أربع قصائد للشاعر الايرلندي شيموس هيني ترجمة سركون بولص
حَـفْـر
بين إصبعي وإبهامي
يرتاحُ القلمُ الرّبْعة؛ لابقاً مثل مسدس.
تحت نافذتي، صوتٌ نظيفٌ سافعٌ
عندما يغوصُ الرَّفشُ في الأرض الحَصِبة:
إنه أبي، يحفرُ. أنظرُ الى الأسفل حتى أرى
عجيزته تنحني بين مشاتل الأزهار
وتعتدل عبرَ عشرين عام
عاكفةً بايقاع بين أثلام البطاطس
حيث كان يحفرُ.
جزمتهُ الخشنة، على عُروة الرفش،
والعمودَ تلقاءَ باطن الركبة، مُستكنّة،
ومصوَّبةٌ باحكام.
كان يقتلع الأرؤسَ الطويلة، يدفنُ الحافّة البرّاقة
عميقاً ليبعثر بطاطسَ جديدة اقتطفناها
عاشقين صلابتها الباردة بين أيدينا.
كان العجوزُ، وربّي، ماهراً في الاشتغال بالرفش.
تماما مثل أبيه العجوز.
كان بامكان جدّي أن يجزّ من السَّرخَس في نهار واحد
أكثرَ من أيّ رجل آخر في مستنقع “تونر”.
ذات مرة حملتُ اليه الحليب في قنينة
لها سدّادة غير مُحكمة، من ورق. استقامَ
لكي يشرب، وبعد ذلك انهمكَ لفوره
ينخسُ ويقطّع، بملاسة. يطَّرحُ الأتربة
بحثاً عن الخَثَّ. حافراً.
إن شذى عطَن البطاطس البارد، والتَخافُق النَّسغيّ
للخثّ اللَّزج، والجزَّ القاطع لحافّة الشفرة
خلال الجذور، كلُّ هذا يستيقظُ في رأسي.
لكنني لا أملكُ رفشاً لأتبع رجالا مثلهم.
بين إصبعي وإبهامي
يرتاحُ القلمُ الرّبعة.
سأحفرُ به.
————————————–
عرّافة
تحرّكَ لساني، مصراعاً مؤرجَحاً، يرتاح.
قلتُ لها، “ماذا سيحدثُ لنا؟”
وكما قد يهتزُّ ماءٌ منسيٌّ في بئر
على وقع انفجارٍ في الصباح
أو يتسلّق صِدْعٌ بُرجاً
بدأت بالكلام.
«أخالُ أن شكلنا بذاته محكومٌ عليه
بالتحوُّل. كلابٌ في حصارٍ. نِمالٌ. انتكاسُ عُظاءات.
ما لم يجد الغفران عَصَبهُ وصوته،
ما لم تخضرّ الشجرة المخوَّذة والنازفة
وتفتح براعمها كقبضات الرُضَّع
ويُفقّس الثُفْلُ المقـذَّر
حوريّات وضيئات… شعبي يفكّرُ بالمال
ويتكلمُ عن المنافع. حفّارات النفط تُهدِّدُ مستقبلهُم
على فروعٍ مُفردةٍ، جشعة. الصمتُ
فاضَ، في لقّاطات الصدى، في قوارب الصيد.
الأرضُ التي ألصقنا بها أُذنَنا لهذا المدى الطويل
مسلوخةٌ ومُشرَّجة، وأحشاؤها
فُسطاطُ نبوءةٍ عاقّة.
جزيرتنا ملأى بضوضاءٍ لا تبعثُ على الراحة”.
—————————-
قُطاف العُلَّيق
في أواخر آب، كانت ثمارُ العُلّيق تنضجُ
ماتحةَ لأسبوعٍ كاملٍ، من المطر الغزير والشمس.
أولاً، واحدةٌ فقط، كتلةٌ بنفسجية لمّاعة
بين الأُخَر، حمراءُ، خضراء، صلبةٌ مثل عِقْدة.
كنتَ تأكلُ تلك الأولى، وكان لحمها حلوَ المذاق
كخمرةٍ متكثِّفة: كان فيها دمُ الصيف
يتركُ لُطَخاً على اللسان، وشهوةً
للقُطاف. ثم كانت الحمراءُ منها تتحبَّر، وذلك الجوع
يبعثُ بنا حاملين صفائحَ الحليب، عُلَب اللوبياء، والمُربّى
الى حيث تخدّشنا الأشواك، وتغسلُ جزماتنا الأعشابُ
النديّة.
حوالى حقول التَّبْن، والقمح، وأثلام البطاطس
كنّا نسرحُ ونقطفُ حتى تمتلئ العُلَب،
حتى تغطي الثمار الخضراءُ قيعانَها المُرنّة،
وفوقها طُفوحٌ قاتمةٌ كبيرة تتّـقِدُ
مثل صُحفةٍ من عيون. كانت أيدينا مُفَلْفَلةً
بنخسات الشوك، وراحاتنا لزجة “كراحتي” اللحية
الزرقاء
الثمارُ الطازجة كنزناها في الزريبة.
لكن عندما كان المغطسُ قد امتلأ، وجدنا فراءً،
أُشنةً رمادية مثل فأر، تطفحُ فوق ذخيرتنا.
والعصيرُ كان مُنتناً أيضاً. ما إن كانت الفاكهة
تُقطفُ من الشجرة، حتى تتخمّر، حتى يتحمّض اللحم
الحلو.
كنتُ دائماً أشعرُ برغبةٍ في البكاء. لم يكن من العدل
أن يفوحَ كلُّ ما تحتويه العُلبُ، بالنتانة.
في كل سنة، كنتُ آملُ أن تبقى كما هي، وأعرفُ
أن ذلك لن يكون.
—————————————-
شَرْبةُ ماء
كانت في كلّ صباح تأتي لتسحب الماء
كخفّاشة عجوز تترنّح عبر الحقل:
سُعال المضخّة الديكي، قرقعةُ السَّطْل العالية
وتلاشيها البطيء إذ يمتلئ،
كان يُعلن عنها. إنني أذكر
مريلتها البيضاء، المينا البيضاء المجدورة
لِسَطَلها الطافح، والصريف العالي
لصوتها، كمقبض المضخَة.
في الليالي التي يرتفعُ فيها القمر
عبرَ جَمَلونِ بيتها، كان يعودُ لينحدر
خلال شبّاكها، ويرسبُ في الماء الموضوع على المائدة.
حيث غرفتُ منه لأشرب ثانيةً،
لأكون مخلصاً للوصيّة المنقوشة على كأسها،
«تذكّر العاطي”، باهتة على شفة الكأس