بيروت مدينة اليباب.. سجلٌ للمهانات والاختفاء/ محمد أبي سمرا
ثلاث سنوات من الانهيارات المتتالية
يتوسّع التحلّل الذي أصاب الدولة اللبنانية في سنوات إفلاسها المالي والسياسي، ويتزايد تفشيه في نسيج الحياة والعلاقات الاجتماعية العامة والخاصة. وفي بيروت لم يبقَ مشهد من الحياة اليومية، صورها وكلماتها المتداولة، في منأى عن الاختناق والاهتراء، فيما يفقد المجتمع اللبناني روابطه، ينحلُّ إلى مناطق وجماعات ومدن وأحياء وقرى متباعدة، شبه مستقلة ومنعزلة، يتخبّط أهلها في تأمين احتياجاتهم الضرورية بصمت لم يُبقِ على ألسنتهم سوى كلمات التذمر والاستنكار والشكوى والأنين من كل شيء. حتى أن الاختناق العام الصامت يشير إلى أن المجتمع صار معرضا للتحلل التام والزوال. كأن مطرقة بحجم السماء هوت على لبنان وأهله، لغتهم وذاكرتهم، فبدّدتهم ومحقتهم وملأت أفواههم وعيونهم بالرماد، وربما أكثر من أيامهم في الحرب الأهلية (1975 – 1990).
بلاد العجز والعياء
تحت هذه المطرقة تعيش بيروت، ويعيش سكانها مهانين موتورين. وغالبا ما يختنقون بمهاناتهم وتوتراتهم. ويمكن أن نلمح علامات ذلك المتباينة والمتفاوتة، نبصره على وجوه الناس، ونعيشه في أي شارع من المدينة المتحللة بصمت، وأحيانا بعنف مفاجئ. والأرجح أننا كنا، قبل السنوات الثلاث من القحط والعزلة، مستغرقين في الصمت والعنف هذين، أو بكلام ثرثار قليل الاكتراث بوقائع حياتنا. أوليس هذا ما يقوله عجزنا وعزوفنا عن وصف ما حلّ بنا اليوم، كما عزفنا عن وصف أحوالنا في حقب سابقة؟ ومحاولتنا أن نصف، هنا والآن، ما حلّ ببيروت في سنواتها الثلاث الأخيرة، قد لا تبرأ من عياءٍ وعجز مضاعفين مزمنين.
قد يعود العجز والعياء إلى وقت مباشرتنا حروبنا الأهلية المديدة شبه منوّمين، وطيّنا إياها من دون أن ندري لماذا خضنا في الدم والمذلة، وطمرناههما بعفوٍ عام عما مضى كأنه لم يكن. وغصبا أو صاغرين أو فرحين ارتضينا بما سمّته جماعات منا “وصاية” خارجية علينا، وسمّته أخرى “احتلالا” تلاه آخرُ مدمر، فتذرعت به جماعة أسست مجتمعَ حرب دائمة سمّته “مقاومة”، ويتسلط فيه “الشهداء” و”سادة الوجود” و”أشرف الناس” على الأحياء الأقل شرفا، لأنهم انصرفوا إلى شؤون الحياة الدنيا. وفي الأثناء باشرنا إزالة الردم والركام لمشروع إعادة البناء والإعمار بكلمات دعائية جوفاء مبتذلة، وبأرقام فلكية من القروض والديون. وهذه وُزِّعتْ هباتٍ وهباء على أمراء الحروب وجماعاتهم، وعلى جيش لجب من موظفين شبه متبطلين إلا من كونهم رعايا ومنتفعين، فيما كان جيش “المقاومة” السري ومجتمعها الحربي يفكك أوصال الدولة والمجتمع “المدني” ويجعل السياسة والاجتماع والحياة حربا باردة أو معلّقة، لا تخلو من الاغتيالات… إلى أن أصابنا إفلاس ماحق يتنصّل الجميع منه ونعيشه حربا متخثرة، منتظرين مباشرة الحكاية من أولها.
وياما صفّقنا وبكينا لما صارت بيروت مدينة خراب وكآبة، حينما غنى شاعر: “بيروت نجمتنا، بيروت خيمتنا”، وأنشدتها سفيرتنا إلى النجوم متسائلة: “كيف صار طعمها طعم نارٍ ورماد؟”. وها تقطعت أوصال الأماكن والأوقات والاجتماع في بيروت الإفلاس الكبير والفقر، فتمزّق نسيجها وإيقاع الحياة اليومية فيها، وذهبت بعيداً في الاختناق والبكم والعزلة والشحوب الذي يكسو وجوه سكانها المتنقلين مبنّجين أو مخدرين ذاهلين في شوارعها الكالحة.
