بين نيران الأسد وزكاة هيئة تحرير الشام… خسائر متتالية للمزارع السوري/ سامر العلي
لم يكن تعرّض المزارعين للقصف والقتل وتدمير مزارعهم، سبباً مقنعاً لـ “هيئة تحرير الشام” للتوقف عن الاستيلاء على نسبة من محاصيل المزارعين باسم فريضة الزكاة، إذ عملت منذ العام 2019 على فرض ما يسمى زكاة الزروع على المزارعين في عموم مناطق سيطرتها بشمال غربي سوريا، التي تشمل المزروعات كافة، لا سيما القمح والزيتون.
لم يعد المزارع خالد العلام يرغب في زراعة القمح بعد خسارته المدوية للموسم الحالي، بسبب الحريق الذي طاول حقله والذي نتج من قصف النظام من جهة، وفرض هيئة تحرير الشام الإتاوات من جهة أخرى، لينتهي عامه الحالي بخسارة أكثر من 2500 دولار أميركي بعد عيشه على الأمل بغد أفضل.
أكثر ما يشغل بال المزارع عند وصول محصول القمح الى مرحلة النضج، هو القصف المدفعي والصاروخي للحقول الزراعية من قوات النظام، والذي يؤدي الى اشتعال مساحات كبيرة مزروعة بالقمح، هكذا يصف العلام المنحدر من منطقة الأتارب غرب حلب مخاوفه.
يقول العلام في تصريح لـ”درج”: “منذ عام 2020، تتعمد قوات النظام المتمركزة غرب مدينة حلب، قصف الحقول الزراعية لمنطقتنا، هذا العام كنت أنا وأكثر من عشرين مزارعاً ضحايا ذلك القصف الذي أدى الى احتراق 40 دونماً من أرضي، بذلت عليها طوال العام كل ما أملك حتى أحصل على محصول جيد أستطيع بفضله تأمين حياة رغيدة لعائلتي، في ظل واقع الحرب الذي نعيشه منذ سنوات طويلة. بيد أن لقوات النظام رأياً آخر بتدمير معيشتي ومعيشة عائلتي المكونة من تسعة أفراد حرمتهم طوال العام من متطلبات عدة حتى ينجح محصول القمح الذي أحرقه عنصر في قوات النظام بقذيفة محمّلة بالكره والحقد على أطفالي”.
لم تتوقف معاناة العلام عند احتراق أكثر من نصف محصول القمح بسبب قصف النظام، بل هناك جابٍ لما تبقى من المحصول ينتظره على مفرق الطريق البعيد المؤدي الى أرضه، بهدف الحصول على نسبة من الإنتاج باسم الدين والزكاة. يشير العلام إلى ممارسة “هيئة تحرير الشام”، التي بدأت منذ خمس أعوام على التوالي بالاستيلاء على 5 في المئة من نتاج محصوله بعد الحصاد باسم فريضة الزكاة، ليعود خالي الوفاض من نتاج محصوله الذي أحرق النظام أكثر من 40 في المئة منه وصادرت “تحرير الشام” نسبة 5 في المئة منه أيضاً.
تجويع ممنهج
تسببت قوات النظام السوري” خلال موسم القمح الحالي 2023، باحتراق أكثر من 5000 دونم مزروعة بالقمح في مناطق الأتارب، غرب محافظة حلب، وبنش شرق محافظة إدلب، وسهل الغاب غرب محافظة حماة”، بحسب إحصاء لهيئات زراعية عاملة بالمنطقة، حيث تقع تلك المناطق على مشارف نقاط تمركز قوات النظام ونيران مدفعيتها.
منذ العام 2015، صعّدت قوات النظام السوري استهدافها المحاصيل الزراعية في شمال غربي سوريا ، إذ قصفت المزارعين في مرحلة الزراعة و استهدفت المحاصيل الناضجة، حسب الناشط علي الشماس المنحدر من محافظة حماة. يروي الشماس لـ”درج” عن مشاهدته شخصياً مقتل ثمانية مدنيين عند استهداف قوات النظام سياراتهم بصاروخ مضاد للدروع غرب حماة خلال موسم حصاد العام 2019، اذ استعملت قوات النظام حينها بحسب الشماس، صواريخ مضادة للدروع في عمليات استهداف المزارعين أثناء حصاد حقولهم، إضافة الى استهداف الحقول بسلاح المدفعية، ما أفضى حينها إلى احتراق نحو 7000 دونم مزروعة بالقمح والشعير في حماة، ونحو 3500 دونم جنوب إدلب.
