات لا يمكن التنبّؤ بنتائجها»، مشيدا «بتسوية من دون مزيد من الخسائر». وأكد وقف أي ملاحقة قضائية بحق مقاتلي المجموعة الذين «لطالما احترمنا أعمالهم البطولية على الجبهة» في إشارة إلى قتالهم في أوكرانيا.
وذكرت وكالة «تاس» الروسية للأنباء نقلا عن أحد قادة كتائب أحمد الشيشانية، وهي مجموعة من القوات الخاصة، الانسحاب الأحد من منطقة روستوف الروسية بعد إرسالها إلى المنطقة لمقاومة مقاتلي مجموعة فاغنر العسكرية الروسية الخاصة. وقال القائد إن الكتائب ستعود إلى حيث كانت تقاتل في السابق.
إجراءات في موسكو
وكانت أوكرانيا التي تتعرض لغزو روسي منذ فبراير (شباط) 2022، رأت في أحداث السبت «فرصة» يجب استغلالها ميدانيا. ورغم الاتفاق، اعتبرت كييف أن بريغوجين أذلّ بوتين. وقال مساعد الرئيس الأوكراني ميخايلو بودولاك إن «بريغوجين أذلّ بوتين – الدولة وأظهر أنه لم يعد هناك احتكار للعنف».
ورأى محللون أن التمرد المسلح ستكون له تبعات على بريغوجين ومجموعته التي تنشط أيضا في مناطق نزاع حول العالم. وقال الباحث في مركز الدراسات البحرية سامويل بينديت إن بريغوجين «يجب أن يرحل، وإلا فالرسالة ستكون أن قوة عسكرية يمكنها تحدي الدولة بشكل علني، وعلى الآخرين أن يفهموا أن الدولة الروسية لديها حصرية العنف (امتلاك السلاح) في داخل البلاد». واعتبر الباحث في معهد أبحاث السياسة الخارجية في الولايات المتحدة روب لي أن «بوتين وأجهزة الأمن سيحاولون على الأرجح إضعاف فاغنر أو تنحية بريغوجين جانبا»، مشيرا إلى أن «الآثار الأكثر أهمية سيتمّ رصدها في منطقة الشرق الأوسط وأفريقيا حيث توجد فاغنر».
وجاء إنهاء التمرد بعدما وصل مسلّحو فاغنر لمسافة تقل عن 400 كيلومتر من موسكو، بعد سيطرتهم على مقرات عسكرية في مدينة روستوف – نا -دونو (جنوب غرب). وأعلن حاكم المنطقة فاسيلي غولوبيف مساء السبت مغادرة قوات فاغنر. وأكدت تقارير إعلامية أن العشرات من الروس تجمّعوا وهتفوا «فاغنر» ليلا.
والأحد، أعلن حاكم منطقة فورونيغ الجنوبية أن عناصر فاغنر ينجزون انسحابهم منها. وقال ألكسندر غوسيف إن «تحرك وحدات فاغنر في منطقة فورونيغ هو في طور الانتهاء (…) الأمر يتمّ بشكل طبيعي ومن دون حوادث»، مؤكدا أن القيود التي تمّ فرضها السبت على حركة التنقل سترفع بمجرد «حل الوضع بشكل نهائي».
وانسحبت عناصر فاغنر أيضا من منطقة ليبيتسك في جنوب روسيا وفق ما أعلنت السلطات المحلية الأحد. وفي موسكو، بقي «نظام مكافحة الإرهاب» قائما الأحد رغم الاتفاق. وواصلت دوريات للشرطة انتشارها في جنوب العاصمة على طول الطريق السريعة الرئيسية بين موسكو والمناطق الواقعة إلى جنوبها، وفق وكالة الصحافة الفرنسية. وأكدت وكالة «آفتودور» المسؤولة عن الطرق السريعة في روسيا أن القيود على التنقل على الطريق بين موسكو ومدينة روستوف – نا – دونو لا تزال قائمة.
ويعزز «نظام مكافحة الإرهاب» صلاحيات الأجهزة الأمنية ويسمح لها بالحد من الحركة، كما يمكن بموجبه القيام بعمليات تفتيش مركبات في الشوارع والتحقق من الهوية ويسمح أيضا بتعليق مؤقت لخدمات الاتصالات إذا لزم الأمر. وكان رئيس بلدية موسكو قد دعا السكان إلى الحد من التنقل، ووصف الوضع بأنه «صعب» وأعلن يوم الاثنين عطلة.
في المقابل، بدأت مناطق أخرى رفع الإجراءات الاستثنائية اعتبارا من ليل السبت، ومنها ليبيتسك.
«حرب أهلية»
واضطلع لوكاشينكو بدور رئيسي في الوساطة، وقد أعلن مكتبه أنه هو من اقترح على رئيس فاغنر وقف تقدمه. وقال بيسكوف: «ممتنون لرئيس بيلاروسيا على جهوده… المحادثة المسائية بين الرئيسين كانت طويلة جدّاً».
وكان بوتين أدان صباح السبت «الخيانة» وتحدث عن شبح «حرب أهلية» في مواجهة التحدي الأكبر الذي واجهه منذ وصوله إلى السلطة في نهاية عام 1999.
كما حذّرت موسكو دول الغرب من «استغلال الوضع الداخلي في روسيا لتحقيق أهدافها المعادية للروس». لكن فيما أكد المتحدث باسم الكرملين أن تمرد فاغنر المجهض لن يؤثر على الهجوم الروسي في أوكرانيا، أعلنت كييف تحقيق مكاسب ميدانية. وأعلن الجيش الأوكراني السبت «تقدمه في جميع الاتجاهات» على الجبهة الشرقية حيث أكد شنّ هجمات جديدة.
وفي كييف، أعلن رئيس البلدية فيتالي كليتشكو الأحد أن حصيلة القتلى جرّاء ضربة جوية روسية استهدفت العاصمة في وقت مبكر السبت ارتفعت إلى خمسة، بعدما عُثر على جثتين إضافيتين تحت الأنقاض. بدوره، اعتبر الرئيس فولوديمير زيلينسكي أن بلاده باتت مسؤولة عن «أمن الجناح الشرقي لأوروبا»، حاضّا الغرب مجددا على تسليم بلاده «جميع الأسلحة اللازمة»، ولا سيما مقاتلات إف – 16 الأميركية الصنع.
وأجرت الدول الغربية الحليفة لأوكرانيا مشاورات مكثفة. وتحدّث الرئيس الأميركي جو بايدن مع المستشار الألماني أولاف شولتس ورئيس الوزراء البريطاني ريشي سوناك ومع نظيره الفرنسي إيمانويل ماكرون.
بكين وبيونغ يانغ «تدعمان» موسكو
وفي بكين التي شهدت علاقتها بموسكو تقاربا منذ بدء غزو أوكرانيا، التقى وزير الخارجية الصينية تشين غانغ نائب وزير الخارجية الروسية أندريه رودينكو الأحد، في أول تواصل معلن بين الجانبين منذ التمرد المسلح. وقالت الخارجية الصينية في بيان إن الجانب الصيني أعرب خلال اللقاء بين عن «دعمه لجهود قادة روسيا الاتحادية من أجل استقرار الوضع في البلاد في ما يتعلّق بأحداث 24 يونيو (حزيران)»، في إشارة إلى اليوم الذي أعلن فيه زعيم فاغنر تمردا. كما أكّدت الصين مجدّدا «حرصها على تعزيز وحدة روسيا وازدهارها»، وفق بيان الخارجية الروسية. وأشارت بكين باقتضاب إلى أن وزير خارجيتها تشين غانغ ورودينكو تباحثا في «العلاقات الصينية الروسية والقضايا الدولية والإقليمية ذات الاهتمام المشترك».
وفي كوريا الشمالية نقلت وسائل إعلام رسمية عن نائب وزير خارجية إيم تشون إيل قوله إنه يؤيد أي قرار تتخذه القيادة الروسية للتعامل مع التمرد الأحدث في البلاد. وجاء ذلك خلال لقائه مع السفير الروسي الأحد. وذكرت وكالة الأنباء المركزية الكورية أن إيم «عبّر عن اعتقاده الراسخ بالنجاح في إخماد التمرد المسلح الأحدث في روسيا بما يتماشى مع تطلعات وإرادة الشعب الروسي». وسعت كوريا الشمالية إلى توثيق علاقاتها مع الكرملين ودعمت موسكو بعد غزوها أوكرانيا العام الماضي محملة المسؤولية «لسياسة الهيمنة» التي تتبعها الولايات المتحدة والغرب. كما نقلت الوكالة عن نائب وزير الخارجية قوله إنه يعتقد أن الجيش الروسي «سيخرج من الأوضاع والمحن منتصرا، كما سيحقق نصرا بطوليا في عمليته العسكرية الخاصة في أوكرانيا».
—————————
زعيم «فاغنر»… حسين كامل الروسي/ غسان شربل
بعض الأحداث تغري بالمقارنات، على رغم اختلاف الحقب والمسارح والرجال. وما أصعب أن يستيقظ السيد الرئيس على رائحة الخيانة. وأن يتلقى «طعنة في الظهر» من تحت جناحيه. وأن يكون المُرتكب رجلاً منحه ثقته. وفتح له أبواب القصر والثروة والنفوذ وأعاره من قوته وحماه من المنافسين والحسّاد. وأن يكون تسامح حيال تحوّله قائداً يتباهى بانتصاراته ونجماً تتجاذب الشاشات صوره وعباراته المسنونة.
على رغم براعته في إخفاء مشاعره، لاحت المرارات اليوم في وجه فلاديمير بوتين وهو يخاطب شعبه. ليس بسيطاً على الرجل الغارق في معركة إخضاع أوكرانيا والغرب أن يرى النار تندلع في الدار وأن يُستدعى إلى مبارزة مع الرجل الذي ما كان شيئاً لولاه. ولا مبالغة في القول إن بوتين اخترع يفغيني بريغوجين ودفعه إلى مسارح الحروب والأضواء.
ذكّرتني قصة الخيانة الروسية بقصة عراقية. يقول أحد المقيمين طويلاً في قصر صدام حسين إنه لم يلمح مرارات في عيني السيّد الرئيس كتلك التي سكنتهما بعد «الطعنة في الظهر» التي تلقاها من صهره حسين كامل، وتمثّلت في فراره إلى الأردن. اعتبر صدام الرجل الفار خائناً حين تناهى إليه أنه سلّم الأجهزة الغربية أسراراً عسكرية كانت لجان التفتيش عجزت عن اكتشافها.
وعلى رغم قرار سابق اتخذه يحظر على المخابرات العراقية تنفيذ هجمات في الخارج، خرق صدام قراره وطالب المخابرات بتأديب حسين كامل في منفاه الأردني. أرسل الجهاز إلى عمّان فريقاً من 5 أشخاص، بينهم سيدتان، لكن هؤلاء عجزوا عن الاقتراب من الهدف وعادوا إلى بغداد. بعدها اختار النظام أسلوباً آخر في العقاب. طمأن المستهدف فعاد إلى العراق، وكان الإخراج أن تتولى العشيرة قتله لغسل خيانته، وهكذا كان.
كان حسين كامل مجرّد جندي في الحماية. شجاعته استوقفت الرئيس فاستدعاه وقرّبه ودفعه إلى صعود السلالم سريعاً في ظله. أعطاه النفوذ وأعاره من قوته ثم أعطاه ابنته والحقائب الوزارية فصار الأقوى تحت سقف صدام حسين.
كان بريغوجين مجرد سجين سابق. افتتح مطعماً وأرضى الزبائن وبينهم سيد الكرملين، فتحوّل متعهداً لولائم الكرملين ثم لأغذية الجيش. وكانت النقلة الكبرى حين تحوّل في 2014 زعيماً لميليشيا اسمها جماعة «فاغنر».
اجتاح الجيش الروسي أوكرانيا وسرعان ما تكشفت مواطن ضعفه. انتهز بريغوجين الفرصة. أحضر السجناء والمرتزقة ومن تدربوا في حرائق دول بعيدة وزجّهم في الحرب الأوكرانية ونجح في تحقيق انتصار في باخموت فوق بحر من الجثث. هاله أن يجلس جنرالات الجيش في مكاتبهم في موسكو وأن يراقبوا الحرب بالمناظير. هاجمهم بلا هوادة ونشر غسيل العجز والفساد على الشاشات.
صدام قائد «الحشد الشعبي» الروسي مع المؤسسة العسكرية تحوّل تمرداً دموياً جرح هيبة الرئيس وصورة البلاد. لا صدّام غفر لحسين كامل خيانته، ولا بوتين سيفعل.
دائماً يكمن تحت جناحي القائد رجل شجاع لا حدود لجشعه. دائماً هناك رجل قوي يخفي لعابه بانتظار الخيانة في الوقت المناسب.
—————————-
يفغيني بريغوجين…«طباخ الكرملين» الذي قلب الطاولة وهز البلاد
موسكو: رائد جبر
مع وصول المواجهة بين زعيم مجموعة «فاغنر» يفغيني بريغوجين ووزارة الدفاع إلى ذروتها، اتخذ «طباخ الكرملين» كما عرفته وسائل الإعلام سنوات طويلة، قراره الحاسم بإطلاق تمرد عسكري واسع النطاق، أحدث زلزالاً داخلياً في روسيا، وجعل العالم يحبس أنفاسه وهو يراقب مسار تطور الوضع، وسرعة تحرك «فاغنر» باتجاه السيطرة على روستوف المدينة الاستراتيجية، التي كانت مركز انطلاق العمليات العسكرية نحو أوكرانيا، قبل أن ينطلق منها إلى فورونيج وليبيتسك في طريقه إلى كراسنودار، حيث مقر القطاع الجنوبي للجيش ومركز العمليات باتجاه شبه جزيرة القرم.
إذن، اختار بريغوجين طريق المواجهة ليس فقط مع وزارة الدفاع، بل مع كل مؤسسات السلطة في روسيا وعلى رأسها الكرملين. ربما كان الرجل حتى اللحظة الأخيرة يأمل في ألا ينحاز الرئيس فلاديمير بوتين إلى وزيره المقرب سيرغي شويغو في هذا الصراع، وأن يأمر بدلاً من ذلك بإيجاد حل وسط للأزمة كما جرت العادة في السابق، لكن بوتين المحاط بجنرالات الحرب وضغوط متزايدة على الصعيدين الداخلي والخارجي لم يكن ليسمح بوقوع عصيان مسلح في هذا التوقيت. هنا اتسع نطاق المواجهة، وانتقد بريغوجين «الخيار الخاطئ لبوتين»، والأهم من ذلك أنه وعد بأن يكون هناك رئيس جديد لروسيا قريباً.
كيف انتقل «طباخ الكرملين» من منفذ خفي لسياسات بوتين في أفريقيا وسوريا وأوكرانيا إلى عدو للمؤسسة العسكرية ومتمرد يدعو القيادات والجنود إلى الانضمام لقواته وتقويض سلطة وزارة الدفاع و«إصلاح الوضع» في روسيا وفقاً لوجهة نظره؟
وُلد بريغوجين عام 1961 في مدينة ليننغراد (سان بطرسبرغ حالياً) مسقط رأس الرئيس بوتين. وبرزت لديه ميول عدوانية منذ وقت مبكر، ولم يكن قد أكمل 18 عاماً عندما سجن للمرة الأولى في قضية سطو، وبعد سنتين خرج من السجن ليعود إليه سريعاً في 1981.
عندما كان بريغوجين يبلغ من العمر 20 عاماً، حكمت عليه محكمة في ليننغراد بالسجن 13 عاماً بموجب مواد القانون الجنائي بتهم السطو المسلح والاحتيال، لكنه حصل على عفو في عام 1990، ليخرج من سجنه ويبدأ مرحلة انطلاقة واكبت زمن الفوضى والانهيارات الكبرى في البلاد.
كان هذا المناخ السياسي والاقتصادي في البلاد مواتياً لرجل من أصحاب السوابق يعرف كيف يقيم علاقات مع رجال المال والسلطة، لذلك صعد الرجل سريعاً في عالم المال والنفوذ، وبعدما أسس في البداية سلسلة مطاعم وجبات سريعة لبيع النقانق في سان بطرسبرغ، افتتح بعد ثلاث سنوات فقط سلسلة متاجر كبرى.
وفي عام 1996 أسس شركة «كونكورد» التي تولت إدارة أعماله وتوسيعها خلال السنوات اللاحقة.
في ربيع عام 1998 افتتح مطعماً فاخراً على ظهر سفينة غدت مركز جذب للنخب السياسية والاقتصادية، وفي عام 2001، أقيمت مأدبة عشاء في هذا المطعم جمعت الرئيسين الروسي مع نظيره الفرنسي جاك شيراك، وفي العام التالي استقبل بوتين الرئيس جورج بوش الابن في هذا المطعم. وفي خريف عام 2003، احتفل بوتين بعيد ميلاده على متن السفينة.
كانت تلك النقلة التي سهلت له التغلغل في الأوساط السياسية ومراكز النفوذ، وسرعان ما حصل على عوائد كبيرة من خلال نيله صفقات كبرى في قطاع البناء والأطعمة، وغدا المتعهد الرسمي لإطعام الجيش الروسي وقطاع التعليم كله في موسكو ومدن أخرى.
على مدار السنوات اللاحقة انتقل نشاط بريغوجين إلى المجال العسكري، بعد تأسيس مجموعة «فاغنر» التي نشطت في بلدان أفريقية عدة مقابل الحصول على صفقات مهمة من الألماس الخام. وفي سوريا وقعت شركة «كونكورد» عقداً مهماً لحماية المنشآت النفطية مقابل الحصول على ربع الناتج النفطي في البلاد. هكذا تحول بريغوجين ومجموعته إلى منفذ خفي لسياسات الكرملين الخارجية، مع ضمانات له بأن يحصل دائماً على مكافآت مجزية من الصفقات التي يعقدها.
برز اسم بريغوجين في وسائل الإعلام الغربية في 2016 بعد أن فرضت عليه الولايات المتحدة عقوبات اقتصادية، لدور إحدى شركاته «وكالة الأبحاث على الإنترنت» في التأثير بالانتخابات الأميركية التي أدت إلى وصول دونالد ترمب إلى البيت الأبيض. كما فرض الاتحاد الأوروبي عليه عقوبات لدوره في مجموعة «فاغنر» في أوكرانيا.
في كل مراحل صعوده القوي ارتبط اسم بريغوجين بالفساد والمحسوبية وممارسات عدة استخدم من خلالها نفوذه لدى الأوساط السياسية، من بين ذلك ما أكده المعارض الموجود في السجون الروسية أليكسي نافالني في أحد تحقيقاته من أن بريغوجين كان مرتبطاً بشركة تدعى «موسكوفسكي شكولنيك» (تلميذ موسكو)، التي استغلت حصولها على عقد ضخم لتزويد المدارس الروسية بالطعام، وقدمت طعاماً فاسداً إلى مدارس موسكو، ما تسبب في تفشي مرض الزحار.
الخلاف مع وزارة الدفاع
في 5 مايو (أيار) وجّه زعيم «فاغنر» يفغيني بريغوجين اتهامات مباشرة للمرة الأولى إلى وزير الدفاع سيرغي شويغو ورئيس الأركان فاليري غيراسيموف بالتسبب بمقتل كثير من عناصره بسبب عدم تقديم الأسلحة والذخائر التي طلبتها مجموعته من وزارة الدفاع. ووفقاً له أدى نقص الأسلحة إلى سقوط الكثيرين وإبطاء العملية العسكرية الهادفة منذ نحو 9 أشهر للسيطرة على مدينة باخموت الاستراتيجية في جنوب أوكرانيا.
كان بريغوجين قد اعتاد توجيه انتقادات إلى وزارة الدفاع ومن يصفهم بـ«البيروقراطيين» في المؤسسة العسكرية الذين لا يقومون بتلبية الاحتياجات للمقاتلين بالشكل المطلوب، لكن الجديد هنا، كان اتهام الوزير ورئيس الأركان شخصياً بالتسبب بسقوط قتلى لإفشال المهمة العسكرية في باخموت. وأتبع الرجل ذلك بإعلان نيته سحب قواته من المدينة في موعد حتى العاشر من مايو.
النقطة الثانية المهمة تمثلت في اختيار توقيت تفجير الأزمة، في ظل رزمة من التعقيدات.
وجاء ذلك مع تحضيرات روسيا للاحتفال بعيد النصر على النازية في التاسع من مايو، وهي مناسبة لها خصوصية مهمة في المجتمع الروسي، العنصر الآخر في التوقيت، تمثل في أن معركة باخموت كانت عملياً تقترب من نهايتها، ووفقاً لبريغوجين لم يكن قد تبقى سوى أقل من 3 كيلومترات مربعة من المدينة تحت سيطرة كييف، ودفع وقف القتال في هذا التوقيت إلى إثارة علامات استفهام واسعة.
أما النقطة الثالثة اللافتة فقد تمثلت في تريث الكرملين في التعليق على الحدث الذي أثار موجة واسعة من السخط والخيبة لدى الأوساط السياسية والبرلمانية والاجتماعية الروسية. وبدا من ذلك أن الكرملين لم يحسم بعد خياراته تجاه الصراع المتفاقم بين «فاغنر» ووزارة الدفاع.
وصحيح أن الأزمة شهدت تخفيفاً لحدتها على المستوى العلني لاحقاً، من خلال إعلان بريغوجين بعد أربعة أيام أنه حصل على وعود باستئناف تزويد قواته بالعتاد اللازم، لكن تداعياتها سوف تتواصل.
تفاقم الصراع الخفي
قد تكون هذه واحدة من المرات النادرة في روسيا التي ينتقل فيها التنافس بين مراكز الثقل المختلفة إلى هذا المستوى من الاتهامات المباشرة والعلنية، خصوصاً أن أطراف الأزمة كلهم من الشخصيات المقربة جداً إلى الرئيس فلاديمير بوتين، ويحمل هذا الأمر انعكاسات مهمة لجهة مستوى التأثيرات الخطرة التي أحدثها تباين المواقف حيال الحرب الأوكرانية على الدائرة الضيقة المقربة من بوتين.
ولا شك في أن الصراع بين يفغيني بريغوجين وقيادة القوات المسلحة ليس جديداً، بل تطور على مدى فترة طويلة للغاية.
لكن الخلافات في ذلك الوقت لم تنتقل إلى العلن، في حين أن أسباباً تراكمت لتفاقم الصراع حالياً، بينها بالدرجة الأولى الطموحات الشخصية لبريغوجين الذي وجد في الحرب الأوكرانية فرصة سانحة لإعادة ترتيب أولوياته. ومنذ خريف العام الماضي، عُهد بالمهمة الأكثر صعوبة ودموية المتمثلة في اقتحام المنطقة المحصنة الضخمة للقوات المسلحة الأوكرانية، والتي تضمنت تكتل مدينتي سوليدار وباخموت، إلى شركة «فاغنر». ولمدة أربعة أشهر، لم تعد قوات «فاغنر» اللاعب الرئيسي الذي يصنع الأخبار العسكرية فحسب، بل قامت بسحب جزء مهم من احتياطيات القوات المسلحة الأوكرانية المعدة للهجوم الشتوي. ويصعب الحكم على مدى استياء القيادة العسكرية من ذلك، خصوصاً على خلفية الاتهامات التي كيلت للجيش بالتعثر وارتكاب سلسلة من الأخطاء الميدانية والاستراتيجية في إدارة المعركة قبل الخريف، لكن اللافت هنا أن مشاركة «فاغنر» في الأعمال القتالية غدت علنية ورسمية، وباتت بياناتها تنشر في وسائل الإعلام الحكومية، للمرة الأولى منذ تأسيسها.
أيضاً، تشير الانتقادات التي وجهها بريغوجين إلى أن التنافس على الموارد الضخمة كان السبب الأساسي الذي أسفر عن بدء هذه المواجهة. بالتأكيد لا يمكن تجاهل أن جزءاً من هذا التنافس يستند إلى مساعي كل طرف للفوز بحصة أكبر من الموارد المالية المخصصة للحرب، بما في ذلك على صعيد المكافآت والموازنات العسكرية. وقد برز ذلك من خلال سعي مجموعة «فاغنر» إلى إدراج مقاتليها على لوائح التعويضات للقتلى والجرحى والمصابين أسوة بالعسكريين النظاميين.