الحمراء ورأس بيروت
لا يتوقف الكلام اليوم في بيروت عن الحال المزرية التي انحدر إليها معلمان أساسيان في المدينة: منطقة رأس بيروت، وشارع الحمراء الذي يخترقها في وسطها من مصرف لبنان شرقا إلى منحدر الشارع المؤدي إلى المنارة على شاطئ البحر. أما الجامعة الأميركية فيأتي ذكرها في سياق إجماع على دورها التأسيسي في تكّون رأس بيروت منطقة خليط “كوزموبوليتي” مديني لبناني وعربي وأجنبي، منذ اختار المرسلون الإنجيليون الأميركيون تلك التلة البيروتية المشرفة على البحر لتشييد جامعتهم الشرق أوسطية عليها سنة 1866.
لكن الوجه “الكوزموبوليتي” الثقافي، الاستعراضي والإعلامي والدعائي، بلغ أوجه في رأس بيروت ستينات القرن العشرين والنصف الأول من سبعيناته، عندما صار شارع الحمراء في موطن الحداثة البيروتية الجديدة، عنوانها ومحجّتها اللبنانية والعربية والشرق أوسطية. ويعود ذلك أقله إلى أسباب ثلاثة متزامنة ومتداخلة:
– بعد مئة سنة على تأسيسها، بلغت الجامعة الأميركية أوج استقطابها أبناء نخب عربية من فلسطين وسوريا والعراق والأردن وبلدان الخليج العربية – بالتزامن مع الفورة النفطية – للتعلّم والإقامة في رأس بيروت. وهذا إلى جانب أبناء نخب لبنانية أنجلوفونية اللغة والثقافة، وسواهم من بلدان الشرق الأوسط والأجانب المنتمين إلى عشرات الجنسيات، وكان عددهم السنوي بالألوف.
– طفرة الحداثة الشبابية، وظهور الطلاب بقوة على مسارح الحياة الاجتماعية والسياسية والثقافية، عالميا وعربيا، خصوصا في العاصمة اللبنانية بيروت.
– ضيق وسط بيروت المديني التقليدي القديم بمتطلبات ووظائف حداثة الستينات الشبابية التي انتقلت إلى شارع الحمراء في رأس بيروت، حيث أُنشئت مقاهي الرصيف ومطاعم الوجبات السريعة ودور السينما ومرابع الترفيه والحياة الليلية الشبابية المحدثة، إضافة إلى مقار الصحف وبعض المنتديات الثقافية والفنية.
هذا كله انتهى اليوم واختفى تماما، ولم يبق منه سوى الجامعة الأميركية التي يقتصر طلابها على اللبنانيين وحدهم تقريبا. ولكن كثرة منهم تتبرّم من أقساطها المرتفعة “المدولرة” على إيقاع جنون أسعار الدولار والانهيار المالي. أما معظم طلابها فعازمون على الهجرة فور إنهائهم دراستهم فيها. ولذا بدأت الجامعة الأميركية بتشييد فرع لها في قبرص.
بلغ تدهور أحوال رأس بيروت والحمراء الذروة في السنوات الثلاث الأخيرة. لكنهما منذ بداية الحروب الأهلية في لبنان شهدا محطات كثيرة من الصعود والهبوط. وكان الانحدار ما قبل الأخير في العام 2008، عندما سيطر حزب الله وما يسمى “الممانعة” بقوة السلاح على مدينة بيروت، وكانت رأس بيروت مسرحا أساسيا لتلك السيطرة. وبين سنوات 2011 و2015، شهد شارع الحمراء انبعاثه النسبي الأخير أثناء فرار أعداد كبيرة من الشبان/ات السوريين إلى بيروت في خضم الثورة السورية، واتخاذهم مقاهي الحمراء ومرابعه الليلية مكانا للقاءاتهم ونشاطاتهم في انتظار هجراتهم إلى أوروبا. وهذه الفئة السورية الشابة، المتعلمة والجامعية والمهنية المحدثة، اختفت اليوم إلا في ما ندر من بيروت ولبنان.
وقد تكون محيّرةً اليوم مقاربةُ الكلام اليومي الناعي، المتأسي والحزين، في رثائه رأس بيروت والحمراء وحدهما، جراء الحال المزرية التي يُجمع كثيرون على انحدارهما إليها أخيرا. وليس الباعث على الحيرة إنكار ما أصابهما من اهتراء وتحلل قد يتجاوزان ما أصاب سواهما من مناطق بيروت. بل مصدرها التشكك في الصورة الأيقونية الزاهية التي تعود إلى ما تسميه الأدبيات اللبنانية “الزمن الجميل” في نمط العيش والحياة الثقافية والفنية، عندما كانت الحمراء المسرح البيروتي الأشهر لذاك الزمن في الستينات. وهي الصورة التي تنطوي على حنين رومنطيقي، ومنها ينبعث الرثاء المحموم للحمراء ورأس بيروت اليوم، وتُضْفَى مأسوية مضاعفة على حاضرهما المأسوي.