واصلت قوات النظام استهدافها السلة الغذائية في شمال غربي سوريا، إضافة الى تدميرها بنية المشاريع الزراعية بعد اتفاق شباط/ فبراير 2020، بين الرئيسين التركي رجب طيب أردوغان والروسي فلاديمير بوتين، الرامي الى تهدئة التوترات على الأرض في شمال غربي سوريا بحسب الناشط ثامر العلي، إذ عمدت قوات النظام وروسيا إلى استهداف المزارعين في كانون الأول\ديسمبر من العام 2021 في منطقة سهل الغاب، باستعمال صواريخ الكورنيت المطورة، ما تسبب بمقتل خمسة مزارعين، ثلاثة منهم إخوة، جراء استهداف قوات النظام المتمركزة في معسكر “جب الأحمر” أرضهم الزراعية، ما أدى الى احتراق المزارعين الذين كانوا يعملون بالأرض، كما استهدفت قوات النظام حينها بصواريخ الكورنيت، ثمانية سيارات زراعية عائدة الى مدنيين يعملون في حقولهم.
كذلك، عملت قوات النظام خلال شهر كانون الأول 2020، والذي يعتبر باكورة الأعمال الزراعية في شمال غربي سوريا، من قطاف الزيتون وزراعة القمح والشعير والمحاصيل الصفراء، على تجربة نوع مطور من صاروخ كورنيت الروسي الصنع على أجساد المزارعين بحسب الضابط المنشق عن قوات النظام حامد العبد الكافي، والذي كان يعمل على صواريخ مضادة للدروع. يروي الكافي لـ”درج”، أن نظام الأسد امتلك نوعاً مطوراً من صواريخ كورنيت في العام 2020 ذات مدى يصل إلى 10 كيلومترات، في حين كانت الصواريخ التقليدية من نظام كورنيت لا تتعدى مسافة 5 كيلومترات، ويطلق على النظام المطور اسم Kornet-EM 9M133FM-3، تمت تجربته في ريف اللاذقية الشمالي وريف حلب الغربي وريف إدلب الجنوبي وحماة الغربي، أدت بمجملها الى مقتل 14 مدنياً يعملون جميعهم بالزراعة حينها.
وسّعت قوات النظام من دائرة استهداف المحاصيل بقذائف المدفعية والصواريخ، ولم تقتصر على القمح فقط، إذ شمل القصف مزارعي الزيتون والتين والكرز في منطقة جبل الزاوية، بحسب المزارع سرمد الإدلبي الذي كان شاهداً على مقتل جاره أبو نجم في جبل الزاوية في شتاء العام 2022، إثر استهداف قوات النظام سيارته بصاروخ كورنيت بمحيط قرية البارة، ما أدى الى مقتله فوراً أثناء عمله بتقليم أشجار الزيتون بحقله. ومع تكرار عمليات القصف والاستهداف من قوات النظام للمزارعين وحقولهم، بات السكان يخشون من العمل في الحقول بخاصة المكشوفة على نقاط قوات النظام، الأمر الذي أفضى الى إهمال الأشجار وإصابتها بالآفات الزراعية وتراجع الإنتاج، الذي ينعكس سلباً على حياة المزارعين ومعيشتهم.
استيلاء بذرائع مختلفة
لم يكن تعرّض المزارعين للقصف والقتل وتدمير مزارعهم، سبباً مقنعاً لـ “هيئة تحرير الشام” للتوقف عن الاستيلاء على نسبة من محاصيل المزارعين باسم فريضة الزكاة، إذ عملت منذ العام 2019 على فرض ما يسمى زكاة الزروع على المزارعين في عموم مناطق سيطرتها بشمال غربي سوريا، التي تشمل المزروعات كافة، لا سيما القمح والزيتون.
تعمل “هيئة تحرير الشام” سنوياً، على تعيين موظفين موسميين لثلاثة أشهر في “دائرة الزكاة”، مهمتهم إقامة حواجز على مفارق الطرق ومداخل البلدات في محافظة إدلب وغرب حلب لإيقاف السيارات والجرارات الزراعية المحملة بالمحاصيل، وقياس وزن المحصول المعبأ بالسيارة أو الجرار باستخدام تقنية التكعيب، أي يعمل الموظفون على قياس طول ومحيط كمية القمح المحملة واقتصاص 5 في المئة من المحصول، فالمزارع الذي وصل نتاج محصوله مثلاً الى عشرة أطنان، يقتطع الموظفون منه بشكل فوري 500كيلوغرام.
