قاموس “العروض الأدائية والمسرح المعاصر”: المسرح في قرنين/ جمال شحيّد
في نهاية 2022، أصدرت هيئة البحرين للثقافة والآثار قاموسًا مهمًا عن فنون الأداء المسرحي المعاصر، وهو من تأليف الباحث الفرنسي پاتريس پاڤيس، وترجمة المسرحي السوري أسامة غنم. هذا القاموس، مع كتاب “قصة الفن” لإرنست غومبرتش، هما مَفخرة نشرية تحسب لهيئة البحرين للثقافة والآثار بإشراف الباحث التونسي الطاهر لبيب، الذي أنجز لمشروع نقل المعارف 50 كتابًا مترجمًا من اللغات الأوروبية الكبرى. وهي كتب مدققة بتأنٍ، ومطبوعة بحرفية عالية. وعام 2015، أصدرت المنظمة العربية للترجمة في بيروت كتابًا آخر لپاتريس پاڤيس، وهو “معجم المسرح”، ترجمة ميشال خطّار [كُتب اسم المؤلف خطأً: بافي].
ومن خلال المقارنة بين مداخل القاموسين، تتبين الفروق بين موادهما. ثمّة مواد كثيرة جديدة وردت في “قاموس العروض الأدائية والمسرح المعاصر” لا نجد مماثلًا لها في “معجم المسرح”، ومنها مدخل “السيميولوجيا وما بعد السيميولوجيا”، و”عولمة”، و”غرائبية”، و”أخلاق”، و”استشراق”، و”إعلامية”، و”إيكفراسيس”، و”تحديث”، و”تشويه”… وكذلك الأمر بالنسبة لـ”معجم المسرح”، إذ لا نجد في القاموس الثاني، على سبيل المثال، مداخل مثل: “تدخّل إلهي” (Deus ex machina)، و”غروتسك”، و”جوقة” (chœur)، و”كوميديا دل آرتي”، وجميع تفريعات الكوميديا، و”ديثيرامبوس”، و”مونولوغ”… مما يدل على أن پاتريس پاڤيس أراد أن يصنع قاموسًا أوليًا للمسرح، ويستكمله لاحقًا بمداخل ومعطيات جديدة وحديثة. ولكننا نجد في القاموسين مداخل مشتركة، مع الاختلاف في تناولها. فنرى أن القاموس الأول قد تناول مسألة الإخراج المسرحي المتعارف عليه: وظائفه ومشاكله وتصنيفاته، في حين أن القاموس الجديد تناول الإخراج بوصفه استعارة وتناول الإخراج بعد عام 2000، أي “تجاوز مرحلة سيطرة المخرج وتفوقه باعتباره الفنان المتحكم بمعنى العرض والممسك بجميع خيوطه والمتحكم بها بكل براعة” (ص 43)، ويتكلم فيه پاڤيس عن الإخراج وهويته الثقافية، وعن علاقته بعلم الاجتماع، فراح الباحثون في الدراسات المسرحية يفضلون كلمة الأداء على كلمة إخراج: “غدا كل شيء أداء، ودخلنا في المرحلة العليا لكل من المسرح والثقافة والمجتمعي” (ص 48). أي أن العرض الأدائي تجاوز مرحلة الإخراج الكلاسيكي، وصار يشبه السينما المكبِّرة، أو الوسائط الإعلامية (الرقمنة بخاصة) الجذمورية، كما يقول جيل دولوز. بالنسبة لهذا المدخل، نرى أن واضع القاموسين قد طوّر معلوماته في القاموس الجديد مسترشدًا بالوسائط المعرفية الجديدة التي يعجّ بها عالمنا المعاصر.
وإذا انتقلنا إلى مدخل “نقد درامي”، نجد أنه لا يتجاوز نصف صفحة في “معجم المسرح”، في حين أنه في “قاموس العروض الأدائية…” يتناول النقد الإلكتروني والتوليدي والفنّي، ويتوقف عند شروط ممارسة النقد وأنواعها، فيتوقف عند الحكم التقويمي والجمالي، وعند الذائقة وملكة الحكم، وتربية الناقد الفنية، ومعايير الحكم، ومهمّات الناقد العديدة “التي لا تنتهي”، والتي تسترشد بذائقة الجماعة والجمهور. لقد كرّس هذا القاموس 8 صفحات بعمودين كثيفين “لتقديم هذا المدخل من منظور جديد”. وإذا انتقلنا إلى مدخل “مسرح” [وهو بيت القصيد في القاموسين] لوجدنا أن تشعبات المدخل مستوفاة في القاموس الجديد الذي يكرّس 19 صفحة يستكمل فيها الأنواع المسرحية الواردة في القاموس الأول (وهي: المسرح التناولي، والأنثروبولوجي، والسيرذاتي، والبورجوازي، والتحريضي، والبولفاري، والبيئي، والجماهيري، والمسرح في كرسي، ومسرح الحجرة، ومسرح القسوة، ومسرح المخرج، ومسرح الشارع، ومسرح النساء)، بتفصيلات هي: المسرح الإثني، والانغماسي، والبصري، والتطبيقي، والتوفيقي، والجمعي، والذاتي، والراقص، والمفاهيمي، والموقعي، والكوزموبوليتي، ومسرح الشركة والعالم، ومسرح اللكمة في وجهك، ومسرح السياح، والمسرح متعدد اللغات، والمسرح موضع التساؤل.