وبعد سهرة في بار فندق كان يضج بالحياة في ماضي رأس بيروت الآفل – وخلا في تلك السهرة إلا من أصدقاء ثلاثة شاؤوا استئناف لقاءاتهم بعد انقطاع طويل يعود إلى بدايات تفشي وباء كورونا وعزلاته – وصف أحدهم السهرة بعد خروجهم من البار وسيرهم في الشوارع القريبة المعتمة الخاوية، فقال إنها “سهرة ألبانية”. وهذا كناية عن أنها كسهرات مطاردين أو منبوذين في بلدان “الستار الحديدي” الشيوعية التي كانت الحياة فيها تعيسة وتشبه العيش في المعتقلات.
والحق أن في هذا التشبيه شيء من ما أصاب منطقة رأس بيروت، وخصوصا في حياتها الليلية: عتمة كأنما في بلدة نائية. مقاهٍ ومرابع ومتاجر مقفلة ما إن يحل المساء. المفتوحة منها شبه خالية. شبان عراقيون يتجوّلون سائحين في مجموعات على الأرصفة المعتمة والمقفرة. المقاهي التي لا تزال تفتح أبوابها تقدّم النراجيل. حتى ذاك الذي كان مقهى “الهورس شو” للنخبة الثقافية والفنية في الستينات والسبعينات، يخلو إلا من شاب عراقي وحيد يجلس على كنبة خلف زجاج المقهى مدخنا نرجيلة وينظر في الرصيف الخالي أمامه. وغالبا لا أثر لامرأة أو صبية في الليل على رصيف.
لكن المشهد النهاري في الحمراء ورأس بيروت مختلف عن المشهد الليلي “الألباني”، ربما على عكس ما غنت مرة نجوى كرم أن “الليل يستر العيوب”. ففي بيروت اليوم ضوء النهار هو “ستّار عيوبها”. فنهارات السعي المحموم – رغم أن الناس يتركون انطباعا بأنهم مخدّرون شاحبون متوترون ومبتئسون – لا تفصح عن تلك العزلات الثقيلة التي يعيشونها ليلاً في بيوتهم. ففي الليل تبدو المدينة في مشهدها الإجمالي شبحية، ليس في شوارعها سوى تلك الأضواء الكابية الشحيحة التي تخرج من خلف زجاج نوافذ البيوت في العمارات.
وتبدو رأس بيروت في نهارات الآحاد هادئة هدوءا أليفا. فالآحاد ليست للسعي المضطرب المتوتر، بل لنزهات بطيئة تذكّر بذاك التسكع القديم، رغم أنها نزهات على شيء من خمول لا يخلو من لذة فاترة. أما الأنشطة الثقافية والفنية والسينما والمسرح فصارت من الذكريات المنسية. ولا يخلو الأمر من عمل مسرحي ومعرض تشكيلي وأمسية ثقافية في أوقات متباعدة، لكنها في معظمها بلا أثر.
وتسمع البعض في بيروت اليوم يشبّهونها بالقاهرة. وهؤلاء يقصدون أن نمط العيش ومشاهده وحركة الحياة اليومية في شوارع بيروت، وخصوصا في شطرها الغربي، صارت تشبه تلك التي في القاهرة باختلالاتها وفوضاها وعتقها وألوانها الرمادية. لكن نزهة يوم أحد هادئ في رأس بيروت مرورا في شارع الحمراء، قد تذكرك بحي المهندسين أو الزمالك في القاهرة. وقد يكشف هذا عن أن تشبيه بيروت اليوم بالقاهرة يعني أن مشاهد الحياة اليومية في العاصمة اللبنانية صارت رمادية، وتنطوي على شيء من خشونة ذكورية، وفقدت تلك الأناقة التي كان يعبدها اللبنانيون وتتأهب اليوم للاختفاء، بعدما كانوا جعلوها من عوامل تشاوفهم باعتبارها من مصادر مصدر “التميز” اللبناني الذي حطمه ما أصاب بيروت ولبنان منذ 3 سنوات.
