ذكريات عن سوريّا (1855)*
أو. إ. سينكوفسكي**
ترجمة- نوفل نيوف- عادل إسماعيل – مترجمان سوريان
عندما تتخطى مرحلة عنفوان الشباب وأنت مسرع الخطى، التفتْ إلى الوراء قليلًا، وألقِ نظرةً على تلك المرحلة من العمر التي خلفتها وراءك، ترَ أنها أشبه بحقل مزروع عاث فيه فصيل رهيب من الأعداء، فغدا خَرِبًا، مفروشًا بسيقان نباتات من الانطباعات يابسة. وبعض تلك النباتات أصابه اليتم وظل قائمًا في هذا الحقل وكأنه مكسوّ بالأوراق، فيما تتمايل هنا وهناك زهرة شبه مسحوقة على ساق وحيدة لم تغمرها رمال الماضي … لقد مررتَ بهذه النباتات مسرعًا ذات يوم، ولكنك لم تكد تلحظها. إن المصادفة هي التي أبقت على الجذور. ولكن الريح القائظة، الشديدة التي ساقتك أمامها وهي تلهب قلبك، هي نفسها الريح التي أيبستها وجردتها من النسغ واللون. إنك تتمنّى أن تكافئ ذلك الإهمال القديم، وأن تستمتع الآن بما لم يتسنّ لك تدقيق النظر فيه آنذاك: لقد لامستها بفكرك، فاستحالت في لمح البصر هباء منثورًا. وفي هذه الفوضى من الانطباعات والمشاعر المدعوكة، المترمّدة، في هذه المقبرة الفسيحة من الآمال التي دُفِنت من غير شواهدَ أو ذكريات، ربما كان يرقد حبك الأول، ومبرّةٌ جُلّى أتى بها صديق!.. ولكن إذا كان ما يزال قائمًا في وسط هذه المقبرة تمثال متين ورائع، لم تفسده بعد ريح الأهواء اللاذعة، فلا شك في أن هذا التمثال يجب أن يكون قد شُيِّد تكريمًا لمنظر خارق في الطبيعة كان قد أدهشك في صباك. إن الانطباعات القوية التي تولدها الطبيعة الميتة تنحفر في روحنا أشدّ عمقًا، وتدوم فيها مدّة أطول ممّا يدومه كل ما في الحياة من أحاسيسَ أخرى، مهما قال الذين يكتبون تاريخ قلبنا البائس. لا أظنّ أن ابن السهول يتسنّى له، إذا ما انتقل إلى جبال شامخة، أن ينسى صورة تلك الجبال يومًا، ذلك أن عشر صور لأناس نحبّهم أعظمَ حبّ تمرّ عبر الروح وهي تلتهم ويمحو بعضها بعضًا، ولكن مشهد الجبال الرائعة التائهة في السحاب، والمكلّلة ببياض ثلج أبدي، هو مشهد لا يمّحي أبدًا. وكلما امتدّ الفاصل الزمني بين الفكر والانطباعات التي يتركها منظر الجبال، أمعنتِ الذكريات بتزيين هذه الجبال بأبهى الصور في ذهنك. إن التعب والصعوبات وأنواع الحرمان التي لا بد منها في هذا النوع من الرحلات، سرعان ما تختفي من الذاكرة حالما يعود المرء إلى مسرات الحياة المألوفة، ولا يبقى لديك إلاّ الافتتان بحالتك غير العادية وأنت على سطح الكوكب الذي تقطنه.
