حرسي علي: رائجة… وتتمدّد!/ صبحي حديدي
ليس هنا المقام المناسب لأيّ مقدار من الإسهاب في شرح «نزعة الإيقاظ»، أو «الصحوة»، أو الـWokeism في الأصل الإنكليزي؛ ذلك المصطلح الذي عاد إلى البروز بقوّة في الولايات المتحدة ابتداء من سنة 2010، وتبلور أكثر على خلفية احتجاجات فيرغسون سنة 2014 وما ترافق معها من صعود تيّار «حياة السود مهمة». تكفي إشارة وجيزة هنا، أنّ التسمية صارت توصيفاً متكامل الأركان في قليل أو كثير، يخصّ الحقوق المدنية والجنسية مقابل ممارسات التمييز العنصري والجندري؛ واتخذت، استطراداً، صبغة يسارية وتقدمية فحُوربت سريعاً من أوساط اليمين، المعتدل والمتطرف على حدّ سواء، في أمريكا وأوروبا والغرب عموماً.
لم يكن غريباً، في فرنسا على سبيل المثال، أن يتكاتف في قدح الـWokeism رجل مثل إريك زيمور، يميني متطرف وعنصري وانعزالي وكاره للإسلام والمهاجرين عموماً، ومرشح رئاسي فاشل؛ مع وزيرة التعليم العالي السابقة، فريديريك فيدال؛ ومعهما ينخرط في المعركة وزير التربية السابق جان – ميشيل بلانكير؛ وتنضمّ إلى الحملة إليزابيت مورينو، وزيرة التنوّع؛ والثلاثة تحت ظلّ الرئيس الحالي إيمانويل ماكرون. وأمّا المتوقّع المنتظَر، ولا غرابة فيه البتة، فهو المعارك الطاحنة ضدّ تنويعات اليقظة والإيقاظ والصحوة، التي باتت الشغل الشاغل للهولندية/ الأمريكية/ الصومالية الأصل أعيان حرسي علي… دون سواها!
فهي، ضمن مقالات أقرب إلى كبسولات تنشرها مع ذلك كبريات الصحف الأمريكية والأوروبية، تذكّر أنها حذّرت مراراً من التنازع التناحري بين «قِيَم الإسلام الراديكالي» وبين الحداثة الغربية والنظم الديمقراطية؛ وليس صعود الـWokeism الراهن سوى الطراز الأحدث ضمن أنساق شتى من تحدّي الحضارة الغربية، سواء تقنّع التيار – في نظرها، وطبقاً لتحليلاتها – بالدفاع عن السود أو المرأة أو الحقوق الجنسية، أو حتى سعى إلى فتح ملفات الصدام الحضاري القديم في إطار دراسات ما بعد الاستعمار. ولا عجب أنّ مطارحات حرسي علي تلقى حشود الآذان المصغية في عدد غير قليل من مراكز الأبحاث الغربية، التي تهجس بأخطار أقرب إلى الكوابيس الاستيهامية منها إلى أيّ تجسيد مادّي فعلي، مثل «اليسار الإسلاموي» و»النزعة الإسلاموية» ومخاطر «الاستبدال الديمغرافي».
مفيدة، ربما، استعادة شذرات قليلة من سيرة حرسي علي، دالّة وتكوينية ليس للوقوف على مفاتيح شخصيتها فقط، بل كذلك لاستبصار طبائع ما دلفت إليه من أبواب في السابق، وما تواصل التسلل إليه في الحاضر أو تنوي اقتحامه في المستقبل؛ لأنّ ما تبيعه من بضاعة، حسب مؤشرات متعاقبة منتظمة، رائج مرغوب، يتيح لها أن تتمدد باضطراد. ففي سنة 1992 وصلت إلى هولندا، وحصلت خلال زمن قياسي على اللجوء السياسي بسبب ما تردّد من تعرّضها لاضطهاد على يد الإسلاميين في الصومال؛ وفي 1997، مُنحت الجنسية الهولندية، دون مشكلات تُذكر، وخلال زمن ماراثوني بالقياس إلى الغالبية الساحقة من الحالات المماثلة؛ وفي 2002 ضمّها الحزب الليبرالي إلى لائحة مرشحيه للبرلمان، فاضطرت عندها إلى الإقرار بأنها قدّمت معلومات مضللة في طلب اللجوء والجنسية؛ وفي 2003، فازت في الانتخابات، وبعد سنة فقط ظهرت شبه عارية في شريط ثيو فان غوغ «خضوع»، الذي زعم تناول اضطهاد المرأة في الإسلام، وأسفر عن اغتيال الأخير واختباء حرسي علي بعد وضعها تحت حراسة أمنية مشددة.
الفصول اللاحقة شهدت معركة برلمانية حول سحب جواز سفرها، ثمّ استقالة النائبة العتيدة من البرلمان وإدارة الظهر للبلد بأسره، والهجرة إلى الولايات المتحدة للالتحاق بالمعهد الأمريكي اليميني المحافظ The American Enterprise، حيث عُيّنت… خبيرة في شؤون الإسلام! ولن يطول الوقت حتى أنعم عليها أحد الناطقين باسم المعهد بلقب «ابنة الإسلام المتمردة على آيات الله»، غير خَجِل من هذا التخابث الرخيص في حشر تعبير «آيات الله» كيفما اتفق. أيّ مسار «مهني» و»أكاديمي» و»ميداني» أهّلها للعمل خبيرة إسلام ومسلمات ومسلمين، في معهد حصين منيع لا يدخله إلا ثقاة المحافظين والمرضيّ عنهم من أهل اليمين؟ أم لعلّ إدارة المعهد وقعت في غرام الدرّة النفيسة التي صاغتها حرسي علي، كتابها «العذراء في القفص: صرخة امرأة مسلمة في سبيل العقل»، الذي عُدّ أحدّ أشدّ الكتب عن الإسلام ركاكة وغثاثة وتلفيقاً واختلاقاً وتنميطاً؛ وحيث مؤسسة الزواج في الإسلام اغتصاب دائم مرخّص له دينياً واجتماعياً، وعنف الرجل ضدّ المرأة جزء لا يتجزأ من واجبه الشرعي وفق أحكام الدين؟
المرء، بالطبع، لا ينكر حقّ حرسي علي في طلب اللجوء السياسي أو الإنساني على خلفية ما تعرّضت له في بلدها، وما يمكن أن تتعرّض له مثيلاتها هنا وهناك في العالم المسلم، وفي كلّ وأيّ عالم آخر، من تنكيل واضطهاد وقهر. وانتهاك حقوق المرأة في الإسلام، أو في أية ديانة أخرى، مسألة اجتماعية وتاريخية وثقافية خاضعة للسجال المشروع في كلّ زمان ومكان، وينبغي أن تكون حكايات نساء مثل حرسي علي عوامل مساعدة على نقاشها في أفق مفتوح، لا على حجرها في تنميطات مسبقة توظفها صناعة يومية تصنّع تأثيم الإسلام ثقافياً وسياسياً… أو متخصصة في استنساخ «خبيرات» لا يخرجن من القفص إلا للتجنّد ضدّ الـ Wokeism، ومواظبة التمدّد!
القدس العربي