شوارع وأحياء للعزلة
وفي بيروت اليوم شوارع مهجورة إلا من الكآبة والذكريات المخزنة. وهناك مشاهد مؤلمة في شوارع أخرى. وللعنف الملجوم شوارعه أيضاً، فلا تخلو من عراك هنا وشجار هناك. وقد يتجدد بإطلاق النار ثأريا، فيتفرج عليه في الشارع سكانُ البنايات من خلف زجاج نوافذ بيوتهم، ويتراوون في السهرة وقائعه، مستمعين إلى نشرات أخبار تلفزيونية تذيع عليهم وقائع قاتمة. وقد نقرأ أحياناً أخبار انتحارات هنا وهناك. لكن الأسبوع الأول من مارس/ آذار الماضي سجل 4 انتحارات من بيئة طائفية واحدة (شيعية). وهم قرّروا المغادرة برصاصة في الرأس.
وللبؤس مشاهده الأليمة في كثرة من شوارع بيروت: على ناصية في كورنيش المزرعة تلمح امرأة أو صبية تلفّها ثياب سوداء، تحمل بيدها لافتة كرتونية مكتوب عليها “مكسورة على إيجار بيت. في سبيل الله. سبعمائة ألف” ليرة. على الكورنيش عينه لافتة خشبية معلقة على عمود إنارة. في أعلاها وفي أسفلها كُتبت عبارة “احذر الأمر خطير”. وفي وسطها عبارة بارزة: “سبُّ الله دمار”، في إيحاء إلى أن هذا هو سبب الإفلاس المدمر. تتذكر أنك قبل أشهر رأيت غابة من اللافتات المماثلة في شوارع مدينة طرابلس. وتحت جسر محطة الكولا، غير بعيد من كورنيش المزرعة، تقف صبية حاملة لافتة كرتونية كُتبت عليها عبارة: “ماما مريضة سرطان. تحتاج إلى دواء باهض الثمن”.
تقف الصبية وسط زحام سيارات خانق. ولفوضى الزحام شوارعها الكثيرة في بيروت: سيارات هادرة متحفزة للانقضاض على أي مساحة شاغرة في الشارع. أرتال من دراجات نارية تنبثق فجأة في أي مكان ضيق، طائرة مزمجرة بسائقيها بين سيارات ومشاة لا يبخلون بشتائمهم على سائقي الدراجات الذين يمدّ بعضهم ألسنتهم جوابا على الشاتمين المرتاعين من أن تصدمهم الدراجات النارية المسرعة طائرة في الاتجاهات كلها. وفي هذه الشوارع يتهيأ لك أن المشاة وركاب السيارات وممتطي الدراجات المزمجرة، هاربون من هول غامض إلى مجهول أشد غموضا. لكن الجميع يتنقلون بصبر جِمالٍ على العطش، كأنما تلك اللحظات هي الأخيرة قبل الجنون أو الخلاص من الجحيم.
وللهدوء الشاحب في بيروت شوارع تحاول مقاومة الشحوب. يقلّ فيها المشاة وعبور السيارات المصطفة بكثافة على جنباتها، وتلك الكثيرة المركونة تحت الأرض في مرائب البنايات الفخمة، بأعداد تفوق أعداد سكانها القليلين. وهؤلاء القلة محصنون في بيوتهم المريحة على قناعة راسخة مزمنة بأن الأماكن العامة في الخارج معادية لأسلوب حياتهم الهادئة المستكينة، رغم قلق بعضهم المكتوم والمقيم. ربما في انتظار الرحيل عن البلاد.
وفي مدينة الاختلالات والمهانات، الصبر والصمت المزمنين عليها، ينظّم هؤلاء حياتهم في كل بناية بوصفها كيانا سكنيا منعزلا ومستقلا. وغالباً ما تكون رسائل هواتفهم المحمولة أداة تنظيمهم الأساسية. وقد لا يلتقي سكان هذه البنايات، لا في مصاعدها ولا في مداخلها، إلا مصادفة ونادرا. وربما يتحاشون هذه اللقاءات، لا لشيء سوى انعدام حاجتهم إليها. ففي المدينة التي يقيمون فيها ويعملون، يتكبد تصريف شؤون حياتهم وخدماتهم وحاجاتهم اليومية جيش من العمال الصغار الوسطاء: من ناطور البناية، إلى عاملة التنظيفات المنزلية، إلى عمال الصيانة و”الدلفري” (التوصيل) من المطاعم والمخازن الكبرى ومحال الخضار، إلى مخلصي المعاملات في الإدارات الحكومية الفوضوية الخربة منذ دهر في لبنان كله.
والكآبة والشحوب المخيمان على شوارع وأحياء هذه الفئة من سكان البنايات الفخمة الحصينة، لا يحولان دون خروجهم من معازلهم وارتيادهم مطاعم باهظة الأسعار، وسهرهم فيها بانتظام تقريباً. فهم يتقاضون مرتباتهم ويحصلون مداخيلهم بالدولار الذي أضفنا إليه صفة “الطازج” في لبنان المفلس.