إنني أرى أمامي الآن ملامحَ هائلة لصخور باذخة تمتد سلسلةً صخريةً مثلثةً على طول سوريّا التي لوّحتها الشمس، حيث تصرَّمت واحدة من أشد سنوات عمري إيلامًا وأكثرها تنوعًا. فقد كنت مدفوعًا بذلك النهم للعلم، وتلك الثقة بقواي، والاستهانةِ بصحتي، وبعنادي من أجل تحقيق الهدف الذي طالما حلمت به، أي مدفوعًا بما يسهل تصوره في نفسِ غرٍ يناهز العشرين من عمره، يوم انطلقت مسافرًا دون مُرافق أو مال، إلى مخدع الطبيعة المترامي هذا، أحد أروع المخادع التي شيدتها الطبيعة على الأرض دليلًا على جبروتها. أقدمت على ذلك دونما تفكير بخطر الضياع في هذه المتاهة الرهيبة من قمم تناطح الغيوم، حيث قد يجمّدك بردها في عزّ الصيف، ولا بالوديان السحيقة اللاهبة التي تتلظّى فيها الحياة العضوية بفعل أشدّ حرارةٍ خانقة يمكن أن تصدر عن الشمس. وقد أملت عليّ قلّةُ ما كان لديّ من مال أن أتعجّل معرفة كل ما كان بوسعي أن أعرفه في تلك البلاد، وألاّ أنسى شيئًا ممّا حفظته الذاكرة ذات يوم. كان العرق يتصبب من جبيني وأنا أتنقّل من جبل إلى جبل بكتبي (وكانت الكتب كلَّ ما أملك)، وكانت حنجرتي تتمزّق في وحشتي وأنا أجاهد لبلوغ النطق السليم باللغة العربية على غرار ما تصدح بموسيقاها شفتا درزي أو بدوي وكأنها صوت جرس فضيٍّ كامن في صدر إنسان، فقد سحرت أذني بجدّتها، وأوصلني تعذّر تقليدها إلى القنوط. كانت وديان كسروان الموحشة تحيطني برواق من الجروف الصخرية السوداء، وترجّع صدى جهودي في تعلم نطق هذه اللغة؛ وكثيرًا ما كنت أبتسم مرغمًا، ساخرًا من غرور اللغويّ فيَّ وأنا أرى سحليات متراكضة بمرح فوق الصخور تتوقف على مقربة مني وهي تفتح أشداقها عجبًا من نطقي الأصواتَ الحلْقية التي شدّ ما كنت أجهد نفسي في استخراجها من أعماق رئتَيّ، وعندما أعود إلى الوكر الذي أسكنه في ديرٍ مارونيٍّ ما، كنت أيضًا أنهك قواي بالانكباب على مخطوطات سريانية وعربية عثرت عليها في مكتبة فقيرة لدى راهب متعلم. فكنت أسرع بتسجيل وصف لأكثرها إثارة للفضول، وأقرأ على عجل تلك المخطوطات التي لم أتمكن من نسخها، وأدوّن استنتاجاتي، وأضع إشارة على ما أجد فيها من عبارات بديعة أو أقوالٍ بلهاءَ سمعتها باللغة المحكية، فأحاول طوال الليل حفظها عن ظهر قلب. إن إمضاء ساعتين، وعلى الأكثر ثلاث ساعات من الاستراحة على البلاط العاري، رفقة القاموس بدلًا من الوسادة، كان كافيًا لأن أستعيد نشاطي كي أرغم نفسي من جديد على القيام بأعمال لم يكن يقطعها إلا سعيي لاصطياد عقرب أو أبو بريص (يكتبها كما تنطق بالعربية – م.) يدبّ على حائط الصومعة الرطب، أو سحلية بريئة، بل وجميلة، ولكنها تترك في النفس تقزّزًا لا يمكن التغلب عليه. ولمّا استنفدت في غضون بضعة أيام حكمة الدير الفقير، توجهت لمواصلة البحث عن تمارين جديدة، ومشاطرة نسّاك آخرين طبَق العدس المطبوخ بالزيت. وعلى هذا النحو أمضيت ستة أشهر أو سبعة قبل أن يصل بي إجهاد قوايَ الذهنية والبدنية المفرط، والمأكل الخشن غير الصحي، والتعب وشتى صنوف الحرمان، إلى إيقاف حماستي بمرض خطير أسكن صدري جنين معاناة دائمة، ربما هو جنين الموت المبكّر. غير أن هذا الدرس لم يجعل أفكار الصبا تهتدي بصوت العقل. فما كدت أتعافى من حُمّى الجبال حتى انكببت ثانية على اللغة العربية بالضراوة السابقة… وما هي إلا أربعة أشهر حتّى هدّني مرض أشدّ هولًا من سابقه، وما من شك في أنه كان يمكن أن يلقي بعظامي لضباع الشوف لولا أن صديقًا طيبًا عطوفًا (سقط بعد ذلك في جزيرة جاوا ضحية هذا الولع ذاته بالترحال) انتشلني من أعماق جبال لبنان الملفّعة بضباب شتوي قتّال وأمطار باردة، وأرغمني على السفر إلى أفريقيا. لعلّه لا يجوز للمرء أن يعرّض نفسه طوعًا لمزيد من المعاناة؛ ورغم ذلك كله ما تزال