لكن الأهم من ذلك، أن هذا الصراع كشف عن محاولات كل قطب لتوسيع دائرة النفوذ داخل المؤسسة العسكرية على حساب الطرف الآخر. وهذا دلت إليه مسارعة بريغوجين مثلاً إلى استقطاب جنرالات تمت إقالتهم من وزارة الدفاع، ودمجهم بعد التقاعد في صفوف مجموعته. هذا التطور عكس تنامي ظاهرة «المحاور» و«مراكز الثقل» داخل الجيش والمؤسسة العسكرية عموماً، التي تلتهم سنوياً، وحتى قبل الحرب الأوكرانية، أكثر من خمس الموازنة الروسية.
خلاف على مسار الحرب
يضاف إلى الأسباب السابقة أن التباين في آليات التعامل مع الحرب الأوكرانية أدخل الطرفين في مرحلة جديدة من الخلاف على وجهات النظر حول آليات إدارة الحرب، ومسارها المنتظر. وبعد انتقادات كبرى لم تكن «فاغنر» أحد الأطراف البعيدة عنها، أثيرت ضد المؤسسة العسكرية وأجهزة الاستخبارات التي فشلت في وضع تصورات لمستوى أعداد القوات الأوكرانية، ومدى جاهزيتها لمواجهة حرب شاملة، استخدمت قوات «فاغنر» بقوة الفشل العسكري والاستخباراتي الذي ظهر في الشهور الأولى للحرب من خلال التعثر الميداني، لإظهار أنها قادرة على تعويض النقص في القدرات القتالية، مستفيدة من امتلاكها وحدات اقتحام مدربة جيداً، وقادرة كما هو الوضع بالنسبة لقوات الرئيس الشيشاني رمضان قاديروف على إدارة حرب شوارع والتقدم في الظروف الصعبة في المدن والبلدات المحصنة. وبالفعل فقد أظهرت تطورات الحرب الأوكرانية أن الجيش الذي كان يستعد لحرب نظامية تقليدية تحسم بالدرجة الأولى عن طريق الضغط الجوي واستخدام الآليات الثقيلة والصواريخ الموجهة، يفتقد لقدرات مهمة في مجال الحرب المباشرة وقدرات الاشتباك المباشر، ما دفعه إلى الاضطرار للاعتماد على «القوات الحليفة» وهو ما يبرر الإعلان رسمياً في خريف العام الماضي عن انخراط «فاغنر» في القتال، رغم أن هذه المجموعة موجودة بالفعل على أراضي أوكرانيا منذ اندلاع النزاع للمرة الأولى في 2014.
لكن الخلاف على مسار العمليات القتالية لم يظهر في هذا المجال فقط؛ إذ بدا من تصريحات بريغوجين خلال الشهر الأخير أن التباين وصل إلى مراحل متقدمة.
وفي أواسط أبريل (نيسان) الماضي، نشر زعيم «فاغنر» مقالة لافتة للأنظار، رأى فيها أنه من الضروري للسلطات والمجتمع الروسي وضع «نقطة جريئة» في العملية العسكرية الخاصة. وفي رأيه، سيكون «الخيار المثالي» هو الإعلان عن انتهاء العملية. منذ ذلك الوقت كانت أوساط كثيرة في روسيا ترى أن لحظة الانفجار الكامل في العلاقة قد باتت قريبة.
الشرق الأوسط
———————–
روسيا تجرّب «بدائل» مؤسسات الدولة/ إياد أبو شقرا
هل علينا أن نفاجأ حقاً بما تشهده روسيا في هذه الساعات؟
لا أعتقد ذلك!
منذ أيام دراستي العلوم السياسية في الجامعة – وربما قبلها – لم أقتنع بالتصوّر الأميركي التبسيطي للديمقراطية. ولم أتفهم وجود تعريف محدّد أو صيغة ثابتة أو وصفة سحرية أو تقبّل فطري لهذا «النظام» السياسي الذي توهّم «آباء أميركا المؤسسون» أنه «منقذ من الضلال» وترياق يشفي من العلل، في كل زمان ومكان وعند كل شعب!
وواقع الحال، أن الشعوب والحضارات طوّرت عبر التاريخ عشرات الصيَغ والآليات لبناء المواقف وتبادل المشورة… أو حتى ضبط حدود الإمرة. وبين «جلسات الشيوخ» عند قبائل الأميركيين الأصليين ومجالس «الشورى» في الكثير من الحضارات المشرقية، بما فيها «اللويا جيرغا» القبلية الأفغانية… ومن «الماغنا كارتا» في الجزر البريطانية إلى نمط الاختيار عبر الانتخاب كما تطوّر فيما بات يعرف بـ«الديمقراطيات الحديثة» – على تنوعها واختلافها – لم يوجد حقاً نموذج واحد يتقبّله الناس بصورة تلقائية، ويصلح للتعميم وكأنه دستور للسلوك البشري الجماعي.
روسيا، مثلاً، وصف جوانب من حياتها أحمد بن فضلان في رحلته الشهيرة خلال القرن العاشر الميلادي. ويومها وصف حالها المتخلف جداً – بل القريب من الهمجية – قياساً بحال دولة خلفاء بني العباس في عهد الخليفة المقتدر بالله.
وفيما بعد، أسّس إيفان «الرهيب» (1530 – 1584 م) «حكم القياصرة» الذي مرّ بحقبتي انفتاح وحضارة مهمتين في عهدي «الإمبراطورين» بطرس الأكبر وكاترين الثانية، واستمر حتى اندلاع «الثورة البلشفية» عام 1917.
«حكم القياصرة/الأباطرة» شهد صعوداً وتمدّداً كبيراً للدولة الروسية، ونمواً لثرائها وتطوراً لافتاً لحياتها الثقافية في العمارة والعلوم والموسيقى والرواية. إلا أنه، مع ذلك، لم يعرف تطوّراً موازياً في نظام حكمها أو فكرها السياسي خارج حسابات القوة والفرض والتوسع والاحتلال. فـ«الكرملين»، باختصار، لم يتقن لعبة الديمقراطية…
وعلى أنقاضه جاءت الحقبة البلشفية السوفياتية.
هذه الحقبة أعطت طعماً مختلفاً للهيمنة السياسية على مئات الشعوب والقوميات والألسن والأديان التي تعايشت فوق أرض شاسعة تربو مساحتها على 22 مليون كلم مربع بين ساحل المحيط الهادئ شرقاً وبحر البلطيق غرباً. ولكن بخلاف الهيمنة الروسية، تحت شرعية مسيحية أرثوذكسية، وتحالفات وصراعات النبلاء المحللين، أرسى البلاشفة الشيوعيون دعائم نظام سياسي بديل كان – ظاهرياً على الأقل – «شوروياً» (وهذا معنى السوفياتات أو المجالس التمثيلية) وعلمانياً ولا قومياً. وحقاً، ظهرت ملامح هذا التنوّع في تركيبة «القيادة البلشفية الأولى»، التي ضمت مسيحيين ويهوداً، كما ضمت الروس وغير الروس مثل الجورجي جوزيف دجوغاشفيلي «ستالين» والأرمني أنستاس ميكويان. ثم في العقود اللاحقة من عُمر الدولة، دخل القيادة مسلمون مثل الكازاخي دين محمد قوناييف والآذري حيدر علييف.
نعم، الدولة السوفياتية رسمت «خريطة» إثنية تدرّجية للبلاد اعترفت فيها بالسواد الأعظم من مكوّناتها العرقية والثقافية، بدءاً من الكيانات الأعلى أي «الجمهوريات السوفياتية الـ15»، ونزولاً إلى «الجمهوريات الذاتية الحكم»، وتحتها «الدوائر والمحافظات القومية/الإثنية». ويومها لم يكن بين الجمهوريات السوفياتية الـ15 إلا 3 جمهوريات سلافية (روسيا وأوكرانيا وبيلاروسيا)، غير أن مجموع السلاف من عموم سكان البلاد بلغ نحو 70 في المائة معظمهم في جمهورية روسيا الاتحادية، تليهم الشعوب التركية وسوادها الأعظم من المسلمين.
لكن هذا التنظيم الجيد، والمُنصف نظرياً، واجه مشاكل مختلفة من حيث التطبيق. وكانت من أبرز تلك المشاكل على الصعيد السياسي ضعف آليات التشاور والتفاهم، وانعدام القدرة على تنظيم الاختلاف، والغياب الواقعي لتداول السلطة خارج نطاق الإقصاء… وأحياناً التخوين.
أما على الصعيد الاقتصادي، فكانت المشكلة الأخطر «الدوغماتية» الآيديولوجية… لا سيما إزاء التأميم، والتضييق على الملكية الخاصة، ومركزية القرار، وسوء تطبيق التنمية الاقتصادية المتوازنة، والتفاوت في الثروات ومستويات التنمية بين الجمهوريات وما له من تداعيات اجتماعية. وطبعاً، يضاف إلى هذا كله الحرب الاقتصادية الدائمة مع العالم الغربي التي أربكت الدولة السوفياتية وعجلت بانهيارها.
ما ينبغي العودة إليه، وسط الأزمة الحالية، أن القوة العسكرية الخالصة ما كانت يوماً تعوز روسيا (أو الاتحاد السوفياتي). وأيضاً لم تفتقر روسيا يوماً إلى الثروات الطبيعية مع أنها قلما أحسنت استغلالها واستثمارها.
كان «مقتل» روسيا عبر مفاصل عدة من تاريخها، أولاً في عجزها عن «أنسنة» تعاملها مع شعوبها داخل أراضيها الشاسعة، وثانياً في فشلها في إيجاد نظام سياسي مرن وواقعي يشتمل على آليات تصحيح الخطأ وإعادة رسم المسار… بدلاً من الذهاب العنيد بعيداً في نهج القمع بحجة «تآمر» الآخرين و«حصارهم» المتكرر.
ذهنية «الحصار»، بالذات، أضاعت على موسكو الكثير من الفرص، سواءً إبان الحقبة السوفياتية أو بعدها. ومن مستنقع أفغانستان إلى وحول أوكرانيا، مروراً بعداوات العالم العربي، ما كانت موسكو مضطرة لحسم كل منافسة مع الغرب بـ«القوة الخشنة»، حيث توافرت فرص لـ«القوة الناعمة».
وفي نهاية المطاف، ليس غريباً أن تتحدّى ميليشيا من المرتزقة صنعها «الكرملين» لخوض حروبه بالوكالة… إلى نسخة روسية لـ«حرس إيران الثوري».
وعندما تسكت موسكو على استقواء أصدقائها بميليشيات طائفية وبلطجية، لا يعود مستغرباً أن تمتد العدوى من الخارج إلى داخلها. وبالتالي، ليس غريباً أن تتحدى ميليشيا «فاغنر» مؤسسات دولة نسيت كيف تتصرف كدولة.
إن مَن يزرع العنف يحصد العنف، ومَن يستسيغ القمع يستدعي الدم، ومَن يلغي المؤسسات تلغيه «بدائل» المؤسسات.
الشرق الأوسط
————————-
قوات «فاغنر»… انتصرت في «أوكرانيا» فهاجمت «موسكو»/ عبدالله بن بجاد العتيبي
الانتصار القاسي في الحروب يغري بارتكاب الحماقات؛ فعندما انتصر صدام في حربه مع إيران ارتكب حماقة غزو الكويت التي أودت بنظامه، وتجنَّبت بريطانيا أي حماقة بعدم انتخاب تشرشل بعد انتصاره في الحرب العالمية الثانية، وروسيا تاريخها طويل مع الانقلابات والتمردات والشخصيات المثيرة؛ من روسيا القيصرية مروراً بالاتحاد السوفياتي وصولاً إلى روسيا الاتحادية، ومغامرة يفغيني بريغوجين لن تكون محمودة العواقب عليه شخصياً ولا على روسيا.
بعد عامٍ ونصف العام من الحرب الروسية – الأوكرانية، كانت موسكو تبدو رابحة في الحرب رغم قسوتها وشدتها في مقابل الدول الغربية التي صعَّدت ضغوطها لدرجات غير مسبوقة، وبدت وكأنها بلا طائل ولا تحقق شيئاً من أهدافها، وكانت تتراكم في روسيا التوترات القوية بين قيادة الجيش الروسي ووزارة الدفاع، ومجموعة «قوات فاغنر» العسكرية الخاصة التي خاضت أقسى المعارك داخل أوكرانيا، ولكن أحداً لم يتنبأ بأن تعلن هذه القوات تمردها العسكري وتخرج من أوكرانيا وتعلن توجهها عسكرياً وقتالياً إلى موسكو عاصمة روسيا.
هذا تحول دراماتيكي خارج عن أي منطقٍ سياسي أو عسكري، فجأة أعلن بريغوجين قبل ليلتين خروجه بقواته من أوكرانيا واستحواذه على مدينة روستوف الروسية ذات الموقع الاستراتيجي والأهمية الاستثنائية في خطوط الإمداد للحرب في أوكرانيا. وبعد روستوف، أعلن أنه سيتوجه شمالاً إلى ليبيتسك، ومنها إلى موسكو العاصمة، وقال: «نحن نواصل، وسنذهب إلى النهاية»، وبعد الهجوم على قيادات الجيش صعَّد هدفه بعد خطاب الرئيس بوتين ليعد برئيسٍ جديدٍ لروسيا.
هذا السيناريو العجيب، لم يتحدث عنه محللون أو مراقبون للأوضاع في الحرب الروسية – الأوكرانية على الإطلاق، ولكن تحدثت عنه سيناريوهات شبيهة له في روسيا العديد من أفلام «هوليوود» عبر عقودٍ من الزمن، حيث يتمرد جنرالات روسٌ على السلطة المركزية في موسكو، ويستحوذ بعضهم على «أسلحة نووية»، ويشكلون تهديداً خطيراً للعالم وأمنه؛ فهل يمكن أن يصل بريغوجين لشيء شبيه بتلك السيناريوهات المرعبة؟
يعلم العالم أن «قوات فاغنر» قوات عسكرية خاصة درَّبتها وشكلتها ودعمتها وطورتها روسيا لتكون أخف حركة وأسرع انتقالاً لأماكن الحروب، واتصفت بوحشية قتالية وتكتيكات فعالة وتدميرية، ولا تتحمل روسيا تبعات تصرفاتها كدولة، وقد استخدمتها روسيا في القرم وفي شرق أوكرانيا 2014 و2015 ثم في سوريا وفي ليبيا وأفريقيا، وعادت قبل عامٍ ونيفٍ إلى روسيا لتخوض الحرب في أوكرانيا وصولاً إلى إعلان التمرد قبل يومين.
ما زالت الأحداث ساخنة وتتطور وتتلاحق بصورة سريعة، ولم تتشكل لها صورة واضحة بعد؛ قائد قوات «فاغنر» تربطه علاقة شخصية بالرئيس بوتين، وقد انتظر الجميع كلمة بوتين التي لم تتأخر؛ فاتهمه بالخيانة العظمى، وهدد بملاحقته والقضاء المبرم عليه بقوة وقسوة، وكان هذا الخطاب متوقَّعاً من بوتين؛ فلا يمكن أن يرضى أي رئيسٍ بتمردٍ ميليشياتٍ عسكرية على قواته المسلحة وجيشه، والسؤال هنا: كيف ستواجه الدولة الروسية بجيشها واستخباراتها وقواتها الأمنية مثل هذا الحدث الاستثنائي في مثل الظروف العصيبة التي تمر بها روسيا؟ والجواب سيتضح سريعاً بسرعة الأحداث المتتابعة.
وتظل الأسئلة أكثر من الأجوبة؛ فكيف يمكن تصور أن قوات «فاغنر» العسكرية الخاصة المكونة، مما يقارب الخمسة وعشرين ألف مقاتلٍ يمكن أن تصمد أمام ثاني أقوى جيشٍ في العالم؟ وكيف يمكن لها بتسليحها الخفيف والمتوسط الوقوف أمام جيش يمتلك كل عناصر القوة الضاربة بكل المقاييس العسكرية المعترَف بها دولياً؟ وهل لقائد هذه القوات علاقة بالهجوم الغربي الصارم وغير المسبوق على روسيا وعلى الرئيس بوتين؟ وكيف يمكن له أن يضمن خطوط إمداد لقواته وهو يستهدف العاصمة الروسية موسكو؟ وأسئلة لا تنتهي في مواجهة حدثٍ استثنائي وغير متوقعٍ بهذا الحجم.
في موقفه الأول، اعتبر الرئيس بوتين أن «الرد على أي تمردٍ سيكون صارماً وحاسماً وقاسياً»، وأن تصرفات قوات «فاغنر» تُعتبر «طعنة في الظهر» و«تمرداً مسلحاً»، وأن من نظموا هذا التمرد «خونة» من الداخل، وأن «من ينظم العصيان يحاول دفع البلد للاستسلام والحرب الأهلية». وأضاف أن «أي اضطرابات داخلية تشكل تهديداً قاتلاً للدولة، وهي بمثابة صفعة للشعب الروسي»، ولا يتوقع من رئيس أي دولة أن يتخذ موقفاً أقل صرامة من موقف بوتين القوي.
استشعاراً لحجم الخطر الذي يمكن أن يشكله مثل هذا التمرد على العالم بأسره لا روسيا فحسب؛ فقد جاءت ردود الفعل من الدول الغربية محذرةً ومتوجسةً من العواقب، بينما جاءت من أوكرانيا متشفية، وهذا أمرٌ طبيعي؛ فأوكرانيا تخوض حرباً شرسة مع روسيا ولا يتوقع منها غير ذلك.
بوتين يتحدث عن «الخيانة» و«التمرد»، والمخابرات الروسية تتحدث عن «تقسيم البلاد» و«الحرب الأهلية»، والرئيس الشيشاني رمضان قديروف يصطف مع بوتين والجيش الروسي ويهدد «باستخدام أساليب قاسية»، بينما صعد بريغوجين هجومه من رئيس هيئة الأركان إلى وزير الدفاع وصولاً إلى الرئيس بوتين، وتحدثت الأنباء عن دعوة إلى تمردٍ مشابهٍ في بيلاروسيا المجاورة لروسيا ورئيسها المتحالف مع بوتين.
هذا حدث استثنائي وكبير، وهو يغير كثيراً من قواعد اللعبة في المواجهة الروسية الغربية الكبرى والحرب الباردة بين الطرفين، كما يغير من قواعد اللعبة في الحرب الروسية الأوكرانية، فالمواقع التي أخلتها قوات «فاغنر» قبيل الهجوم الأوكراني المضاد ستسهل مهمة القوات الأوكرانية بشكل كبيرٍ، وانشغال الجيش الروسي بمواجهة التمرد العسكري سيجعل من الصعب عليه تعويض قوات «فاغنر» في وقت قصيرٍ، والنجاحات العسكرية الروسية التي بُنيت في عامٍ ونصف العام تقريباً يمكن أن تضيع وتصبح هباءً منثوراً في أيامٍ أو أسابيع.
«الميليشيا» تبقى «ميليشيا» في كل الأماكن والأزمنة، لا يمكن للميليشيا أن تفكر كدولة، وربما كان خطأ روسيا يكمن في إعادة قوات «فاغنر» مجدداً إلى روسيا، بعدما خرجت منها قبل سنواتٍ لتخدم أهداف روسيا العسكرية في سوريا وليبيا وأفريقيا، وتصبح خدماتها معروضة في الأسواق والنزاعات الإقليمية والدولية، ويعرف مواطنو دول الاضطرابات في الشرق الأوسط جيداً كيف يمكن أن تنقلب تلك «الميليشيات» على الدولة والشعب تحت شعاراتٍ وطنية أو طائفية أو دينية.
أخيراً، فالحدث في روسيا ما زال ساخناً، ولم تتكشف أبعاده بعد، ولكن تسارع الأحداث سيكشف التطورات.
————————-
حيرة واستغراب.. 3 أسئلة لإلقاء الضوء على ما أقدم عليه بريغوجين
إذا كان الرئيس الروسي فلاديمير بوتين قد تجنب الأسوأ، من خلال تجنبه المعارك بين الأشقاء بالأسلحة الثقيلة في قلب موسكو، فإنه خرج من أخطر تحد واجه حكمه حتى الآن، ضعيفا بشكل لا يصدق، ومع ذلك فإن بداية انقلاب مجموعة فاغنر تكفي لإضعاف الدفاع الروسي في وقت كانت فيه كييف في خضم هجوم مضاد لاستعادة أراضيها.
تجمع هذه المقدمة بين رأي صحيفتي “ليبيراسيون” (Liberation) ولوباريزيان (Le Parisien) الفرنسيتين اللتين رأتا في هذا اليوم الذي وصفته إحداهما بالمجنون في روسيا محاولة انقلاب لها ما بعدها من التأثير في حكم بوتين القائم منذ عام 1999، وعلى الحرب في أوكرانيا.
أبدت ليبيراسيون عدم فهمها لأمر يفغيني بريغوجين، زعيم ميليشيا فاغنر شبه العسكرية القوي، إذ أمر قواته بالعودة إلى معسكراتها فجأة، بعد ما يقرب من 24 ساعة من إعلانه أن رجاله دخلوا في تمرد على قادة الجيش لتحرير البلاد “من الفساد والأكاذيب والبيروقراطية”، وتساءلت: هل كان الأمر خداعا أم ضغطا أم جنونا أم مجرد انقلاب؟ مستنتجة أنه مهما كانت طبيعة ذلك فإنه أغرق روسيا في الحيرة، بل حتى عدم الاستقرار.
وإذا كان بريغوجين المعروف بأنه متعطش للدماء -حسب ليبيراسيون- قد برر تراجعه عن خطاب ثوري استمر أقل من يوم بأنه “لتجنب حمام دم مع قوات الأمن”، فإن خطوته بدت أقرب إلى محاولة الضغط لتجنيب مجموعته الحل الذي هددتها به وزارة الدفاع.
تجنب الأسوأ
وخلصت الصحيفة إلى أن هذا اليوم المجنون -حسب وصفها- لم تخذل فيه أي شخصية مهمة في السلطة بوتين الذي بدا ضعيفا للغاية لأول مرة منذ بداية حكمه، وحصل على دعم رؤساء تركيا وبيلاروسيا والشيشان، في حين بقيت عواصم العالم الكبرى في حالة متابعة متواصلة، عدا كييف التي بدت مستبشرة وأعلنت تقدم قواتها ميدانيا.
ومع أن ليبيراسيون أولت اهتماما كبيرا لتأثير ما بعد هذا اليوم المجنون، فإن لوباريزيان خصصت تقريرها لذلك التأثير، ملخصة رأيها في 3 أسئلة، بعد سردها أحداث هذا اليوم التي وصفها بوتين بأنها “طعنة في ظهر روسيا”، واتهم من قام بها دون تسميتهم بتشكيل “تهديد مميت” للبلاد مع خطر إشعال “حرب أهلية”.
ومن خلال السؤال الأول ناقشت الصحيفة دوافع بريغوجين إلى شن هذا الانقلاب، مشيرة إلى وجود صراع على السلطة والنفوذ كان ينتظر شرارة لإشعاله، ولعل تلك الشرارة هي ما عانته قواته -التي تم تجنيد معظم أعضائها من السجون مقابل العفو- خلال معركة باخموت “المظفرة” من تقصير في حقها من قبل وزارة الدفاع التي اتهمها الرجل صراحة بالفساد وعدم إرسال المعدات والذخيرة الكافية له، وبأنها تسببت في تأخير تقدم قواته بسبب أمور البيروقراطية.
أخطر تحد
ووصلت الأمور إلى أعلى مستوياتها -حسب لوباريزيان- مساء الجمعة عندما اتهم رجل الأعمال الذي تحول إلى قائد عسكري الجيش الروسي بقصف معسكرات قواته بالقرب من الحدود مع أوكرانيا، مما أسفر عن مقتل العديد منها.
أما السؤال الثاني فتتبعت فيه الصحيفة رد فعل موسكو التي نفت الخبر، لكن التمرد انطلق بالفعل، واحتل المتمرد منطقة روستوف أون دون بجنوب البلاد من دون إطلاق رصاصة، ليتحدث بوتين فجر السبت، منددا بما وصفه بأنه “طعنة في ظهر روسيا”، وبعدئذ دعا قادة مجلسي البرلمان الناس إلى دعم الرئيس بوتين، ودان العديد من كبار الشخصيات العسكرية انقلاب بريغوجين.
