رسالة إلى جاكي شان/ إيناس حقي
An open letter to Jackie Chan
السيد جاكي شان،
شاهدت في بعض المواقع الإخبارية السورية، أنك تصوّر فيلماً من إنتاجك في أحياء الحجر الأسود المدمرة، لتروي حكاية إجلاء سكان صينيين من مدينة تشتعل فيها حرب أهلية، لذا دعني أحكي لك قليلاً عن الحجر الأسود:
في هذا الحي الفقير والمهمش، كان يعيش سكان متنوعون، كان أطفالهم يذهبون إلى السينما لمشاهدة أفلامك، ويعودون ليتبادلوا الخبرات التي تعلموها منك في الفنون القتالية. يجلسون في غرفهم الصغيرة التي شقي أهلهم كي يفرشوها بالأغراض التي يحبها أبناؤهم، ويناقشون فيلمك الذي شاهدوه، ويعيدون تمثيل مشاهد منه. ولعلك تجد في إحدى الغرف المعمرة على سطح البيت ملصقاً يحمل صورتك، إن بقي من هذه الغرف أثر.
هؤلاء الأطفال أنفسهم الذين تصور في حيهم الذي أحبوه وعاشوا فيه كل حياتهم، خرجوا منه مكرهين. لعلك لا تعلم أيضاً أن الحجر الأسود شهد مظاهرات حاشدةً طالبت بالحرية، وأن هذه المظاهرات جوبهت بالرصاص الحي، وقُتل بعض أبناء الحي في معتقلات الأسد تحت التعذيب، فيما مُنع من بقوا منهم على قيد الحياة من العودة لإعادة ترميم منازلهم.
لم أفهم يوماً سبب منع الناس من العودة إلى مناطقهم المدمرة بعد عودتها إلى قبضة النظام، ولكن يبدو أنهم مُنعوا كي يتسنى لك أن تحصل على أكبر إستديو حربي حي، ولكي يتفاخر أنصار النظام بأنهم وفروا لك موقع تصوير استثنائياً. تكررت في مقابلات عدة تغطي إنتاجك الجديد عبارةٌ يمكن اختصارها بأن بناء إستديو مشابه للحجر الأسود يكلّف مبالغ طائلةً، وأنكم حصلتم على موقع التصوير هذا مقابل كلفة زهيدة. لا بد أن أخبرك يا سيد شان بأن الكلفة لم تكن زهيدةً على الإطلاق، الكلفة تجاوزت الثلاثمئة ألف قتيل مدني، وسبعة ملايين مهجر إلى خارج البلاد، وستة ملايين نازح داخل سوريا. اعلم يا سيد شان، أن مئتين وخمسين ألف سوري على الأقل اختفوا قسرياً ومصيرهم ما زال مجهولاً. هل ما زلت تعتقد فعلاً أن الكلفة زهيدة؟
انظر حولك جيداً في موقع التصوير، لعلك تجد الكنبات التي كانت مفروشة في بيت أم صديقي التي تناثرت بعد أن قُصف منزلها. ابحث بين الصور المنثورة والمتروكة عن قصص العائلات التي تفرّق أبناؤها في بلاد الله الواسعة. حدّق جيداً في صور الشهداء التي تركها أصحاب البيوت معلقةً على الجدران، لعلها تحكي لك قصةً مختلفةً عن تلك التي يعيد النظام سردها في كل مكان. ابحث على موقع يوتيوب، عن فيديوهات المظاهرات، وشاهد كيف رقص أبناء الحجر الأسود وهتفوا ملء حناجرهم للحرية، وكيف حلموا بحياة أفضل لهم ولأبنائهم. لا تصدق يا سيد شان البروباغندا التي تسمعها من النظام السوري عن أنهم كانوا إرهابيين وخونة، فقد كانوا هم من أحبوا الوطن بحق، بالرغم من أنه لم ينصفهم يوماً، وكان ذنبهم الوحيد أنهم أرادوه كما يحبون، لا كما فُرض عليهم.
انظر حولك وأنت تصوّر، لعلك تجد آثار أقدام أبناء المنطقة التي حفرت الطرقات ذهاباً وإياباً، أو لعلك ستعجز عن إيجاد أثرهم فقد محا قصف الطيران كل شيء. أتعلم يا سيد جاكي شان، أننا كنا يوماً ما نسير على هذه الطرقات؟ بل نصور فيها بدَورنا؟
كنا نصور في هذه الأحياء حكايات عن ناس عاديين بسطاء كرماء، فتحوا لنا بيوتهم وقلوبهم. آسف حقاً أنك لن تستطيع مقابلتهم. لو أنك قدمت ضيفاً، وصوّرت في بيوتهم بحضورهم، لكانوا طبخوا لك أطباقهم الشهية، وشرعوا الأبواب لاستقبالك، وحدثوك عن حيواتهم، ورووا لك مصاعبهم كما كانوا يروونها لي كلما صوّرت في حيهم، ولكانوا أعادوا تمثيل مشاهد من أفلامك وتصوروا معك. لكنك، وبكل أسف، اخترت أن تحل ضيفاً في أثناء غيابهم، وأن تصوّر فيلمك على أنقاض الأماكن التي بنوها حجراً فوق حجر، بجهدهم وتعبهم.
أتمنى عليك، بما أنك صرت قريباً، أن تزور مقبرة المخيم. سلّم لنا على قبور الشهداء، وضع على كلٍّ منها وردةً وأخبر أصحابها أن أهلهم لم ينسوهم لحظةً، وأنهم لا يزورونهم لا لأنهم لا يرغبون، بل لأنهم ممنوعون من الزيارة. وإذا صحت الأخبار المتناقلة عن تصوير فيلمكم في داريا، سلّم لنا أيضاً على أرض النبلاء الأحرار الذين حاولوا الدفاع عن السلمية حتى آخر لحظة، والذين وزعوا الورود والماء على الجيش والأمن، فقُتلوا في المعتقلات. ابحث عن بقايا مكتبة داريا التي جمعها أبناؤها كي يقرؤوا ويعرفوا، وإن وجدت ما بقي منها اجمعه وأرِه للعالم أجمع، عله يعرف أننا كنا نحلم ونقرأ ونحاول أن نفكر في ظل نظام يرغب في قولبتنا كلنا في نموذج واحد أبله يلهج بالطاعة.
نهايةً، لا أتمنى لك يا سيد شان أن تجرّب يوماً الشعور الذي يعيشه اليوم أبناء الحجر الأسود، وهم يشاهدون التقارير المصورة عن تصوير فيلمك. لا أتمنى أن تبحث عن أنقاض بيتك في عمق لقطة تروّج لتصوير فيلمكم في الحي المدمر، كما لا أتمنى لك أن تشاهد أغراضك منثورةً في لقطة فيلم، ولا أتمنى لك أن تُحرم من زيارة بلدك الأم، ولا أن تعيش الحنين إلى حي لم يعد موجوداً. والأهم، لا أتمنى لك أن تحلم ببلدك حراً عزيزاً مكرماً، فتراه مدمراً ويفتخر من دمّره بأنه أصبح موقع تصوير ضخماً لفيلم عالمي.
أتمنى أن تكون على قدر محبة السوريين السابقة لك، وأن تعتذر عن استغلال غيابهم للتصوير خلسةً في بيوتهم التي دُمّرت، وأن تبحث عن الحقيقة، وألا تعميك الرواية المكرورة والسخيفة التي قتلتنا، والتي لا تزال تمثّل بجثة حلمنا المهدور.
* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف
رصيف 22