تلك السلسلة الجبلية السورية الجبارة تتراءى لي حتى اليوم في ثيابِ حُلمي الأثير الزاهية. لقد طوى النسيان تلك العذابات، ولم تعد الذاكرة تتبيّنها تحت غبار الذكريات القديمة إلا بعُسْر. ولكن عظَمة جبال لبنان وحدها ترتسم حيّة أبدًا في خيالي بعد أن برّدته التجارب، ومرَّ به هذا القدْرُ الكبير من الأطياف والتأملات والآمال العقيمة! وما أزال حتى الآن أحبّ أن أتسلق في خيالي تلك الجروف الصخرية الشاقولية الانحدار في سويسرا الشرق، الجروف التي حفرت فيها يدُ السوري الذي يعشق العمل درجاتٍ لا تُحصى، فجعلت منها سلّمًا إلى السماء، ونقلت إليها من الوديان السحيقة تربة تُزرع فيها صفوف من أشجار التوت الباسقة، والكرمة المثقلة بعناقيد ضخمة تتدلّى منها، أو شعير متواضع. أحب أن أعود بذاكرتي إلى ذاك الغرانيت العاري المنكمش، وكأنه بصدره الأسود يحمي الكون، ذاك الغرانيت الذي يحرثه من حضيضه حتى الغيم أناس يعشقون الاستقلال ويكرهون الدمويين الطغاة. وما زلت أرى أيضًا تحت قدميّ تلك الوديان السحيقة الخضراء القاع، والنهر الأزرق الصاخب، والشريط الزهري من ورود الدفلى المتفتحة على جانبي الماء، والبيوت الصفراء في ضاحية بهيجة، وأرى فوق رأسي تلك الذرى الحادة يحيط بها هنا إكليل من غيوم، مع دير وكنيسة وراء السحُب، وهناك ثلج نقي براق يُبهِر النظر ببياضه تحت نور الشمس، وتزينها خمائل صنوبر فوّاح وأرز توراتي. وأسمع ذاك الصوت الحنون الذي ينساب من الجرس المسيحي صدىً فضيًا مديدًا في غابة من صخور تكاد تلامس قبة السماء، ويملأ الأعالي وطبقات الجوّ بكل قداسة الإيمان؛ (…). وأسمع حتى ذاك الصوت الرنان لعربي يغنّي بملء صدره وصوته الرخيم أغنيةً تمجّد العذراء البتول وهو يهبط سفحًا شديد الانحدار وراء حميره المحمّلة بالتراب، جاعلًا الجبال وسط دولة الإسلام تردّد خلفه أناشيده الدينية بصوت جهير. فليصعد أحدكم خمسة آلاف قدم أو ستةً فوق مستوى سطح البحر ليجد نفسه حقًّا في عالم آخر؛ وليتلقّ بصدره رذاذًا ناعمًا لا يشبهه شيء ممّا كان يستنشقه في السهل من هواء غثّ؛ هنا يجري الدم في عروقك على نحو آخر، وعلى نحو آخر ينبض قلبك، وتنبسط أمامك جملةٌ جديدة من الأحاسيس والأفكار، وتحيطك بمفاهيم جديدة، فالنفس تسمو حقًّا فوق قمم الجبال قدْرَ ما تسمو في طبقات المجتمع العليا. ويخيّل إليك أنك لا تنتمي إلى كوكبك، بل تتحول إلى عقل خارج الجسد، معلّقٍ مثل نجمة في الفضاء اللانهائي، عقل يرسل في الأعالي وميضًا خافتًا، ولكنه يشعّ منه، ولا يكاد يأبه بهذه المغارة السحيقة المظلمة من الأهواء الخسيسة والكبرياء التافه عند بني جنسك. لقد اختفى الإنسان في هاوية لا قرار لها، واندغمت طرقاته وبساتينه وما زيَّن به الأرضَ التي استباحها، بضباب رمادي يشكّل محيطًا من الهواء، وتبدو لك تماثيله ونُصُبه الضخمة نقطةً سوداءَ لا تكاد تراها العين؛ وتتّخذ مدنه الفخمة المكتظة بالبشر شكل أوكارِ نملٍ تافهة، فتتمنّى أن تضعها تحت المجهر لتكتشف دهاء وأخلاق وأعمال الحشرة التي تسكنها، لعلّك تُثري علم الحشرات بفصل جديد عن الإنسان- النملة. إنك لا تقوى على التصديق بأن العظمة والغطرسة والمجد يمكن أن تسكن في هذه الأكوام من الرمل المتلاصق، الغارقة في طبقة من الظلمة القذرة، وتكون على أهبة الاستعداد لأن تصرخ: كلّا! لا يمكن أن يكون لها هنا من وجود!.. وإلاّ توجّب الإقرار بأن المجد والعظمة معروفان أيضا في خليّة النحل ووكر النمل، بل ومعروفان قبل ذلك بوقت طويل في المخادع الفسيحة للنمل الأفريقي الذي يشن الحروب وينهب ممتلكات الديدان ويستعبد المغلوبين! فإما أن ما رأيتُه في السهل مجرّد حلمٍ، أو أن كل ما في العالم يتوقف على ارتفاع الحيز الطبيعي الذي تنظر منه، وعلى بنية عين الإنسان!