وبخصوص السؤال الثالث، عبرت الصحيفة عن صعوبة تقدير تأثير هذا التمرد، ورأت أنه أخطر تحد لحكم بوتين الطويل وأخطر أزمة أمنية في روسيا منذ وصوله إلى السلطة، وأنه يكفي لإضعاف الدفاع الروسي في أوكرانيا التي كانت في خضم هجوم مضاد لاستعادة أراضيها.
لكن لوباريزيان شددت على أن السؤال الأهم الذي بقي محيرا هو ما الذي حصل عليه بريغوجين للعودة عن انقلابه؟ ولم تعط ليبيراسيون ردا على ذلك السؤال وإن كانت ذكّرت بأن التدخل الذي قال رئيس بيلاروسيا ألكسندر لوكاشينكو إنه قام به هو ما يبدو أنه جعل إيقاف تحركات مسلحي شركة فاغنر ممكنا، منبهة إلى “الضمانات الأمنية التي أعطيت لمقاتلي فاغنر في هذا الإطار”.
المصدر : لوباريزيان + ليبراسيون
———————-
ماذا سيفعل بوتين؟ إليك القصة الكاملة للصراع بين فاغنر والجيش الروسي/ محمد العربي
بمقاتليها المحترفين الذين لا يرتدون أي شارات عسكرية، وبأقنعتهم السوداء التي تُخفي خلفها وجوها لا تطل منها سوى عيون حازمة، وبملابسهم النظامية المموهة، عُرفت مجموعة “فاغنر” الروسية التي ذاع صيتها في أوكرانيا وسوريا، بجانب مناطق أخرى في العالم ينشط فيها الدب الروسي مثل ليبيا والسودان وأفريقيا الوسطى ومالي والساحل الأفريقي.
لطالما شكَّلت “فاغنر” ذراعا باطشا لموسكو والكرملين، لكنّ الساعات الماضية حملت لها فصلا جديدا، وذلك بعدما أعلن قائدها “يفغيني بريغوجين” تمرده وقواته على القيادة العسكرية الروسية، بعد أن استولى على مدينة “روستوف” الجنوبية بكل ملحقاتها العسكرية، بما في ذلك قيادة المنطقة الجنوبية، والمطار، مهددا عبر تسجيل صوتي بالتحرك صوب العاصمة موسكو، في تطور يستهدف الإطاحة بالقيادة العسكرية ممثلة في وزير الدفاع سيرغي شويغو، ورئيس الأركان فاليري غراسيموف.
يقود “يفغيني بريغوجين” البالغ من العمر 62 عاما، صاحب الصوت الأجش، والبنيان الجسدي الضخم، مع صلعة تزيد وجهه المتجهم صرامة، جيشا خاصا يضم الآلاف من العسكريين المتقاعدين والسجناء السابقين الذين تم تجنيدهم من السجون الروسية، واستطاع مؤخرا أن يحقق أكبر انتصار لروسيا منذ 10 أشهر، باستيلائه على مدينة “باخموت” الأوكرانية الشهر الماضي، قبل أن يقرر خوض أول تمرد مسلح في الأراضي الروسية منذ الحروب الشيشانية قبل عقود، وذلك بعد أشهر من صراعه مع الدببة من قادة الجيش الذين اتهمهم بعدم الكفاءة وحجب الذخيرة عن مقاتليه، غير أن المواجهة الأخيرة ذات التفاصيل الغريبة والمبهمة مَثَّلث مفاجأة للجميع، بما في ذلك الرئيس الروسي بوتين نفسه على ما يبدو.
خرجت فاغنر عن سيطرة الكرملين إذن وهي التي كانت طول سنوات ذراعه الطولى، وعلى مدار ساعات تعددت التكهنات حول المآلات المحتملة لهذا التطور، بيد أن الأزمة لم تدم طويلا، ففي ساعة متأخرة من مساء أمس السبت، أعلن بريغوجين قبول وساطة الرئيس البيلاروسي لوكاشينكو، وأمر قواته بالعودة إلى معسكراتها، وعكس تحركها نحو العاصمة بعد أن كانت على بُعد 200 كيلومتر فقط من دخولها، مقابل ضمانات وفرها الكرملين شملت إسقاط الدعوى الجنائية ضد بريغوجين وخروجه إلى بيلاروسيا.
كيف وصل الصراع إلى الذروة؟
لم تكن سماء أوكرانيا الملبدة بدخان الحرب بأشد ضبابا من أروقة موسكو السياسية في الشهور الأخيرة، إثر خلاف بين القيادة العليا للجيش الروسي، ممثلة في وزير الدفاع ورئيس الأركان، وبين قائد مجموعة “فاغنر” المعروف في الإعلام الغربي بلقب “طباخ بوتين”. فمنذ اندلعت الحرب الأوكرانية في فبراير/شباط عام 2022، اعتقد “يفغيني بريغوجين” -كما ظهر من تصريحاته لاحقا- بأن الجيش الروسي لن يصمد وقتا طويلا من دون قواته، وأن أولئك القادة الذين نعتهم “بعدم الكفاءة” لا يستطيعون بقوتهم وحدها تحقيق نصر حاسم ضد القوات الأوكرانية المدعومة غربيا.
كان زعيم “فاغنر” يرى أن قواته تتفوق على الجيش الروسي خاصة مع معارك المدن، وهو ما أثبتت صحته الوقائع على الأرض، فقواته هي التي صنعت انتصار “باخموت” وليس الجيش. ومع كل ما قدمته قوى فاغنر للقيادة السياسية في موسكو، فإنها كانت ترى أنها تتعرض لنوع من التمييز، حيث اشتكت المجموعة علنا من أنها تفتقر إلى الذخيرة اللازمة للبقاء في مواقعها المتقدمة داخل ميدان القتال، ليهدد “بريغوجين” بعدها بسحب قواته من باخموت، بعدما فر منها الجيش الروسي من قبل.
تصاعدت الأحداث لتصل إلى مواجهة علنية بين الفريقين، بعدما أعلنت وزارة الدفاع، في تحدٍّ صريح لقائد فاغنر، مطالبة المقاتلين المتطوعين في المجموعة بتوقيع عقود معها، لدمج المرتزقة في الجيش، بغرض أن تخضع تلك القوات لاحقا لإمرة قيادة الجيش وتأثيره، وهو ما رفضه صديق بوتين المُقرب (سابقا) الذي رأى في تلك الخطوة محاولة يائسة لحصاره، وبرر رفضه بدعوى أن قواته بالفعل محكومة تماما بمصالح روسيا والقائد العام، وأن الجيش الروسي لا يمكنه تحمل كفاءة مجموعته، وقد لا يزودها بالذخيرة والسلاح لضمان استمرار كفاءتها.
ظل قائد فاغنر متحديا، رافضا الامتثال أو الكف عن تصريحاته ضد قيادات الجيش الروسي، لكنه أدرك أن لحظة تهميشه قد أُعِدَّ لها، وأن الإطاحة به أصبحت مسألة وقت ليس إلا، خاصة أنه قد جاوز بتصريحاته المتجرأة المدى حين قال إن روسيا قد تواجه ثورة مماثلة لثورة 1917 وتخسر حرب أوكرانيا ما لم تكن النخبة جادة بشأن المعركة، إلى جانب انحياز الرئيس الروسي فلاديمير بوتين ضمنيا إلى قائد الجيش في ذلك الصراع.
شهدت الساعات القليلة قبل الهجوم الأخير على مدينة “روستوف” أحداثا مهمة للغاية، بعد قصف الجيش الروسي أحد معسكرات فاغنر في أوكرانيا بالصواريخ وفق ادعاء بريغوجين، ورغم نفي القيادة العامة للجيش، ووصفها الادعاءات بأنها عمل مسرحي، فإن ذلك لم يكن كافيا لاحتواء الأزمة مع أهم طرف يقاتل إلى جانب الجيش في الأراضي الأوكرانية، وبدلا من ذلك وصل الصراع إلى الذروة وشهدت موسكو بوادر أول تمرد عسكري منذ عقود.
ما القوة الحقيقية لفاغنر؟
بعد نحو عام ونصف من الحرب الأوكرانية، اكتسب مقاتلو مجموعة فاغنر “سُمعة سيئة” كما هو حال قائدهم باعتبارهم الأقسى بين أولئك الذي يقودون الغزو الروسي لأوكرانيا، وتُقدِّر الاستخبارات الغربية أن فاغنر تضخمت صفوفها مؤخرا بسبب تلك الحرب إلى نحو 50 ألف مقاتل، بما في ذلك عشرات الآلاف من السجناء السابقين الذين تم تجنيدهم من السجون في جميع أنحاء روسيا، وهو أكبر رقم وصلت إليه على الإطلاق منذ تأسيسها في صيف عام 2014، خلال ضم روسيا لشبه جزيرة القرم، لتتحول الميليشيا من مجرد مجموعة مرتزقة تساعد الجيش الروسي إلى قوة موازية تقاتل بدلا منه، وتقدم خدماتها في الميدان، ومع ذلك، تُحظر المجموعة رسميا من قِبَل الحكومة الروسية بسبب تجريم القانون إنشاء شركات عسكرية خاصة، ولم يكن وجودها معترفا به، فيما ظلت موسكو تنفي أن يكون لها أي صلة بها.
بعدما أثبتت فاغنر أنها لا غنى عنها، استخدم بوتين المجموعة لإعادة توجيه مصالح سياسته الخارجية، بما في ذلك تقديم الدعم العسكري لحلفاء روسيا، بشكل يسمح للكرملين بإنكار التورط في النزاعات، وتقليل الخسائر المباشرة في صفوف الجيش. وقد لعبت المجموعة أدوارا محورية في عدة بلدان، فقاتلت جنبا إلى جنب مع القوات الموالية للنظام السوري الذي استطاع بفضل ذلك الدعم دفع الدول العربية لإعادة الاعتراف به مرة أخرى، وإعادته إلى جامعة الدول العربية، كما قاتلت إلى جانب الجنرال الليبي خليفة حفتر، ورغم أنها أخفقت في مهمتها بسبب دعم تركيا لحكومة طرابلس، فإنها أسهمت في تثبيت وضع حفتر والإبقاء عليه في الخارطة السياسية. وبالمثل، أعادت فاغنر بناء نفوذ موسكو في دول مثل السودان ومالي وأفريقيا الوسطى، ودول أخرى.
تضاعفت قوة فاغنر بعدما تحولت من ميليشيا ذات مهام محدودة إلى شركة أمن عابرة للحدود، قبل أن تستفحل وتتحول إلى شبكة معقدة من الشركات التي تعمل في مجال التعدين وحراسة حقول النفط، والخدمات الأمنية، إلى جانب تجارة تُدر مئات الملايين من الدولارات شهريا، ورغم عدم وجود تقدير دقيق للأرباح وحجم الثروة التي يمتلكها طباخ بوتين، فإن الولايات المتحدة تعتقد أن فاغنر تحتاج إلى نحو أكثر من 100 مليون دولار شهريا لتمويل عملياتها في أوكرانيا، هذا بخلاف الاعتقاد الشائع أن المجموعة مدعومة من وكالة الاستخبارات العسكرية الروسية (GRU)، التي تُمولها وتُشرف سرا عليها.
ماذا يدور في عقل بوتين وبريغوجين؟
لا يمتلك زعيم فاغنر قوات كافية فعليا للوقوف في وجه قوة بحجم الجيش الروسي، وإسقاط العاصمة موسكو، رغم أن دفاعاتها الضعيفة لم تصمد أمام الهجوم المضاد الذي شنته الطائرات المسيرة الأوكرانية، وهو ما جعله يحدد أهداف تمرده منذ البداية بأنه لا يسعى للانقلاب والإطاحة ببوتين، لكنّ عداءه الطويل مع قيادة الجيش الروسي هو ما قاد إلى ذلك الوضع. ورغم أن إذكاء الصراع بين أجنحة السلطة لطالما كان جزءا من لعبة سياسية حرص بوتين على استمرارها بين مراكز القوى من نخبته، لضمان ولائهم، فإن كل ذلك تغير مع الغزو الشامل لأوكرانيا، الذي أطلق العنان لطموحات بريغوجين العسكرية، والسياسية أيضا.
ورغم محاولة موسكو احتواء الصراع الحالي من خلال وساطة بيلاروسيا، فإن القرارات التي ستلي تلك الأزمة سيكون لها تأثير هائل على السياسة الخارجية لروسيا، وتدخلاتها العسكرية في السنوات القادمة، خاصة أن “فاغنر” أثبتت نفسها أكثر من مرة بوصفها قوة مقاتلة هائلة، سواء من خلال إحرازها انتصارات ميدانية في أوكرانيا ذات أهمية إستراتيجية، أو من خلال المعارك في سوريا، بجانب الدول الأفريقية التي دخلتها موسكو من بوابة فاغنر، لذا فأي تمرد من تلك المجموعة قد يُشكِّل تهديدا حيويا لمصالح روسيا في هذه الدول.
بشكل أكثر تحديدا، تكمن نقطة القوة الرئيسية التي يتمتع بها زعيم فاغنر في الوقت الراهن في كون قواته تُمثِّل رأس الحربة في الهجوم الروسي على أوكرانيا، وبالتالي فإن تراخي تلك القوات، أو انسحابها من مواقعها، يمكن أن يُحدِث تحولا جوهريا في الحرب. ومع تصاعد الخسائر الروسية في ساحة المعركة، يمكن أن يظهر التمرد في صفوف الجنود الروس، ومثل قادة روس آخرين مروا قبله، يشعر بوتين بالقلق من أن الهزيمة العسكرية في أوكرانيا قد تقود حتما إلى زوال نظامه، كون الهزائم العسكرية كانت دوما طريق النهاية، مثلما سرَّعت الهزيمة في أفغانستان نهاية الإمبراطورية السوفيتية.
لماذا انتهى التمرد سريعا؟ وماذا نتوقع في المستقبل؟
في اللحظة التي ستعلن فيها القيادة الروسية فاغنر مجموعة متمردة، سوف يخسر بريغوجين نفوذه في العديد من الدول حول العالم التي لن تخاطر بتوظيف ذراع يعتبره النظام الروسي مارقا. (الأناضول)
أكدت الرسائل النارية التي ألقاها يفغيني بريغوجين وهو ينسحب بقواته من أوكرانيا صوب مدينة روستوف الروسية أنه لم ينوِ القيام بانقلاب ضد الرئيس الروسي، وأن كل ما أراده هو تحقيق طلباته التي تمثَّلت في حصول قواته على الذخيرة والمَؤونة الكافية، هذا بخلاف رغباته غير المُعلنة في رفع يد الجيش عن مجموعته والامتناع عن استهدافه سياسيا وقانونيا بشكل شخصي. كان بريغوجين فيما يبدو يمارس نوعا من التفاوض الخشن بقوة السلاح، لكن يبدو أن تحركه خرج عن السيطرة ووضعه في مواجهة مباشرة ربما لم يكن يريدها مع الرئيس بوتين نفسه.
يدرك زعيم فاغنر أنه لم يكن بإمكانه أبدا السيطرة على موسكو بقوة السلاح، وبخلاف قوة الجيش الروسي التي كانت لتسحق قوته -نظريا- حال كانت دخلت العاصمة، فهناك على التخوم والأطراف عدة دول أعلنت استعدادها للدفاع عن روسيا بموجب منظمة معاهدة الأمن الجماعي، وهي كازاخستان وأرمينيا وقرغيزستان وطاجيكستان، إضافة إلى بيلاروسيا التي دخلت على الخط بموجب صفقة توسط فيها الرئيس البيلاروسي ألكسندر لوكاشينكو لإنهاء التمرد المسلح ضد القيادة الروسية، وهي التي سارع بريغوجين للقبول بها، وانسحب بقواته دون أي ضمانات، اللهم اكتفاء الكرملين بإسقاط الدعوى الجنائية ضده، ومنح ضمانات أمنية لمقاتليه.
يعي بريغوجين كذلك أن بقاءه مرتبط ببقاء النظام الروسي نفسه وأنه لا يمكنه التمرد عليه كليا، فقد تتمكن الاستخبارات الروسية ببساطة من خنق أنشطة فاغنر تماما كما أطلقت لها العنان من قبل، وفي اللحظة التي ستعلن فيها القيادة الروسية فاغنر مجموعة متمردة، سوف يخسر بريغوجين نفوذه في العديد من الدول حول العالم التي لن تخاطر بتوظيف ذراع يعتبره النظام الروسي مارقا، دون نسيان أن فاغنر موضوعة على قوائم العقوبات الأميركية والاتحاد الأوروبي، بفعل انتهاكات وجرائم حروب، وهو ما يجعل “طباخ بوتين” بدون خيارات حقيقية سوى الاستسلام، للخروج بأقل الخسائر الممكنة.
على الجانب الآخر، لا يبدو أن الرئيس بوتين -حتى الآن- عازم على تصفية فاغنر تماما بقدر رغبته في تحجيم المجموعة وتقليص نفوذها، فبعد كل شيء لا يمكن للكرملين على الفور استبدال الأدوار العسكرية التي تقوم بها المجموعة نيابة عنه في الكثير من دول العالم، كما لا يمكنه المخاطرة باستمرار الصدع في صفوف قواته المشاركة في حرب أوكرانيا تحديدا. لكن المؤكد أن العلاقة بين الكرملين وفاغنر لن تعود كما كانت من قبل، وأن موسكو استوعبت بالتجربة الصعبة أن الميليشيات سيف ذو حدين، أخطرهما الحد الذي ستُشهره في وجه صانعها، ولو بعد حين.
——————————————————————————————————————————–
المصادر:
Russia accuses mercenary chief of armed insurgency after vowing to punish senior officers
Mercenary chief seizes southern city in first insurrection in Russia in decades
Moscow accuses Wagner president of insurgency, says troops enter Russia
Ukrainian unit says Russian brigade flees suburbs of Bakhmut as Wagner chief unleashes speech in Russian army
Russian military leaders urge Wagner boss to stop his ‘march for justice’ as Moscow beefs up security
Wagner President Prigogine says his soldiers will not sign contracts with Russian military.
Mercenary Prigozhin warns Russia could face revolution unless elite gets serious about war
Yevgeny Prigozin: Hot Dog seller who rose to top of Putin’s war machine
The Brothers Band: Wagner Group and the Russian State of the Internity of the League
Signs of neo-Nazi ideology among Russian mercenaries
Inside the stunning growth of Russia’s Wagner Group
EXCLUSIVE: U.S. says Russian Wagner group bought North Korean weapons for Ukraine’s war
Russia launches criminal case against Wagner group chief for ‘incitement to armed rebellion’
Putin only has himself to blame him for infighting sweeping Kremlin insiders.
What Was The February Revolution?
Ukraine says it advances in south, stops Russian attack in east
Wagner boss leaves Russia for Belarus in deal ends armed insurgency – Deleasurrection –
Chechen leader offers to help quell Wagner’s Rebellion
Chechen leader offers to help quell Wagner’s Rebellion
المصدر : الجزيرة
—————————-
الكرملين يكشف عن بنود الاتفاق الكامل الذي أنهى تمرد قائد “فاغنر“
كشف المتحدث باسم الكرملين دميتري بيسكوف أبرز نقاط الاتفاق بين الرئيسين الروسي فلاديمير بوتين والبيلاروسي ألكسندر لوكاشينكو، وذلك في إطار وساطة مينسك لإنهاء تمرد قائد مجموعة فاغنر عبر عملية تسوية.
وصباح أمس السبت، أعلن قائد قوات مجموعة فاغنر العسكرية الروسية يفغيني بريغوجين أن قواته سيطرت على المنشآت العسكرية في مقاطعة روستوف (جنوبي البلاد)، وهدد بالتوجه إلى العاصمة موسكو، وتحركت أرتال بالفعل تجاهها، رغم تحذيرات بوتين وتوعده برد قاس على “الخيانة”.
ومساء أمس أعلن بريغوجين قبوله وساطة الرئيس البيلاروسي، وأمر قواته بالعودة إلى معسكراتها، وبالفعل انتشرت صور من مدينة روستوف لبدء انسحاب مقاتلي فاغنر من المدينة.
ونقلت قناة “آر تي” الروسية تصريحات هاتفية لبيسكوف كشف فيها عن العديد من النقاط التي تضمنها الاتفاق، وهذه أبرزها.
بعض مقاتلي فاغنر ممّن رفضوا منذ البداية الانخراط في “حملة” بريغوجين، ستتاح أمامهم إمكانية الانضمام لصفوف القوات المسلحة الروسية والتعاقد مع وزارة الدفاع.
لن يخضع هؤلاء لأي ملاحقة قانونية.
عودة قوات شركة فاغنر إلى معسكراتها.
الجزء الذي لا يرغب في العودة إلى المقار والمعسكرات يوقع اتفاقيات مع وزارة الدفاع الروسية.
إغلاق القضية الجنائية بحق بريغوجين، وسيغادر إلى بيلاروسيا.
وأوضح بيسكوف أن الرئيسين الروسي فلاديمير بوتين والبيلاروسي ألكسندر لوكاشينكو اتفقا على وساطة مينسك في عملية التسوية، لافتا إلى أن الوساطة “كانت مبادرة شخصية من رئيس بيلاروسيا”.
وأكد المتحدث باسم الكرملين أن ما حدث أمس السبت لن يؤثّر بأي حال من الأحوال على مسار ما تسميه موسكو “العملية العسكرية الخاصة” في أوكرانيا والمستمرة منذ فبراير/شباط 2022، مشددا على أن القوات الروسية تواصل بنجاح صد الهجوم الأوكراني المضاد، وفق قوله.
————————-
خبراء أميركيون للجزيرة نت: تمرد فاغنر يجعل بوتين ضعيفا وخطيرا/ محمد المنشاوي
واشنطن- يعتقد خبراء أميركيون أن تبعات الأحداث التي شهدتها روسيا أمس السبت ستكون شديدة الخطورة والأهمية على حاضر ومستقبل منظومة الحكم فيها.
ويرى هؤلاء أنه على مدى ربع قرن حافظ الرئيس الروسي فلاديمير بوتين على سلطته من خلال تأليب الجماعات المتنافسة على بعضها البعض، والقضاء على أية منافسين محتملين. وكشفت أحداث السبت عن أن تلك الإستراتيجية أتت بنتائج عكسية.
ضربة قاسية لبوتين
ورأى خبير الشؤون الروسية بمؤسسة “أوراشيا جروب” أليكس كليمنت أن “القيصر بوتين تلقى ضربة قاسية، إذ قاد أحد رجاله وشخصية معروفة بشكل كبير داخل الأوساط الروسية تمردا مسلحا، وسار بقواته فعليا باتجاه العاصمة موسكو”.
وأضاف كليمنت “كان من الواضح أن بوتين عازف عن استخدام القوة لقمع التهديد على الفور، وربما تم تحذيره من تحويل شخص قومي شعبوي متطرف مثل يفغيني بريغوجين إلى “شهيد”، وكان لزاما عليه أن يلجأ إلى حليفه ألكسندر لوكاشينكو لتسوية الأمر. ومن الصعب أن نرى كيف أن أيا من ذلك يجعل بوتين يبدو أقوى أو أكثر كفاءة أو أكثر أمانا مما كان عليه مساء الخميس”.
وفي وقت مبكر من صباح السبت، استولت مجموعة فاغنر العسكرية على مقر قيادة المنطقة العسكرية الجنوبية في مقاطعة روستوف على نهر الدون.
ووصف بوتين تصرفات المتمردين بأنها “مغامرة إجرامية وطعنة في ظهر روسيا وخيانة”. كما بدأ جهاز الأمن الفدرالي الروسي رفع قضية ضد مؤسس “فاغنر” يفغيني بريغوجين، بموجب تهمة تنظيم “عصيان مسلح”.
وبعد عدة ساعات، نجح رئيس بيلاروسيا ألكسندر لوكاشينكو -المعروف بقربه من الرئيس بوتين ومن بريغوجين- في التوصل لصفقة بمقتضاها يُسقط الكرملين جميع تهم “التمرد” ضد بريغوجين ومقاتليه، على أن ينتقل للعيش في المنفى في بيلاروسيا.
