سياسة

النظام السوري والاستثمار في الزمن/ سليمان الطعان

يعرف المتابعون للشأن السوري في العقود الماضية أن اللعب على العامل الزمني من أهم مبادئ العمل السياسي عند النظام السوري. وتستند استيراتيجية النظام على أن الزمن كفيل بتلافي أخطائه وخطاياه، فالأوضاع ستتغير بفعل حدث ما إقليمي أو دولي، وسيتقدم النظام بما هو نظام وظيفي ليعرض خدماته التي ستكون محل ترحاب وتقدير من قبل القوى الإقليمية والدولية معا.

يعود هذا المبدأ إلى عالم الدولة القروسطية التي تدور حول “الأمير” كما يوضح ذلك كتاب ميكافيللي الشهير، والتي تجاوزتها الدولة المعاصرة التي تمارس السياسة انطلاقا من إدارة شؤون الناس ومحاولة تحقيق المنافع لهم. وهذا ما يجعل النظام السوري نظاما قروسطيا في ممارسة السياسة، لأن ما يعنيه هو بقاء “الأمير” لا تعميم الخير العام على المواطنين.

وقد نجح النظام في اللعب على العامل الزمني في السياسة الخارجية، لأن تراجع النشاط الاقتصادي بتأثير العقوبات وتأثر حياة المواطنين، والحصار الدبلوماسي، كل ذلك لا يعنيه أبدا، لأنه يمس طريقة حياة المواطنين، وهذا جانب لا يمكن مقارنته بالمكاسب التي سيجنيها النظام من الاستثمار في الزمن، ولاسيما أن النظام حل معضلة الزمن حين أعلن أن “الأبد” هو ما يسعى إليه، ومضمر الكلام أن على الناس احتمال كل ما يفرضه النظام، فهو متعال على الزمن.

“الأبد الأسدي” يشبه مرض السكري، من ناحية أنه يترك آثاره على كل عضو من أعضاء الجسد، وقد تجلت معاندة الزمن، أو “الأبد الأسدي”، في محاولة محمومة لإلغاء قانون التغير، وإبقاء كل البنى الاجتماعية والاقتصادية والسياسية ثابتة، ولعلنا نذكر هنا المقولة التي راجت بعد سقوط المعسكر الاشتراكي في التسعينيات من القرن المنصرم بأن النظام بقي كما هو على الرغم من أن العالم كله تغير من حولنا. كانت تلك تجسيدا واضحا لشعار الأبد في مواجهة قانون التغير الإنساني.

التغير، إذاً، مرتبط بالفعل الإنساني، أي بالعامل البشري الذي يغير عبر سلوكه وعمله وأفعاله الشروط الموجودة، ويهيئ المجتمع للتبدل والتغير، ولا يتم هذا التغير إلا بوسائل وأدوات سياسية واجتماعية واقتصادية. وإذا كان العمل السياسي يمس النظام مسا مباشرا، ولهذا نزل تحريمه، فإن النظام نفسه كان يدرك خطورة السماح بأي هيئة أو منظمة أو جمعية على “الأبد الأسدي”، فأبقى بناء على حاسة الاستشعار السلطوية هياكل ميتة أو شبه ميتة، كحزب البعث الذي استمر واجهة يخفي بها النظام حقيقته الطائفية، ويعمل على شل الفاعلية الإنسانية عبر وضعها في المسارات التي تعيد تأبيده.

بهذه الطريقة ظل كل شيء ثابتا تقريبا، أو هكذا كان يريد النظام ويظن. وهذا الثبات النسبي الذي حققه النظام خلق نوعا من الطمأنينة رأينا تجلياتها في الحسرة على “الزمن الجميل”، وهو زمن كان كل ما فيه رتيبا مكررا على خلاف زمن الثورة الذي عاينا ما جرى فيه من تبدلات وتغيرات وأحداث تختصر أزمنة طويلة من عهود الاستقرار.