لقد تكللت جهودي في دراسة اللهجة العربية المحلية بنجاح زادني غرورًا بنفسي؛ وإني لأعترف بذلك بشجاعة كبيرة ومن دون تواضع كاذب، وكأني أتقنت تعلُّم العمل بالإزميل، فيما لو كنت قد اشتغلت بالنجارة يومًا. وإنّي لأرى بين هذه المهنة وعلم اللغات شبهًا كبيرًا، فالأولى عمل ميكانيكي تقوم به اليد، والثاني عمل ميكانيكي تقوم به أعضاء الذاكرة وأعضاء المضغ والبلع. ولكن التغلب على الصعوبة، حتى في مهنة النجارة، يغدو مصدرًا لخيلائنا وافتخارنا، فكدت أَعُدُّ نفسي ندًّا لأرسطو عندما كان العرب (المفعمون بحبٍّ للغتهم هو عبادة حقيقية بين عشّاق، والذين يقدّرون السجْع الجديد تقديرًا عاليًا، وربما هم في ذلك على حق، يعادل تقديرنا نحن للأفكار الجديدة) يسمّونني فيلسوفًا لأنني كنت أنطق أحرفهم الحلْقية نطقًا جيدًا، أو عندما يجادلونني بأني لست إفرنجيًا، بل «ابن عرَب». لقد تمكّنت من «تدبيج» عشرات من أبيات الشعر الرديئة باللغة العربية، فلاقت نجاحًا كبيرًا بين من حولي، وذاع صيتي في عدد من هذه الجبال المتلاصقة. وكثيرًا ما كان يزورني شيوخ من وجهاء الموارنة والدروز ليدخِّنوا غليون تبغ جبلي مع هذا الإفرنجي الطريف الذي «يعرف ما يقول»، ويستفسروا عن أخبار أوروبا: كيف صحة البابا؟ وماذا يفعل إمبراطور الصين؟ وما أشبه ذلك. إن الأجوبة التي أطلقتُ العنان لخيالي في ابتداعها، جاهدًا ألاّ يتجاوز تشويق الأخبار فيها سذاجة المستمعين ودماثة خلقهم، قد قدمت غذاء وفيرًا للتصورات السياسية عند الشيوخ ورؤساء الأديرة والأساقفة والآباء والرهبان في الشوف. لقد وجد فيَّ هؤلاء الشيوخ، والغالبية العظمى من وجهاء الطبقة الوسطى، رجلًا واسع المعرفة في فن «الفتق والرتق»، أي في فنّ إدارة الدولة. كما أن راهبات أخوية القديسة تيريزا اللواتي عرَّفَني عليهن أسقفُ سوق الكبير العجوز المبجل المرح ذو التربية الكاثوليكية، وبارك لقائي بهن كل يوم، بل والتباري معهن بالسجْع، فقد كنّ في غاية الرضا على ما زوّدتهن به من معلومات عن أزياء النساء في أوروبا ومواد زينتهن. ولكن الرهبان سرعان ما كوّنوا عني صورة بالغة السوء نتيجةَ رأيٍ عبّرتُ عنه أمام جماعة أنعشتْها طلاوة النبيذ «الذهبي»، عندما رحت أبرهن أن الأرض تدور حول الشمس. وبالرغم من مناصرة صديقي الأُسقُف الذي دافع عني بكل قواه، ومن الاستحسان الصاخب الذي أبداه الشيخ بشارة الشهير، السكّير البدين والمرِح الذي يعُدّ نفسه متحرّرًا، وكان، من باب المناكفة، يرى مضحِكًا أن يؤمن المرء بأن الشمس لا تدور حول الأرض في حين أنها تدور حولها بجلاء، لاحظت أن بعض الرهبان، ولا سيّما واحد بينهم مشكوك بأخلاقه ويدّعي أنه عالِم فلَكيّ، يسعون للتشهير بي كهرطوق. فقد طرقت سمْعي مرارًا كلمةُ «فار مازون»، وأثارت في نفسي قلقًا بالغًا. حقًّا، إن كلمة «روسي» التي يكّن لها الناس في هذه الجبال بالغ الاحترام قد حمتْني من إساءة محتملة. غير أن أولى نتائج هذه السمعة وأشدّها إيلامًا كان يمكن أن يتجسد في أنني لن أجد في هذه الديار أحدًا يبيعني جرعة ماء، أو يؤجّرني دابته للركوب خوفًا من أن الحمار الذي يمتطيه ماسوني سينفَق على الفور.
