تلعفر: الوضع “الطبيعي” الجديد لمعقل “داعش” القديم/ فيكين شيتريان
في حين تعود الحياة ببطء إلى المدينة، فقد غيرت عقود طويلة من الحروب تركيبتها السكانية. ففي الماضي كان معظم سكان تلعفر من السُنة، أما الآن فقد بات معظم سكانها من الشيعة. وبينما يتحدث وجهاء المنطقة عن عودة الحياة إلى طبيعتها، لم تلتئم الجراح التي خلفتها الحروب بعد
تقع بلدة تلعفر على بُعد ساعة واحدة فقط بالسيارة من الموصل، العاصمة الشمالية للعراق. ويمتلئ الطريق بنقاط تفتيش عسكرية تابعة لقوات “الحشد الشعبي” (أو الحشد)، مزينة بالأعلام الملونة. وتظهر صور قاسم سليماني وأبو مهدي المهندس في كل مكان، وهو ما يكشف تأثير الميليشيات الشيعية وإيران في هذا الجزء الشمالي من العراق. قبل بضع سنوات، كانت تلعفر معقلاً رئيسياً لتنظيم “الدولة الإسلامية” (داعش)، الذي خاض حرباً لا هوادة فيها ضد الشيعة.
يقول لي الشيخ جمال الطحان، أحد زعماء قبائل تلعفر السنية المهمة: “كل شيء الآن يبدو طبيعياً في تلعفر”. بحسب التقديرات المختلفة، فقد عاد نحو 60 في المئة من السكان الأصليين البالغ عددهم 225 ألف نسمة إلى هذه المدينة حتى الآن. في وسط المدينة تمكن ملاحظة أن هناك الكثير من المنازل والشقق المعروضة للبيع. في حين تعرضت منازل أخرى للتدمير، ربما جراء الغارات الجوية التي يعود تاريخها إلى الأوقات التي حاولت فيها القوات العسكرية الأميركية استعادة المدينة من أيدي الجهاديين.
يُشكل التركمان ثالث أكبر مجموعة عرقية في العراق بعد العرب والأكراد. وفي تلعفر، يمثلون مجتمعاً منعزلاً يعيشون في ما يشبه جزيرة تركمانية تقع بين صفيحتين تكتونيتين كبيرتين: محاطة بالعرب من الشرق والجنوب، والأكراد من الشمال والغرب. وتقع تلعفر على منتصف الطريق بين الموصل وسنجار. في أعقاب الغزو والاحتلال الأميركي للعراق، أصبحت تلعفر بؤرة للجهاديين، أولاً بسبب أتباع جماعة “التوحيد والجهاد” بقيادة أبو مصعب الزرقاوي، وبعد ذلك مع تنظيم الدولة الإسلامية أو “داعش”. وأبرزهم كان أبو إبراهيم الهاشمي القرشي الذي قاد تنظيم “داعش” عام 2019، بعد مقتل أبو بكر البغدادي، الذي أعلن نفسه “خليفة” للدولة الإسلامية.
عندما غزت الولايات المتحدة العراق في عام 2003، أصبحت تلعفر مركزاً مهماً للمتمردين السُنة. فمن ناحية، تضم المدينة الكثير من ضباط الجيش والأمن والشرطة التابعين لقوات صدام حسين، والذين أصبحوا عاطلين عن العمل وغاضبين في أعقاب الاحتلال الأميركي. بالإضافة إلى ذلك، أصبحت تلعفر ممراً للمقاتلين الجهاديين الأجانب القادمين من سوريا، التي لا تبعد حدودها سوى 70 كيلومتراً إلى الغرب. اضطرت القوات العسكرية الأميركية إلى تنفيذ عملية كبيرة عام 2004 لطرد المتمردين الجهاديين، بيد أنها لم تترك سوى عدد قليل من القوات للحفاظ على المدينة. بعد ذلك، شن الأميركيون عمليات سنوية متكررة ضد المتمردين السُنة في تلعفر، إلا أنهم لم يحققوا سوى نتائج موقتة. فقد كانت الأحياء السُنية في شمال المدينة وشرقها تسقط في أيدي القوات الجهادية بمجرد انتهاء العمليات الأميركية، وانتقال القوات إلى مناطق أخرى.