وتضمّنت الصفقة العفو عن مقاتلي قوات “فاغنر” الذين شاركوا في التمرد، وسيسمح للبقية بأن يصبحوا مقاتلين متعاقدين مع الجيش الروسي.
ويجمع خبراء الشأن الروسي داخل واشنطن على أنه من الصعب على أي مواطن روسي ألا يعتبر أن أحداث 24 ساعة الماضية تُظهر أن قبضة الرئيس الروسي بوتين على السلطة قد لا تكون محكمة كما كان يُعتقد سابقا.
وقبل أحداث الأمس، كان من السخف الاعتقاد داخل الدوائر النافذة في واشنطن أن الرئيس الروسي يواجه أي تهديد خطير داخليا.
وتُقدر بعض التقارير أعداد قوات “فاغنر” بـ50 ألف مقاتل، بعضهم من قدامى المحاربين المتشددين، والباقون من المتطوعين من السجناء في المعتقلات الروسية. وسيدفع تحركها الأخير الكرملين لمراجعة واسعة لا يعرف أحد إلى ماذا ستنتهي.
نظام “فقد سحره”
واعتبر ستيفن كوتكين المؤرخ البارز للتاريخ الروسي في حوار مع موقع “فورين أفيرز” أنه لطالما وصف نظام بوتين بأنه “أجوف لكنه لا يزال قويا، لقد بقي وسيبقى قابلا للاستمرار ما دام لم يكن هناك بديل سياسي له. والآن، قد نرى مدى خلو النظام وضعفه من الداخل؛ لقد أطلق بوتين عن غير قصد اختبار إجهاد لنظامه، كما فقد بوتين بالفعل هيبته وسحره بسبب الهجوم الفاشل على أوكرانيا”.
وفي حديث للجزيرة نت، يقول البروفيسور روبرت بيرسون أستاذ العلاقات الدولية في “ويست بوينت” (أشهر أكاديمية عسكرية أميركية) إن “24 ساعة الأخيرة كانت حقا ساعات غير عادية”.
وفي رأي الخبير بيرسون -المتخصص في الشأن الروسي- فإن الصورة ما تزال غير مؤكدة، لكنه يعتقد “أن نظام الابتزاز والمكافآت الذي استخدمه الرئيس بوتين للاحتفاظ بولاء النخب، وبالتالي السيطرة على روسيا على مدى 23 عاما الماضية قد فشل. ورغم أنه قد ينجو من هذا التحدي، فإنه سيخرج ضعيفا إلى حد كبير لأنه تعرض للإذلال علنا”.
ورأى بيرسون أن الأمر سيئ بما فيه الكفاية لبوتين بعد أن تحداه بريغوجين، وهو (أي بوتين) الزعيم الذي كان لا يمكن المساس به ذات يوم. ولكن الأسوأ من ذلك بكثير -في رأي البروفيسور- يبدو كأن بريغوجين قد انتزع تنازلات من بوتين تحت التهديد بالقوة، “وهذا ليس جيدا لصورة شخصية حاكم دكتاتور مثل بوتين”.
تأثير الأحداث على أوكرانيا
وعن تأثير أحداث أمس السبت على مسار القتال في أوكرانيا، قال بيرسون “علينا تذكّر أن الجيش الروسي ليس مصمما لصنع القرار اللامركزي الذي يمكن أن يتكيف مع الظروف الغامضة والمتغيرة؛ فبدلا من ذلك تعتمد المستويات الدنيا على أوامر واضحة من التسلسل الهرمي العسكري الأعلى.
ويبدو أن قوات بريغوجين تواصل احتلال المقر العسكري في روستوف، الذي يعمل مركز قيادة لحرب روسيا في أوكرانيا، وكذلك مقر المنطقة العسكرية الجنوبية لروسيا.
ويظن بيرسون أن تمرد بريغوجين يحتل معظم اهتمام القيادة العسكرية الروسية في روستوف، مما قد يؤدي إلى شلل بين القوات الروسية التي تقاتل في أوكرانيا بينما تكافح لمواجهة ديناميكيات التحول للهجوم المضاد الأوكراني من دون أوامر واضحة أو حتى خطوط مع القيادة.
لذا، يقول بيرسون “على الأقل في المدى القصير يُعد هذا تطورا عسكريا جيدا لأوكرانيا التي قد تجد فرصا لم تكن لتتحقق من دون مناورة بريغوجين المثيرة”.
وعن الخيارات التي تمتلكها واشنطن وحلفاؤها في الناتو، قال المؤرخ كوتكين “إذا كان يُنظر إلى واشنطن وحلف شمال الأطلسي وأوكرانيا على أنها تدعم بريغوجين أو تتواطأ معه، فقد يكون ذلك بمثابة تقويض لفرص إنهاء “العدوان” على أوكرانيا.
وأوضح كوتكين أن رد الفعل الأميركي والغربي حتى الآن جاء بشكل صحيح؛ وهو عدم التعليق. و”بالطبع، هناك مراقبة ومتابعة عن كثب على مدار الساعة لكل شيء وأي شيء، والاستشارة المتبادلة المكثفة، ولكن بعد كل هذه الأحداث يمكن أن نعود إلى حيث بدأنا: بوتين في السلطة بموسكو وأوكرانيا تواجه عدوانا من الصعب إيقافه”.
المصدر : الجزيرة
—————————
تمرد فاغنر انتهى لكن العواقب لم تنته/ محمود علوش
نجح الرئيس البيلاروسي ألكسندر لوكاشينكو في إنهاء أزمة التمرد القصير الذي قاده زعيم مجموعة فاغنر القتالية يفغيني بريغوجين لأقل من يوم ضد القوات المسلحة الروسية، من خلال رعاية صفقة بين بريغوجين والرئيس الروسي فلاديمير بوتين لإنهاء التمرد من دون سفك الدماء.
نصّت الصفقة على انسحاب مقاتلي فاغنر من المناطق التي سيطروا عليها في جنوب روسيا، ووقف زحفهم نحو العاصمة موسكو مقابل؛ إسقاط القضية الجنائية عن بريغوجين وانتقاله للعيش في بيلاروسيا، فضلا عن بعض البنود الأخرى المتعلقة بمصير مقاتلي المجموعة.
لم يتضح حتى كتابة هذه السطور المصير النهائي لبريغوجين، وإذا كانت إقامته في بيلاروسيا ستكون بمثابة منفى دائم له، لكنه بالتأكيد أصبح أضعف بكثير من تشكيل تهديد مستقبلي لحكم بوتين. ومع ذلك، فإن إطفاء حريق في المنزل لا يعني بالضرورة أن المنزل أصبح بحالة جيدة أو أن النيران التي اشتعلت فيه كانت عرضية.
مع أن بريغوجين تجاوز الخطوط الحمراء المسموحة والإفراط في طموحه الشخصي إلى حد جعل نظام الرئيس فلاديمير بوتين مكشوفا على نحو خطير، فإن تخلي بوتين عنه يُشير أيضا إلى أنه رضخ في نهاية المطاف لضغوط الجنرالات الكبار
لقد كشف تمرد بريغوجين نقطتي ضعف خطيرتين لدى بوتين:
الأولى: عجزه في منع خروج الصراع على النفوذ بين بريغوجين وقادة الجيش الروسي عن السيطرة، رغم أن هذا الصراع بدأ يظهر للعلن بشكل واضح قبل أشهر. هذا العجز يُثير الكثير من الشكوك حول قوة الزعيم الروسي في الداخل. لا يزال بوتين قويا بما يكفي للحفاظ على حكمه، لكن مجرد ظهور التصدّعات في أحد الأعمدة الرئيسية لقوة بوتين مؤشر مُقلق للرئيس الروسي.
أما النقطة الثانية فهي أن التمرد القصير أظهر أن الجبهة الداخلية الروسية ليست متماسكة بالطريقة التي حاول بوتين إظهارها منذ بداية الحرب على أوكرانيا قبل نحو عام ونصف العام. رغم أن بريغوجين برر تمرّده بخلافه مع الجنرالات الكبار داخل المؤسسة العسكرية، مثل وزير الدفاع ورئيس هيئة الأركان، فإنه شكك علنا في مشروعية الحرب الروسية في أوكرانيا.
مثل هذا التشكيك يجد في الواقع صدى له في بعض الأوساط الروسية التي تُعارض الحرب، وإن كانت على نطاق ضيق. إن السرعة التي انتهت بها هذه الأزمة قد تُريح بوتين جزئيا في مواجهة القلق من تزايد المعارضة للحرب في الداخل، لكن التمرد ستكون له عواقب معنوية يصعب تجاوزها بأي حال في المستقبل المنظور، خاصة أن الحرب الروسية في أوكرانيا تواجه بالفعل صعوبات كبيرة، ولا يبدو أن موسكو بعد نحو عام ونصف العام قادرة على حسمها.
في أنظمة مثل نظام الرئيس فلاديمير بوتين يُعد الانضباط الصارم داخل المؤسسة العسكرية علامة رئيسية على القوة. لم تكن فاغنر جزءا من الجيش الروسي بطبيعة الحال، لكنها كانت حتى إعلان التمرد أحد الأذرع العسكرية القوية لروسيا في حرب أوكرانيا وفي بسط النفوذ في بعض دول العالم.
سيتوقف تحديد العواقب المحتملة لتمرد بريغوجين المؤقت على الداخل الروسي وعلى القوة العسكرية الروسية في الخارج على أمرين أساسيين: الأول مستقبل بريغوجين نفسه والجنرالات الذين طالب بعزلهم مثل وزير الدفاع ورئيس أركان الجيش.
إذا كانت الصفقة التي رعاها الرئيس البيلاروسي ستعني أن معالجة الأزمة تقتصر فقط على البنود المُعلنة فيها، وهي انتقال بريغوجين للعيش في بيلاروسيا مع العفو عن مقاتلي فاغنر الذين شاركوا في التمرد، وتوقيع المقاتلين الآخرين الذين لم يشاركوا في التمرد عقودا مع وزارة الدفاع، التي تسعى لوضع جميع القوات المتطوعة المستقلة تحت سيطرتها بحلول الأول من يوليو/تموز المقبل، فإن الصفقة لن تؤدي إلى إحداث تغييرات في قيادة الجيش.
يبدو ذلك مرجحا على نطاق واسع لأن الحفاظ على المؤسسة العسكرية وهيبتها سيبقى أولوية بالنسبة لبوتين.
لكن قبول بوتين بالصفقة يعني تراجعا عن وعده الضمني بمحاسبة بريغوجين على التمرد، وما قد يُفسر تراجع بوتين هو أن قوات فاغنر المتمردة لم تواجه مقاومة كبيرة من قبل قوات الأمن الروسية خلال سيطرتها على بعض المناطق في الجنوب وأثناء زحفها للعاصمة موسكو، وبالتالي فإن الرهان على إخماد التمرد بالقوة كان ينطوي على مخاطر الدخول في مواجهة دموية قد تفتح شهية الجنرالات المحتملين المعارضين لحرب أوكرانيا لاستغلال الصراع من أجل التمرد.
سيكون الأداء الضعيف لقوات الأمن في مواجهة التمرد محل تركيز لدى بوتين مع انتهاء هذه الأزمة. مثل هذه الأزمات تُشكل فرصة جيدة لبوتين لاكتشاف مكامن الضعف داخل الهيكلين الأمني والعسكري.
أما الأمر الثاني فيتمثل في تحديد مصير مجموعة فاغنر. بالنظر إلى أن الصفقة المبرمة تضمنت دمج بعض مقاتلي المجموعة ضمن وزارة الدفاع بموجب العقود التي سيوقعونها مع العفو عن المقاتلين الذين شاركوا في التمرد والذي سيمهد إلى توقيعهم عقودا مماثلة، فإن أولوية بوتين هي الحفاظ على فاغنر مع جعلها أكثر ولاء للمؤسسة العسكرية.
يبدو ذلك متوقعا بالنظر إلى أن فاغنر لا تزال تُشكل حاجة لروسيا في حربها في أوكرانيا، وكذلك في مساعيها للحفاظ على الأدوار العسكرية غير الرسمية التي تقوم بها في بعض دول العالم عبر هذه المجموعة. قد يعمد بوتين إلى تعيين صديق آخر له لتولي رئاسة فاغنر بدلا من بريغوجين، مع الشروع في عملية تطهير واسعة داخل المجموعة لإنهاء نفوذ بريغوجين فيها.
ستبقى فاغنر حاجة لروسيا في تنفيذ الأعمال القتالية لروسيا بالوكالة في بعض دول العالم التي لا يريد بوتين إظهار انخراط عسكري رسمي فيها، مثل ليبيا وأفريقيا الوسطى ومالي. لكن بقاء المجموعة فاعلة في التأثير في هذه البلدان سيتوقف أيضا على قدرة بوتين في القيام بعملية تغيير الولاء داخل فاغنر وجعلها مرتبطة بشكل كامل بتوجيهات وزارة الدفاع الروسية.
لطالما كان النفوذ القوي الذي حظي به بريغوجين في الكرملين محل إزعاج لجنرالات القوات المسلحة الكبار. إن استعانة بوتين بفاغنر لا ترجع فقط إلى أهمية هذه المجموعة غير النظامية في تنفيذ الأعمال القتالية لروسيا في الخارج بالوكالة، فقد استخدمها أيضا كوسيلة ضمن عملية التوازن داخل المؤسسة العسكرية لبقائه قويا ومُهيمنا.
مع أن بريغوجين تجاوز الخطوط الحمراء المسموحة والإفراط في طموحه الشخصي إلى حد جعل نظام الرئيس فلاديمير بوتين مكشوفا على نحو خطير، فإن تخلي بوتين عنه يُشير أيضا إلى أنه رضخ في نهاية المطاف لضغوط الجنرالات الكبار من أجل التخلص من بريغوجين واستيعاب مجموعة فاغنر ضمن وزارة الدفاع.
باحث في العلاقات الدولية
————————-
بعد انتهاء تمرد فاغنر.. أوكرانيا تكثف هجومها على باخموت وبوتين يعطي أولوية قصوى للعملية العسكرية
كثفت القوات الأوكرانية -اليوم الأحد- هجماتها على الجبهة الشرقية في محاولة لاستغلال “الفوضى” التي أحدثتها أزمة تمرد قوات فاغنر في روسيا، في المقابل أعلن الجيش الروسي التصدي لمحاولة تقدم أوكرانية باتجاه باخموت.
يأتي هذا بينما يرى وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن أن الهجوم الأوكراني المضاد ربما يستمر أشهرا، في حين قال الرئيس الروسي فلاديمير بوتين إنه يعطي أولوية قصوى لنجاح العملية العسكرية في أوكرانيا.
وقال قائد عمليات منطقة شرق أوكرانيا أولكسندر سيرسكي إن القوات الأوكرانية تتحرك باتجاه باخموت، مشيرا إلى أنها نفذت هجمات وألحقت خسائر بالمعدات والآليات التابعة للقوات الروسية في الجبهة الشرقية.
وأضاف سيرسكي أن لواء المدفعية الـ45 وسلاح الجو نفذا هجمات مُحكمة في اتجاه مقاطعة لوغانسك، حسب تعبيره.
ونشرت القوات الأوكرانية مقاطع فيديو قالت إنها لاستهداف آليات روسية بالمدفعية والمسيرات الانتحارية في محيط باخموت.
يأتي ذلك بعد إعلان نائبة وزير الدفاع الأوكراني تقدم قوات بلادها في هجوم متزامن باتجاه 6 بلدات شمال باخموت وجنوبها.
وبشأن باخموت أيضا، قال قائد اللواء الثالث في الجيش الأوكراني أندريه بيليتسكي إن قوات بلاده نفذت ما وصفها بعمليات تطهير في الضفة الغربية لقناة “سيفرسكي دونيتس- دونباس”، الواقعة جنوب باخموت.
وأضاف “هزم مقاتلونا الكتيبة الثالثة التابعة للواء بندقية آلية للحرس 57 في الاتحاد الروسي”، مؤكدا أنه تم القضاء على 30 مقاتلا روسيا وجرح 50، إضافة إلى أسر عشرات منهم، كما تم تدمير آلياتهم العسكرية.
على الجانب الروسي، قال المتحدث باسم قوات الجنوب الروسية فاديم أستافييف إن القوات الروسية صدّت هجمات أوكرانية نفّذتها 10 وحدات من المركبات المدرّعة في اتجاه باخموت.
وأضاف أستافييف أن قواته تصدت لـ4 هجمات في محيط باخموت، ودمّرت وحدة مشاة عند محور “مارينكا”، جنوبي دونيتسك.
وفي مقاطعة خاركيف، قال المتحدث باسم قوات الغرب الروسية سيرغي زيبينسكي إن قواته وجهت 11 ضربة صاروخية لمناطق تمركز لواءين من القوات المسلحة الأوكرانية في اتجاه كوبيانسك، بمقاطعة خاركيف.
من جهته، نشر موقع “ريدوفكا” الروسي مقطعا مصورا، قال إنه لاستهداف إحدى المجموعات الأوكرانية في خاركيف.
سعادة أوكرانية
وعن تداعيات ما جرى في روسيا أمس السبت على الحرب الروسية في أوكرانيا، قال مستشار الرئاسة الأوكرانية ميخايلو بودولياك إن من المتوقع هبوب رياح جديدة في روسيا، في إشارة إلى احتمال تكرار الانقسامات.
وأضاف بودولياك، في تغريدة على تويتر، أن ما وصفها بالكوميديا المأساوية التي حدثت في روسيا تشرح لقادة العالم سبب عدم رؤية أوكرانيا أي فرصة للتفاوض مع روسيا، متسائلا عمن يمكن التحدث إليه في منزل لا سيد له، على حد وصفه.
وأشار إلى أن الوضع في روسيا هش ولا تمكن السيطرة عليه.
وكان الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي قال أمس السبت إن تمرد عناصر مجموعة فاغنر الروسية كشف عما وصفه بفوضى كاملة في روسيا.
وأضاف زيلينسكي أن الفوضى في روسيا تصب في مصلحة كييف، حسب تعبيره.
تصريحات بلينكن
من جانبه، قال وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن إن الهجوم الأوكراني المضاد في أيامه الأولى وربما يستمر أشهرا، وإنه لدى الأوكرانيين ما يحتاجونه للنجاح.
وأضاف بلينكن أن الهجوم الأوكراني المضاد يتقدم بصورة جيدة، مؤكدا أن تشتيت انتباه روسيا بسبب أزمة فاغنر يخلق ميزة إضافية للأوكرانيين.
وأردف قائلا “لا نملك المعلومات الكاملة بشأن ما حدث في روسيا، ولم نر أي إقالات لقادة عسكريين، واعتقد أن الاضطرابات في روسيا قد تستمر أسابيع أو شهورا”.
ومنذ الرابع من يونيو/حزيران الجاري، تشن القوات الأوكرانية هجوما مضادا في شرق البلاد وجنوبها، وأكدت أنها استعادت منذ ذلك الحين 8 بلدات وقرى، خاصة في مقاطعتي دونيتسك (شرق) وزاباروجيا (جنوب شرق).
وأقرت كييف بأن تقدم قواتها يسير بشكل أبطأ من المتوقع، وأكدت أن العمليات الرئيسية لم تبدأ بعد، في حين قالت موسكو إن القوات الأوكرانية تكبدت خسائر فادحة ولم تحقق تقدما يذكر.
أولويات بوتين
في المقابل، قال الرئيس الروسي فلاديمير بوتين إن بلاده قادرة على تحقيق جميع الخطط والمهام التي تضعها، وهذا يشمل العملية العسكرية الخاصة في أوكرانيا، واقتصاد البلاد.
وأضاف أن روسيا تولي أهمية للتنمية الاقتصادية بالتوازي مع تعزيز قدراتها الدفاعية.
المصدر : الجزيرة + وكالات
—————————
“فاغنر” تحول بوصلة التمرد وتنسحب من روسيا
بريغوجين يغادر إلى بيلاروس… والكرملين: لطالما احترمنا أعمالكم البطولية بأوكرانيا
بدأ عناصر مجموعة “فاغنر” الانسحاب من مواقع سيطروا عليها في روسيا بعد اتفاق مع الكرملين قضى بوقف تقدمهم نحو موسكو وخروج قائدهم يفغيني بريغوجين إلى بيلاروس، بعد تمرد مسلح شكل أكبر تحد للرئيس فلاديمير بوتين في خضم حرب أوكرانيا.
وبعد نحو 24 ساعة من الترقب عالمياً في شأن مسار أحداث شهدت سيطرة مرتزقة “فاغنر” على مقار قيادة للجيش الروسي وتقدم أرتالهم في اتجاه العاصمة، نزع فتيل الانفجار بتوصل الكرملين وبريغوجين إلى اتفاق يوقف بموجبه الأخير تمرده ويغادر إلى بيلاروس إثر وساطة من رئيسها ألكسندر لوكاشنكو، وفقاً لوكالة الصحافة الفرنسية.
ولم يتضح صباح الأحد مكان وجود بريغوجين بعد أن غادر ليلاً مقراً للقيادة العسكرية في مدينة روستوف-نا-دونو كانت قواته قد سيطرت عليه. وعلى رغم الاتفاق بقيت الإجراءات الأمنية مشددة في موسكو، بينما رفعت مناطق روسية أخرى القيود التي فرضت على التنقل اعتباراً من أمس السبت.
تعهدات رئاسية
وتعهدت الرئاسة الروسية بعدم ملاحقة المقاتلين وبريغوجين الذي كان من الحلفاء المقربين من بوتين، على رغم أن الأخير اتهمه بـ”خيانة” بلاده وتوجيه “طعنة في الظهر”.
وأعلن بريغوجين ليل السبت تراجعه لتجنب إراقة “الدماء الروسية”، وأن قواته “تعود أدراجها إلى المعسكرات”. بدوره قال المتحدث باسم الكرملين ديمتري بيسكوف إن “الهدف الأسمى هو تجنب حمام دم وصدام داخلي واشتباكات لا يمكن التنبؤ بنتائجها”، مشيداً “بتسوية من دون مزيد من الخسائر”.
ولفت إلى وقف أي ملاحقة قضائية في حق مقاتلي المجموعة الذين “لطالما احترمنا أعمالهم البطولية على الجبهة” في إشارة إلى قتالهم في أوكرانيا.
وكانت أوكرانيا التي تتعرض لغزو روسي منذ فبراير (شباط) 2022 رأت في أحداث السبت “فرصة” يجب استغلالها ميدانياً.
وعلى رغم الاتفاق اعتبرت كييف أن بريغوجين أذل بوتين. وقال مساعد الرئيس الأوكراني ميخايلو بودولاك إن “بريغوجين أذل بوتين (الدولة) وأظهر أنه لم يعد هناك احتكار للعنف”.
تبعات عالمية
ورأى متخصصون في الشأن الروسي أن التمرد المسلح ستكون له تبعات على بريغوجين ومجموعته التي تنشط أيضاً في مناطق نزاع حول العالم.
وقال المتخصص في مركز الدراسات البحرية سامويل بينديت إن بريغوجين “يجب أن يرحل، وإلا فالرسالة ستكون أن قوة عسكرية يمكنها تحدي الدولة بشكل علني، وعلى الآخرين أن يفهموا أن الدولة الروسية لديها حصرية العنف (امتلاك السلاح) في داخل البلاد”.
واعتبر المتخصص في معهد أبحاث السياسة الخارجية بالولايات المتحدة روب لي أن “بوتين وأجهزة الأمن سيحاولون على الأرجح إضعاف (فاغنر) أو تنحية بريغوجين جانباً”، مشيراً إلى أن “الآثار الأكثر أهمية سيتم رصدها في الشرق الأوسط وأفريقيا حيث توجد (فاغنر)”.
وأعلن حاكم المنطقة فاسيلي غولوبيف مساء السبت مغادرة قوات “فاغنر”. بدورها ذكرت تقارير إعلامية أن العشرات من الروس تجمعوا وهتفوا “فاغنر” ليلاً.