القاموسان، بالتالي، متكاملان، تأثر كلاهما بنظريات العلوم المعرفية الحديثة (الأول بتلك التي سبقت القرن الحادي والعشرين، والثاني بتلك التي ظهرت في العقدين الأخيرين).
وكمشتغل في الترجمة، منذ ثمانينيات القرن الماضي، سأتوقف عند بعض النقاط. لقد تناول ميشال خطار، ومُراجع ترجمته نبيل أبو مراد، بعض المسائل الترجمية العويصة عربيًا، فقالا: “لا شك في أن ترجمة المعاجم هي من أصعب أبواب الترجمة، لأن المعجم في حدّ ذاته يشكل مرجعًا حكمًا في تفسير المعاني، وتحديد المصطلحات، وكشْح الالتباس” (ص 9)، واعترفا بأن ترجمة “معجم المسرح” اقتضت زهاء سنتين بين النقل والمراجعة، وبأنها شكّلت تحديًا لهما بسبب فتوة المسرح في ديار العرب التي لم تعرفه بذاته إلا في منتصف القرن التاسع عشر، وبشكل خجول. ولكن انغماسهما في العمل المسرحي في الجامعات اللبنانية سهّل عليهما هذه المهمة، إذ كانا يستقيان المفردات والعبارات الصحيحة من خلفية هذه التجربة. فكانا ينحتان المفردات والمصطلحات التي لا يجدان لها مكافئًا في اللغة العربية. ويعطيان بعض الأمثلة. فأمام كلمة distanciation (التي يترجمها كثيرون بـ”التغريب”، أو “التبعيد”)، يقترحان كلمة “تماسف”، أي “جعل مسافة زمنية وافتراضية بين الممثل وجمهوره، بحسب نظرية برتولد بريخت الشهيرة” (ص 10). فلمَ لا؟ ولكنهما أمام كلمة parabase لم يوفقا بمعادل عربي، فكتبا “باراباز”، وهذه كلمة يستهجنها القارئ العربي ولا يدرك أبعادها. وقد ترجمها د. أحمد عثمان بـ”خطاب مباشر”، أو مخاطبة الجمهور مباشرة باسم الشاعر([1]). وأرى أن ترجمة stichomythie بـ “كتابة سردية” غير موفقة، لأنها لا تدل على التأثيل الإغريقي للمصطلح stichon بيت شعر، وmythos أسطورة وحكاية، أي المبارزة الكلامية (بيت شعر مقابل بيت شعر)، وهذا ما عبّر عنه الشعر العربي الكلاسيكي بكلمة “نقائض”. ويقترح ميشال خطار، ونبيل أبو مراد، كلمة “أداء” لترجمة performance. وهنا يلتقيان مع أسامة غنم، الذي عنون قاموسه بـ”قاموس العروض الأدائية” لترجمة المفردة الفرنسية، ولكنه أضاف كلمة “عرض” أدائي؛ وهذا أدق. ويترجم théâtre performatif بـ”مسرح أدائي”، وperformativité بـ”أدائية”. وهذه المصطلحات شائعة بين الباحثين المسرحيين، علمًا بأن كلمة performance في اللغة العادية تعني التميّز والتفوّق. يترجم “معجم المسرح” mise en abyme بكلمة: تورّط”، وأرى أن المصطلح المقترح غير موفق، لأن المقصود به هو انعكاس المرايا المتقابلة في النص. يعطي لطيف زيتوني في “معجم مصطلحات نقد الرواية” مثالًا على ذلك مقتبسًا من مسرحية هاملت لشكسبير، وفيها “نقع على مسرحية “مصيدة الفئران” التي تشكّل مسرحية داخل المسرحية والتي يقدمها هاملت أمام الملك والملكة كمرآة يريان فيها جريمتهما” (ص 51). ويترجمها بـ”ترجيع” [الصدى]. أما محمد عناني في “المصطلحات الأدبية الحديثة” فيترجمها بـ”اللانهائية” [وهو مصطلح فضفاض وغير دقيق بالتالي]. فلماذا لا نترجمها مثلًا بـ”التصادي”؟ وإذا توقفنا عند مدخل “تفكيك”، الذي ابتكره جاك دريدا، لوجدنا أن هذا المصطلح قد راج في المسرح، ولو “بطريقة سطحية وسلبية”، كما يقول “قاموس العروض الأدائية…”، وأصبح “تقنية فلسفية قابلة للتطبيق على الإبداع والتحليل المسرحيين” في مجالي النصوص وإخراجها. ويرى القاموس أن التفكيك الدريدي هو مقاومة طغيان اللوغوس الأرسطي، أو الميتافيزيقيا الغربية، وفتح الباب على “القراءات المتعددة والتأويلات المتحركة”، ورفض فكرة القراءة الأحادية. فكيف، إذًا، نطبّق التفكيك في المسرح؟ يقول القاموس إنه إعادة بناء مستمر للمشروع وللنص والتمثيل. إنه “عملية امتحان للمعنى”، تقوم على القراءات المتعددة التي ترفض الحكم القيمي والتصنيف الجائر، وأُعلي من شأن “الهوامش والملاحظات وترهات وأخطاء الدراماتورج، أو المخرج، أو الممثل”. ذلك أن التفكيك في المسرح قائم على انتثار dissémination المعنى وفتحه أمام احتمالات كثيرة، إنه تجربة النص المفتوح بامتياز.