ما لم يُعرف كثيراً عن تلعفر، هو أنها شهدت حرباً أهلية طائفية عنيفة مباشرة بعد غزو الولايات المتحدة للعراق. عندما قرأت تقارير صحافية عن كيفية تقسيم المدينة بين الأحياء السُنية والشيعية، حيث بدأت الميليشيات المسلحة في خطف وقتل المدنيين بعد التحقق من بطاقات الهوية واكتشاف أنهم من الطائفة “الخطأ”، فضلاً عن هجمات القناصة وقذائف الهاون التي تعرضت لها الأحياء الأخرى، كل ذلك ذكرني بمسقط رأسي في مدينة بيروت خلال الحرب الأهلية اللبنانية الطويلة من عام 1975 إلى عام 1990. كانت حربنا الطائفية بين المسلمين والمسيحيين، أما في تلعفر فقد كانت الحرب بين السُنة والشيعة.
كيف بإمكان التركمان بوصفهم أقلية مزدوجة- عرقية ولغوية- وبخاصة في تلعفر المعزولة بين مجموعتين عرقيتين أكبر من العرب والأكراد، وفي ظل ظروف الاحتلال الأجنبي، ألا يظهروا مثالاً على التماسك والتضامن في ما بينهم. وبدلاً من ذلك، حوّلوا مدينتهم إلى ساحة قتال، وأحد أسوأ الأمثلة على العنف الجماعي. ما هو التاريخ الحقيقي لتلعفر والعراق والشرق الأوسط الذي ينتج مثل هذا العنف الجماعي؟
من الواضح أنه كان هناك تسلسل اجتماعي هرمي معين في تلعفر خلال فترة حكم صدام حسين. فقد كان السنة ممثلين تمثيلاً زائداً في الوظائف الحكومية، لا سيما بين ضباط الشرطة والجيش. وحتى في الموصل، كان ضباط الشرطة في الغالب ترجع أصولهم إلى تلعفر. وعندما حلت قوات الاحتلال الأميركية الجيش وبدأت عملية “اجتثاث حزب البعث”، طُرد السُنة من المناصب الحكومية. وجند الأميركيون بدلاً منهم أشخاص من المجتمعات الأخرى في الشرطة والجيش، وفي حالة تلعفر كانوا من الشيعة. ونتيجة لذلك، لم يفقدوا مكانتهم المهيمنة السابقة فحسب، بل باتوا ينظرون إلى جيرانهم الشيعة على أنهم “متعاونون” مع الاحتلال الأميركي.
كان العنف الذي اندلع نتيجة ذلك لا حدود له. ففي هجوم انتحاري وقع في الأول من نيسان/ أبريل 2007، تسببت شاحنة تنقل 1800 كيلوغرام من المتفجرات في مقتل 152 شخصاً في أحد الأحياء الشيعية وأسفر عن إصابة عدة مئات من الأشخاص. وقد شهدت تلعفر أكثر من 5 آلاف حالة وفاة خلال سنوات من الصراع الطائفي.
“داعش” واختطاف النساء والأطفال
وفقاً للصحافي جعفر التلعفري، اختطف “داعش” 1300 مدني من التركمان، بينهم 460 امرأة وفتاة و120 طفلاً. تماماً مثلما اختطف التنظيم واستعبد النساء الأيزيديات، فقد عاملوا النساء التركمانيات الشيعيات بالطريقة نفسها. بيد أن المجتمع التركماني، بدافع من حفاظه على التقاليد القديمة، لم يعلن عن هذه الجرائم، ولا يزال مصير غالبية المختطفين مجهولاً.
حتى تركيا، التي تصور نفسها مدافعة وحامية للتركمان العراقيين، فهي تعامل سكان تلعفر على أساس هويتهم الطائفية لا هويتهم العرقية. بعبارة أخرى، تدعم تركيا التركمان السُنة في تلعفر لا الشيعة الذين انضموا لاحقاً إلى “قوات الحشد الشعبي” ذات الغالبية الشيعية الموالية لإيران.
في حين تعود الحياة ببطء إلى المدينة، فقد غيرت عقود طويلة من الحروب تركيبتها السكانية. ففي الماضي كان معظم سكان تلعفر من السُنة، أما الآن فقد بات معظم سكانها من الشيعة. وبينما يتحدث وجهاء المنطقة عن عودة الحياة إلى طبيعتها، لم تلتئم الجراح التي خلفتها الحروب بعد، ولا يزال مصير مئات التركمان الشيعة الذين اختطفهم “داعش” مجهولاً.
درج