وبالرغم من أن نظريتي عن الشمس قد أثارت الكثير من الفضول حولي عمومًا، وحتى عند الراهبات، فقد قررتُ انطلاقا من التعقل والاحتراس ألّا أسعى للبرهان على أن الأرض تدور حول الشمس. ولم أجادل في هذا الأمر إلاّ على انفراد مع راعي دير مار يعقوب حيث كنت أقيم آنئذ، أي مع صديقي الطيب الذي كان يتوخّى، على ما يبدو، إقناعي ببطلان رأيي حرصًا منه على سعادتي في الحياة القادمة. وقد كان بالغَ الرضا عن نفسه عندما كففت عن الاعتراض عليه، وكان على يقين بأنه أنقذ الشمس من جهة، وروحي من جهة ثانية، ما دام قد جعلني أُفصِح (من باب اللباقة) عن موافقة مصطنعة مع رأيه الذي بناه على شهادة أرسطو الكبير بالذات!
وذات يوم من أيام تموز الرائعة، تلك الأيام التي لا يمكن للمرء أن يراها إلا تحت سماء سوريّا، كنت أتنزه، وكتابٌ في يدي، على سطح دير عينطورة الشهير الذي يقع في واحد من أعظم الأماكن في العالم بمياهه اللانهائية في الهضبة والسفح، أُطِلُّ على الوديان الباذخة، والبساتين الغنية، وكروم العنب والتوت، والبحر المتوسط المترامي في فضاء لا يمكن للنظر أن يحيط به إلا من علوِّ ألفَي قدم. كانت الساعة حوالي الرابعة عصرًا. وكانت الشمسُ تتألّق بكامل بريقها في بلدان الجنوب، وقبةُ السماء اللازوردية تشتعل بأوار حريق حقيقي من نور ينسكب دفقاتٍ مبهرةً خُيّل أنها تتحول إلى زبَد أبيضَ وهي تتكسّر على الأرض الكلسية اللون هنا. وفي الأسفل كان الهواء المصهور يغلي تياراتٍ بالمعنى الدقيق للكلمة، وتتراقص فيه بسرعة غير عادية شذراتٌ، كإبرٍ من نار، متخذة من أشعة الشمس المفتّتة شكل عصيدة متحركة. وفي الأعلى، على ارتفاع الدير، كانت برودة الجو كبيرة، ونسيمٌ لطيف يهبّ من البحر مفعمٌ بشذى الأعشاب العطرية التي تنمو في الجزء الأسفل من الجبال يضفي على الجو طراوةً فاتنة. ولم يكن يعكّر هذا الجوَّ أثر لبقعة في أي مكان. فحتى دير مار يعقوب الذي يحتل عمق هذه اللوحة كان في هذا الوقت قد خلع عن كاهله معطفه الرمادي المصنوع من الغيم. ولمّا كنتُ منكبًّا على القراءة، ظللت مدّة طويلة لا ألحظ أي تغير في ضوء الشمس، وبغتة إذا بلونٍ أصفرَ باهتٍ ينسكب أخيرًا على صفحات كتابي فيثير فضولي. وحين رغبت بالعثور في ما حولي على سبب لهذه الظاهرة، كان أول ما أثار دهشتي حشود من العرب، في ثياب زاهية الألوان، تتجمّع على المرتفعات القريبة. كان الناس يتراكضون من بيوتهم إلى الأسطح وأعالي الجبال، يظهر الاضطرابُ في حركاتهم وضجيجهم. كانوا ينظرون إلى الشمس، فوجَّهت ناظري إلى هناك ورأيت أروع كسوف يمكن للمرء أن يتخيّله. إنه ليتعذّر على المرء أن يرى كسوفًا يفوقه حسنًا وصفاء حتى بواسطة المجهر. لقد كان قرص القمر داكنًا، بنّيَّ اللون تقريبًا، يرتسم بشكل بديع على قرص الشمس الأصفر الهائل المجرّد من الشعاع والبريق.