ولتبيان الشغل الدقيق والتأني في القاموسين، سأتوقف عند بعض المداخل، ومنها “سياسة ومسرح”. يقول پاڤيس في القاموس الثاني: “لقد غدا المسرح مع ديدرو، وليسينغ، وشيلر، وبومارشيه، أداة للبحث السوسيولوجي، وللمعركة السياسية”. واكتشف المسرح، مع بيسكاتور وبريخت، قوته السياسية، فأصبحت الخشبة سلاحًا سياسيًا متكاملًا يفجّر الوعي والرفض والثورة، في المحصلة. ولكن الإفراط في التحريض السياسي ـ كما فعلت البولشفية والهتلرية ـ جعل الناس يتخوفون من الضخ الأيديولوجي المجعجع، لأنه يخاطب العواطف والانفعالات أكثر من مخاطبته التحليل الاجتماعي والسياسي. ذلك أن المواطن في البلدان المتطورة أصبح أكثر تطلبًا ووعيًا، فلا يتعلق بالشعارات واللافتات السياسية، بل بتحليل مفاصل السلطة السياسية وتناقضاتها.
وفي مدخل “مسرح ما بعد حداثي”، يتوقف پاڤيس عند الحداثة في المجتمع والفلسفة والفنون (6 صفحات)، فيتكلم عن بدايات الحداثة، ورأى يورغن هابرماس أنها بدأت في عصر الأنوار، أو القرن الثامن عشر، ولكنها ـ في مجال المسرح ـ تأخرت حتى ثمانينيات القرن التاسع عشر. وظهر مصطلح “ما بعد الحداثة” في ستينيات القرن العشرين، وانطلقت نظريات جان فرانسوا ليوتار (في كتابه La condition postmoderne، 1979). ولكن بلدان العالم الثالث استخدمت هذا المصطلح “بطريقة فوضوية بعض الشيء”، كما يقول پاڤيس. ويذكر من ثم بعض مبادئ المسرح ما بعد الحداثي الجمالية القائمة على “المحاكاة”، و”التصنيع المسبق”، و”التناص”، و”الحرتقة” (bricolage).
وحول مدخل “ما بعد استعماري”، يقول پاڤيس: “ما بعد الاستعماري هو قبل كل شيء حركة ثقافية، أو فنية، أو أدبية، أو مسرحية، هو مجموع الأفعال والأعمال الفنية التي تندرج في تعارض للنظام الاستعماري، أو في مقاومته، أو تحديه بكل وجوهه” (ص 315). ويرى أن الدراسات ما بعد الاستعمارية انطلقت من أعمال فرانز فانون، وإيميه سيزار، ولاحقًا من أعمال إدوارد سعيد، وهومي بابا، وحنيف قريشي. إنها رد الهجوم الاستعماري الذي استشرى، إنها رد الضربات والانتقام، إنها تقويض للخطاب الاستعماري الذي كان مهيمنًا. ويتكلم پاڤيس عن الانتقال الذي تمّ بين مسرح التثاقف وبين المسرح المعولم. فيقول: “أصبحت المثاقفة من الآن فصاعدًا معنية أكثر بالتداعيات الاقتصادية للتبادل والعولمة، أكثر انتباهًا لمخاطر استعمار جديد تحت غطاء ما بعد استعمار بسيط ومحايد وتحسسًا لها” (ص 319). ويرى أن هذا المسرح ركّز على الهويات والثقافات والوسائط الإعلامية المتعددة، وأن الدراسات ما بعد الاستعمارية مهمَّشة في بعض الدول، كفرنسا، وأوروبا القارية. ويستشهد بعبارة لافتة لجان لو أمسيل تقول: “لا تتم فكفكة الاستعمار في الفكر عبر اعتبار ما يقوله مستعمَر اليوم صحيحًا في مواجهة مستعمِر الأمس، بل تتمثل في إنشاء حوار أو بشكل أكثر دقة في تصور الفكر باعتباره حواريًا من حيث جوهره الداخلي، أي مترابطًا ومتصلًا” (ص 319). ويرى پاڤيس أن المسرح أقدر من أي فن آخر على إبقاء هذا الفكر الحواري حيًا.