إلى عشاء في واحد من هذه المطاعم بمحلة مار مخايل للحياة الليلية، دعانا صديق كويتي لا ينقطع عن زيارة بيروت التي يغلبه حنينه إلى حياته طالبا في جامعتها الأميركية في بدايات حروب لبنان الأهلية. كان المطعم خاليا تقريبا في الثامنة مساء. وحدثنا الصديق عن الغموض الذي يكتنف فهمه طبيعة حياة اللبنانيين في زمن الإفلاس. وقد زاد فهمه وفهمنا غموضا في الساعة العاشرة، بعدما غصّ المطعم بالزبائن من الأعمار كافة. وفي أمسية أخرى، بعد جولة حزينة موحشة في عتمة رأس بيروت وشارع الحمراء، ذهلتُ لما أبصرت جمعا غفيرا على مدخل مطعم افتتح قبل شهور في محلة القنطاري قرب مبنى محطة تلفزيون “المستقبل” المقفل والمهجور منذ أكثر من 3 سنوات، بعدما ورثه سعد الحريري عن والده القتيل. ظننتُ أن الجمع يتهيأ لالتقاط صورة حفل زفاف. وتضاعف ذهولي لما دخلتُ المطعم الفسيح ورأيت حشود زبائنه الدائمين من عائلات بيروتية تقليدية محدثة، كأن بيروت هنا على حالها قبل الإفلاس والانهيار الاقتصادي.
الحياة بمنطق المنامات
وقال لي قبل أيام شاعر وصحافي لبناني على مشارف السبعين، يعمل ويقيم في بيروت منذ عقود: لا أدري كيف ومتى ولماذا يتهيأ لي في لحظات خاطفة أن ما يحدث في لبنان منذ 3 سنوات يشبه المنامات. وأوضح: ما أعنيه بالمنامات هنا ليس تشبيها أو كناية أو مجازا أو استعارة. بل أعني أن أهل هذه البلاد يعيشون حياتهم، يعملون، يتكلمون، ويصرفون أوقاتهم وشؤونهم بمنطق المنامات، وفي مزيج من التصديق وعدم التصديق، وفي كامل وعيهم وشبه منومين.
وأضاف: أسمعهم يقولون كلمات وعبارات لكنها تنبتر فجأة وتفقد معناها أو تسقط في هوة معتمة. كأن أشخاصا سواهم يتكلمون فيهم أو عبرهم. أراهم يمشون في شوارع بيروتية أعرفها ويعرفونها معرفة تفصيلية مزمنة، فيتهيأ لي ولهم فجأة أنها فقدت معالمها وملامحها. تراجعت في الزمن، وصرنا متقدمين سنين كثيرة في أعمارنا في غفلة منا. وكالظلال نمشي فاقدين أصواتنا وكلماتنا، أو نتكلم ولا نسمع أصواتنا. وأحيانا أشعر أنني نائم، فيما أنا مستيقظ وجالس وحدي هنا على الكنبة، فأروح أتحسس جسمي ووجهي.
ولشرح فكرته قال: هذا الضياع الذي أسميه هذيانا أو عيشا في المنامات، يشبه الفوضى المالية وفوضى الأسعار التي صارت كلها بالدولار من دون أن يعلم أحد قيمته الحقيقية بالعملة اللبنانية. وهذه لم يعد المصرف المركزي يطبع منها سوى أوراق المئة ألف ليرة، ويرميها بالأطنان في الأسواق النقدية، فيشتريها الناس من الصرافين يوميا بدولاراتهم المخزّنة في بيوتهم، ثم يبتاعون بالليرة سلعهم وخدماتهم المسعّرة كلهابالدولار الطازج! وصارت قيمة المئة ألف ليرة تساوي تقريبا قيمة الألف ليرة قبل الإفلاس، حين كان سعر الدولار 1500 ليرة، وحلّق أخيراً إلى أكثر من نحو 100 ألف ليرة. هذا فيما تتقاسم السوق السوداء والمصرف المركزي التلاعب بسعر الدولار الكثير الأنواع والأسعار: هناك دولار الودائع المصرفية ما قبل العام 2019، والمحجوزة ميتة تقريبا ويُسمح بسحب مبالغ زهيدة منها شهريا، بعضها بالليرة وبعضها بالدولار الطازج. وهناك رواتب الموظفين الشهرية بالليرة، والتي صاروا يتقاضونها أخيرا بدولار سعره أدنى بكثير من سعر الدولار الطازج المتغير. ودولارات الموظفين هذه يشترون بها ليرات من الصرافين لشراء احتياجاتهم المسعرة بالدولار الطازج الذي تتغير أسعاره صعوداً فلكيا وهبوطا ضئيلا في كل يوم. وهناك أخيرا الدولار الجمركي على السلع المستوردة، والذي تتغير أسعاره كل مدة.