كان القمر، تابعُ الأرض، يحجب أكثر من نصف الشمس، والكسوفُ مستمرٌّ منذ ما يربو على ساعة ونصف الساعة قبل أن يعلم أحد في الدير بذلك. وكنت أول من أخبر سكان الدير بهذا الحدث الهام الذي في السماء. فاحتشد الجميع على السطح، وأمضينا ساعة ونصف الساعة أيضًا ونحن نراقب بإعجاب هذين الجرمين السماويين الهائلين اللذين كانا يريدان بتقاطعهما، إذا جاز القول، أن يبزَّ أحدهما الآخر بضخامته. كان الكسوف تامًا، وقد تكلّل هذا العرض الدرامي العظيم للكون في كل أجزائه بنجاح باهر لا يضاهى.
لم نولِ كبير اهتمام للناس الذين كانوا يتمشّون بالقرب من الدير، لأنهم كثيرًا ما كانوا يحيطون بالرهبان، وهم وقوف عند البوابة، ليشرحوا لهم بمهابة، سرَّ هذه الظاهرة العجيبة. وفجأة ترامى من وراء الأسوار وقعُ حوافر خيل، وسمعتُ أصواتًا مألوفة تصيح: «هل الفرنجي في البيت؟ الخواجة يوسف وينو؟» (وكنت مشهورًا بهذا الاسم هنا في الجبال).
وسرعان ما صعد الشيخ بشارة متثاقلًا إلى السطح بجسده الضخم وهو يحشر كرشه بصعوبة داخل درج ضيق شديد الانحدار كان صلة الوصل مع الطابق السفلي للدير. وحضر معه عدد من أشهر شخصيات الموارنة في سوق الكبير، وكثير من خدّام الدير. فقد كان راعي الدير أنطون عريضة، معلمي الذي لا أنساه ومؤلف الكتاب الشهير في قواعد اللغة العربية، في حالة مرض شديد، وأرسل يطلب مني أن أنوب عنه في استقبال شيخ جليل كان الجميع يتذللون أمامه بصفته حاكم الناحية، ثريًا، ومالك كروم عنب شهيرة تنتج «الخمر الذهبي». فجاؤوا بالسجاد والوسائد، وجلس الشيخ متربّعًا وأشعل غليونه، فجلست قبالته. واتّخذ باقي العرب أماكنهم على أطراف السجادة. وفي هذه الدقيقة بالذات وصل صديقي رئيس دير مار يعقوب، فأدركت على الفور، من سحنته المتكدرة اللاهثة، أنه خفّ للتداول معي حول كسوف الشمس حتمًا. كذلك كان الشيخ البدين يفصح عن حالة قلق، وكان جليًّا أنه يريد أن يسألني عن أمر ما. غير أنه، بوصفه شخصًا فائق التهذيب وعلى قدْر كبير من «اللباقة»، لم يُقدم على ما نوى إلاّ بعد أن أكد لي أن التعب «أنهكه» تمامًا وهو يحثّ الخطى حتى وصل إلى عندي. وبعد أن استعلم عن صحتي اليوم والبارحة وأوّل البارحة، ويوم السبت الفائت والاثنين المنصرم وقبل عشرة أيام مضت، وبعد أن جمع كل هذه المعلومات، رشف من فنجانه قهوة حارّة ثقيلة، وصمت تأدبًا، ثم ألقى نظرة إلى الشمس وإليّ، وقال:
ــ يا نور عيوني، يا صديقي الخواجة يوسف! كَرْمَى لوالدك، قل لي ماذا يعني هذا؟
ــ البركة فيك، يا شيخ! إنه الكسوف.
ــ كأنني لا أرى أن هذا كسوف! ولكن ماذا يعني هذا؟
ــ يعني أن القمر حجب الشمس.