وإذا عدنا إلى المفاضلة بين قاموسي پاڤيس، لوجدنا أن مؤلفهما قد وصل في ثانيهما إلى نضج ثقافي وأدائي مسرحي متميّز. وخير دليل على ذلك تعمّقه في مدخل “الإخراج المسرحي”، الذي ـ في القاموس الأول ـ يدرس وظائف الإخراج ومشاكله (دوره وخطابه وتصنيفه وتنفيذه) في المسرح حتى نهاية القرن العشرين، في حين أنه يدرس الإخراج ـ في القاموس الثاني ـ بعد عام 2000 فيرى أنه لا بدّ من أن يُفعَّل، وأن ينظّر إليه كفعل سوسيولوجي. فيتكلم عن تطورات الإخراج، وعن مهمات المخرج (وضع النص في حالة الأداء، الموضعة في الفضاء، صنعة الخشبة)، وعن علاقة الإخراج بعلم الاجتماع، وعن مستقبل الإخراج. وهنا يرى پاڤيس أن الإخراج “أداة نقدية وسياسية في حقبة تشعر بالحاجة لإعادة التفكير بدور الفن وإعادة تصوره في عالم اقتصادي فاقد لعقله” (ص 50).
ولتبيان التطور الذي حصل بين القاموسين، لنتوقف قليلًا عند مدخل “مُشاهِد” spectateur. يحتل هذا المدخل صفحة واحدة في القاموس الأول، و8 صفحات في الثاني (مدخل “متفرج”). يتكلم القاموس الذي ترجمه ميشال خطار على السيميولوجيا التي يصنع بها المُشاهِد المعنى، ويرى أن “متعة المُشاهِد تقتصر على القيام بسلسلة من الاختيارات والأفعال الصغيرة للتركيز والاستثناء والدمج والمقارنة”. ويمر مرور الكرام على جمالية التلقي. أما في القاموس الثاني، الذي ترجمه أسامة غنم، فيتكلم عن انتقام المتفرج بعد “أن نُسي لمدة طويلة من قبل فنّاني الطليعة، واختصر إلى كمية عديمة الأهمية، أو إلى شر لا بد منه من أجل الإنتاج”، وصار محور العمل المسرحي. ويستعرض القاموس الدراسات الخاصة بالمتفرج منذ خمسينيات القرن العشرين، وصولًا إلى الألفية. ويتوقف عند هرمينوطيقيا النص والعرض المسرحي، ودوره في الإبداع المسرحي [هو مراقب مشارك]، والبعد الجماعي للمتفرج الذي ساهم في بلورته غروتوفسكي وباربا، ودوره في الفضاء العمومي، لأنه يلعب دورًا في مسيرة التاريخ.
قصارى القول: إن ترجمة هذين القاموسين إلى العربية حدث لافت في مسيرة المسرح العربي. القاموسان ثروة ثقافية متميزة يستفيد منها جميع العاملين في الحقل المسرحي، ويقدّمان للقارئ العربي النابه رؤية متناضجة عن تطور هذا الفن في القرنين العشرين والحادي والعشرين. وهما خير دليل على الجهد التوثيقي الهائل والمتابعة المتأنية لأستاذ جامعي يعرف عددًا وافرًا من اللغات الكبرى، ويطلع على آخر التطورات في مجال المسرح. لقد قدّم لنا ميشال خطار، وأسامة غنم، قاموسين أساسيين في الدراسات المسرحية تفخر بهما مكتبتنا المسرحية.
هامش:
(1) د. أحمد عثمان: الشعر الإغريقي، تراثًا إنسانيًا وعالميًا. الكويت، سلسلة عالم المعرفة، 1984، ص 329.
ضفة ثالثة