وختم الشاعر الصديق قائلا: لك أن تتخيل هذه المتاهة التي يعيش فيها الناس الذين هيهات أن يعلموا قيمة العملة المحوّلة مرات من ليرة إلى دولار وبالعكس، كي يشتروا حاجاتهم.
سجل للاختفاءات
على جدران صالون بيت الصديق لوحات كثيرة لفنانين تشكيليين محدثين أعرف كثيرين منهم. لكن تهيأ لي أنهم اختفوا في هوة زمنية سحيقة. حتى أنني شعرت أن جلستنا وحديثنا في الصالون يحدثان في تلك الهوة. ربما بسبب قول محدثي إنه نادرا ما يخرج من بيته الذي تخيلتُ أن الزمن واقف أو متجمد فيه، كما في بيتي. وهذه حال كثرة من الناس في علاقتهم ببيوتهم التي تحولت إلى معازل. وأنا من زرت الصديق بلا موعد وبعد انقطاع طويل عنه، زرته مصادفة عندما وجدتني قرب بيته. حتى إنني لا أقوى الآن على تذكّر لماذا ومتى مررت في ذلك الشارع.
حين خرجت من بيته شعرت بوحدة موحشة مضاعفة، فتذكرت “السهرة الألبانية” ولم أعد أعرف إلى أين أذهب. يئست عندما تخيلتني أصعد درج البناية المعتم إلى بيتي في طبقتها السادسة. كانت وحشتي أشد شحوباً من الأضواء المنبعثة من تجهيزات الطاقة الشمسية المعلقة بأعمدة الإنارة العامة. تهيأ لي أن معظم البنايات أسفل منطقة الأشرفية البيروتية خالية من سكانها، أو أنهم من المسنين. وبعد أيام حضرت عرضا للرقص المعاصر في مسرح “مونو” في تلك المنطقة. الشارع الذي يحمل المسرح اسمه كان ومتفرعاته منطلق الحياة الليلية وصخبها في بيروت التسعينات عقب توقف الحرب الأهلية، وهجوم سكان بيروت على السهر بكثافة لتعويض ما خسروه من أعمارهم في عزلات الحرب. لكن هذه الشوارع اليوم مطفأة ومقفرة تماما. أعمار حاضري/ات العرض الراقص تفوق الخمسين سنة. امرأة أعرفها كانت مع ابنتيها، وجاءت من بلدة بعيدة لحضور العرض. الابنتان في زيارة خاطفة لبيروت وتعملان بين دبي وأوروبا. التقيت صديقا آخر يعمل ويقيم في الكويت. قال إنه عابر في بيروت لـ36 ساعة، ويغادرها إلى كاليفورنيا لزيارة أسرته التي هجرت المدينة عقب انفجار مرفئها.
عابرون مسنون يشاهدون عرضا راقصا عابرا في بيروت. وأثناء حضوري العرض الجميل والأنيق اشتعلت رغبتي في مغادرة بيروت. مصممة العرض من أصل لبناني وتحمل جنسية بلد أوروبي تلقت فيه التدريب على الرقص. كانت قد عادت إلى بيروت سنة 2002، وانشأت فيها مدرسة للرقص. لكنها سرعان ما هاجرت إلى أمستردام التي تعمل فيها وتقيم. ومؤديا العرض شاب وشابة لبنانيان تلقيا تدريبهما هناك، وبعد تقديمهما العرض في أمسيتين، غادرا مع المدربة بيروت.
وأخبرني شاب يقيم في ضاحية بيروت الجنوبية أنه أنهى دراسة السينما في معهد الفنون بالجامعة اللبنانية في محلة فرن الشباك، وأن زملاءه وزميلاته العشرين الذين أنهوا مثله دراسة السينما والمسرح في المعهد عينه، لم يبقَ منهم في لبنان سوى هو واثنين يقيمان مثله في الضاحية عينها. أما الآخرون فهاجروا لمتابعة دراساتهم العليا في أوروبا، أو للعمل في الخليج. وأخبرني الشاب الخجول والكتوم أنه يعيش كغريب في بيئته، ومثله شقيقته التي سبقته في التخرج من معهد الفنون. وغربتهما لم تسهل تواصلهما مع بيئة أخرى في بيروت، يمكن أن ينضويا فيها لتنمية خبراتهما الفنية والعثور على عمل.