ــ القمر أو الشيطان، إن هذا لا يهمّني. ما أريد أن أعرفه هو ما معنى هذا؟ وبأية مصيبة ينبئنا؟
ضحكت. فتحيّر الشيخ بعض الشيء من مرَحي في هذا الوقت العصيب، وأخرج غليونه من بين شفتيه، وتوسّل إليّ وهو يدّسه في فمي برقّة لا يمكن وصفها:
ــ يا خواجة يوسف! الله يطول عمرك!.. يا مهجة قلبي!.. أنت فيلسوف، فانظر في كتبك وقل لي ماذا علينا أن نتوقّع من هذا! يقولون إن مصيبة كبرى ستحلّ بجبالنا المقدسة؟
فأجبته:
ــ يا شيخ! أنت الرجل الكامل، صاحب العقل، وأبو الفكر… كيف لك أن تؤمن بمثل هذه السخافات؟ فالكسوف أبسط الأشياء، وأكثرها طبيعية في العالم. وسأريك كتابًا مطبوعًا في القسطنطينية يشرح هذه الظاهرة شرحًا مقبولًا، لتقتنع بنفسك أن كسوف الشمس لا يعني إلاّ أن الشمس قد انكسفت، والأمر لا يخصنا أبدًا نحن، عباد الله…
ثم أسرعت إلى غرفتي، وجئته بكتاب جغرافيا حجي- كالفي. واعتمادًا على ما في هذا الكتاب من رسوم، وما خططته أنا على الورق، رحت أحاول بأكثر ما أستطيع من القدرة على الإفهام أن أشرح له موقعَ الشمس في مركز الكون، وحركةَ الكواكب وتوابعها من حولها. ولم يكن الشيخ غبيًا، ففهم جيدًا ما قلته. ثم تناول الكتاب من يدي وتفحصه من كل الجوانب؛ وإذْ أيقن أن الكتاب صادر حقًّا في عاصمة السلطان أبدى أسفه لكونه لا يعرف اللغة التركية. وكان صديقي رئيس الدير يدخن غليونه لا مباليًا طوال هذا الوقت. فقد كان يدّعي معرفة اللغة التركية، خاصة عندما يفرط في الكذب فيستشهد بأرسطو، أو يتحدث عن بولتار الكلب (الكلب فولتير). غير أنه اضطرّ، نزولًا عند طلب الشيخ، أن يعرض هو أيضًا وجهة نظره حول هذا الكتاب العجيب، إلا أنه لسوء حظه لم يفهم فيه كلمة واحدة، فأعاده إليّ مكتفيًا بالقول: «هذا جَغرافيا، علم عن عجائب الكون ونوادره».
أما شيخنا النبيل الذي لم يناقش في يوم من الأيام مسألة كسوف الشمس إلا وزجاجة النبيذ إلى جانبه، فقد أفهمنا وهو يدخن غليونه العاشر أن حلقه قد جفّ تمامًا من الغبار والقيظ. وسرعان ما انحنى أمامه راعي الدير بإبريق مطلي بالصمغ فيه شراب الذهب المعتّق، أو «vin d’oro». عندها اتخذ الحديث منحى آخر، فاسترسل الشيخ في الكلام عن السياسة الأوروبية، وما لبثت أن تتالت الأسئلةُ عن البابا، وإمبراطور الصين، وينغي دنيا، أو العالم الجديد، وغير ذلك. وبدهي طبعًا أن سياسة الشيخ لم تنسَ أن تناقش باستفاضةٍ موضوع النساء الأوروبيات، فأطنب في الحديث عنهن بكلام جميل، ثم وبّخ راهبًا شابًّا ظلّ يبصق طيلة الحديث ويؤكد أنهن «أفاع». وفي الختام أمر الشيخ أحد رجاله، وهو فتى مرح وظريف يتميز بنضارة الوجه وبياضه، أن يغني كما تغني زوجة القنصل الفرنسي في صيدا. فانخرطت الجماعة كلها في الضحك من هذه المحاكاة الكاريكاتورية لألحاننا، ولانفجارات صوتنا الضخمة. وقد كنتُ مضطرًا للاعتراف بأن هذا العربي الساخر نجح أيّما نجاح في التقاط الجانب المضحك من موسيقانا الأوروبية.
ثم غادر الشيخ بشارة مع جماعته كلها وهو بالغ الفخر بـ «مهرّجه» وكسوف الشمس. فودّعتهم إلى ما وراء البوابة، وعدت ثانية إلى السطح.
كنت أظنّ أنهم قد رحلوا منذ وقت طويل، حين سمعت فجأة عند أسفل المبنى كلامًا، بل وتبيّنت من خلاله اسمي بوضوح. ولمّا ألقيت نظرة إلى الأسفل رأيت الشيخ بشارة مرة أخرى وغليونه بين أسنانه، وأمامه إبريقٌ ثانٍ. كان يفترش الأرض مع جماعته مقابل الدير وهم يتداولون في موضوع الكسوف. فأعرتهم أذني وسمعت الحديث التالي:
ــ معلوم! – قال راعي الدير وهم ينصتون إليه كأنه نبي، – إن هذا الإفرنجي الشاب ليس أحمق، فهو «فهيم» جابَ الدنيا، ويقول كلامًا صحيحًا تمامًا عن أشياء شتّى. ولكن لا لزوم لذكر الشمس أمامه. يبدو أن المسكين ممسوس فيما يخصّ هذه النقطة، فما تلبث أن تقول «الشمس» حتى يبدأ يروي سخافات، وأي سخافات، عفوك يا الله!