والأحد أعلن حاكم منطقة فورونيغ الجنوبية أن عناصر “فاغنر” ينجزون انسحابهم منها. وقال ألكسندر غوسيف إن “تحرك وحدات (فاغنر) في منطقة فورونيغ هو في طور الانتهاء. الأمر يتم بشكل طبيعي ومن دون حوادث”، لافتاً إلى أن القيود التي تم فرضها السبت على حركة التنقل سترفع بمجرد “حل الوضع بشكل نهائي”.
مكافحة الإرهاب
وانسحب عناصر “فاغنر” أيضاً من منطقة ليبيتسك في جنوب روسيا وفق ما أعلنت السلطات المحلية الأحد. وفي موسكو بقي “نظام مكافحة الإرهاب” قائماً الأحد على رغم الاتفاق.
وواصلت دوريات للشرطة الروسية انتشارها في جنوب العاصمة على طول الطريق السريع الرئيس بين موسكو والمناطق الواقعة إلى جنوبها.
وأوضحت وكالة “آفتودور” المسؤولة عن الطرق السريعة في روسيا أن القيود على التنقل على الطريق بين موسكو ومدينة روستوف-نا-دونو لا تزال قائمة.
ويعزز “نظام مكافحة الإرهاب” صلاحيات الأجهزة الأمنية ويسمح لها بالحد من الحركة، كما يمكن بموجبه القيام بعمليات تفتيش مركبات في الشوارع والتحقق من الهوية ويسمح أيضاً بتعليق موقت لخدمات الاتصالات إذا لزم الأمر.
وكان رئيس بلدية موسكو قد دعا السكان إلى الحد من التنقل. ووصف الوضع بأنه “صعب” وأعلن يوم الإثنين عطلة.
في المقابل بدأت مناطق أخرى رفع الإجراءات الاستثنائية اعتباراً من ليل السبت، ومنها ليبيتسك. واضطلع لوكاشنكو بدور رئيس في الوساطة، وقد أعلن مكتبه أنه هو من اقترح على رئيس “فاغنر” وقف تقدمه.
وقال بيسكوف “ممتنون لرئيس بيلاروس على جهوده… المحادثة المسائية بين الرئيسين كانت طويلة جداً”.
وكان بوتين دان صباح السبت “الخيانة” وتحدث عن شبح “حرب أهلية” في مواجهة التحدي الأكبر الذي واجهه منذ وصوله إلى السلطة في نهاية عام 1999.
كما حذرت موسكو دول الغرب من “استغلال الوضع الداخلي في روسيا لتحقيق أهدافها المعادية للروس”، لكن فيما أكد المتحدث باسم الكرملين أن تمرد “فاغنر” المجهض لن يؤثر في الهجوم الروسي في أوكرانيا، أعلنت كييف تحقيق مكاسب ميدانية.
وأعلن الجيش الأوكراني أمس السبت “تقدمه في جميع الاتجاهات” على الجبهة الشرقية حيث أكد شن هجمات جديدة.
في كييف أعلن رئيس البلدية فيتالي كليتشكو اليوم الأحد بأن حصيلة القتلى جراء ضربة جوية روسية استهدفت العاصمة في وقت مبكر السبت ارتفعت إلى خمسة، بعد أن عثر على جثتين إضافيتين تحت الأنقاض.
بدوره اعتبر الرئيس فولوديمير زيلينسكي أن بلاده باتت مسؤولة عن “أمن الجناح الشرقي لأوروبا”، حاضاً الغرب مجدداً على تسليم بلاده “جميع الأسلحة اللازمة”، ولا سيما مقاتلات “أف-16” الأميركية الصنع.
وأجرت الدول الغربية الحليفة لأوكرانيا مشاورات مكثفة أمس السبت. وتحدث الرئيس الأميركي جو بايدن مع المستشار الألماني أولاف شولتز ورئيس الوزراء البريطاني ريشي سوناك ومع نظيره الفرنسي إيمانويل ماكرون.
وكشفت صحيفتا “واشنطن بوست” و”نيويورك تايمز” الأميركيتين السبت أن أجهزة الاستخبارات في واشنطن رصدت مؤشرات قبل أيام على نية بريغوجين التحرك ضد مؤسسة الدفاع الروسية.
وفي بكين التي شهدت علاقتها بموسكو تقارباً منذ بدء غزو أوكرانيا، التقى وزير الخارجية الصيني تشين غانغ نائب وزير الخارجية الروسي أندريه رودنكو، اليوم الأحد، في أول تواصل معلن بين الجانبين منذ التمرد المسلح.
وقالت الخارجية الصينية في بيان إن “وزير الخارجية تشين غانغ التقى نائب وزير الخارجية الروسي رودنكو في بكين وتبادل وجهات النظر معه في شأن العلاقات الصينية الروسية”، مضيفة أنهما ناقشا أيضاً “القضايا الدولية والإقليمية ذات الاهتمام المشترك”.
——————————-
بلينكن يشير لـ”تصدّعات حقيقية” بسلطة بوتين: لم نر بعد الفصل الأخير من قصة التمرد
اعتبر وزير الخارجية الأميركي، أنتوني بلينكن، الأحد، أن تمرّد قائد مجموعة فاغنر، يفغيني بريغوجين، الذي تم إحباطه، يكشف وجود “تصدّعات حقيقية” على مستوى سلطة الرئيس الروسي فلاديمير بوتين.
وأكّد بلينكن في تصريحات لشبكة “سي بي إس” CBS الأميركية أن تمرّد قائد فاغنر “شكّل تحديا مباشرا لسلطة بوتين”، وتابع “يثير هذا الأمر تساؤلات كبرى، ويظهر وجود تصدّعات حقيقية”، مشيراً إلى أن الاضطرابات في روسيا قد تستمر شهورا.
وأضاف بالقول: “من المبكر الحديث عن مستقبل عناصر فاغنر.. ولم نر بعد الفصل الأخير من قصة تمرد فاغنر على روسيا”، مشيراً إلى أن الرئيس جو بايدن لم يحاول التواصل مع بوتين.
ومن مساء الجمعة إلى مساء السبت انطلق رجال مؤسس مجموعة فاغنر، يفغيني بريغوجين، الحليف القديم للرئيس الروسي بوتين، باتّجاه موسكو في تحرّك سيطروا خلاله على عدد من المنشآت العسكرية في جنوب روسيا.
إلا أن بريغوجين والكرملين أعلنا انتهاء التمرّد، مساء السبت، وبدأت قوات فاغنر في الانكفاء تدريجيا الأحد. لكن الأوضاع لا تزال غير مستقرة.
يأتي ذلك فيما عرض التلفزيون الروسي الرسمي، اليوم الأحد، لقطات ظهر فيها الرئيس بوتين عبر فيها عن ثقته في نجاح خطط بلاده فيما يتعلق بأوكرانيا، وذلك في مقابلة بدا أنها سُجلت قبل تمرد مجموعة فاغنر العسكرية الخاصة الذي تم إجهاضه أمس السبت.
رغم تمرد فاغنر.. بوتين: العملية العسكرية بأوكرانيا أولويتي القصوى
العرب والعالم
روسيا و أوكرانيارغم تمرد فاغنر.. بوتين: العملية العسكرية بأوكرانيا أولويتي القصوى
وقال بوتين: “نشعر بالثقة، وبالطبع نحن في وضع يسمح لنا بتنفيذ جميع الخطط والمهام التي نحن بصددها.. ينطبق هذا أيضا على الدفاع عن البلاد.. ينطبق على العملية العسكرية الخاصة.. ينطبق على الاقتصاد ككل وعلى قطاعاته منفردة”.
وأذاع التلفزيون الرسمي هذه التعليقات التي أدلى بها بوتين في مقابلة مع المراسل لدى الكرملين بافل زاروبين. وقال زاروبين إن المقابلة أجريت بعد اجتماع مع خريجي كليات وأكاديميات عسكرية، في إشارة على ما يبدو إلى فعالية أقيمت يوم الأربعاء الماضي.
ومن المقرر إذاعة المقابلة كاملة في وقت لاحق من اليوم.
—————————
المخابرات الأميركية تكشف سر انقلاب رئيس فاغنر على بوتين
المخابرات الأميركية كانت تعلم بانقلاب فاغنر وكانت تخشى من كابوس نووي مدمر
واشنطن – بندر الدوشي
التقطت وكالات التجسس الأميركية معلومات استخباراتية في منتصف يونيو الجاري تشير إلى أن رئيس مجموعة فاغنر يفغيني بريغوجين كان يخطط لعمل مسلح ضد مؤسسة الدفاع الروسية التي اتهمها منذ فترة طويلة بإفشال الحرب في أوكرانيا، وأبلغ البيت الأبيض والوكالات الحكومية الأخرى على وجه السرعة بذلك وفقا لصحيفة “واشنطن بوست” Washington Post.
وقال العديد من المسؤولين الأميركيين أمس السبت بأنهم لم يفاجأوا، وأضاف المسؤولون إن الطبيعة والتوقيت الدقيق لخطط بريغوجين لم يتضح إلا قبل وقت قصير من استيلائه المذهل على القيادة العسكرية وتوجه نحو موسكو يومي الجمعة والسبت.
وقال مسؤول أميركي تحدث شريطة عدم الكشف عن هويته بسبب حساسية الأمر، “كانت هناك إشارات كافية لإخبار القيادة … أن شيئًا ما قد حدث”. “لذلك أعتقد أنهم كانوا مستعدين لذلك.”
وقال المسؤول إنه خلال الأسبوعين الماضيين كان هناك “قلق كبير” بشأن ما قد يحدث وما إذا كان الرئيس الروسي فلاديمير بوتين سيبقى في السلطة وماذا قد يعني عدم الاستقرار على الترسانة النووية الروسية، لافتاً إلى أنه “كان هناك الكثير من الأسئلة على هذا المنوال”.
وقال مسؤولون إن عدم الاستقرار الذي قد ينجم عن “حرب أهلية” روسية هو الخوف الرئيسي، مشيرين إلى أنه بالإضافة إلى البيت الأبيض ، تم إطلاع كبار المسؤولين في البنتاغون ووزارة الخارجية والكونغرس خلال الأسبوعين الماضيين على المعلومات الاستخباراتية.
الدافع الرئيسي
وقال المسؤولون إن الدافع الرئيسي لبريغوجين كان أمر وزارة الدفاع الروسية في 10 يونيو / حزيران بضرورة توقيع جميع مفارز المتطوعين على عقود مع الحكومة.
وعلى الرغم من أن الأمر لم يذكر مجموعة فاغنر بالاسم، إلا أن التضمين كان واضحًا: الاستيلاء على قوات المرتزقة التابعة لبريغوجين والذين أثبتوا أنهم ضروريون للحملة العسكرية الروسية في أوكرانيا وساعدوا في تأمين بعض من أبرز انتصاراتها التكتيكية.
وتظهر وثائق استخباراتية مسربة حصلت عليها صحيفة “واشنطن بوست” في وقت سابق من هذا العام أن فاغنر يبني إمبراطورية حقيقية في إفريقيا ، حيث يوفر بريغوجين الأمن للأنظمة الحكومية، في بعض الأحيان مقابل حقوق مادية قيمة.
وتظهر الوثائق المسربة أن كبار القادة الروس قلقون بشكل خاص من هجمات بريغوزين الخطابية، والتي وجدوا أنها ذات مصداقية وتقوض سلطتهم.
وقال مسؤول كبير في إدارة بايدن: “التوترات بين مجموعة فاغنر ووزارة الدفاع الروسية ليست سرا”. “لقد رأينا جميعًا بريغوجين ينتقد ويحذر ويهدد الجيش الروسي علنًا في عدد من المناسبات”.
تحذير مسبق
وتعتقد وكالات الاستخبارات الأميركية أن بوتين أُبلغ أيضًا أن بريغوجين كان يخطط لشيء ما. ويبقى من غير الواضح لماذا لم يتخذ بوتين إجراءات لإحباط استيلاء بريغوزين على القيادة العسكرية أو تحركه تجاه موسكو.
ووصل رئيس فاغنر إلى مسافة 120 ميلاً من العاصمة قبل أن يستدير بعد إبرام صفقة بوساطة الرئيس البيلاروسي ألكسندر لوكاشينكو، حليف بوتين، ويدعو الاتفاق إلى إسقاط التهم الجنائية عن بريغوجين، التي رفعت يوم الجمعة بعد أن اتهم وزير الدفاع الروسي سيرجي شويغو بإصدار أوامر بشن هجوم على مرتزقته ، وأصدر دعوة لـ “إنهاء” قيادة الوزير.
تمرد في روسياأنباء عن إقالة وزير الدفاع الروسي بعد جواب من المتحدث باسم بوتين
وعكست تقاعس بوتين وعدم وجود تنسيق رفيع المستوى في الحكومة الروسية والخصومات الداخلية المحتملة على الوضع في روسيا كما يعتقد المسؤولون الأمريكيون.
وواجه بريغوجين مقاومة قليلة عندما سار هو وقواته إلى روستوف وسيطروا على مقر المنطقة العسكرية الجنوبية هناك ، كما لاحظ مسؤولون استخباراتيون غربيون وأمريكيون ، ووصفوا ذلك بأنه مؤشر على أنه يتمتع بمستوى معين من الدعم بين القوات العسكرية النظامية أيضًا.
وقال المسؤول الغربي الكبير: “إذا كان بريغوجين ينوي إحداث وقيعة بين قيادة القوات المسلحة للاتحاد الروسي والكرملين فقد فشل”، مما يعني أن التمرد الذي استمر 24 ساعة، في الوقت الحالي، لا يبدو أنه أثار شرخًا أوسع بين الدائرة المقربة من بوتين والقادة العسكريون يمقتهم بريغوجين.
وقال مسؤولون إنه على الرغم من تنحي بريغوجين، فإن بوتين سيُنظر إليه بالتأكيد على أنه ضعيف.
—————————
كيف تحولت فاغنر إلى أكبر مصدر تهديد لبوتين؟/ أنطون مارداسوف
تحول يفغيني بريغوجين من أحد حلفاء بوتين، إلى أكبر مصدر تهديد له ولحكمه.
وصل الصراع الذي طال أمده بين يفغيني بريغوجين، رجل الأعمال وأمين مجلس إدارة شركة فاغنر العسكرية الخاصة، ووزارة الدفاع الروسية ذروته وأدى فعليا إلى أخطر أزمة للسلطات الحاكمة في تاريخ روسيا الحديثة.
إذ هدد دخول وحدات المرتزقة في وسط روستوف على نهر الدون، وسيطرتها على عدد من المنشآت العسكرية في منطقتي روستوف وفورونيج ، ورغبتها في التحرك نحو ريازان وتامبوف وحتى موسكو، استقرار السلطة العليا في روسيا. ولا يخفى على أحد أن مشاريع السياسة الخارجية للكرملين في أفريقيا، والتي اعتمدت في السابق فقط على العلاقات غير الرسمية لمجموعة فاغنر مع القادة المحليين، اندثرت فعليا. ولم تكن مصادفة أن يقارن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، في خطاب خاص إلى الروس، بين ثورة المرتزقة الحالية وأحداث 1917، أي ثورة أكتوبر/تشرين الأول في روسيا.
في مساء يوم 23 يونيو/حزيران، اتهم بريغوجين وزير الدفاع سيرجي شويجو ورئيس الأركان العامة للقوات المسلحة الروسية فاليري غيراسيموف بالقيام بمحاولة جديدة لتدمير شركة فاغنر العسكرية الخاصة. ووفقا له، فإن وزارة الدفاع قامت بمحاولتها الأولى لتدمير المجموعة في عام 2018 في سوريا من خلال عدم توفير الغطاء اللازم لها وتركها تحت نيران المدفعية والطيران الأمريكيين، إلا أن شويجو وغيراسيموف أعطيا هذه المرة أوامر مباشرة لمدفعيتهما وطيرانهما ليقصفا مواقع المرتزقة في المعسكرات الخلفية. وقال بريغوجين إن على مقاتلي فاجنر أن يوقفوا “شر القيادة العسكرية للبلاد.”
لم يبد الموقف خطيرا للغاية في بداية الأمر، بل بدا وكأنه مسرحية لجذب انتباه بوتين، خاصة بعد أن اعتاد المجتمع الروسي في الأشهر الأخيرة على انتقاد بريغوجين المستمر للقيادة العسكرية للبلاد، وتحولت بعض تصريحاته إلى تعليقات ساخرة على الإنترنت. وبالمناسبة، نشر الجهاز الإعلامي التابع لبريغوجين بعد ظهر يوم 23 يونيو/حزيران، مقابلة أخرى مع رئيسه، انتقد فيها أيضا شويجو وغيراسيموف، متهما الأول ببدء حرب في محاولة للحصول على رتبة مشير، والأخير بإدمان الكحول وعدم القدرة على التخطيط للعمليات العسكرية، كما اتهمها بتزوير تقارير لبوتين. من حيث المبدأ، كرر بريغوجين هذه الأطروحات من قبل، وبصورة أكثر عاطفية، لكنها بدت هذه المرة أكثر هدوءا وإقناعا.
ومع ذلك، لا يزال بعض الخبراء يشككون في جدية ما يحدث، حتى بعد أن فتح مكتب الأمن الفيدرالي قضية جنائية بموجب المادة الخاصة بالتمرد المسلح بعد ساعات قليلة من تهديدات بريغوجين ببدء مسيرة العدالة.
ومازال بعضهم مصرّا على أن كل ذلك كان عملية معلوماتية خاصة، في محاولة لتخدير يقظة القوات الأوكرانية التي تحاول مواصلة هجومها المضاد من أجل إعادة الاشتباك مع شركة فاغنر العسكرية الخاصة في القتال في أوكرانيا، والتي أعادت تجميع صفوفها بعد معارك باخموت.
اعتاد المجتمع الروسي في الأشهر الأخيرة على انتقاد بريغوجين المستمر للقيادة العسكرية للبلاد، وتحولت بعض تصريحاته إلى تعليقات ساخرة على الإنترنت
كما بدا الفيديو الذي نشرته حسابات قريبة من شركة فاغنر العسكرية الخاصة، والذي صور بحسب الادعاءات تداعيات الضربة على معسكر المرتزقة، ملفقا بشكل واضح. وفي البداية، كان بريغوجين ينشر كل تهديداته من خلال رسائل صوتية على تطبيق تلغرام، مسجلة بشكل مسبق. لكن الأهم من ذلك، هو عدم وجود أدلة واضحة بالصور والفيديو على تحركات طوابير المرتزقة داخل الأراضي الروسية.
وظهرت الإشارة الأولى إلى أن بريغوجين كان مستعدا للمخاطرة بكل شيء في رسالتي فيديو وزعهما مراسلون عسكريون نيابة عن جنرال الجيش سيرجي سوروفيكين، نائب قائد المجموعة الروسية المشتركة في أوكرانيا، والفريق فلاديمير أليكسيف، النائب الأول لرئيس المديرية الرئيسية لهيئة الأركان العامة (مديرية الاستخبارات الرئيسية). إذ بنت شركة فاجنر العسكرية الخاصة علاقة وثيقة مع الجنرال الأول خلال الحرب السورية، وأقامت بعد ذلك من خلاله اتصالات مع كوادر الجيش في أوكرانيا. أما الجنرال الآخر، فهو بحسب بعض التقارير، المؤسس الفعلي لهيكل المرتزقة، حيث كانت هيئة الأركان العامة هي التي بدأت في إنشاء مجموعة فاغنر في عام 2010. وحث ألكسيف في رسالته المرتزقة على العودة إلى رشدهم، أما سوروفيكين، فطالبهم بوقف الطوابير.
ومع ذلك، بات معروفا في صباح يوم 24 يونيو/حزيران، أن مرتزقة فاغنر احتلوا بسرعة جميع المرافق الرئيسية في روستوف على نهر الدون كمباني الشرطة و جهاز الأمن الفيدرالي والإدارة ومقر المنطقة العسكرية الجنوبية. وكان ظهورهم في وسط المدينة سريعا جد لدرجة أن المارة لم يعرفوا أنهم مرتزقة، بل ظنوا أنهم جنود من الوحدات الخاصة في وزارة الدفاع تمت تعبئتهم على وجه السرعة ولهذا جُهّزوا بشكل مغاير للوائح.
ثم نُشر تسجيل فيديو للمفاوضات بين يفغيني بريغوجين وفلاديمير ألكسيف ونائب وزير الدفاع يونس بك يفكوروف، وهو جنرال مقاتل له هيبته واحترامه في الجيش. ووفقا للمحادثة المسجلة، أخبر بريغوجين يفكوروف أن مقاتليه أسقطوا ثلاث مروحيات عسكرية كانت تحاول مهاجمة قوافلهم على الطريق السريع وسط حركة مرور المدنيين باستخدام منظومات الدفاع الجوي المحمولة على الكتف. وأظهر وجه بريغوزين جروحا جديدة – ربما من شظايا معارك حديثة.
حساسية الموقف
في خطابه الصباحي للروس في 24 يونيو/حزيران، وصف الرئيس فلاديمير بوتين تصرفات شركات فاغنر العسكرية بالخيانة، واتخذ موقفا لا لبس فيه بشأن قمع الانتفاضة. وبذلك، رفض بوتين فعليا أي اتفاق مع المرتزقة وأوقف تكهنات المسؤولين بأن استقالة شويجو وغيراسيموف ستساعد في تهدئة بريغوجين الهائج.
ومع ذلك، فإن القيام بذلك ليس سهلا من الناحية العملية. إذ بناء على السرعة التي تمكنت بها شركة فاغنر العسكرية الخاصة من الاستيلاء على القواعد العسكرية في منطقتي روستوف وفورونيج وتهديدها لمناطق تمبوف وريازان وموسكو، فإن الجهات الأمنية المحلية لم تكن مستعدة لمقاومة وحدات عسكرية متمرسة في المعارك.
ونظرا لعدد الخسائر الرسمية منذ الاجتياح في عام 2022، وعدم تحقيق نجاح واضح على الجبهة، ومشاركة المواطنين المجندين في الصراع، فإن هناك حقا أسباب للاستياء بين أفراد الجيش والخدمات الخاصة والمواطنين الروس العاديين. سيبقى الضباط الكبار إلى جانب السلطات بلا شك، إلا أن السؤال الأهم هو عن مدى استعداد العسكريين العاديين والضباط الصغار، الذين سيتوجب عليهم قمع الانتفاضة، لإطلاق النار على أبناء شعبهم.
بالإضافة إلى ذلك، من الصعب طرد المرتزقة من روستوف على نهر الدون ، وهي مدينة رئيسية ومركز لوجستي في الخطوط الأمامية، بسبب المدنيين هناك، والذين كانوا حتى الآن مهتمين بمتابعة ما يحدث.
لن يؤثر فشل مشروع فاغنر على الداخل الروسي فحسب، بل سينتشر إلى الخارج أيضا، إذ لن يكون هناك بديل يحل محل وحدات بريغوجين في ليبيا وجمهورية أفريقيا الوسطى ودول أخرى
في الواقع، كان بريغوجين وقادة فاغنر يراهنون على هذا الأمر – إذ من غير المرجح أن يتعرضوا لهجوم من الجو داخل حدود المدينة، كما حدث في المعسكرات الخلفية (إذا حدث هذا الهجوم بالفعل). ومع ذلك، فإن السيطرة على مدينة رئيسية ومنشآت متورطة بشكل مباشر في الحرب في أوكرانيا هي أحد الأصول التفاوضية. إلا أن خطط بريغوجين المستقبلية غير واضحة تماما. فإذا تلقت ثوراته السابقة الموجهة ضد القادة العسكريين والسياسيين دعما من مجموعات نخبوية في السابق، فمن المرجح أن يتبرأوا منه في ظل الظروف الحالية.
يذكرنا الوضع الحالي بعد الاستيلاء على وسط المدينة بشكل أساسي بالوضع بعد الاستيلاء على المستشفى في بوديونوفسك من قبل القائد الميداني الشيشاني باساييف في عام 1995: حين طالبوا بوقف العمل العسكري في الشيشان والدخول في مفاوضات مع دزخار دوداييف. قد تبدو المقارنة غير صحيحة، نظرا لأن المرتزقة مهذبون للغاية مع السكان المحليين في المناطق الروسية، لكن هناك تشابها حتى في حقيقة أن القانون الروسي طبق المادة الخاصة بالتمرد المسلح على مقاتلي باساييف أيضا.