كان لمحاولة إلغاء التغير وتثبيت الزمن آثار بارزة في كل النواحي، بما فيها الجانب الثقافي والفكري، فتقييد الفعالية الإنسانية لتناسب “الأبد الأسدي” نتج عنه محاربة العلوم الاجتماعية والإنسانية، وثبات مريع في المعارف المتصلة بها، وهو ما برز لاحقا في تصحر الحياة الثقافية والفكرية، لأن زرع أفكار ورؤى ومقولات جديدة في الساحة الفكرية كان سيؤدي إلى تحريك المياه الأسدية الراكدة. وعلى خلاف هذا سمح النظام بكل ما هو “علمي” لا يمس الجوانب السياسية والاجتماعية، وهو ما ظهر  بعد اللجوء السوري في مدح براعة السوريين في الحرف والمهن، سواء المهن اليدوية أو العلمية، وهي براعة مكتسبة بفعل الخبرات لا تطورها، فالتطور/ التغير في الجانب الإنساني والاجتماعي كان مراقبا ومضبوطا، لأن ثمراته كانت معروفة في مخيلة النظام وأجهزته الأمنية.

أثّر “الأبد الأسدي”، ومحاربة الزمن، ومعاندة التغير، في فهم السوريين للعالم من حولهم، وانخفضت بناء على ذلك عتبة الحساسية لا بالقضايا والأحداث العالمية والإقليمية فحسب، بل بكثير من القضايا التي تخص مجتمعهم أيضا. وسبب هذا أن العالم كان يتغير، لأنه هيأ الظروف والقنوات للناس كي يغيروا واقعهم وشروطه في الوقت الذي وقف فيه النظام السوري معاندا الزمن والتاريخ. باختصار، لم يكن السوري يعرف العالم قبل عام 2011م، لأن وعيه به كان وعيا قاصرا.

كان كل ما سبق نتيجة لكارثة “الأبد الأسدي” الذي أخرج السوريين من سيرورة التاريخ، فلم يعودوا صناع تاريخهم بل أصبحوا منفعلين به، إذ دخلوا تاريخ السلالة التي بدأت على سبيل المثال بتقديم التاريخ الوطني قبل وصولها إلى السلطة عام 1970م، بصورة ضبابية غائمة لا يمكن أن يتبين أي قارئ أو متابع لسردية النظام حول تلك الأحداث والقضايا أي خطوط واضحة تقوده إلى معرفة حتى لو كانت مبهمة بما جرى آنذاك. كان التاريخ الوطني قبل عام 1970م سديما سرعان ما اتخذ شكله المشرق بعد مجيء الأسد.

إلغاء التاريخ حوّل النظام إلى “نص مقدس” يتعالى على الزمن، ولكن المعضلة أن الزمن لا يخضع لمشيئة البشر، فالتغيرات البسيطة التي يحدثها بمروره تكبر بمرور الأيام، هكذا برزت الفجوة بين “المقدس/النظام” والمآلات التاريخية، وكان من ثمرات هذا التناقض ظهور دعوات التطوير والتحديث مع وصول الأسد الابن إلى السلطة، دعوات عبرت عن الفجوة أو الشرخ بين النظام وحاجات الواقع.

لكن معضلة النظام الكبرى تكمن في عجزه عن العيش داخل الزمن الكوني الجديد، فقد بقي في آليات القمع والقتل والسيطرة ينتمي إلى شكل بدائي تجاوزه الزمن الكوني الذي كان يخدم النظام دائما، فمع أن القوى الكبرى سمحت له بالتدمير والقتل إبعادا لأيديها من التلوث المباشر بجرائم إبادة وتدمير ممنهج للعمران البشري والحضاري، فإنها لن تسمح له بالعودة إلى العالم مجددا، لأنه نظام تركه الزمن خلفه، فالأنظمة في العالم كله بما فيها أشد الأنظمة قمعية ودكتاتورية طوّرت وسائل الضبط وأدوات السيطرة على محكوميها لتتجاوز استعمال الطائرات والمدفعية والبراميل المتفجرة وأسلحة الدمار الشامل.

حين تلعب على وتر الزمن، وتأتي الأحداث والتطورات مفيدة لك في كل الأوقات، فلا تستغرب إن وقف الزمن ضدك مرة واحدة، هي المرة الأخيرة لك في استثماره.

تلفزيون سوريا

Show More

Related Articles

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Back to top button