لم أتمالك نفسي، فضحكت بصوتٍ عالٍ، وكدت أسقط عن السطح عندما سمعت هذه الكلمات التي انغرزت عميقًا في ذاكرتي مع صراحة قائلها ووجهه الذي يميت ضحكًا، حتّى إنني، على ما يبدو، لم أنسَ منها حرفًا واحدًا بعد مرور أربعة عشر عامًا. لقد قلبوا نظريتي كلّها رأسًا على عقب، ورأيتُ أنني عبثًا أجهدتُ نفسي في شرحها للشيخ. فقد أضحى الآن متفقًا تمامًا مع وجهة نظر رئيس الدير والراهب المنجِّم القائلة بأن هذا الكسوف نذير بوقوع انقلاب رهيب في الإمبراطورية العثمانية، إذ سيهبّ المسيحيون في وجه الكفار، وستشتعل حرب في الشرق كله، وأن الربَ سيبتلي لبنان بمحنٍ لا عينٌ رأت ولا أذن سمعت من قبل، وستبلغ سيول الدماء حدًّا، وَفْقًا لقول الرئيس المضطرب، «يجعل العين لا ترى إلا قمم الجبال فوق أنهار الدم». ومضى كلٌ من المشاركين في الحديث يضيف سمةً جديدةً إلى هذه النبوءة القاتمة، حتى بعثت فيهم حتمية وقوعها صيحات استرحام وآهات ثقيلة ممضّة. وحين أفرغوا الإبريق غادروا المكان مسكونين تمامًا برعب تخيلاتهم ورعب ما بثّه كل منهم في صاحبه.
كنت أضحك ملء قلبي من قلّة عقولهم، وعبثا كان ما بذلت في تالي الأيام من محاولات لثنيهم عن إيمانهم بالشبح الذي صنعوه لأنفسهم. وسرعان ما ترسّخ هذا الإيمان في الجبال.
لسوء حظ هؤلاء المساكين -لا العقلِ السليم- اندلعت أواخرَ تلك السنة ثورةٌ في اليونان، وانهالت أوائل السنة التالية على منطقة الموارنة تدابير عنيفةٌ ضاريةٌ فرضتْها الحكومة التركية على رعاياها المسيحيين بكل ما تنطوي عليه من وطأة التزمت وثارات الناس. وأغرق الوالي التركي الرهيب جبالهم بدماء الأبرياء ودموعهم.
ثم التقيت في القاهرة بعضَ معارفي من سوق الكبير وكانوا قد فرّوا من سيف عبد الله الفظيع. فسألوني:
ــ ماذا تقول، يا خواجة يوسف! ما رأيك بالكسوف! ألا تذكر كيف كنت تجادلنا؟
وردًّا على ذلك كنت أمدّ يدي إلى جيبي فأتناول منه صدقة متواضعة لسدّ رمق هؤلاء الذين كانوا قبل مدّة قصيرة يكرِمونني في بيوتهم بسخاء. فكانوا يحاولون تقبيل طرف ثوبي.
يبدو وكأن الطبيعة نفسها تحاول، بالاتفاق مع مصائر جنسنا البشري، ترسيخَ إيمان الإنسان بالتطيُّر. ولم أستخلص من هذا الحدث الذي وقع أمامي ما أضيفه إلى خبرتي الشخصية إلا فائدة وحيدة هي أنني كنت شاهدَ عيان على العملية التي تؤلّف الطبيعةُ والقدرُ خلالها ضلالاتنا، ويُبقيان الشعوب في الجهل.
الهوامش
*المقال منشور في كتاب روسي صدر مطلع الألفية الثالثة هذه في مختارات تحت عنوان «رحالة روس إلى سوريا في القرن التاسع عشر»،
**أوسيب سينكوفسكي (1800-1858) كاتب وناقد وأستاذ جامعي ومستشرق روسي/ بولندي شهير، متعدد المواهب والاهتمامات العلمية والموسيقية والفلكية. أتقن اللغات القديمة، واللغات الأوربية، واللغات الشرقية: العربية والتركية والفارسية. في الثامنة عشرة من عمره ترجم «حكايات لقمان الحكيم» من العربية، وفي التاسعة عشرة ترجم أشعار حافظ من الفارسية. قام برحلة طويلة إلى اسطنبول وسوريا ومصر.