كان الشاب محدثي حائرا وحزينا، وسألني ماذا أنصحه أن يفعل، بعدما ذكر أنه لا يجيد لغة أجنبية. تذكرت رغبتي في المغادرة، واحترت بماذا أجيبه، قبل اقتراحي عليه أن يتعلم لغة أجنبية. وكان مدرس في الجامعة الأميركية في بيروت أخبرني أن أحاديث طلابها وطالباتها الدائمة في لقاءاتهم مدراها الدائم الهجرة فور إنهائهم/ـهن دراساتهم الجامعية. والشابة الثلاثينية التي أصرت طوال عشر سنوات على العمل والإقامة في بيروت بعد إنهائها دراستها في الجامعة الأميركية، وتعميقها لسنتين في لندن، استسلمت أخيرا وقررت الرحيل إلى باريس والعمل والإقامة هناك، قائلة: لم يبق في لبنان أحدٌ من زملائي وأصدقائي في السنوات المدرسية والجامعية من حياتي. ولم تعد الحياة تطاق هنا في بيروت التي أحبها. أريد الحصول على جنسية أوروبية لأشعر بالأمان، ثم أعود إلى بيروت.
وحسب إحصاءات جديدة عن الهجرة أن نسبة المسيحيين من سكان لبنان تدنّت إلى أقل من 19 في المئة، بعدما كانت في التسعينات أكثر من 30 في المئة. ولا يعني هذا أن المسيحيين، خصوصا الأجيال الشابة، وحدهم من يهاجرون. بل يعني أنهم أكثر إقبالاً على الهجرة من سواهم الذين يهاجرون بدورهم. لكن قد يكون المسيحيون في لبنان أشد من سواهم خوفا ديموغرافيا على تناقصهم وتلاشيهم الديموغرافي.
هل يمكن القول إن فئة من شبان لبنان تعيش بين خيارين: الهجرة أو الانتحار؟
القفر وقبر الحريري
في مستهل قصيدة له وضع الشاعر اللبناني الراحل حسن عبدالله بيتا من الشعر العربي يُقال إنه يعود إلى العصر الأموي. يقول البيت: “وقبر حرب بمكان قفرٍ/ وليس قرب قبرِ حربٍ قبرُ”. المرور اليوم قرب ضريح رفيق الحريري ومرافقيه في مقتلة 14 فبراير/ شباط 2005، يذكّرُ بهذا البيت الشعري القديم. فمكان الضريح ناحية مقفرة من ساحة الشهداء في وسط بيروت المقفر، بعدما أعاد مشروع الحريري وشركة “سوليدير” إعماره بعد الحرب، وصار عنوانا رئيسيا للحقبة السياسية الحريرية واستعادة لبنان وبيروت شيئا من دورهما العربي والدولي القديم.
وسط بيروت الجديد مقفر، أقله منذ انفجار مرفئها. وهو ظل يُحتضرُ سنوات قبل أن يلفظ أنفاسه الأخيرة في ذاك الانفجار. ساحة الشهداء مقفرة كذلك. وهيهات أن يسمع أحدٌ في جنباتها أصداء صرخات من “ثورة الأرز” في 14 مارس/ آذار 2005، أو من ثورة 17 فبراير/ تشرين الأول 2019. والقفر الذي يسكن الساحة ووسط بيروت كله يترك ظلاله على الثورتين اللبنانيتين ومبنى صحيفة “النهار” الجديد، وصورة جبران تويني العملاقة المغبّرة على واجهته الزجاجية المحطمة، وعلى تمثال سمير قصير تحت تلك الشجرة الدهرية الضخمة قرب مبنى الصحيفة الصرحي شبه المهجور. وتويني وقصير قتيلا ثورة الأرز التي انطلقت بعد دفن الحريري في ناحية من الساحة. وشهدت تلك الثورة ذروتها في 14 مارس، عقب تظاهرة جمهور حزب الله في 8 مارس لـ “شكر سوريا الأسد” وترويع من انتفضوا واتهموها باغتيال الحريري. ومن نافذة فوق المربع الليلي البيروتي “بودابار” في ساحة رياض الصلح المقفرة بدورها اليوم، أطل حسن نصر الله خطيبا في حشود تظاهرة “شكرا سوريا”. وبعد حرب يوليو/ تموز 2006 خيّم جمهور 8 مارس معسكرا في ساحة رياض الصلح طوال سنتين، أدتا إلى تعطيل الحياة ومعظم النشاطات في وسط بيروت الجديد، وبداية احتضاره. ومحيط مجلس النواب في ساحة النجمة والشوارع المتفرعة منها – وهي شهدت النهضة الترفيهية والسياحية الكبيرة – عسكرت فيها وأقفلتها كلها شرطة مجلس النواب التابعة لنبيه بري، وجعلتها أرض قفرٍ وأشباح، منذ اغتيال الحريري وحتى اليوم.