يبدو أن مشروع شركة فاغنر العسكرية الخاصة محكوم عليه بالفشل بشكل مسبق، وأنه يقترب من أيامه أو أسابيعه الأخيرة، حيث يمكن أن تستمر هذه القصة لفترة طويلة. ولن يؤثر فشل هذا المشروع على الداخل الروسي فحسب، بل سينتشر إلى الخارج أيضا، إذ لن يكون هناك بديل يحل محل وحدات بريغوجين في ليبيا وجمهورية أفريقيا الوسطى ودول أخرى.
المجلة
———————————
بوتين و”كأس التمرد”/ إبراهيم حميدي
حلفاء موسكو في سوريا والسودان وليبيا يتابعون مآلات “التمرد” في روسيا
السلاح السري الذي استعمله الرئيس فلاديمير بوتين في حروبه الخارجية وتمدد نفوذه في العالم، تحداه واستعرض عضلاته وذخيرته على الطريق إلى موسكو، عاصمة “روسيا العظيمة”.
الخناجر الطائرة التي كانت تعبر في الظلام، الحدود والقارات والبحار، لتنشر دعاية الكرملين ونفوذه، بات “القيصر” يراها سكاكين “تطعنه في الظهر”.
يفغيني بريغوجين، ذاك الرجل الذي أسس “جيش فاغنر” ودربه وطوره، وحاز على ثقة الرئيس وأسراره، ونال الأوسمة والألقاب في قاعات الكرملين، بات “خائنا”.
قائد “فاغنر” الذي دعم كثيرين كي يبقوا في القصر هنا أو يدخلوا إلى القصر هناك، وضع عينه على كرسي القصر الروسي.
هذا “الخائن” يتمرد بالسلاح ويتحدى صاحب القبضة الحديد ويعلن نياته. نال صفات “الخيانة” والتلويح بـ “العقاب العظيم”، لكنه، أيضا، ينال “العفو” ويذهب إلى المنفى في بيلاروسيا وينجو من حبل المنشقة… إلى الآن على الأقل.
ليس قليلا أن يتحدى رجل روسي، الرئيس الروسي. ليس قليلا أن يكون الأول بريغوجين، والثاني بوتين. أن يأتي التهديد للرئيس من “طباخه”. أي ينقلب عليه صاحب الوصفات السحرية لوجباته. ليس قليلا أن يضطر بوتين إلى أن يخرج من قصره، ليلقي كلمة إلى الروس، لا ليستعرض الإنجازات العسكرية والفضائية والاختراقات الروسية في العالم، وضم أقاليم في دولة أو انطلاق “حرب ضد الإرهاب” في دولة أخرى، أو التحرك لمنع “حرب أهلية” في ثالثة، بل ليعلن أن “تمردا” مسلحا يحصل في البلاد، وأنه سيحاسب “المتمردين” ولن يسمح بـ”حرب أهلية”…. في روسيا.
ليس قليلا، أن يقبل بوتين الرهيب، العفو عن “الخائن”، ليخرج سالما بسيارته من روسيا إلى بيلاروسيا. ليس قليلا أن يخرج الى المنفى وليس إلى القبر.
العبارات التي استخدمها بريغوجين لدى إعلان بدء تمرده، نسخة من العبارات التي استعملها حليفه السوداني، “حميدتي” عندما أعلن التمرد على رئيس المجلس السيادي وقائد الجيش عبد الفتاح البرهان
هذه ليست كل القصة. لها جوانب مختلفة. أمر لافت، ذلك التشابه إلى حد التطابق في بعض جوانب ما يحصل في روسيا، وما حصل في ساحات أخرى، ودول وجيوب تدور في الفلك الروسي، كانت موسكو و “قوات فاغنر” قد تدخلت فيها. وهنا بعض التشابكات والمقارنات:
السودان: العبارات التي استخدمها بريغوجين لدى إعلان بدء تمرده صباح السبت، نسخة من بيانات حليفه السوداني، محمد حمدان دقلو (حميدتي) عندما أعلن التمرد على رئيس المجلس السيادي وقائد الجيش عبد الفتاح البرهان في أبريل/نيسان الماضي. بريغوجين كما “حميدتي”، قال إنه بدأ “مسيرته العادلة” إلى العاصمة، ولن يوقفها قبل “شنق” أو “إعدام” قائد الجيش.
“حميدتي”، علمه ودربه وموله الجيش وألهمه “جيش فاغنر”. وبريغوجين تربى وتدرب وتمول من قبل الجيش الروسي. عندما زادت قوة ودور كل منهما في “الإنجازات”، وضع كل منهما عينه على قيادة الجيش والسلطة. فرق أساسي، إلى الآن، أن بريغوجين، في البداية، صب غضبه على قادة الجيش وليس على بوتين. الفرق الثاني، أن “التمرد” الروسي انتهى بوساطة “صديق” المتخاصمين، المعلم و “الطباخ”، الرئيس البيلاروسي، فيما لا يزال الجنرالان السودانيان في حربهما في أزقة الخرطوم وامصار البلاد.
سوريا: الرئيس الراحل حافظ الأسد كان اعتمد على شقيقه رفعت و “سرايا الدفاع” في الحرب ضد “الإخوان المسلمين” وفي التحكم بكثير من خصومه في الداخل والإقليم. عندما قويت شوكة رفعت و “سراياه”، انتهز مرض شقيقه، كي يطوق العاصمة بداية ثمانينيات القرن الماضي. وقتذاك، الذي حسم هو التفاف الجيش وقياداته حول الرئيس الأسد ووساطة من موسكو، عاصمة الاتحاد السوفياتي، بين الشقيقين، ثم قيام الرئيس بالنزول شخصيا إلى الشارع لمواجهة شقيقه رفعت والقضاء على تمرده ثم “تهميشه إلى الأعلى” بتعيينه نائبا للرئيس ثم إرساله إلى المنفى… الروسي.
كان مصير “المتمرد” رفعت على الطريقة السورية (عاد قبل فترة إلى دمشق والتقى الرئيس بشار الأسد وعائلته علنا)، مختلفا عن مصير “المنشق” حسين كامل صهر الرئيس صدام حسين. الأخير انشق على عمه الرئيس، وذهب إلى الأردن منتصف تسعينات القرن الماضي، ثم عاد بضمانات رئاسية وعائلية. لكن عشيرته، أخذت بثأرها… وقتلته بوابل من الرصاص.
بوتين نفسه، حاول نسخ تجربة سورية مماثلة بعد التدخل العسكري المباشر في سوريا نهاية 2015. اعتمد بريغوجين مدعوما من رئيسه بوتين، على قائد عسكري سوري اسمه العميد سهيل الحسن الملقب بـ”النمر”. لعب دورا كبيرا في الحرب السورية. باتت قواته تسمى “قوات النمر”، على اسمه. كان الوحيد الذي أصر بوتين على وجوده في اللقاء الثنائي مع الرئيس بشار الأسد في قاعدة حميميم الروسية.
أدرك الأسد مبكرا خطورة هذا المسار و”وديعة” بوتين. غيّر اسم “قوات النمر” إلى “الفرقة 25”. اندمجت في الجيش، وحرص الحسن مرات عدة على إعلان الولاء للرئيس الأسد.
تركيا: هناك تشابه بسيط بين الحالتين. الرئيس رجب طيب أردوغان كان قد اعتمد على جماعة فتح الله غولن ليتمدد في البلاد والمؤسسات. لكن المفاجأة كانت عام 2016، عندما جرت محاولة انقلابية. صحيحة أم مبرمجة؟ قيل الكثير. أردوغان قبل 2016 غيره بعدها. تركيا تغيرت كثيرا أيضا.
بين القادة القلائل، الذين وقفوا إلى جانب أردوغان في لحظاته الحرجة، كان بوتين. اتصل به ودعمه. هناك من قال إن بوتين أول من حذر “صديقه” أردوغان من محاولة انقلابية. ليس غريبا إذن أن يكون أردوغان بين زعماء قلائل اتصلوا به السبت، في لحظات “القيصر” الحرجة.
نهاية هذا الفصل الجديد في روسيا، ستترك أثرها على النفوذ الروسي الناجم عن وجود عشرات الآلاف من قوات “فاغنر” في ساحات مشتعلة عديدة، بينها سوريا والسودان وليبيا وأوكرانيا
قائمة المقارنات والتداخلات طويلة بدرجات مختلفة؛ تشمل ليبيا وموقف قائد الجيش خليفة حفتر شرق البلاد، ودولا أفريقية وغير أفريقية.
في اليوم الروسي الطويل، تدوال محللون، الكثير من السيناريوهات، بين تحول “التمرد المسلح” إلى “حرب أهلية” أو تحرك قوى عسكرية وسياسية في البلاد ضد بوتين، وبين تمكن بوتين من القضاء على هذا وقطع رأس الخيانة. في النتيجة، كانت التسوية: إنهاء بريغوجين لتمرده مقابل خروجه سالما إلى بيلاروسيا، مع عودة عناصر “جيش فاغنر” إلى معارك أوكرانيا والعفو عنهم ودمج العناصر، في أوكرانيا وباقي انحاء العالم، في الجيش الروسي.
حلفاء روسيا وخصومها في هذه الدول، يتابعون مآلات هذا الفصل من التاريخ الروسي المفعم بالتطورات وانشغال الجيش ومرتزقة “فاغنر” في توتر داخلي. هناك كثير من الأسئلة: هل ولاء مرتزقة بريغوجين إلى بوتين أم “طباخه”؟ ما تأثير ذلك على معنويات المرتزقة والجيش الروسي في خطوط القتال في أوكرانيا؟ في سوريا، جرى تفكيك “سرايا الدفاع” ودمجت شكليا في الجيش وجرى إبعاد رفعت لعقود عن السلطة إلى خارج البلاد، هل يمكن نسخ “التجربة السورية”؟ كيف سيتم عمليا تفكيك “جيش فاغنر” في مناطق النفوذ في العالم، وضم عناصره إلى الجيش الروسي؟ ما الكلفة السياسية والدبلوماسية والعسكرية، التي ستدفعها موسكو الرسمية من أن يصبح “الجيش السري” في العالم جزءا من الجيش النظامي؟ ما منعكسات كل ذلك على التوازنات الداخلية الروسية ولعبة القصر؟
التمرد، ثم التسوية، والعفو، والدمج، صفحات في فصل روسي جديد. نهايته لم تكتب بعد. النهاية ستترك أثرها على النفوذ الروسي في ساحات عربية مشتعلة عديدة، بينها سوريا والسودان وليبيا.
المجلة
——————————
“إمارة المرتزقة”.. هل يمتد تمرد فاغنر إلى إفريقيا والعالم العربي؟ إليك شكل الكيانات التي قد تقيمها
عربي بوست
ما مصير قوات فاغنر في السودان وليبيا وسوريا وغيرها من الدول العربية والإفريقية بعد تمردها على سيدها السابق الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، يبدو هذا الأمر يشكل تحدياً لروسيا ودول المنطقة وحتى الغرب، وسط مخاوف من أن تتحول لقوة فوضوية بلا قيادة.
فقد يكون لتمرد مجموعة “فاغنر” تداعيات كبيرة، ليس فقط على الحضور العسكري للمجموعة في الشرق الأوسط، وإنما كذلك على الشبكات المالية والعسكرية التي ترعاها في المنطقة، لا سيما إذا عجزت موسكو عن السيطرة على هذه الشبكات أو تعويضها، حسبما ورد في تقرير لموقع Middle East Eye البريطاني.
إليك الدول التي أصبحت توجد فيها فاغنر بقوة
وعلى مدار العقد الماضي، استطاعت مجموعة المرتزقة الروسية أن تبني شبكة عنكبوتية من العلاقات العسكرية والتجارية والسياسية، وتمكنت من توسيع تلك الشبكة إلى ليبيا وسوريا والسودان والإمارات.
كانت قوات فاغنر المقاتلة في أوكرانيا ركناً من أركان الدعم للجيش الروسي في ساحة المعركة حتى وقت قريب، ولم يمضِ سوى بضعة أسابيع على تقديم هذه المجموعة الخاصة أول انتصار ملموس لروسيا على القوات الأوكرانية، بعد أن استولت على مدينة باخموت ذات الأهمية الاستراتيجية.
لكن ربما لم تكن القدرات الكبيرة للمجموعة لتتنامى إلى هذا الحد لولا الخبرة التي حصدتها في الشرق الأوسط وإفريقيا. فقد اكتسبت فاغنر أنيابها من القتال الشرس إلى جانب القوات الروسية في ساحات المعارك بسوريا؛ ثم بقتالها منفردة في ليبيا؛ فضلاً عن مشاركة مقاتليها في النزاعات الجارية في السودان ومالي وجمهورية إفريقيا الوسطى.
دخلت ليبيا بدعم إماراتي ومنها توسعت للعديد من الدول الإفريقية
قال أندرياس كريغ، الأستاذ المشارك للدراسات الأمنية بكلية كينغز كوليدج لندن، لموقع Middle East Eye البريطاني، لقد “بدأت فاغنر عملياتها العسكرية في إفريقيا بالمشاركة في نزاع ليبيا، وقد أجادت استغلال ذلك. فقد ذهبت إلى هناك بدعمٍ من الإمارات، ثم اتخذت ليبيا قاعدة انطلاق لتوسعها الكبير بعد ذلك”.
وتعزَّز وجود فاغنر في السودان عبر عملها في استخراج وتهريب الذهب، وتعاونها مع قوات الدعم السريع السودانية.
فاغنر ليست شركة رسمية في روسيا، لأن القوانين الروسية لا تسمح بإنشاء شركات عسكرية خاصة، ومع ذلك فإن المجموعة أقامت شركات وهمية خارج البلاد تستخدمها في تمويل عملياتها، وتعزيز نفوذها.
وأوضح كريغ أن المجموعة تمكنت من استغلال قاعدتها “ذات الأهمية الاستراتيجية” في ليبيا لإنشاء روابط لها مع محمد حمدان دقلو، المعروف باسم حميدتي، والذي يتزعم قوات الدعم السريع التي أعلنت التمرد في السودان وتحارب الجيش.
نقلت 130 مليار دولار من الذهب السوداني للإمارات
كانت فاغنر حتى وقت قريب حليفاً وثيقاً للرئيس الروسي فلاديمير بوتين، وقد فرضت الولايات المتحدة ودول أخرى عقوبات عليها بسبب شبكة استثماراتها الممتدة في السودان ومالي وجمهورية إفريقيا الوسطى.
يزعم مراقبون أن شحنات من الذهب تبلغ قيمتها مليارات الدولارات قد نُقلت من السودان إلى الإمارات، ويذهب كثيرون إلى أن شركة فاغنر هي التي تولت تسهيل هذا الأمر.
تواصل موقع Middle East Eye مع وزارة الخارجية الإماراتية طلباً للتعليق على ما ورد في هذا التقرير، لكنه لم يتلق رداً حتى وقت النشر.
وصرح مسؤولون أمريكيون بالزعم أن بعض مناجم الذهب التي سيطرت فاغنر على امتيازات التعدين فيها قد نُقلت حصص كبيرة من مستخرجاتها إلى مخزون موسكو من الذهب -البالغ 130 مليار دولار- واستفاد بوتين منها في التفلت من تأثير العقوبات الاقتصادية المفروضة على نظامه بسبب الحرب في أوكرانيا.
فاغنر في السودان
يعتقد أن فاغنر تشارك على نطاق وسع في عملية استخراج وتهريب الذهب السوداني/رويترز، أرشيفبة
قال كريغ: “اعتمد الكرملين على الإمارات لتسهيل كثير من عمليات فاغنر في جميع أنحاء إفريقيا خلال عام 2018، لأن المجموعة كانت لا تزال توصف في ذلك الوقت بأنها قوة ناعمة لروسيا [غير معترف بها رسمياً]، رغم أنها كانت قوة صلبة في الوقت نفسه”.
في العام الماضي، اتهمت الولايات المتحدة مرتزقة فاغنر باستغلال الموارد الطبيعية في جمهورية إفريقيا الوسطى ومالي والسودان ودول أخرى في القارة، ولم تكن المجموعة لتتمكن من ذلك من دون الإمارات.
وقال كريغ: “حظي بريغوجين خصوصاً بعلاقات جيدة مع الإمارات، فهي شريك بارز لروسيا، ونخب النفوذ في أبوظبي والكرملين تجمعها شبكات من الصلات الشخصية والروابط التجارية”.
هل يضغط بوتين على أبوظبي لتضييق الخناق على شبكات فاغنر؟
وقال كريغ إن أحد أبرز الأسئلة التي تواجهنا الآن هو: إلى أي مدى سيضغط بوتين على رئيس الإمارات محمد بن زايد آل نهيان، “لتضييق الخناق” على هذه الشبكات.
وزعم أن “فاغنر لن تستطيع تصريف أمورها إذا مُنعت من الوصول إلى الهياكل المالية، والخدمات اللوجستية، والبنية التحتية لتجارة الذهب التي قدمتها الإمارات”.
على الرغم من أهمية الروابط المالية بين فاغنر والإمارات في السودان، وما جرته من مكاسب على جميع الأطراف المشاركة فيها، فإن المهارات العسكرية لمجموعة المرتزقة الروسية كانت هي المطلب الأول لكثير من الجهات في مناطق الصراع الأخرى.
انسحاب فاغنر من ليبيا قد يهدد حفتر
منذ عام 2019، عاونت فاغنر خليفة حفتر -القائد العسكري المنشق في شرق ليبيا وأمير الحرب بعد ذلك- في السيطرة على المناطق الجنوبية والشرقية في البلاد.
وقال فرحات بولات، الباحث بجامعة إكستر والمهتم بالشؤون الليبية: “إن انسحبت فاغنر من ليبيا ولم يحصل حفتر على مظلة أخرى من الحماية الأمنية الأجنبية، فإن هذا الانسحاب سيهدد نفوذ حفتر في شرق ليبيا وجنوبها”.
ولذلك، يُتوقع أن يراقب الجيش التابع لحفتر، وحكومة طرابلس المعترف بها دولياً، الأحداث في روسيا مراقبةً وثيقة، وأن يتعقبا تداعيات الأمر على توازن القوى القائم في البلاد.
وقال بولات لموقع Middle East Eye: “لقد قدم مرتزقة فاغنر لقوات أمير الحرب الليبي خليفة حفتر الخبرة العسكرية اللازمة، والموارد التي لم تكن متوافرة لديهم”، واكتسب “الكرملين مزيداً من النفوذ في مواجهة القوى الغربية بفضل الحضور المتزايد لفاغنر في ليبيا، ومن ثم فإن انسحاب مقاتلي المجموعة قد يؤثر على المصالح الجيوستراتيجية لروسيا بإفريقيا. وإن كنا لا ندري بعدُ ما إذا كانت روسيا ستسحب مرتزقتها من ليبيا أم لا”.
من جهة أخرى، كانت بعض التقارير غير المؤكدة قد أفادت بأن الجيش الروسي استهدف بالفعل مجموعة فاغنر في شمال سوريا، وهي منطقة أخرى تحظى فاغنر بالنفوذ فيها منذ وقت طويل.
نشاط فاغنر في سوريا كان بداية لترسيخ قدمها بالمنطقة
كانت سوريا من أوائل المناطق التي انتشرت فيها فاغنر خارج أوروبا. فقد أرسلت المجموعة مرتزقة للقتال مع نظام بشار الأسد في عام 2015، وشنَّ بوتين في الوقت نفسه حملة جوية على المعارضة السورية.
وقال جورجيو كافييرو، الرئيس التنفيذي لشركة “جلف ستيت أناليتيكس” الاستشارية، إننا يصعب علينا أن نستخلص “استنتاجات متماسكة” في الوقت الحالي، لا سيما أن ما حدث في روسيا قد تنشأ عنه “تداعيات لا يمكن الإحاطة بها للتأثير في حرب أوكرانيا، وفي السياسة الخارجية لروسيا في الشرق الأوسط كله”، لكن “لا شك في أن هذه الأحداث تقوِّض وحدة الموقف الروسية، وقد تغير من رؤية الجهات الفاعلة في المشرق لموسكو”.
من الجدير بالذكر أن سوريا هي العمود الفقري للحضور الذي تبرز به موسكو قوتها في الإقليم. فقاعدتها البحرية في طرطوس توفر لها بوابة استراتيجية إلى شرق البحر المتوسط. علاوة على ذلك، فإن الشركات المرتبطة بفاغنر حصلت على حصص مربحة في حقول النفط والغاز بالأراضي التي كان يسيطر عليها تنظيم الدولة الإسلامية “داعش”.
وقال يوناتان توفال، المحلل في المعهد الإسرائيلي للسياسات الخارجية الإقليمية (ميتفيم): “أياً كانت التغيرات الناشئة عن الأزمة الأخيرة، فمن المحتم أنها ستُزعزع من صورة القوة الروسية في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا”.
مصير قوات فاغنر في السودان وليبيا وسوريا
في أعقاب الحرب على أوكرانيا، اضطرت روسيا إلى تقليص وجودها العسكري في سوريا، غير أن الحرب لم تؤثر في القوات النظامية الروسية وحدها، بل أثرت في حضور فاغنر أيضاً.
ولكن في المقابل، يعتقد أن توسع نفوذ فاغنر في السودان مع اندلاع الحرب الأهلية، وقبل ذلك بسبب الذهب.
وقال توفال لموقع MEE: “تكافح مجموعة فاغنر للحفاظ على تماسك عملياتها في جبهات متعددة، وزاد على ذلك الضغوط القوية التي تمارسها الولايات المتحدة على حلفائها في الشرق الأوسط لطردِ مرتزقة المجموعة من السودان وليبيا”، و”السؤال هنا هو ما إذا كانت هذه التطورات سينشأ عنها فراغ في النفوذ يسمح لجهات أخرى بالدخول والتأثير، وإن كان للأمر في مجمله تداعيات غير محمودة، أبرزها زعزعة الاستقرار السريع في مناطق كثيرة، منها سوريا وليبيا”.
ومع ذلك، فإنّ تراجع النفوذ الروسي في المنطقة قد بات ملموساً بالفعل. وقد أورد موقع MEE العام الماضي، أن روسيا اضطرت إلى إرجاء اتفاقات لتسليم أسلحة إلى دول في الشرق الأوسط لنقص الإمدادات بسبب الحرب في أوكرانيا.
الكرملين يستطيع وقف أنشطة فاغنر في سوريا، ولكن في إفريقيا قد تتحول لمجموعات منفلتة من المرتزقة
من جهة أخرى، قال كيريل سيمينوف، الخبير في مجلس الشؤون الدولية، إن الحضور العسكري الروسي في سوريا يسهِّل على الكرملين إيقاف أنشطة فاغنر هناك، لكن الأمر سيكون “أصعب” على موسكو إذا أرادت تصفية المجموعة في ليبيا وغيرها من الدول الإفريقية التي تنتشر فيها فاغنر، ولا توجد فيها قوات نظامية روسية.
وقال سيمينوف: “لا توجد قوات روسية في هذه المناطق، والأنظمة المحلية تتعامل مباشرة مع فاغنر، وليس مع الهياكل الروسية الرسمية”، ومن ثم “لا يمكننا أن نستبعد الاحتمال القائل بأنه إذا قُمع التمرد، فقد تتحول فروع فاغنر في إفريقيا إلى مجموعات منفلتة من المرتزقة، وتتولى هي بناء علاقات مع الحكومات المحلية دون أن تحسب حساباً لموسكو”.
أي قد نكون في وضع تختفي فيه فاغنر في روسيا وأوكرانيا وسوريا، ولكنها ستواصل الوجود في ليبيا والسودان وإفريقيا الوسطى ومالي وغيرها من الدول الإفريقية المجاورة.
وفي هذه الحالة هناك سيناريوهان: إما أن ينفرط عقدها وتتحول إلى مجموعات مقاتلين منفلتة وهائمة على وجوهها، وإما أن تقيم كيانات مستقلة في إفريقيا اعتماداً على علاقتها بالقوى المحلية والموارد المالية المنهوبة من المنطقة.
وقد يكون السيناريو الثالث أن تعيد مجموعات فاغنر في إفريقيا الروابط مع الكرملين، بعيداً عن قائد المجموعة يفغيني بريغوجين، الذي قيل إنه ذهب لبيلاروسيا، ولكن يظل هذا الاحتمال أقل في ظل الهوة العميقة التي تشكلت بين مرتزقة فاغنر والرئيس الروسي فلاديمير بوتين والأجهزة الروسية المعنية.
