في الإسلامية والبحث عن سلطة/ ياسين الحاج صالح
ظهرت الإسلامية في سوريا في صورة منفرة، فقيرة فكرياً ومملقة أخلاقياً وعدوانية سياسياً، تثير في النفس من نوازع الهجاء ما يشبه ما كان يروج في الأوساط المؤيدة للحكم الأسدي إيديولوجياً، أعني تلك التي يتمازج فيها الطبقي بالطائفي في ازدراء جمهور واسع محافظ ومتدين، مديني وريفي، سني مذهبياً. يتعلق الأمر بقطاعات من طبقة وسطى، «علمانية» دون أن يعني ذلك أنها ليست طائفية بالضرورة، تخشى الجمهور المحافظ، وتود أن تراه مراقباً، مشكوماً، لأنه خطير.
وهو ظهر خطيراً في واقع الأمر، عنيفاً، اقصائياً، بالغ العدائية، مع غرق نخبه السياسية العسكرية في محلية ضيقة، لا تعرف شيئاً عن العالم والقليل عن سوريا نفسها.
لكن ما الذي اجتذب عدداً كبيراً من الأفراد إلى عالم ديني ـ سياسي ـ عسكري عدائي كهذا؟ إلى أن يؤسسوا جبهات وجيوشاً وهيئات متنوعة، تضم الألوف وعشرات الألوف، وتخاطب جمهوراً أوسع بعد؟ هناك إجابة فاشية تقول إن هناك قطاعات مضروبة من المجتمع، لديها مشكلة في رأسها أو في عقيدتها الدينية، والحل هو تحطيمها باستمرار للحد من عنفها وتخلفها وأذاها. الأذرع التنفيذية للحكم الأسدي ليست بعيدة عن هذه النظرية، التي لها صيغة عالمة، يحدث أن تعبر عن نفسها بلغة العقلانية والعلمانية والحداثة، وصيغة شعبية طائفية فاجرة في طائفيتها، وبينهما مراتب تجمع بين وطنية سورية فاشية (آلاف سنين الحضارة، بلد الأبجدية، وحتى 1400 سنة من الاحتلال العربي أو من سيادة «دين الصحراء» إلخ). وفي الممارسة ترجم ذلك إلى استهداف تمييزي لا جدال فيه للبيئات السنية السورية، نشّط بقوة المنازع العدائية فيها.
لكن هناك إجابة معقولة أكثر، لا تستحضر رؤوساً مضروبة وتخلفاً وراثياً، تفيد بأن الإسلامية بأوجهها المختلفة، وبخاصة الوجه الذي يجمع بين السلفية والجهاد (وليس كله سلفياً جهادياً بالدلالة الاصطلاحية للتعبير) توفر أكثر من غيرها فرص ظهور وتمثيل للنفس وصعود اجتماعي وسياسي وحيازة سلطة من نوع ما لألوف وعشرات ألوف البشر، وهذا في بلد لا يتيح فرصاً للصعود الاجتماعي والسياسي إلا لأفراد محدودين جداً وضمن قنوات مرسومة، وتضيق عين حاكميه بحيازة أي من المحكومين سلطة اجتماعية مستقلة عنهم، حتى لو تعلق الأمر بأفراد، دع عنك ظهور مراتب وذاتيات على نطاق اجتماعي واسع، في صورة منظمات اجتماعية أو أحزاب سياسية أو اتحادات ثقافية أو نسوية أو شبابية مستقلة. وإلى ذلك كله وفرت هذه التشكيلات حساً بالبطولة والمغامرة والقيام بالواجب، لا نظير له في العقود الأخيرة في أي أوساط غير دينية.
وفي الزمن المعاصر، لا يقع تطلب الظهور ونيل التقدير والاعتراف، وامتلاك سلطة من نوع ما، خارج منطق الحداثة والديمقراطية بحال، ولا هو عرض لرؤوس معطوبة أو جينات فاسدة أو إيديولوجية دينية خطيرة. بالعكس تماماً، يقع في التطلع الذي يحرك جميع الناس في عصرنا لأن يُروْا ويقدروا، وأن يحوزوا سلطة ما، ربما في مجال الفن أو الرياضة، في مجال الاقتصاد أو العلم، أو في مجال السياسة والتنظيم الاجتماعي، فإن حيل دون ظهور هذه السلطات المتنوعة، وقد حيل طوال نصف قرن على الأقل في سوريا، صار العمل على امتلاك سلطة سياسية عسكرية هو المدخل المحتمل لامتلاك أي سلطة.
وليس في الأمر ما يغاير منطق في انجذاب ألوف الشباب إلى منظمات قومية عربية وشيوعية بين خمسينيات القرن العشرين وثمانينياته. وفرت هذه المنظمات فرص حيازة سلطة وظهور لكثيرين في تلك العقود، وتراجعت قدرتها على الاجتذاب والتأثير بفعل ما تعرضت له من قمع وما عانته من استتباع وركود، فلم تعد تدر على أحد اعترافاً أو قيمة خاصة. بالمقابل، وفرت الإسلامية لشبان من منابت متواضعة، مثل أكثر من انضموا في وقت سابق إلى الأحزاب القومية العربية والشيوعية، فرص دور وقيادة وضروب من التقدير والمكافآت المعنوية يعرف نظائرها جيداً من مروا بالمنظمات الشيوعية وغيرها.