هذا التأريخ المكثف لإقفار وسط بيروت التام بعد انفجار المرفأ – سوى في جزرٍ هامشية على أطرافه – يكاد يكون مرآة للاستنزاف السياسي والاقتصادي اللبناني، وصولاً إلى الإفلاس المالي اليوم. وفي مرآة إعادة إعمار منطقتي مار مخايل والجميزة وتأهيلهما السريع للحياة الليلية في بيروت، بعد انفجار المرفأ وتضررهما فيه على نحو يفوق بأشواط تضرر وسط بيروت، يبدو ترك الوسط لموته المأسوي علامة على ثأر حلف ميشال عون وحزب الله من الحريرية ومشروعها اللبناني والعربي في لبنان. وهو ثأر لم يكن ثمنه أقل من سقوط لبنان في “جهنم” التي بشر بها عون اللبنانيين في أثناء ثورة 17 أكتوبر/ تشرين الأول 2019، وبدايات الإفلاس المالي والسياسي.
قصر المهانات المتجددة
والخلاء المقفر في ساحة الشهداء يؤمه في الساعة الثامنة من صباح كل يوم حشد من طلاب تأشيرات السفر والهجرة. يصطف الحشد أمام مبنى الأوبرا التراثي الذي اتخذته شركة أمنية مجمعا لمكاتب تحت الأرض، أوكلت إليها سفارات أوروبية عدة تسلُّم طلبات التأشيرات وتنظيمها.
أما الحشود الهائلة التي تؤم قصر العدل في منطقة المتحف الوطني، فتنتمي إلى فئات أهل المهانة الصامتة والكآبة والضياع والصبر في ما يشبه المعتقلات. وهؤلاء من عامة الناس وصغار القضاة والمحامين وموظفي القطاع الحكومي ومخلصي معاملات شتى. وهم يتكوّمون في مكاتب مهترئة حول أكداس ضخمة من الملفات والأوراق المبعثرة والمهملة، والأكثر اهتراءً من المكاتب. وليس قصر العدل ومعاملاته وحشوه إلا نموذجا لدوائر الإدارة الحكومية في لبنان كله.
بعد زيارتي الثالثة قصر العدل لدفع غرامة ركن سيارتي قرب رصيف شارع، استحال عليّ إنجاز المعاملة رغم ساعات من المذلة والمهانة. أوكلت إنجازها لأحد المحامين. رويت مشاهداتي في القصر وحشوده لصديق في حال من استغراب ما رأيت وعدم تصديقه. كنا نمشي كعادتنا في غروب كل نهار على رصيف فسيح من إنشاءات البنية التحتية لـ “حديقة بيروت البحرية” التي توقف إنشاؤها على طرف وسط بيروت البحري، غير بعيد من المرفأ وركامه وبقايا صوامعه الخرسانية المتصدّعة. وأمام أبصارنا في البعيد، على منحدرات جبل صنين في المتن الشمالي وكسروان، كتل من الأبنية الإسمنتية المشيدة فوضويا وعلى عجل، أثناء هبّات عمران الحروب والتهجير إلى ديار الصفاء الطائفي. وقال أحدنا للآخر إن لبنان كله أمعن أخيراً في تحوله معازل بشرية متباعدة، بكماء صامتة، ويسعى سكانها في النهارات مكتئبين شاحبين. وفي الليل يتشرنقون داخل بيوتهم في تلك الكتل الإسمنتية.
وجوابا على وصفي المستغرب ما رأيت من ذل ومهانات في قصر العدل، روى لي الصديق مشهدا من بيروت الستينات لا يقل مهانة ومذلة. وذلك كي يوضح لي أن استغرابي ليس في محله. وإمعانا منه في استعادة مشاهد الذل والمهانة، ذكرني بمشهد رأيناه معا في أمسية من العام 2018 بعد إعلان فوز معسكر حزب الله “الممانع” في الانتخابات النيابية: أرتال من فتيان الدراجات النارية يحتفلون بذاك الفوز احتفالاً صاخباً وعنيفاً، متقافزين عن دراجاتهم النارية. بعضهم ركض نحو تمثال رفيق الحريري المنتصب قرب مكان اغتياله. تسلّق جمع منهم التمثال، ولما وصل أحدهم إلى أعلاه امتطى كتفيه مطلقاً صرخات النصر. استمر المشهد دقائق، فيما نحن نكتم غيظنا ومهانتنا، جالسين في السيارة منتظرين انصراف حشد الفتيان الصاخب. وفي تلك الأمسية مشينا على رصيف الكورنيش دقائق كثيرة صامتين، كأنما الكلمات لن تقول شيئا وفقدت أي معنى.
وها بيروت تتحول للأجيال الشابة مدينة اليباب، ومحطة عبور أو هروب، وسجلا مفتوحا لتدوين الاختفاءات المتلاحقة.
المجلة