المعاملة لا تتغير في حال تعرض محصول المزارع للقصف أو التلف، كحالة المزارع وليد الجلال المنحدر من منطقة “معرتمصرين”، والذي أصيب محصوله من القمح بأمراض خلال الموسم الفائت، ولم يتعدَّ الإنتاج لديه من 20 دونماً الـ 3 أطنان، إلا أن موظفي هيئة الزكاة رفضوا إعفاءه واستولوا على 150 كيلوغراماً من محصوله.
أما المزارع جابر الصماح المنحدر من جنوب محافظة إدلب، فظن أنه سيُعفى من فريضة الزكاة بعد احتراق مساحة كبيرة من حقله جراء قصف قوات النظام، بحسب روايته لـ”درج”، لكن لم يراع موظفو الزكاة حاله بعد خسارته غالبية محصوله بقذائف النظام، الأمر الذي أوقعه بمشكلة مع هيئة تحرير الشام بعد رفضه تسليم جزء من نتاج باقي محصوله لهيئة الزكاة، التي عملت على استدعاء الجهاز الأمني وحبس الصماح لمدة أسبوع بتهمة الامتناع عن تأدية فريضة الزكاة.
أنشأت هيئة تحرير الشام “هيئة الزكاة العامة” في مناطق سيطرتها في العام 2019، على أن تتبع هيئة الزكاة لقيادة تحرير الشام مباشرةً من دون مرجع لحكومة الإنقاذ الجناح الإداري لهيئة تحرير الشام في إدلب، وضمن خمسة مديريات توزع عمل هيئة الزكاة ( ادلب- اريحا – سلقين – معرتمصرين – جسر الشغور – الدانا)، مهمتها اقتطاع نسبة مئوية من محاصيل المزارعين سواء كانت خضاراً أو قمحاً أو أشجاراً، وغالبية نسبة الاقتطاع تكون بين 5-10 في المئة، تذهب لهيئة تحرير الشام التي تدعي أنها تعمل على توزيعها على العوائل المحتاجة، إضافة الى دفع أقساط مالية لبعض طلاب الجامعات المنحدرين من أسر فقيرة في مناطق سيطرتها.
قدّر فريق “منسقو استجابة سوريا” نسبة الفقر بين السكان في شمال غربي البلاد بـ90 في المئة، تشمل حوالى ثلاثة ملايين نسمة، في حين يعمل بالإدارة الأساسية لهيئة الزكاة موظفون مقربون من الدائرة الأولى لقادة هيئة تحرير الشام، وتُعد رواتب هيئة الزكاة الأعلى بين رواتب الإدارات التابعة للهيئة، إذ يتراوح راتب الموظف فيها بين 250-350 دولاراً أميركياً، في حين تعمل بشكل سنوي على توظيف عمال موسميين في فترات الحصاد، مهمتهم إنشاء حواجز للمحاصيل، ولا تتعدى رواتبهم شهرياً الـ 150 دولاراً أميركياً بواقع عمل 12 ساعة يومياً، بحسب منشوراتها على صفحتها في “فيسبوك”.
مع استمرار عمليات القصف المدفعي والصاروخي لقوات النظام على الحقول الزراعية من جهة، واستمرار هيئة تحرير الشام بالتضييق على المزارعين من جهة أخرى، يحذر المهندس الزراعي راتب الخياط من ارتفاع نسب الفقر والبطالة في شمال غربي سوريا، لأن المزارعين لم يعودوا ينظروا إلى أراضيهم كمصدر رزق، وربما سيعزف أكثر من 30 في المئة من المزارعين في العام المقبل عن زراعة أراضيهم، وبالتالي سنكون أمام تفاقم في مستوى الفقر ومعدلات البطالة، في حين يعمل ما تبقى من المزارعين تحت دائرة الخطر من الموت، الأمر الذي سيؤدي الى نتائج كارثية للمحاصيل التي تحتاج الى رعاية باستمرار، ويخشى المزارع في المناطق المواجهة لمناطق سيطرة قوات النظام أن يكون ضحية في أي لحظة.
يزور الخياط حقله زيارات قصيرة ويقوم بأعماله بشكل سريع ومبكر خوفاً من الموت، ما يفضي إلى رداءة المنتج الذي سيصل الى الأسواق بشكل سيئ كحال القمح هذا العام، إذ اضطر المزارعون للحصاد قبل الوقت المثالي بسبب تخوفهم من قصف قوات النظام للحقول، الأمر الذي أدى الى وجود رطوبة في حبوب القمح، ما ينعكس سلباً على الأسعار وجودة المنتج بالأسواق.
درج