———————————-
بوتين وتمرد فاغنر.. نار قد تلتهم من أوقدها/ فراس محمد
تتسارع الأحداث في روسيا منذ مساء أمس، بعد إعلان قائد ميليشيا فاغنر يفغيني بريغوجين تمرده على القيادة العسكرية ودخول قواته لمدينة روستوف الروسية وتهديده بالزحف مع قواته باتجاه العاصمة موسكو و”الذهاب حتى النهاية” في وجه القوات الروسية.
رد الكرملين لم يتأخر كثيراً حيث وصف الرئيس الروسي التحركات التي أعلن عنها يفغيني بريغوجين بأنها تمرد مسلح سيتم الرد عليه بشكل قاس، وقال في كلمة تلفزيونية “إن ما يحدث خيانة داخلية وطعنة في الظهر، والذين نظموا التمرد المسلح ورفعوا السلاح ضد الرفاق في القتال خانوا روسيا وسيتحملون مسؤولية ذلك”.
ربما من المبكر الحكم على مصير التحركات العسكرية لميليشيا فاغنر التي يمكن وصفها بالانقلابية، وإلى أي حد يمكن أن تصل الأمور، خاصة في ظل الغموض الذي يعتري هذا التمرد من جهة وجود جهات وشخصيات مهمة داخل السلطة الروسية تدعم بريغوجين في تمرده، أو إمكانية أن يلقى هذا التمرد دعما من فئات شعبية روسية معارضة للسلطة الحاكمة خاصة في صفوف المعارضين للحرب الروسية على أوكرانيا، ما قد يعقد المشهد ويدفع بها إلى حافة الحرب الأهلية.
الطعنة جاءت من أحد أكثر رجاله الموثوقين وذراعه الأمنية القذرة خارج روسية والمتمثلة بميليشيا فاغنر التي مثلت نموذج بوتين المفضل في الحكم والعقيدة السياسية
مبدئيا يمكن القول إن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين قد يستطيع حسم المعركة لصالحه بسبب فارق القوة بين الطرفين، لكن حتى لو استطاع ذلك فهالة الرجل القوي ذو الخلفية الأمنية رجل الـ “الكي جي بي” التي أحاط بوتين نفسه بها طوال فترة حكمه ستهتز بقوة، خاصة أن الطعنة جاءت من أحد أكثر رجاله الموثوقين وذراعه الأمنية القذرة خارج روسية والمتمثلة بميليشيا فاغنر التي مثلت نموذج بوتين المفضل في الحكم والعقيدة السياسية، نموذج خارج الدولة وباسمها وأهوج حد الحماقة دون أي ضوابط أخلاقية أو قيود قانونية، كما وصفها الدكتور حمزة المصطفى في تغريدة له اليوم.
وما زاد من كارثية المشهد تزامن حركة التمرد هذه مع الاستنزاف المتواصل للجيش الروسي “ثاني أقوى جيش في العالم” في أوكرانيا، وفشل الغزو حتى الآن في تحقيق أي من أهدافه بعد مضي عام وأربعة أشهر، بل على العكس تعاني القوات الروسية من تكبد خسائر فادحة اهتزت معها كل البروباغندا عن قوة وجبروت الجيش الروسي.
انقلاب ميليشيا مسلحة وممولة من الدولة الروسية على الدولة ومؤسساتها العسكرية والأمنية والسياسية يظهر حجم التخبط والوهن والتفكك الذي يعتري هذه الدولة
النقطة الثانية التي يجب الوقوف عندها صورة الدولة الروسية التي ظهرت بشكل بعيد كل البعد عن مفهوم الدولة الحديثة والقوية، فانقلاب ميليشيا مسلحة وممولة من الدولة الروسية على الدولة ومؤسساتها العسكرية والأمنية والسياسية يظهر حجم التخبط والوهن والتفكك الذي يعتري هذه الدولة، وهو ما عبر عنه بشكل مفصل المفكر العربي عزمي بشارة في تغريدة له اليوم حيث قال: “تمرد فاغنر درس جديد في ما تعانيه الدولة، لناحية احتكار استخدام العنف الشرعي. إن أي ازدواجية في استخدام العنف بوجود ميليشيات مسلحة هي إما حالة مؤقتة تنتهي بصدام وحسم لصالح إحدى “السلطتين”، أو هي حالة متواصلة تعبر عن دولة ضعيفة عاجزة ومنقوصة السيادة وتنتهي بتآكل الدولة والفوضى. وهذا ينطبق حتى على روسيا.
كما ذكرت سابقاً مازال من المبكر إطلاق أحكام وتوقعات لمسار الأحداث في روسيا، لكننا كسوريين عايشوا الجرائم الروسية من طرفي النزاع الحالي في روسيا، نمني النفس بأن يتجرع المجرمون الذي أذاقوا الشعب السوري مرارة القتل والتنكيل من الكأس نفسها، وأن يدفع هؤلاء المجرمون ثمن ما اقترفوه بحقنا، فكما ترقب عيننا الأولى تطور الأحداث في روسيا، فعيننا الثانية شاخصة باتجاه حميميم رمز الإجرام والعنجهية الروسية في سوريا.
———————————-
“36 ساعة من الفوضى”.. قبضة بوتين الضعيفة تزداد ارتعاشا
فاغنر هددت نظام بوتين
يرى خبراء أنه رغم تراجع التحرك المفاجئ لقوات مجموعة “فاغنر” في روسيا، خلال الساعات الماضية، إلا أن التهديد الذي واجهه نظام الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين “لم ينته” ومن المستبعد أن تختفي “الانتفاضة النادرة” دون تداعيات لاحقة.
وتشير “سي أن أن” في تحليلها للأحداث الأخيرة إلى أنه “خلال 36 ساعة من الفوضى، بدا أن قبضة بوتين على السلطة تتعرض لتهديد خطير”.
ومع سيطرة مرتزقة “فاغنر” على مواقع عسكرية رئيسية في مدينتين روسيتين، اضطر الكرملين إلى نشر قوات في شوارع موسكو ودعوة السكان إلى البقاء في منازلهم.
لكن المواجهة في موسكو لم تحدث، وانسحب مقاتلو “فاغنر” من المواقع التي سيطروا عليها بعد اتفاق مع الكرملين قضى بوقف تقدمهم نحو موسكو، وخروج قائدهم، يفغيني بريغوجين، إلى بيلاروس. وليل السبت، أعلن بريغوجين سحب موكبه العسكري الزاحف نحو العاصمة لتجنب إراقة “الدماء الروسية”.
وعلى ضوء ذلك، بدأت مناطق عدة في روسيا رفع الإجراءات والقيود التي فرضت السبت.
وتشير “سي أن أن” إلى أنه بات على بوتين الآن “التغلب على آثار أخطر تحد لسلطته منذ وصوله إلى السلطة”، وتقول إن “هذا التهديد وضع نظامه في وضع مختلف تماما، الأحد، عما كان عليه قبل يومين فقط”.
وكان بوتين قد رسم لنفسه صورة قائد يتمتع بقبضة حديدية على السلطة، منذ أن أصبح رئيسا، عام 2000، لكن الوفيات الغامضة لمعارضيه على مر السنين، وانتقادات الحرب الأوكرانية هددت هذه السيطرة الكاملة.
واهتزت سمعة بوتين أكثر بسبب تمرد “فاغنر”، وهو ما جعله “أكثر انكشافا مما كان عليه في السنوات الـ 23 الماضية”، وبينما نجا من الأزمة، يبدو الآن ضعيفا ليس فقط أمام العالم وأعدائه ولكن أيضا أمام شعبه وجيشه”.
وقد يشكل ذلك خطرا على نظامه إذا وجد خصومه داخل روسيا فرصة لتقويض نظامه، وفق خبراء.
وقالت إيفلين فاركاس، مديرة مركز أبحاث “ماكين” ومقره الولايات المتحدة: “من الواضح أن بوتين ضعيف. يمكن اعتبار هذه الأزمة الوشيكة فرصة لمنتقدي بوتين أو منافسيه داخل الكرملين”.
ويشير تقرير “سي ان أن” إلى “تصدعات” في تأييد الحرب الأوكرانية داخل روسيا، بعد أن وصلت التهديدات إلى داخل روسيا، مع الهجمات الأخيرة عبر الحدود، بل وشهد الكرملين نفسه هجمات بطائرات مسيرة.
وظهر الانقسام بين موسكو والمواطنين الروس بوضوح، السبت، إذ ملأت الهتافات شوارع مدينة روستوف وخرج الناس ليودعوا عناصر “فاغنر”، والتقط بعض سكان المدينة صور سيلفي مع زعيم المجموعة العسكرية وألقوا عليه التحية خلال مغادرته المدينة.
وتعتقد جيل دوجيرتي، رئيسة مكتب “سي أن أن” السابقة في موسكو، وخبيرة الشؤون الروسية، أن بوتين سيكون قلقا بشأن هؤلاء الذين هتفوا لعناصر “فاغنر”.
ويرى ستيف هول، الرئيس السابق للعمليات الروسية في وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية (سي آي إيه)، أن زعيم “فاغنر” ربما شعر أنه يحمل نفسه أكثر من طاقته بتحريك قواته نحو موسكو فقرر الانسحاب، لكن في الوقت نفسه، وجد بوتين أنه سيكون مضطرا لهزيمة حوالي 25 ألفا من عناصر المجموعة.
ويرى هول أن إرسال بريغوجين إلى بيلاروس “خطوة لحفظ ماء الوجه لكلا الجانبين”، لكن بوتين في وضع “أسوأ”. ويقول: “لا أعتقد أن القصة قد انتهت بعد”.
الحرة / ترجمات – واشنطن
————————
بريغوجين.. من “دمية لبوتين” إلى شخصية تنافس شعبيتها الرئيس الروسي
ظل اسم يفجيني بريغوجين مقترنا لسنوات بـ”طباخ بوتين” و”دمية بوتين”، قبل أن تحوله الحرب في أوكرانيا و”تمرده” على قيادة الجيش الروسي إلى شخصية تنافس شعبيتها شعبية الرئيس الروسي نفسه، وفق ما يراه محللون.
وملأت الهتافات شوارع مدينة روستوف حيث خرج الناس ليودعوا عناصر “فاغنر” ويتمنوا لهم التوفيق، في حين التقط سكان المدينة صور سيلفي مع زعيم المجموعة العسكرية ويلقوا عليه التحية خلال مغادرته المدينة.
وهتف الناس قائلين: “فاغنر فاغنر”، في حين هتفت سيدة “اعتنوا بأنفسكم”، ليرد رجل آخر بالقول: “الأهم من ذلك، عودوا أحياء”.
ولد بريغوجين ونشأ، مثل بوتين، في لينينغراد، التي أعيدت تسميتها سانت بطرسبرغ عندما كان الاتحاد السوفيتي ينهار.
ورغم تاريخه كمجرم صغير وقضائه عقوبة بالسجن لـ 12 سنة بتهمة السرقة، واصل بريغوجين مساره التصاعدي إلى أن وصل إلى حد إقامة علاقة وثيقة مع بوتين، وفق صحيفة “نيويوركر“.
وظل بريغوجين أقل شهرة حتى عندما كانت مجموعته تشارك في مناطق لها أهمية لروسيا كسوريا وأفريقيا، لكن مع الغزو الروسي لأوكرانيا، بات “طباخ بوتين” أكثر نشاطا على وسائل التواصل الاجتماعي فيما نشر مقاتليه على جبهات القتال.
وعززت حرب أوكرانيا موقع بريغوجين وثقته بنفسه، إذ أقر للمرة الأولى علنا بأنه مؤسس المجموعة بعد نفي ذلك لأعوام، وقيامه بشكل علني أيضا بتجنيد مقاتلين من السجون الروسية.
وفي الخريف الماضي، عندما عبر بريغوجين روسيا لتجنيد السجناء لمجموعة فاغنر، “شعر وكأنه نجم موسيقى الروك”، وفق ما يقول ميخائيل زيغار، المتخصص في شوؤن الكرملين، للصحيفة.
من “دمية بوتين” إلى قائد
ويضيف زيغار “كانت موهبته أنه تحدث معهم بشكل فعال بلغتهم”، حينها جاءت اللحظة التي لم يعد فيها بريغوجين “دمية بوتين”، بل أصبح “قائدا حقيقا”.
وصور بريغوجين نفسه دائما على أنه مقاتل القلة، وفي الوقت ذاته، هو بعيد عن الليبرالية للغاية. ويكره الغرب، ويدعي أنه الحامي الحقيقي للقيم التقليدية، لذلك يرجح زيغار أن يكون هناك المزيد من المؤيدين له خارج فاغنر، “هناك أشخاص في الجيش، وقوات الأمن الفيدرالية، ووزارة الداخلية، يمكن أن يكونوا حلفاءه الأيديولوجيين”.
ومع ابتعاد بوتين عن الأنظار وثرائه بشكل غير معقول منذ انطلاق الحرب الروسية على أوكرانيا، ارتدى بريغوجين في كثير من الأحيان ملابس القتال الكاملة وظهر يتبختر أمام الكاميرات بجوار قواته في المدن الأوكرانية على خط المواجهة، مثل باخموت.
وقال زيغار: “إنه (بريغوجين) يتحدث بالطريقة التي يتحدث بها السجناء. إنه الرجل العادي. لقد نهج نفس الطريقة التي نهجها بوتين قبل عشرين عاما عندما كان السياسيون، في عام 1999، غير قادرين على التحدث بلغة الناس. وآنذاك تحدث بوتين مثل رجل عصابات”، وفق التقرير.
وجاء بريغوجين واتبع هذا النمط بطريقة أكثر وحشية، بحسب “نيويوركر”.
وفي وقت يتمتع بوتين بدعم كامل من المعلقين التلفزيونيين المعروفين، يحظى بريغوجين بالدعم الضمني لسلالة جديدة، وهم ما يسمى بالمراسلين الحربيين على “تيليغرام”، وهم ضباط عسكريون سابقون تحولوا إلى مدونين. إنهم يقدمون أنفسهم كممثلين لـ”روسيا الحقيقية”. إنهم حذرون ، لكنهم لا يدينون بريغوجين “. بحسب زيغار.
وزاد بريغوجين في الآونة الأخيرة من انتقاداته اللاذعة للقيادة العسكرية ووجهها بشكل مباشر إلى وزير الدفاع، سيرغي شويغو، أحد الأصدقاء الشخصيين المعدودين لبوتين في النخبة الروسية.
وتقول مجلة “نيوزويك” إن شعبية بريغوجين تتزايد بين الشعب الروسي في الوقت الذي يضع فيه نفسه في مواجهة كبار ضباط الكرملين، ويضع نفسه كشخصية مناهضة للمؤسسة وسط حرب الرئيس فلاديمير بوتين الطاحنة في أوكرانيا.
واحتل بريغوجين، للمرة الأولى، المرتبة الأولى في استطلاعات الرأي في البلاد التي تصفه بأنه شخصية يثق بها الروس ويفخرون بها، وفق المجلة.
كما بات الروس يبحثون عن معلومات حول رئيس فاغنر أكثر بكثير من زعيم البلاد.
وقال محللون لمجلة نيوزويك إن بوتين، الذي لا يفهم تأثير وسائل التواصل الاجتماعي، يقلل من شأن مدى شعبية بريغوجين لدى الشعب الروسي، ومدى التهديد الذي يمكن أن يمثله.
شعبية بوتين وبريغوجين.. بالأرقام
في 8 يونيو، احتل بريغوجين المرتبة الخامسة في استطلاع نشره مركز أبحاث الرأي العام الروسي، أقدم مؤسسة استطلاع في روسيا ما بعد الاتحاد السوفيتي.
وطرح الاستطلاع السؤال التالي: “هل هناك روس أحياء يمكن لبلدنا أن يفخر بهم أم لا؟”، وتقدم بريغوجين على مسؤولين حكوميين في نتائج الاستطلاع.
وفي الشهر الماضي، دخل بريغوجين تصنيف مركز ليفادا للشخصيات العامة التي يثق بها الشعب الروسي لأول مرة، بنسبة 4 في المئة، مقارنة بالرئيس السابق، ديمتري ميدفيديف، وزعيم الحزب الشيوعي، جينادي زيوجانوف، وفقا لأندريه كوليسنيكوف، وهو زميل بارز في مركز كارنيجي روسيا أوراسيا، بحسب ما نقل تقرير “نيوزويك”.
وفي 20 يونيو، نشر مركز رومير للأبحاث الروسي قائمة بالشخصيات العامة الأكثر ثقة من قبل الروس. دخل بريغوجين تصنيفه لأول مرة، حيث جاء في المركز الخامس خلف بوتين وسيرغي لافروف (وزير الخارجية) وشويغو وميخائيل ميشوستين (رئيس الوزراء)، وفق التقرير ذاته.
وبعد تعليق بريغوجين تمرده وتوصله إلى اتفاق، قال عضو البرلمان الروسي السابق، سيرغي ماركوف، في حديث مع شبكة “سي إن إن “إنهم (قوات فاغنر) يدعمون قتال بريغوجين ضد الجيش الأوكراني ولكن ليس ضد فلاديمير بوتين”، مشيرا إلى أن شعبية بوتين تبلغ الآن “حوالي 80 في المئة”.
وأضاف “لهذا السبب يرى الكثير من العسكريين الروس مقاتلي فاغنر ليس كأعداء بل كأبطال حقيقيين لأنهم لا يريدون المشاركة في الاشتباكات العسكرية الداخلية”.
وحتى بعد إعلانه “تمردا” على قيادة الجيش الروسي، لم تواجه قوات مجموعة “فاغنر” أي مشاكل في العبور من الأراضي المحتلة في أوكرانيا إلى روسيا في موقعين على الأقل.
وتباهى بريغوجين أن وحدات الحراسة الروسية لوحت لرجاله بسعادة، ما أثار تساؤلات بشأن ولاء الجيش.
وبعد ظهر السبت، وافق يفجيني بريغوجين، زعيم “فاغنر” على سحب موكبه العسكري الزاحف نحو العاصمة الروسية لإسقاط القيادة العسكرية بموجب اتفاق توسط فيه رئيس بيلاروسيا.
وأتى تصريح بريغوجين بعيد إعلان الرئيس البيلاروسي، ألكسندر لوكاشنكو، أن رئيس مجموعة فاغنر أبلغه، السبت، موافقته على “وقف تحركات” مقاتليه في روسيا وتجنب أي تصعيد إضافي للوضع.
الحرة
—————————-
الخلاف بدأ من دمشق … “فاغنر” تنقلب على موسكو فهل تتأثر الساحة السورية؟
على مسرح الحرب السورية، شهدت قوات فاغنر الروسية أهم تحولين في مسيرتها العسكرية، وصولاً إلى إعلانها التمرد العسكري ضد موسكو. هذا الانقلاب السريع في بنية وأدوار قوات غير نظامية أصبحت تنتشر في عدد من البلدان التي تشهد أوضاعاً غير مستقرة، سيقلق من دون شك القيادة السورية التي لا تستضيف فوق أراضيها آلافاً من مقاتلي فاغنر فحسب، بل لديها مجموعات عسكرية كثيرة، من الصعب إحصاؤها كلها، تنتشر جنباً إلى جنباً مع قوات الجيش السوري، ويدين معظمها بالولاء لإيران التي لن تتردد في استثمار أي تراخٍ لقبضة موسكو في سوريا جراء صراعاتها الداخلية، من أجل تعزيز نفوذها هناك.
أولاً: كانت الحرب السورية هي الحاضنة التي جعلت “فاغنر” تكسر طوق الحراسة الأمنية الذي لم يعد يتناسب مع اتساع المهام التي ألقيت على عاتقها جراء انخراطها في تفاصيل الحدث السوري، لتنتقل إلى طورٍ أكثر تعقيداً وطموحاً جعلها أكبر واقوى من مجرد ميليشيا وأقل من جيش نظامي متكامل. فقد بدأت “فاغنر” مسيرتها بكونها شركة حراسة، وعندما توافد عناصرها إلى سوريا كان يجري تكليفهم بمهام لا تتعدى الحدود الأمنية مثل حراسة البنى التحتية، وتأمين حماية بعض الشخصيات الرفيعة، إضافة إلى جمع المعلومات الاستخباربة على الأرض.
نجاح “فاغنر” في أداء مهامها البسيطة نسبياً، جعل موسكو تتدرج في ترقيتها وتزيد الأعباء الملقاة على عاتقها لا سيما في ظل التجربة الناجحة لها أيضاً في القيام بأعمال قتالية محدودة في شبه جزيرة القرم عام 2014. وكانت قيادة “فاغنر” تتأقلم بسرعة مع الثقة المتنامية بها، وتحاول تنفيذ ما تُكلّف به من مهام متزايدة، وكان ذلك يتطلب منها إجراء تغييرات جذرية في بنيتها وفي أساليب عملها، ونتيجة هذه الآلية الجدلية تحولت “فاغنر” عملياً إلى قوة عسكرية تشبه الجيوش النظامية لولا فقدانها القوة الجوية، وباتت قادرة على أداء مهام عسكرية معقدة وفوق مساحات شاسعة من الأراضي، وتولي قيادة العمليات القتالية في أكثر من بلد في الوقت عينه.
ثانياً: كما كانت سوريا مسقط رأس “فاغنر” كقوة عسكرية متجاوزة كونها مجرد شركة حراسة، احتضنت الأزمة السورية كذلك البذور الأولى للخلاف المتصاعد بين قائد “فاغنر” يفغيني بريغوجين، ووزير الدفاع سيرغي شويغو. ويعود ذلك إلى 7 شباط (فبراير) عام 2018، عندما سعى بريغوجين إلى استهداف القوات الأميركية في ديرالزور بهدف السيطرة على حقول النفط ومعامل الغاز التي تستولي عليها. غير أن النتيجة كانت كارثية حيث قامت الطائرات الأميركية بحصاد وحدات “فاغنر” قرب بلدة خشام. وقد اتهم بريغوجين وزير الدفاع الروسي شويغو بعدم تنفيذ الالتزامات المتفق عليها بموجب خطة الهجوم على المواقع الأميركية، حيث كان الأول ينتظر تشغيل أنظمة الدفاع الروسية لحماية مقاتليه، وهو ما لم يحدث ما اسفر عن مجزرة سقط فيها ما يقارب مئتي عنصر من “فاغنر”. وكانت هذه الشرارة الأولى للخلاف الذي تصاعد لاحقاً بين الرجلين، بريغوجين وشويغو، حتى وصل الأمر أخيراً إلى مطالبة الأول بتسليمه الثاني بعد اتهامه بقصف مقاتليه في أوكرانيا.
وبعد خطاب الرئيس الروسي فلاديمير بوتين أصبحت قوات فاغنر الداعمة لمخطط بريغوجين قوات غير وطنية بل خائنة وطعنت روسيا في الظهر. ومن شأن ذلك أن يطرح تساؤلات كثيرة عن التوصيف الذي ينبغي أن يتم التعامل من خلاله مع مقاتلي “فاغنر” المنتشرين في عدد من بلدان العالم لا سيما في سوريا.
فهناك على الأقل آلاف من هؤلاء المقاتلين ينتشرون في أماكن حساسة من الساحة السورية خصوصاً بالقرب من بعض حقول النفط في ريف ديرالزور وكذلك في البادية السورية وتحديداً في تدمر التي اتهم بريغوجين، شويغو بأنه سرق إنجاز مقاتليه بتحريرها من “داعش” ونسبه إلى الجيش الروسي الذي نال ضباطه أرفع الأوسمة لقاء ذلك بينما ظل مقاتلوه من دون أي تقدير رسمي.
ولكن رغم هذا الانتشار في سوريا، لم تسع قيادة فاغنر إلى إنشاء قواعد عسكرية ثابتة خاصة بها أو إلى تأسيس غرف عمليات مستقلة، بل ظلت تعمل تحت غطاء القوات الروسية ومركزها قاعدة حميميم أو غطاء القوات السورية النظامية.