والعتاد الفكري السياسي الإسلامي الذي أخذ بالانتشار الجماهيري في تسعينيات القرن العشرين بسيط ويتيح لكثيرين أن يكونوا حاذقين فيه دون اجتهاد شخصي كبير. هنا أيضاً يناسب أن يتذكر من هم من جيلنا، شبان سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي، كيف تثقف كثيرون منا في منظماتهم الشيوعية، وكيف كانوا على يقين تام بأن ما لديهم من عتاد هو الأعظم في العالم معرفياً وأخلاقياً وسياسياً، مع تواضع ما كان لدى أكثرنا من هذا العتاد. هذا للقول إننا لا نحتاج إلى منطق مختلف أو مناهج مغايرة لفهم الإسلامية التي رأينا صعودها المنفر والقبيح في سنوات ما بعد الثورة في سوريا، وليس لحجب الفوارق بين الأزمنة والحركات والإيديولوجيات. أهم الفوارق أن الشيوعية وفرت لمن اعتنقوها أفقاً عالمياً يتجاوب مع ظهور عالم واحد متفاعل، وإن يكن كثير الانقسامات وتتخلله ضروب كثيرة من عدم المساواة. الشيوعية في أحسن صورها كانت احتجاجاً على هذه الضروب ودفاعاً عن العالمية (الأممية) في آن.
مشكلة الإسلامية أنها صعدت في مجتمعات متأزمة بعمق بفعل حجر سياسي مديد على المحكومين وهزائم سياسية وعسكرية طوال جيلين، وبالتالي في ظل منازع عدائية نشطة أخذت في نصف القرن الأخير بالانعقاد على «الإسلام السياسي». ورغم أن الإسلامية توفر أكثر من غيرها، بل دون غيرها منذ مطلع التسعينيات، تطلعات مغمورين إلى القيادة والسلطة التي تعرف الإنسان كمواطن، إلا أنها نتاج اندحار وفشل، تعيش في عالم فكري فقير وتكراري، غريب عن قفزات في المعرفة والقيم والحقوق خلال العصر الحديث، منعزلة عن العالم ومكتفية ذاتياً بعتاد يزداد فقراً، لا أصدقاء لها ولا حلفاء ولا شركاء. الإسلامية تجمع بين صورة مجتمع متراتب قديم وبين أدوات الدولة الحديثة في السيطرة والاختراق المجتمع، ما يؤهلها لتأسيس نظام رقابة فاشي. وهي حتى كحركة احتجاج انعزالية، لا تعترض على ما في العالم من ضروب تمييز ولا مساواة، بل تريد أن تسود في عالمها لتمارس هي التمييز واللامساواة لمصلحتها. العالم الفكري القيمي للإسلامية يشبه تماماً العالم المتكون في سوريا حول الإجابة الفاشية المشار إليها فوق، عالم غير متحرر، طائفي جداً، مفعم بالكراهية.
وهنا مفارقة إضافية من مفارقات الثورة السورية: من يحركهم مطلب امتلاك السياسة وحيازة اعتراف وسلطة وتقدير، ومن أنتجوا بالفعل هياكل انجذب إليها عشرات الألوف وأكثر وخسر الألوف أو أكثر حياتهم في إطارها، هؤلاء هم أنفسهم من يعادون الديمقراطية، وقد يكتبون عنها على لافتاتهم أنها شرك أو حرام، أو يزعقون بأنها تحت أقدامهم. بالمقابل، من لا يقولون إن الديمقراطية تحت أقدامهم من الأسديين ومن والاهم، لا يعرفون نمطاً للسلطة غير الإكراه الذي يضع الجميع تحت الأقدام. أما من يريدون الديمقراطية، فيبدون عاجزين منذ عقود عن إنتاج أي سلطة، أو بناء أي منظمات قابلة للحياة. الديمقراطية تقتضي وفرة في السلطة والتنظيم لا ندرة لهما.
الغرض من هذه المناقشة القول إن نقد الإسلامية قليل الأثر إن لم يكن جزءاً من مشروع سياسي يعمل على توفير فرص أعلى للتقدير والظهور والسلطة لأعداد أكبر من الناس، أي مشروع ديمقراطي. فالمسألة ليست مسألة عقائد وذهنيات ورؤوس، بل مسألة اجتماع وسياسة وحقوق.
وهي بعدُ لا تقتصر على الإنتاج الاجتماعي لكميات أكبر من السلطة عبر المبادرات الحرة للأفراد والمجموعات، بل ما يثمره ذلك من تحسن نوعية السلطة ذاتها، فلا تقتصر على سلطة على الأجساد، تنتهك وتخيف وتذل، مثلما هي حال سلطة الأسديين والإسلاميين على حد سواء.
كاتب سوري
القدس العربي