وقد برز لغز محيّر، ليلة الجمعة الماضي، عندما أعلن بريغوجين عن تمرده ضد وزارة الدفاع الروسية، حيث كانت طائرات مسيّرة تقصف أهدافاً مختلفة في محافظتي حماة واللاذقية. هذا التزامن بين الحدثين قد يجعل من نسب عمليات القصف إلى هيئة تحرير الشام محملاً بشكوك بوجود قنوات استخبارية، ربما أوكرانية، تغذي الجماعة بمعلومات استخبارية لاختيار مواعيد تحركاتها العسكرية النادرة. ومع ذلك سادت هذه الرواية قبل أن يدرك المراقبون اتساع حجم الهوة بين بريغوجين وشويغو وأن الأمر يتدحرج نحو حرب روسية داخلية لا يعرف أحد مآلاتها، وقادهم ذلك إلى التشكيك أكثر بحملة الطائرات المسيّرة التي طالت أهدافاً مدنية وتزامنها المريب مع تمرد “فاغنر” في روسيا.
وقد استغل بعض المواقع السورية المعارضة تأجج الوضع في روسيا لنشر أخبار ومعلومات حول حملة اعتقالات شهدها مطار حميميم لبعض الضباط المقربين من قائد فاغنر. ولكن لم يرد شيء من ذلك عبر مصادر مستقلة يمكن الوثوق بها.
وأيّاً يكن الأمر، لا شك في أن التطورات على الساحة الروسية سوف ترخي بظلالها على البلدان العديدة التي تنتشر بها مجموعات فاغنر القتالية مثل ليبيا والسودان ومالي وسوريا. وثمة عوامل تجعل من الأخيرة مرشحة أكثر من غيرها لتلقي تداعيات الأزمة الروسية بين بريغوجين وشويغو، أهمها الانتشار الواسع لمجموعات فاغنر فوق رقعة جغرافية شاسعة من الأراضي السورية. والقدم الزمني لتواجدها في الساحة السورية الذي سبق تواجدها في الساحات الأخرى ما يجعلها أكثر ضلوعاً بتفاصيل الميادين السورية وجبهات القتال فيها. إضافة إلى الأهمية الاستراتيجية للساحة السورية في سياسة الكرملين حيث اصبحت خلال السنوات الماضية بمثابة مركز روسي متقدم لنشر نفوذ موسكو في المنطقة.
وقادت الأنباء الواردة من موسكو العديد من المراقبين السوريين إلى التعبير عن مخاوفهم من انعكاس ذلك على المشهد السوري الذي تتواجه أربعة جيوش دولية على أرضه هي القوات الأميركية والروسية والتركية والإيرانية. ورغم أن إيران مدّت يد العون إلى روسيا في حربها ضد أوكرانيا، إلا أن ذلك قد لا يمنعها من متابعة التطورات في روسيا ومدى انعكاسه على وضع القوات الروسية في سوريا من أجل استغلال اي ثغرة تظهر أمامها لتحقيق أهدافها المتمثلة في توسيع نفوذها في سوريا ومحاولة خلق وقائع جديدة.
النهار العربي
——————-
تمرّد “فاغنر” يضع الروس في حالة عدم اليقين..إليك ما تريد معرفته
اندلع صراع مسلح مفاجئ بين القيادة العسكرية لموسكو، ويفغيني بريغوجين، قائد مجموعة المرتزقة “فاغنر”، وهو تمرد وضع الروس في حالة من “عدم اليقين”.
وأطلق بريغوجين العنان لخطبة لاذعة جديدة ضد الجيش الروسي، في وقت متأخر أمس الجمعة، ثم سار بقواته، إلى مدينة روستوف أون دون، الروسية.
ووصف الرئيس الروسي فلاديمير بوتين تحركات فاغنر بالـ “خيانة”، متعهداً بمعاقبة من يقفون وراء “التمرد المسلح”.
ماذا فعل بريغوجين؟
بدأ التحول الدراماتيكي للأحداث مساء أمس الجمعة، عندما اتهم بريغوجين علانية الجيش الروسي بمهاجمة معسكر “فاغنر” وقتل “كمية هائلة” من رجاله.
وتعهد بالانتقام بـ”قوة”، ملمحاً إلى أن قواته “ستدمر” أي مقاومة، بما في ذلك حواجز الطرق والطائرات.
وقال:”يوجد 25000 منا وسنكتشف سبب وجود مثل هذه الفوضى في البلاد”.
لكن بريغوجين تراجع لاحقاً عن تهديده، قائلاً إن انتقاده للقيادة العسكرية الروسية كان بمثابة”مسيرة عدالة” ضد خصومه وزير الدفاع الروسي ورئيس هيئة أركانه، وليس انقلاباً. ولكن في تلك المرحلة يبدو أنه تجاوز بالفعل الخط مع الكرملين.
ثم تعمقت الأزمة بعد أن أعلن بريغوجين أن مقاتليه دخلوا منطقة روستوف الروسية، واحتلوا منشآت عسكرية رئيسية داخل عاصمتها.
وهذه المدينة هي المقر الرئيسي للقيادة العسكرية الجنوبية لروسيا وموطن لحوالي مليون شخص.
وأصدر بريغوجين شريط فيديو يقول إن قواته ستحاصر روستوف أون دون ما لم يأتي وزير الدفاع سيرغي شويغو والجنرال الروسي الكبير فاليري جيراسيموف لمقابلته.
وأمضى قائد “فاغنر” شهوراً في إلقاء اللوم على شويغو وجيراسيموف اللذين يحملهما مسؤولية غزو موسكو المتعثر لأوكرانيا.
كيف ردت روسيا؟
وبعد ساعات، وجه بوتين خطاباً إلى الأمة الروسية، قائلاً إن “أولئك الذين يسلكون عمداً طريق الخيانة، ويستعدون لتمرد مسلح أثناء التحضير لهجمات إرهابية، سيعاقبون”.
وأضاف الرئيس الروسي أن “أي اضطراب داخلي يمثل تهديداً مميتاً لدولتنا بالنسبة لنا كأمة؛ إنها ضربة لروسيا لشعبنا وأفعالنا لحماية وطننا. مثل هذا التهديد سيواجه رداً قاسياً”.
لكن بريغوزين رد قائلاً على “تيلغرام” إن الرئيس “مخطئ بشدة”.
وأضاف أن مقاتليه هم “وطنيون من وطننا الأم”، ووعد بالقول: “لن يسلم أحد نفسه بناء على طلب الرئيس أو جهاز الأمن أو أي شخص آخر”.
ونفت وزارة الدفاع الروسية في وقت سابق مهاجمة قوات “فاغنر”، واصفة ادعاءات الأخيرة بأنها مجرد “دعاية إعلامية”.
كما فتح جهاز الأمن الفيدرالي (FSB)، قوة الأمن الداخلي الروسي، قضية جنائية ضد بريغوجين، بتهمة الدعوة إلى “تمرد مسلح”.
وجاء في بيان جهاز الأمن الفيدرالي، أن “تصريحات بريغوجين وأفعاله هي في الواقع دعوات لبدء نزاع مدني مسلح على أراضي الاتحاد الروسي وهي طعنة في ظهر الجنود الروس الذين يقاتلون القوات الأوكرانية الموالية للفاشية”.
في غضون ذلك، يبدو أن المسؤولين الروس لا يخاطرون مع تكثيف الإجراءات الأمنية في موسكو، وفقاً لوكالة “تاس”.
وقال عمدة موسكو سيرجي سوبيانين، يوم السبت، عبر تلغرام، إن إجراءات “مكافحة الإرهاب” لتعزيز الأمن يتم تنفيذها في العاصمة نتيجة “للمعلومات الواردة”.
وأظهرت منشورات على مواقع التواصل الاجتماعي مركبات عسكرية، تسير في الشوارع الرئيسية بالعاصمة الروسية في الساعات الأولى من صباح اليوم.
من هو بريغوجين؟
يعرف بريغوزين بوتين منذ التسعينيات، وأصبح أوليغارشياً ثرياً من خلال الفوز بعقود تقديم الطعام المربحة مع الكرملين، ما أكسبه لقب “طباخ بوتين”.
وجاء تحوله إلى أمير حرب وحشي في أعقاب الحركات الانفصالية المدعومة من روسيا عام 2014 في دونباس شرق أوكرانيا.
وأسس بريغوجين “فاغنر” ليكون جماعة مرتزقة غامضة قاتلت في شرق أوكرانيا، وبشكل متزايد، من أجل القضايا المدعومة من روسيا في جميع أنحاء العالم.
وتتبعت شبكة “سي إن إن” مرتزقة “فاغنر” في جمهورية إفريقيا الوسطى والسودان وليبيا وموزمبيق وأوكرانيا وسورية.
وعلى مر السنين اكتسبوا سمعة مروعة بشكل خاص وارتبطوا بالعديد من انتهاكات حقوق الإنسان.
وصعد نجم بريغوجين السياسي في روسيا بعد غزو موسكو الكامل لأوكرانيا في فبراير 2022.
بينما شهد العديد من القوات الروسية النظامية انتكاسات في ساحة المعركة، بدا أن مقاتلي “فاغنر” هم الوحيدون القادرون على تحقيق تقدم ملموس.
وتشتهر مجموعة “فاغنر” بتجاهلها لأرواح جنودها، ويُعتقد أن التكتيكات الوحشية وغير القانونية التي تتبعها قد أسفرت عن سقوط أعداد كبيرة من الضحايا، حيث يتم إرسال المجندين الجدد إلى المعركة، في عملية وصفتها سابقاً الولايات المتحدة بأنها “مثل تغذية اللحوم لمفرمة اللحم”.
واستخدم بريغوجين وسائل التواصل الاجتماعي للضغط من أجل ما يريده، وغالباً ما كان يتعارض مع القيادة العسكرية الروسية، ويصوّر نفسه على أنه كفؤ وعديم الرحمة على عكس المؤسسة العسكرية.
وانفجرت خلافاته مع كبار الضباط الروس في المجال العام خلال المعركة المروعة التي لا هوادة فيها على باخموت، والتي اتهم خلالها القيادة العسكرية مراراً وتكراراً بالفشل في تزويد قواته بالذخيرة الكافية.
وفي أحد مقاطع الفيديو، أوائل مايو، وقف بريغوجين بجوار كومة من مقاتلي “فاغنر” القتلى واستهدف بشكل خاص وزير الدفاع الروسي سيرجي شويغو وقائد القوات المسلحة الروسية الجنرال فاليري جيراسيموف.
ماذا يحدث الآن؟
يشكل خطاب بوتين الوطني مواجهة مباشرة في قلب المؤسسة الروسية في وقت تأمل فيه أوكرانيا في إحراز تقدم خلال هجومها الصيفي.
وشبه بوتين ما يواجهه الآن بالثورة الروسية في عام 1917، عندما أطاح البلاشفة بالقيصر الروسي نيكولاس الثاني في خضم الحرب العالمية الأولى، مما دفع البلاد إلى حرب أهلية ومهد الطريق في النهاية لإنشاء الاتحاد السوفيتي.
وقال بوتين: “كان هذا هو نفس النوع من الضربة التي شعرت بها روسيا في عام 1917 ، عندما دخلت البلاد الحرب العالمية الأولى، لكن سرق منها النصر”.
وأوضح ستيف هول، وهو ضابط سابق في وكالة المخابرات المركزية لشبكة “سي إن إن” إن بريغوجين “وضع نفسه في وضع محفوف بالمخاطر ويعرف جيداً ما يواجهه”.
وأضاف أن “قائد فاغنر يعرف بالضبط ما هي مخاطرته. لن تسير الأمور على ما يرام بالنسبة له، ستسير الأمور بشكل سيء”.
في غضون ذلك، قوبل الانقسام المفتوح داخل القوات المسلحة الروسية بالبهجة والكثير من الشماتة في كييف.
وقال مالكولم ديفيس المحلل البارز في معهد السياسة الاستراتيجية الأسترالي، إن أوكرانيا ستكون حريصة على استغلال الاضطرابات، خاصة إذا اضطرت موسكو إلى نقل القوات من خط المواجهة.
وأضاف لشبكة “سي إن إن”: “من الواضح أنهم بحاجة إلى رؤية ما يحدث بالفعل مع ترتيب القوات الروسية على طول خطوطها الدفاعية. إذا فتحت فجوات، فعليهم أن يكونوا مستعدين لاستغلالها”.
—————————
بريغوجين وبوتين.. محطات علاقة بدأت بـ”طبخة” وانتهت بـ”تمرد”
لأول مرة منذ عقود تهتز صورة المؤسسة العسكرية التي رسمتها روسيا، وبعدما أعلن أحد أبرز أصدقاء فلاديمير بوتين “التمرد” على جنرالاته مترجماً ذلك على الأرض لا تبدو أي ملامح واضحة لمآلات الأزمة في الأيام المقبلة.
ورغم أن شرارة الأزمة التي يراقبها العالم أجمع كانت في الأيام الماضية “خامدة تحت الرماد”، إلا أنها شبّت على نحو غير متوقع ليلة الجمعة، ليعلن قائد “فاغنر” يفغيني بريغوجين “التمرد” على وزارة الدفاع وهيئة الأركان العامة، مطالباً بتسليم رأس هاتين الجهتين، وإلا سيزحف بقواته باتجاه موسكو.
وفي آخر التطورات المتسارعة قال يفغيني بريغوجين، رئيس مجموعة فاغنر العسكرية الروسية الخاصة، السبت، إنه ورجاله يرفضون أوامر الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، بتسليم أنفسهم.
ونفى بريغوجين “مزاعم بوتين بالخيانة”، ووصف مقاتليه بالوطنيين، فيما اعتبر أن “الرئيس الروسي أخطأ بشدة” باتهام مقاتليه بـ”الخيانة”، مؤكداً أن “قواته لن تستسلم”.
وجاءت ذلك بعدما خرج بوتين بخطاب توعد فلاديمير بوتين برد قاسي وحاسم، فيما وصف ما حصل بـ”الغدر والطعنة في الظهر”.
وشبه بوتين تمرد “فاغنر” بالثورة البلشفية عام 1917، والتي أدت إلى انهيار الدولة الروسية.
وكانت هذه الضربة هي التي وجهت لروسيا في عام 1917، عندما كانت البلاد تشن الحرب العالمية الأولى، لكن الانتصار سرق منها.
وقال بوتين: “لن ندع هذا يحدث مرة أخرى”. وتحدث الرئيس الروسي أن “القوات المسلحة الروسية تلقت أمراً بتحييد أولئك الذين نظموا التمرد المسلح”، وأنه تواصل الليلة الماضية مع جميع القادة العسكريين في كل المحاور.
وتابع: “ردودنا على هذا التهديد ستكون صارمة وقاسية. ما يحدث هو غدر. محاولة تقسيم المجتمع هي طعنة في الظهر”.
“صداقة وتمرد”
على الأرض قال بريغوجين إنه سيطر على مدينة روستوف أون دون الروسية في إطار محاولة للإطاحة بالقيادة العسكرية، ونشرت حسابات تابعة لقواته مشاهد إسقاط طائرة بعدما حاولت قصف مواقعهم في جنوب البلاد.
اشتهر بريعوجين، 62 عاماً، منذ عقود بأنه “طاه بوتين” بسبب عقود شركته في الكرملين لخدمات التموين.
ومن غير الواضح مدى صداقته مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، لكنهما يعرفان بعضهما البعض، وكلا الرجلين وُلدا وترعرعا في سان بطرسبرغ، حسب وكالة “رويترز“.
بعد قضاء عقوبة سجن طويلة في الثمانينيات، بدأ بريغوجين بيع النقانق المقلية في مسقط رأسه، وسرعان ما بدأ في بناء حصة في سلسلة من محلات السوبر ماركت، وافتتح في النهاية مطعمه الخاص وشركته للتموين.
اكتسب مطعمه سمعة طيبة بسبب طعامه الجيد، وسرعان ما استضاف شخصيات من المدينة ومن بينهم نائب رئيس البلدية آنذاك فلاديمير بوتين.
ومن هناك، بدأت شركة كونكورد للتموين التابعة لبريغوجين على الفوز بعقود التوريد الحكومية، مما أدى بعملياتها إلى مستوى أكبر بكثير.
واعترف بريغوجين في سبتمبر/أيلول الماضي بأنه أسس المجموعة العسكرية الخاصة في عام 2014، وهو العام الذي ضمت فيه روسيا شبه جزيرة القرم من أوكرانيا.
وكان هذا أول تأكيد علني له لصلة كان قد أنكرها في السابق ورفع دعوى قضائية ضد الصحفيين بسبب تغطيتهم الصحفية.
وقاتلت مجموعته “فاغنر” في ليبيا وسورية وجمهورية إفريقيا الوسطى ومالي من بين دول أخرى.
وقدمت الجماعة أيضاً الدعم للانفصاليين المدعومين من روسيا الذين استولوا على جزء من منطقة دونباس بشرق أوكرانيا في 2014.
واستولى مقاتلو بريغوجين الشهر الماضي على مدينة باخموت بشرق أوكرانيا بعد بعض من أكثر المعارك ضراوة في الحرب.
لكن خلال هذا الهجوم، كسر بريغوجين المحرمات في نظام بوتين السياسي الخاضع لسيطرة مشددة بإهانات بذيئة لكبار ضباط موسكو.
وأصدر بعد ذلك تسجيل مصور أظهر حقلاً من مرتزقة فاغنر القتلى، وقال إنهم لقوا حتفهم بسبب نقص الذخائر التي تسبب فيها وزير الدفاع سيرغي شويغو ورئيس هيئة الأركان العامة جيراسيموف.
وفرضت الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي عقوبات على بريغوجين لدوره في “فاغنر”.
كما يتهمونه بتمويل مزرعة ترول، التي تعرف باسم وكالة أبحاث الإنترنت، والتي تقول واشنطن إنها حاولت التأثير على الانتخابات الأمريكية.
“لديه الكثير من الأعداء”
ومنذ قرار بوتين العام الماضي بغزو أوكرانيا، تضخمت صفوف فاغنر إلى حوالي 50 ألف مقاتل، وفقاً لتقديرات أجهزة مخابرات غربية، بما في ذلك عشرات الآلاف من السجناء السابقين الذين تم تجنيدهم من السجون في جميع أنحاء روسيا، غالباً بواسطة بريغوجين شخصياً، وفقاً لصحيفة “الغارديان“.
وتحدثت الغارديان مع العديد من الأشخاص الذين عرفوا بريغوجين على مر السنين، وكثير منهم طلب عدم الكشف عن هويته للتحدث بحرية.
وقال رجل أعمال كان يعرف بريغوجين في التسعينيات للغارديان: “إنه نشيط وموهوب، ولن يتراجع عن أي شيء ليحصل على ما يريد”.
ويتكهن بعض الذين يعرفونه بأن لا المال ولا القوة كانا العامل المحفز الوحيد لبريغوجين، على الرغم من أنه حصل على الاثنين خلال مسيرته.
وبدلاً عن ذلك يقولون إنه مدفوع بإثارة المطاردة، والاعتقاد بأنه يحارب النخب الفاسدة نيابة عن أي رجل عادي، والرغبة في سحق منافسيه.
وعلى مر السنين، أصبح لبريغوجين العديد من الأعداء، ومنهم شركاء الأعمال السابقين الذين يشعرون بالخداع، وجنرالات الجيش الذين انتقدهم باعتبارهم بيروقراطيين في مكاتبهم، وكبار المسؤولين الأمنيين الذين يخشون أن يكون لديه طموحات للاستيلاء على السلطة السياسية.
وأكد رئيس مجموعة فاغنر، الجمعة، دخول قواته الأراضي الروسية واقتحام مقاطعة روستوف، مشيراً إلى أنهم سيواجهون من يعترض طريقهم وسيواصلون “حتى النهاية”.
وقال بريغوجين إنه ورجاله “سيدمرون كل من يعترض طريقهم ومستعدون للمواصلة حتى النهاية”.
وأضاف أن قواته اقتحمت مقاطعة روستوف الروسية، وقال: “نحن ندخل روستوف”.
وانتشرت آليات عسكرية في العاصمة موسكو، بعد أن هدد بريغوجين، بـ “تمرد عسكري” عقب مقتل الآلاف من مقاتليه في غارات اتهم القوات الروسية بشنها.
———————————–
“تمرد فاغنر” يصل ذروته وينتهي خلال 24 ساعة
أعلن الكرملين التوصل إلى اتفاق مع قائد مجموعة “فاغنر”، يفغيني بريغوجين، يقضي بإنهاء زحف قواته إلى العاصمة موسكو، بعدما دخلت بيلاروسيا كطرف وسيط.
ودخلت بيلاروسيا على خط الأزمة بين القيادة العسكرية الروسية و”فاغنر”، بعد 24 ساعة من إعلانها حالة “التمرد المسلح”، ضد الجيش الروسي وسيطرتها على مقر القيادة العسكرية في مدينة روستوف.
وأعلنت الرئاسة البيلاروسية مساء اليوم السبت، أن “بريغوجين وافق على اقتراح لوكاشينكو (رئيس بيلاروسيا) بوقف تحركات مسلحي فاغنر واتخاذ تدابير لتهدئة التوترات”.
وأضافت لقد “استمرت المفاوضات طوال اليوم ونتيجة لذلك، توصلوا إلى اتفاقيات بشأن عدم جواز شن مذبحة دموية على أراضي روسيا”.
وأعلن المتحدث باسم الكرملين، ديمتري بيسكوف، أن بريغوجين سيغادر إلى بيلاروسيا.
وأشار إلى أن الدعاوى الجنائية التي رفعت ضد بريغوجين سيتم إسقاطها، كما لن تتم مقاضاة مقاتلي “فاغنر” الذين شاركوا في التمرد المسلح.
وحسب وكالة “رويترز”، فإن مقاتلي “فاغنر” الذين لم يشاركوا في التمرد، سيوقعون عقوداً مع وزارة الدفاع الروسية.
وشكر الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، نظيره البيلاروسي ألكسندر لوكاشينكو، على جهود في الوساطة التي أدت إلى تراجع “فاغنر”.
تمرّد “فاغنر” يغرق روسيا في حالة عدم اليقين..إليك ما تريد معرفته
من جانبه أمر قائد قوات “فاغنر”، يفغيني بريغوجين، مقاتليه بالعودة إلى معسكراتهم “حقناً للدماء”.
ونشر بريغوجين تسجيلاً صوتياً عقب الاتفاق، أكد فيه وقف تحرك قواته نحو موسكو، بعد أن كان على بعد 200 كيلومتر من العاصمة، حسب قوله.
وقال: “الآن هي اللحظة التي يمكن فيها إراقة الدماء. لذلك، وإدراكاً منا للمسؤولية الكاملة عن حقيقة أن الدماء الروسية ستراق من أحد الجانبين، فإننا ندير أرتالنا ونغادر في الاتجاه المعاكس للمعسكرات الميدانية وفقاً للخطة”.
وحسب وكالة “تاس” الروسية، فإن الدبابات وجميع المعدات العسكرية الثقيلة ووحدات “فاغنر”، غادرت مقر قيادة المنطقة العسكرية الجنوبية في روستوف بشكل كامل.
وأكد حاكم مقاطعة روستوف، فاسيلي غولوبيف، مغادرة المقاتلين مع آلياتهم وتوجهوا إلى معسكراتهم الميدانية.
ونشرت وكالة “سبوتنيك” تسجيلاً مصوراً، قالت إنه لحظة انسحاب قوات “فاغنر” من مدينة روستوف.
وكان بريغوجين أعلن تمرداً مسلحاً ضد الجيش الروسي، أمس الجمعة، بعدما اتهمه بمهاجمة معسكر لمقاتليه وقتل “كمية هائلة” من رجاله.
وتعهد بالانتقام بـ”قوة”، ملمحاً إلى أن قواته “ستدمر” أي مقاومة، بما في ذلك حواجز الطرق والطائرات.
وقال:”يوجد 25000 منا وسنكتشف سبب وجود مثل هذه الفوضى في البلاد”.
ولاحقاً أعلن بريغوجين السيطرة على منشآت عسكرية في منطقة روستوف الروسية، التي تعتبر المقر الرئيسي للقيادة العسكرية الجنوبية لروسيا وموطن لحوالي مليون شخص.
وعقب ذلك أعلن توجه قافلة مكونة من نحو خمسة آلاف رجل إلى العاصمة موسكو.
———————————————
================